إنني أيها الأصدقاء أبحث عن ذاكرتي.. بل أحاول تفكيك العلاقة بين الذاكرة والنسيان وهي تتبخر من ثنايا عقلي، ولذلك أكتب عن عيون الخيول وهي تنظر إليَّ عبر السياج المعدني لحظيرة الخيول في نادي الجزيرة في الزمالك، وأنا متجه إلى المركز الثقافي الإيطالى.. كنت وأنا أتمشى بجانب السور الحديدي أحب أن أسمع خشخشة تكسر أوراق الشجر تحت قدميَّ.. وكنت أقف عند حظيرة الخيول مستمتعًا بهذه اللحظة البصرية النادرة من حياتي؛ والخيول تمد رقابها الجميلة في صمت الليل، وشعر رقبتها الناعم الأملس يتدلى بانسيابية فاتنة.. فأظل أنظر إليها في صمت.. أحيانًا كنت أرى اثنين من الخيول يتاحبان بالقبلات من بين حديد السياج المعدني.. يحاولان عبر محاولات شتي أن تتلامس شفاههما لكن عادة يقف السياج الحديدي دون هذا الاتصال العاطفي.. فأتذكر الخيول على شط الترعة في بولاق الدكرور والسايس وهو يدفعها بحنان وحب إلى الماء كي تستحم.. وعادة كانت الخيول بعد لحظات تندفع إلى الماء في خجل وذلك بعد ان يغسلها العربجي بالماء والصابون بليفة كبيرة تكون عادة منقوعة في جردل بجانبه.. العربجية عادة يتجمعون في الصباح الباكر.. وكنت أنظر إليهم من حجرة أفندينا، أو من حجرة عم سيد صابر.. وهم يلتفون حول الخيول، كل منهم يحاول أن ينظف حصانه على أكمل وجه.. والخيول مستمتعة بذلك؛ فلا ترفس أو تصهل.. ولكنني كنت ألاحظ أنها تقف في حالة سكون تام؛ حتى إنني كنت أجدها تفتح رجليها الخلفيتين حينما يحاول العربجي أن ينظف المنطقة الحساسة بين الفخذين عند خصية الحصان على سبيل المثال.. كانت مجموعة من 4 أو6 خيول؛ منها الأبيض أو الأسود أو الأصهب.. وفي أحيان نادرة تكون هناك أم مع وليدها.. لكنني كنت أستمتع جدًا عندما تنزل الخيول الواحد بعد الآخر في ماء الترعة الآسن ذي اللون الأخضر.. وتسبح ببطء شديد.. وكنت ألاحظ أنها تتجمع مع بعضها بعضًا، لأجد حصانًا أبيض مع حصان أسود؛ فأعرف بالغريزة أنهما ذكر وأنثى؛ لأن الأعضاء التناسلية عادة تكون مغمورة في الماء، ويكون هذا اللقاء في عمق مجرى الترعة؛ حيث توجد حزمة من ورد النيل يسبح ببطء شديد هي الأخرى.. والحصان الأبيض والفرسة السوداء يقتربان من بعضهما في خجل؛ لما معروف عن الخيول من حساسية مفرطة، خصوصًا فيما يخص اللقاء الجنسي.. والحصان الأبيض يقترب، بل ويجازف ويمد عنقه الطويل فيما هو عمليًّا غاطسًا بجسده كله في الماء.. وعيناه وفمه وجزء من رقبته هو ما يتقدم نحو الفرسة السوداء.. في أحيان أخرى كنت أجد المبادرة من الفرسة السوداء؛ إذ تتقدم ببطء حتى تضع رقبتها كلها على رقبة الحصان الأبيض.. ومن الممكن أن يظلا هكذا؛ في هذا التلاصق العاطفي، لمدة نصف الساعة، أو الساعة، إذا لم ينتبه العربجي إليهما.. لكن العربجي في الغالب كان ينتبه، لأنهم- العربجية – كانوا يجلسون على باب المحل الذي يصنعون فيه حذوات الخيول.. والمحل صغير نسبيًّا، لذلك كانوا يجلسون أمام المحل ليستظلوا تحت شجرة أكاسيا مورقة طول العام.. فينادي العربجي على حصانه بالاسم “يا عنتر!” مثلاً.. وإذا تحرَّك الحصان الأبيض أعرف بالتجربة أن عنتر هو الذكر وأن الفرسة السوداء هي الأنثى.. وبصراحة أنا لا أحب الخيول من باب المصادفة، أو الفضول، ولكنني أحببتها بالخبرة والتعامل! نعم؛ فلقد اشتغلت في مرحلة من مراحل حياتي عربجيًّا؛ حين كنت جنديًّا بالقوات المسلحة.. وبالمصادفة كان أعز أصحابي وأعز من قابلتهم في حياتي المضطربة في العسكرية، يعمل عربجيًّا في الحياة المدنية، ومن هنا جاء الحظ أن أعمل عربجيًّا.. وذلك عندما شعر صديقي ذاك؛ وكان اسمه هلال، عندما أصبحت جنديًّا في القوات المسلحة بشيء غريب في شخصيتي الإنسانية، ألا وهو: أنني رجعت مرة أخرى إلى نقطة الصفر.. وأعني بنقطة الصفر هذه حالة الضياع الإنساني التي وجدت فيها شخصيتي في هذه الصحراء الشاسعة التي عشت فيها لمدة ثلاث سنوات.
