لأننا لا نريد أن نرى أبدًا أحدًا يتحول إلى كرة من النار تتخبط في رعب دون أدنى أمل في الإنقاذ، وتكون ديَّته بضعة آلاف من الجنيهات.. نتساءل: هل يراهن المواطن المصري على حياته في كل مرة يركب قطارًا من المفترض أنه ينقله في سلام إلى وجهته، لكن القطار يكون له رأي آخر فينقله إلى العالم الآخر؟! كيف تحوَّل القطار، أعظم الاختراعات وفتح فتوح الثورة الصناعية، إلى قاتل؟
ليس من الطبيعي أن يودع المواطن أهله وأطفاله الوداع الأخير وهو في طريقه للسفر بالقطار.. من المفترض أن يعود، لكنه- في هذه البلاد- لا يعود في كل مرة.. لطالما سافر المئات على أمل الوصول أو العودة، لكن النهاية كانت أن انقلب القطار أو احترق أو اصطدم.. ويتحول المواطن/الراكب إلى جثة، قبل أن تُدفن يتنازع البعض على تسميتها؛ بالضحية أو الشهيد أو القتيل..
طبعًا هذا الكلام لا ينطبق على كل أنحاء العالم؛ فالقطارات في أوروبا مثلاً وسيلة نقل آمنة ومريحة وسريعة، وركوبها جزء من روتين التنقل – لا يخلو الأمر من حوادث، لكنها تظل استثنائية ونادرة- والقطارات في اليابان هي الأحدث في العالم، ومواعيدها مضبوطة بدقة فائقة، هذا ينطبق علينا، وعلى من يشبهوننا من بلاد تعيش في الجحيم الدائم الذي يمنعها من أن تخطو إلى بر الحداثة. بعد كل حادثة كبرى، تنتشر الحكايات عن شخص الذي اضطر لأي سبب أن يتخلف عن رحلته فنجا من موت محقق، وعن قتيل أو قتيلة آخرين ركبوا القطار مباشرة إلى الآخرة..
بعد ما يزيد عن 170 سنة على إنشاء أول خط سكة حديد في مصر، وثاني خط سكة حديد في العالم، صار الارتباط بين القطار والموت شَرطيًّا.. في البداية لم يرحب المصريون بالسكة الحديد؛ كأي اختراع غريب من شأنه أن يقضي على مهن راسخة وأكل عيش البعض كأصحاب الجِمال وغيرهم.. بعد فترة أصبح رمزًا للسفر والغربة؛ وكان المصريون يتشاءمون منه ومن صفيره؛ كيف يأمنون له وهو من يحمل الأحباب إلى الأماكن البعيدة، وهو “حديد يمشي على حديد”؟
في 1995 حصدت القطارات -في خمس حوادث متفرقة- أرواح نحو 300 قتيلاً و1000 مصاب.. كانت الحوادث تتوالى بالكيفية نفسها تقريبًا في البراجيل وقويسنا والسويس والبدرشين.. تتناثر الأقوال حول الأسباب؛ شبورة، إهمال سائقين، أعطال في أجهزة الربط الآلي.. إلخ.
في 1998 كانت الحادثة هذه المرة في كفر الدوار؛ وخلَّفت 47 قتيلاً و104 مصابًا. وكان السبب الذي أعلنته هيئة السكك الحديدية “عطلاً في الفرامل”، وكي لا تحدث مثل الحوادث ثانية طالب رئيس هيئة السكة الحديد بمطلب غريب “أعطونا إذنًا بضرب المسطحين بالنار حتى لا تحدث حوادث أخرى”! والمشهد المتكرر ذاته، الأشلاء والجثث والحطام والجنازات جماعية، والتعويضات التافهة.
في 2001 احتفلت مصر بمرور 150 عامًا على إنشاء ثاني “خط حديدي مُعَمِّر”، وقتها أكد وزير النقل، إبراهيم الدميري، بجمل نظرية لا معنى لها أن “مصر لديها بنية أساسية وخبرات قادرة على استيعاب كل ما هو جديد إطار المنظومة العملية والعلمية لتطوير هذا المرفق الحيوي…”، وقررت الدولة افتتاح متحف السكة الحديد أمام الجماهير ليصبح “مزارًا ثقافيًّا وأثريًّا عالميًّا”. ولم تمر شهور إلا وحدثت كارثة كبرى، ففي فبراير 2002 لقي 373 شخصًا مصرعهم حرقًا داخل عربات الدرجة الثالثة في قطار الصعيد.
في 2006 صرح رئيس سابق لهيئة السكك الحديدية، لصحيفة الأحرار، أن 70% من جرارات السكة الحديد انتهى عمرها الافتراضي، وأن 700 مزلقان غير صالحة للعمل، وأن 80% من أجهزة التحكم الآلي في القطارات عطلانة، وأن 15% من الخطوط مكهربة، والباقي تحت رحمة الأخطاء البشرية. وأنه من الآخر “القطارات في مصر تسير ببركة دعاء الوالدين”!
في 2012؛ السنة التي حكم فيها الإخوان مصر، وقعت حادثة قطار أسيوط، التي راح ضحيتها ما يزيد عن خمسين قتيلاً. الكلام نفسه عن الإهمال، والجثث، و”صلاة الغائب على أرواح الضحايا”، والتعويضات التافهة.. واستقال وزير النقل، وقَبِل محمد مرسي استقالته.
في 2013 وقعت حادثة راح ضحيتها 18 قتيلاً و111 مصابًا، وقالت صحيفة الجمهورية إن ضحايا القطارات 6 آلاف قتيل و30 ألف مصاب سنويًّا..
اليوم، في القاهرة، احترق خمسون شخصًا، فقدم وزير النقل استقالته، وقَبِلها رئيس الوزراء، خمسون شخصًا لم يكونوا داخل القطار أصلاً.
زمان، كان الموت على أطراف المدينة في الجنوب.. أو الموت على الطريق الواصل بين مدينة ومدينة في الدلتا.. هذه المرة الموت في قلب المدينة/العاصمة.. في محطة مصر، المدخل القديم للمدينة التي تعددت مداخلها حاليًّا.. الموت الآن يطارد حتى الواقفين على رصيف القطار؛ الذين ابتعدوا عن القاتل المحتمل.. الذين قرروا ألا يتورطوا مع القاتل المحتمل.. لم يعد في إمكان أحد أن ينجو.. المدينة كلها مهددة.. ماذا لو اصطدمت كل القطارات ببعضها بعضًا ونشب الحريق الأخير الكبير؟!