بالتأكيد نقابل أو نسمع عن مشاهد عبثية، تلعب فيها قوات الشرطة المصرية، دور شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ مثل إلقاء القبض على باحثين وكتاب و مقدمي برامج بتهمة عجيبة لاحدود ولا تعريف لها هي”إزدراء الأديان“، أو حين يطاردون الشيعة، أو يقفون علي أبواب مقرات الطرق الصوفية في الموالد يراقبون الأناشيد، ويهددون أصحابها بالتوقف أو “الجرجرة” على قسم البوليس، وطبعآً أشهر هذه المشاهد العبثية هي غارات الشرطة على مقاهي يجلس عليها المفطرين في رمضان، وتوجه لهم تهم تصنف قانونياً بأنها: جنحة، وعقوبتها غرامة تدور حول العشر جنيهات، لكن العقاب الأساسي هو “المرمطة“ و “إهانة الكرامة“، فهي من من مهام انكشارية الدولة تستخدمها حين تريد ان تقول أنها متدينة. وستجد وقت الإحتياج في القانون المصري ما يجعلها تشبه “داعش” وتفتش في عقائد الناس، وسيبقى الفرق بينهم و بين “تنظيم الدولة“ أنها تقتلهم.
في قوانين الدولة المصرية خردوات من ألف صنف وصنف….حكم ديني و علماني وعسكري وملكي وجمهوري. كلما اردت قانوناً تفرض به وصايتك، اهبط السرداب وإنفض الغبار وضع قليلاً ًمن الماء لينشط ويعمل بشكل طبيعي كأنه لم يكن سجين السراديب. أو يتناقض مع الدولة الحديثة. وهذه ليست عادات مستحدثة مع السيسي لكنها كانت تتم بروتينية مملة أيام مبارك. لكنها وصلت إلى مستوى غير مسبوق مع السيسي الذي يجسد كل تاريخ الحكم في الدولة الحديثة. جامعة التناقضات والأزمان. المقيمة في زمن وحدها. المستقرة مع شيزوفرانيا عمومية لاتتح طويلاً إستخدام العقل أو التأمل والتفكير بعيداً عن الهستيريا. هجمة المطوعين الرسميين لم تأت مع السيسي لكنها فرقة تؤدي نمرتها في إستعراض يثبت تدين الدولة. هي مضاعفات جرح سري تأسست عليه الدولة المصرية. شعور بالذنب مقيم منذ ان هوت الخلافة العثمانية ودخلت مصر مرحلة الدولة الحديثة. بدون شرعية اجتماعية. ولكن بموديل ارتبط مع الاستعمار. وهذه لعنة. جعلتنا نستمتع بمنتجات الحداثة ونلعنها. نفخر باننا اصحاب اول سكك حديدية. لكنه فخر مرتبط بالتدمير والانكار والشعور بالدونية تجاه مانعيش فيه. الحكام يستمدون وجودهم من العلاقة مع الغرب لكنهم وبدرجات تلعب الخلافة بأحلامهم. أرادوها عندما اعتلوا الكراسي ان تكون عروشا ذات نزعة امبراطورية وابهة تاريخية بإسم الدين…ارادوها دولا تشبه الدول كما ترويها السرديات الدعائية ليوتوبيا الخلافة و عظمة خلفاء وملوك المسلمين. كل منهم استوحى خلطة انتقي فيها حكاية من حكايات (ابو بكر الصديق او عمر بن الخطاب اوعلي بن ابي طالب وحتى عمر بن عبدالعزيز الملقب بالخليفة الخامس) كلهم تنافسوا على موقع الخليفة السادس. ودبجوا حكايات تشبه من قريب و بعيد حكايات الخلفاء. لم يمر الخليفة البغدادي بالقاهرة. ولم يقرأ ماكتبته المجموعة المجهولة من السياسيين في يوم من الأيام بعد ثورة يناير ..”الخلافة تاج الفروض”.بدت الجملة المحيرة كأنها تثبيت عقيدة هاربة. وأهل المدينة لم يلتفتوا للشعار كأنه ايقونة قادمة من رف الذكرى الخالدة.
البغدادي الخليفة الصاعد على منبر الجامع الكبير بالموصل…وظهر بساعته الغالية لا يعرف ماذا حدث لاخر من اقترب من كرسي الخلافة؟ لايعرف بالتأكيد الذئب المسمى بأحمد فؤاد الاول ولا حربه ضد شيخ وحامل دكتوراة من اكسفورد اسمه علي عبد الرازق على “الفرض السادس”…الذئب العلوي كان قد اقام معسكرات إستعداد للخلافة…وخطط لتشكيل طليعته وطبقته السياسية…علماني متمرد و مطارد في واحدة من أشرس معارك الثقافات. وأحمد فؤاد السكير القادم من مغامرات البحث عن الثروات ليصبح سلطانا عام 1917 ثم أول ملك دستور 1922 وتلمع في رأسه فكرة ان يرث الخلافة التي هوت في إسطنبول بعد 500 سنة من المرض.
قرر شاب إسمه علي عبد الرازق البحث في علاقة الاسلام بالحكم، وكان كتابه “الإسلام و اصول الحكم” الذي انهى حلم ملك جبار هو أحمد فؤاد في وراثة الخلافة العثمانية تحت شعار أن الخلافة هي سادس فروض الإسلام وانه المكلف بها.