والحياة أيها الأصدقاء في الصحراء مخيفة؛ فإن لم يكن لك صديق في تلك الصحراء القاتلة فإنك هالك لا مفر! كيف؟ هذا ما سأحاول أن تجيب عليه هذه الحكاية..
عندما أصبحت جنديًّا في الحياة العسكرية، وبالمناسبة، الحياة العسكرية، أو فترة التجنيد بالقوات المسلحة، ليست نزهة على الإطلاق، لأنها إن لم تكن خشنة خشونة الصحراء فهي مؤلمة.. بل هي حياة شبه مستحيلة.. خصوصًا على إنسان.. أو على بشر يعيشون تلك الحياة المدنية المتحضرة والبسيطة التي نعيشها نحن أبناء المدن المليونية.. وكلمة المليونية هنا أيها الاصدقاء مصطلح جغرافي بحت، تعلمته أو عرفته عندما ذاكرت الثانوية ودخلت الجامعة، وهذه نقطة أخرى سوف أناقشها فيما بعد، ولكنني أقصد هنا بالحياة المدنية؛ على سبيل المثال، أنك في الصحراء لن تجد كشك سجائر على ناصية الكتيبة، أو في نهاية الممر الجبل.. أو عندما تحب أن تشرب كوبًا من الماء.. لا وألف لا؛ فالحياة العسكرية ليس فيها أخ أو أخت أو حتى زوجة تنادي عليها: لو سمحتي عايز أشرب.. هاتي كوباية ميه.. أو اعملي لي كوبًا من الشاي.. لأنه وببساطة لا يوجد في الحياة العسكرية أخ أو أخت أو طعام.. ومن ثَم لا توجد رفاهية الماء.. فالماء في الصحراء رفاهية فعلاً.. وهذا شيء لا يُصدق لمن لم يعش في الصحراء..
في أحد الأيام المشرقة في الصحراء، وبينما أستعد لأخرج لطابور الصباح، وبعد أن ارتديت البدلة العسكرية والحذاء العسكري، ذهبت بالمصادفة كي أشرب من الجركن الذي في الحجرة، أو قفص القرود الذي أنام فيه، فوجدت أنه لا يوجد ماء إلا بمقدار كوب واحد فقط من الماء.. والوقت نحو السابعة صباحًا، وشمس جبال البحر الأحمر ساطعة، ونحن على حدود السودان، وعادة ما تكون درجة الحرارة في الظل 40° درجة مئوية.. وقلت في نفسي: ماذا أفعل وأنا أريد أن أغسل وجهي، ثم أغسل شعري، ثم أغسل أسناني بالفرشاة والمعجون ماركة كلوس أب كما تعودت في حياتي المدنية؟ ولكنني اكتشفت شيئًا غريبًا؛ أنه لا يوجد في جركن الماء إلا ذاك المقدار الضئيل من الماء فقط.. بكوب واحد من الماء عليَّ أن أغسل وجهي.. ثم.. إلخ. وتذكرت أخي الكبير عبد العزيز، عندما كان في حرب عام 1973، وحكى عن أزمة الماء في الصحراء.. وقتها كان عمري يقارب 9 سنوات، لذلك تذكرت حديثه جيدًا، وبدأت أفكر بشكل عملي، وطابور الصباح في الخارج، وقد أخذ الجنود والضباط يصطفون، والوقت يمر بسرعة، وأنا عطشان جدًا، وأريد أغسل وجهي.. ولكنني مدني متحضر وهناك جزء مهم من مدنيتي أن أغسل أسناني بالفرشاة.. ماذا أفعل؟ وفكرت للمرة الثالثة والوقت يمر وطابور الصباح وقف بالفعل، وأنا بطبيعة شخصيتي كسول وبطيء التفكير.. وأخيرًا اتخذت القرار الصعب، لكن ولأنني إنسان مدني متحضر فقد اتخذت قرارًا بديعًا؛ قسمت كوب الماء على قسمين؛ أولا أغسل أسناني، ثم أشرب القسم الثاني من الكوب..
ومن هنا بدأت علاقتي بصديقي هلال العربجي؛ لأنني ببساطة يا أصدقاء اكتشفت أن هلال يغسل أسنانه بالمعجون والفرشاة.. الأمر الذي جعلني أندهش تمامًا.. كانت أسنانه لامعة ونضرة.. وكان يوجد معنا جندي مؤهلات عليا؛ حاصل على بكالوريوس جيولوجيا، اسمه عبد الحميد، من الزقازيق، وإذا حدث واقترب أنفك من وجهة لسبب ما فإنك عمليًّا سوف تشم الهواء الخارج من فمه وكأنه القبر في نتانته.. أذكر تلك المقارنة لأنني اكتشفت منها معنى أن تكون إنسانًا متحضرًا، مع أنك تعمل عربجيًّا على عربة كارّو.. ومن هنا ذهبت لأشتغل مع هلال على عربة كارُّو في ميدان باب الخلق الشهير في وسط مدينة القاهرة.. وطبعًا عندما ذهبت إلى ميدان باب الخلق كي أعمل عربجيًّا لم أذهب كي أتفرج على هذا العالم على سبيل الفلكلور، لا.. بل ذهبت لأنني لم أكن أملك مالاً على الإطلاق كي أدفع ثمن تذكرة القطار إلى ميدان رمسيس.. ولا أعرف حقيقة – وحتى الآن- كيف أقنع هلال أباه أن يلحقني بذاك العمل. وللحقيقة كنت مندهشًا من هذا العالم؛ عالم العربجية.. ودهشتي الأولى من هذا العالم بدأت في ميدان العتبة، ميدان رمسيس، شارع كلوت بك، شارع محمد علي.. أي في قلب مدينة القاهرة، وأنا أركب عربة كارُّو يجرها حصان.. وعم سيد؛ أبو صديقي هلال يقود الحصان والعربة، وهي محملة بكراتين علب الحلاوة الطحينية وزجاجات البيبسي الكوكاكولا وأشياء أخرى كثيرة تخص محلات تجارة الجملة في وسط القاهرة.. كنا ننقل أجولة المكرونة والأرز.. وطبعًا لم أترك فرصة متابعة شخصية الرجل- عم سيد- فلاحظت أنه مُدخِّن شره للسجائر الكليوباترا؛ حتى تحول شاربه الأبيض إلى الأصفر.. وقد وجدت أصحاب المحلات يعاملونه بلطف ومحبة؛ حتى إنهم تعاملوا معي باعتباري أحد أقاربه، إذ كانوا يعرفون ابنه هلال.. وكنت أشترك مع عم سيد في حمل الكراتين الثقيلة إلى عربة الكارُّو، ويربطها هو بالحبال؛ إذ أن ربط الحبال يحتاج إلى مهارة وخبرة.. ثم أجلس بجانبه، ومن ثَم يقود عم سيد الحصان، وشارع كلوت بك يتقدم ببطء شديد أمام ناظريَّ، مستكشفًا زوايا ومشاهد جديدة، وكأنني أُحمل فوق كتفين؛ كأميرة سينما، وأنا أشاهد أسلاك الترام، أو الترام ذاته، إذ يجب أن نتعامل بمرونة مع حركة السيارات والترام، وبدأت أتقرب من الرجل أكثر، كان جسده نحيفًا وعيناه قويتان ذواتا نظرة حادة مثل عيون صقر.. أشاهده وهو يلسع الحصان بالكرباج، وأحيانًا يكزه بكعب الكرباج، ولكنة في الغالب يلسعه لسعات خفيفة لأننا كنا في فصل الشتاء، فأحسست أن الرجل رحيم بعنتر؛ وهو اسم الحصان، أو الفرس كما كان يناديه عم سيد.. وتذكرت كل قصص الخيول في الأدب؛ من الحادثة الشهيرة للفيلسوف الألماني نيتشه وهو يحتضن الحصان أمام باب الفندق في برلين، حتى قصة تشيخوف، مرورًا بقصة جينكيز إيتميكوف.. لكنني كنت أحاول أن أركِّز في العمل، وكنت مهتمًا جدًا أن أقدم البرسيم للحصان في وقت الراحة كما أوصى بذلك صديقي الجندي هلال، وقد نبهني كثيرًا أن أباه يحب الفرس عنتر حبًا جمًّا.. وكذلك أنا أحببت الحصان، وأحببت عم سيد، لما وجدته يعطف علينا نحن الاثنين؛ أنا والحصان..