حدث هذا سنة 1925وكان شرارة أول صدام بين رغبات السلطة و كاتب قرر أن يكتب عن موضوع مثير وهو: الخلافة الاسلامية.
هل الإسلام دين و دولة؟!
هل الخلافة هي الفرض السادس على المسلمين؟!
هل يعترف الإسلام بحكم الفقهاء أو وكلاء الله على الأرض..؟!
الأسئلة كانت حارقة وقتها.
وعلي عبد الرازق الشيخ الازهري تقمص روح مغامر،عنيد واقتحم قلب المعركة.
وكان المناخ مناسبا.
في نفس الوقت الذي انفجرت فيه معركة ” الإسلام و أصول الحكم”
ناقش مجلس النواب المصري الطابع الديني لنظام الأوقاف وطالب عدة نواب بإلغائه نهائيا كما تقدم النواب باقتراح لإلغاء منصب المفتي كما تخلى طلاب دار العلوم عن العمامة وارتدوا بدلا منها الزي الأوروبي و’الطربوش’.
وبعد شهور قليلة من ضجة علي عبد الرازق تفجرت قنبلة اخرى مع كتاب طه حسين (الشعر الجاهلي) ..وكلاهما معركة دارت حول (كتاب) أي منطقة التصادم في ثقافتنا التي تمنح قدسية للكتابة ولا تعطي شرعية سوى للكتب التي تعيد إنتاج القيم المتوارثة.
كتاب علي عبد الرازق اصطدم بالغطاء الديني الذي يحمي السلطان نفسه ليحول معارضته إلى خروج عن الدين. كانت فكرة الخلافة تتهاوي تحت الضربات القوية لثورة أتاتورك في تركيا (1924). والزعيم التركي نفسه أصبح بطلا مثاليا لشباب رأى فيه تجسيد حلم الخروج من نفق الرجل العثماني المريض. هذا قبل ان نكتشف بعد ربع قرن أن رجل الأحلام لم يكن سوى ديكتاتور بديل يريد الحكم والتغيير بقرارات فوقية..
انتقلت معركة علي عبد الرازق من النخبة لتصبح قضية ‘رأي عام’.. بعد ضجة من الازهريين ممثلي الثقافة التقليدية.
اللافت هنا ان علي عبد الرازق (وكذلك طه حسين)..’ازهري سابق’ اي انه متمرد على الحدود التي ضاقت في رمز المؤسسات القديمة.
لكن الضجة كان يحركها من الأساس نظام حكم الملك فؤاد الذي جعله الإحتلال الإنجليزي يحلم بالخلافة الإسلامية التي شهدت فراغا لأول مرة بعد 1000 عام حين ألغت ثورة كمال أتاتورك ‘الخلافة العثمانية’ في عام 1924
كتاب علي عبدالرازق أثار الملك فؤاد لأنه ينفي مبدأ وجود الخلافة في تاريخ الاسلام بينما الملك يقيم مؤتمرا اسلاميا عالميا للخلافة ويصدر مجلة ويكوًٌن خلايا شعبية في الريف المصري لتنظيم هذه الدعوة، بل ويلغي دستور 1923 الذي انتجته ثورة 1919 وينقض على أغلبية الوفد في برلمان 1925 ليشكل حكومة ائتلافية (من حزب الوفد وحزب الاحرار الدستوريين) برئاسة زيور باشا.
الشيخ الشاب لم يكتف بأداء وظيفة القضاء في المحكمة الشرعية بالمنصورة ..لكنه حاول تقديم “إجتهاد مشروع” كما كان يظن.. ولكنه أقلق الملك وأذنابه: ‘لأن الكتاب فيه حملة هائلة على الملوك، وفيه تحطيم شامل لحلم الخلافة البراق'” وأقلق رجال الدين: ‘لأنهم رأوا في هذا المنطق ما يزعزع سلطاتهم، ويعطل مدافعهم في الإتجار بالدين، ويكشف عن حقيقة هذه العمائم الضخمة التي لا ترتفع إلا لتستر وراءها الظلم والاستبداد.. وهناك أيضا الرجعيون بتفكيرهم والذين يتملكون مشاعر الجماهير ولو بمجاراة الجهل والظلم..!’
هؤلاء هم خصوم عبدالرازق كما وصفهم أحمد بهاء الدين في ‘أيام لها تاريخ’ والذين حاولوا الرد بقوة على إجتهادات الشيخ ليس على انها رأي يضاف إلى حصيلة (الفكر الاسلامي) بل بإعتبارها شطحات تحيد عما استقروا على معرفته..
وقائع محاكمة علي عبدالرازق تمت بإيحاء ملكي إلى هيئة كبار العلماء بالأزهر، وفور إقرار الحكم بأبعاد الشيخ الشاب عن الأزهر و المحكمة الشرعية ارسل شيخ الأزهر برقية إلى القصر الملكي تحمل التهنئة بالتخلص من المفكر المشاغب .
هذه اول معركة حول كتاب في مصر الحديثة.
خرج منها الكاتب الشاب متهما بالإلحاد لأنه فكر في الإتجاه المعاكس للسلطة.
الملك كان يريد الخلافة. ويروج أنها من فروض الإسلام..والشيخ الشاب بحث و فكر و رفض منطق الملك .
المناخ الذي أفرزته أحلام الملك اتى بالإخوان المسلمين بعدها بسنتين فقط (١٩٢٨).
وياتي اليوم بالداعشي وساعته الثمينة..مجسدا للنفايات التي رضعناها مع أول وعي بالعالم.