استشف الرجل شخصيتي الخجولة بسهولة، فهو رجل هضم الحياة.. عم سيد كان يلبس جلبابًا وطاقية شبيكة على لاسة بيضاء نظيفة.. وشاهدت سنًّا فضيًّا في صف أسنانه البيضاء عندما كان يتكلم ويضحك مع أحد أصحاب المحلات.. ولم تكن هذه المرة الأولى التي أركب فيها عربة كارُّو بشكل عملي؛ فقد كنت أعمل من قبل صبي حداد في أعوام طفولتي، في ورشة بالقرب من ميدان رمسيس، تحديدًا في شارع الفجالة، وكنت أركب مع الأسطى حسن على عربة الكارًّو قادمين من شارع السبتية إلى ميدان رمسيس، وألواح الصاج المجلفن تهتز بصلصلة معدنية عندما نعبر أحد قضبان التروماي الذي كان يخترق ميدان رمسيس متجهًا إلى شارع كلوت بك، ومن ثَم إلى ميدان العتبة.. وطبعًا في طفولتي أبهرني شارع كلوت بك وأنا أمشي مع الأسطى حسن مثل ابنه تمامًا؛ وكان تجَّار الحديد في شارع السبتية يسألونه: ابنك يا أسطى حسن؟ وكان يرد بثقه: أيوه ابني..
وقد كنت في مرحلة طفولتي المتأخرة قصيرًا نسبيًّا وذا ملامح شديدة البراءة، لكن ولأنني قرأت ثلاثية نجيب محفوظ وعمري11 عامًا فقد أعطتني الثلاثية ثقة في نفسي، ولو محدودة؛ فكنت على سبيل المثال أخترق شارع باب البحر يوميًّا سيرًا على القدمين، وتشعر وكأن الشارع – باب البحر- قطعة من وصف نجيب محفوظ لقصر الشوق أو بين القصرين، من محلات العطارة المنتشرة، ورنين أجراس خيول عربات الكارُّو، أو أوكار محلات البوظة؛ والعربجية يجلسون القرفصاء يشربون البوظة في أكواب مصنوعة من الألومنيوم؛ كل ذلك وأنا منبهر بميدان باب الخلق حيث الوكالة التجارية التي نحمل من خلالها كراتين المكرونة والبسكويت، أنا وعم سيد، أبو صديقي هلال، زميلي في صحراء القوات المسلحة.. وطبعًا فشلت فشلاً ذريعًا في مهنة العربجي، لربما لحدة طباع عم سيد.. هلال صديقي أيضًا كانت طبيعته الشخصية حادة جدًا؛ حتى إن ضباط الكتيبة كانوا يخافونه، ربما لمظهره العنيف؛ إذ كان له شارب يشبه المملوك بيبرس في الرواية الشهيرة “وإسلاماه”.. وربما هذا ما أنقذني في الحياة العسكرية، إذ بمقارنة شخصيتي بشخصية هلال؛ أنا لا شيء على الإطلاق.. ولولا صداقتي المقربة للكاتب المشهور فتحي إمبابي لكنت أصبحت في خبر كان.. فبالمصادفة البحتة كان الكاتب فتحي إمبابي أبًا روحيًّا لي بمعنى الكلمة، إن لم يكن أصبح مثلي الأعلى في الحياة.. فوجدت نفسي وقد أصبحت طوع يديه في كل شيء؛ حتى نصيحته الذهبية لي؛ بأن أُكمل دراستي للثانوية العامة وأدخل الجامعة، أو الكلية.. ولكن هذه حكاية أخرى.