يبدو أن هذا المقال نُشر ضمن ملف أعدته صحيفة الأهرام، في نوفمبر 1949 للاحتفال بمحمد علي؛ حوت الصفحة نفسها مقالاً للدكتور إبراهيم عبده بعنوان “مطبعة بولاق وشقيقاتها“، ومقالاً آخر بعنوان “محمد علي في أخريات أيامه” لجميل خانكي، ومقال درية شفيق التي عنونته “نصيب النهضة النسائية“؛ وهو ما يؤكد إلى أنها كانت تبحث عن حقوق المرأة تاريخيًّا، وترصد كيف بدأت المرأة تحصل على بعض ما تستحق، وكيف أن هذه الحقوق ضرورات قصوى، ليس في حد ذاتها فقط، بل من منظور النتائج المنتظرة من اعتبار المرأة شريكًا يستحق الوجود على خريطة النهضة.. في المقال تحكي درية قصة مدرسة التمريض التي أنشأها محمد علي للبنات، في إطار نهضته بالبلاد، وتشير إليه في أكثر من موضع بـ “ولي النعم” و” الأمير الكبير“! مؤكدة أن النهضة النسائية لم تُعرف في مصر قبل عهده.. مشيرة إلى المتاعب التي تكبدها الباشا في إنشاء المدرسة، في مجتمع يعاني التقاليد الجامدة التي لها في نفوس المصريين حرمة الدين..
نصيب النهضة النسائية
لم يدرك الناس بعد نصيب محمد علي في تطور حياة البيئة النسائية في مصر، ذلك أن تاريخه في كفاح الجهل الذي كان متفشيًا بدا واضحًا في بيئة الرجال وحدهم، بيد أن الوثائق التاريخية التي اكتشفت حديثًا أثبتت أن النهضة النسائية عرفت أول ما عرفت في عهد محمد علي؛ ولسنا نعني إلا مجهودات الأمير الكبير في تعليم البنات.
وإذا كان محمد علي لقي المتاعب حتى اعتاد المصريون أن يعلموا أبنائهم الذكور فإنه كاد أن يعجز عن أن يخلق في بيئة المرأة المصرية ما حاول خلقه في بيئة الرجال، بيد أنه انتصر على مر الأيام فقد رأى أن البيئة الاجتماعية في مصر لا تحتمل أن يقوم بمعالجة النساء الأطباء، ففي ذلك خروج على تقاليد وعادات العصر، وكانت تقاليد وعادات لها في نفوس المصريين حرمة الدين، فأنشأ مدرسة لتعليم البنات الطب والتمريض في سنة 1831.
كان يريد مولدات متعلمات يعالجن النساء، فأصدر أمرًا عاليًا إلى حبيب أفندي مأمور الديوان الخديوي بأن يتخير من حرم قصر القلعة بعض الأغوات الملمين بالقراءة والكتابة ليتعلموا بإشراف كلوت بك الطب والجراحة– كلوت بك طبيب فرنسي قضى معظم حياته في مصر، عهد إليه محمد علي باشا بتنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري، وعينه رئيسًا أطباء الجيش. منحه محمد علي لقب “بك” تقديرًا لجهوده في النهضة الطبية التي أحدثها في مصر– على أن يشتري عشر من الجواري السودانيات يزاملن الأغوات في تلقي العلم والطب، وبذلك تحايل محمد علي على إنشاء أول مدرسة للبنات، وجعل الأغوات والسودانيات والحبشيات تجربة إذ نجحت لعلها أن تغري المصريين بإلحاق بناتهم في مدرسته الجديدة، ودرست الفتيات القراءة والكتابة وبعض أصول الدين والحساب، ثم أمر فدرست لهن رسالة في فن التوليد قامت الدولة بترجمتها لهذا الغرض، واستدعى تدريس هذا الفن تطبيقًا عمليًّا؛ فاختار لهن من باب الاحتشام تمثالاً مفصلاً يعين التلميذات على تفهم ما تلقيه عليهن الآنسة “جوليت” معلمة هذه المدرسة التي أحبت تلميذاتها فخصصت من عندها وقتًا تعلمهن فيه اللغة الفرنسية.
كانت دراسة نظرية ينقصها التطبيق العملي الذي بدونه تتعرض حياة المرضى للخطر، فعالج الباشا النقص بإنشاء مستشفى صغير بالقرب من المدرسة بأبي زعبل يتسع لعشرين سريرًا، وكان ولي النعم معنيًّا كل العناية بنجاح المدرسة وتلميذاتها، وكانت اختياراتهن ونتائجهن ترفع إليه في آخر كل سنة.
ثم أنشئت بالقاهرة مدرسة للولادة في قسم من الجناح المخصص للنساء بالمستشفى الملكي، وألحق به بنات العاصمة ونساؤها وبنات الأقاليم ونساؤها ليتعلمن فيها على نفقة الحكومة، وأعطى الأولوية للبنات اليتامى وبنات الجند.
وقد تعلمن ونفعن الناس بعلمهن ومقدرتهن بعد تخرجهن، وبتخليص السيدات اللاتي تستعصي ولادتهن من آلام الوضع وأخطاره، فولي النعم يريد لهؤلاء البائسات الحياة الرغدة والعلم الذي يفيد الناس، وهذه غاية نبيلة وهي جماع ما ترجوه النهضة النسائية لا في مصر وحدها بل في العالم أجمع.
ثم تطورت المدرسة بعد ذلك؛ فقبل فيها التلميذات اللائي لا عائل لهن، أو التلميذات المشردات لأن بعض الآباء أحس فضل المدرسة على المجتمع فتقدم ببناته ليتعلمن فن التمريض، فلما اكتظت المدرسة بهن تعهد بعض الآباء بتقديم ابنته ولباسها وجميع لوازمها إذا احتاج الأمر إلى ذلك، ووضعت المدرسة قواعد لقبول التلميذات، استثنت من كان لها تاريخ سيء، واشترطت أن تقبل التلميذة بعد امتحان في الشكل والموضوع يقر نتيجته (جماعة من أرباب الديوان)، على أن يتراوح سن التلميذة المستجدة بين الثانية عشر والثالثة عشر (بشرط أن يكن أبكارًا، إذ أن المطلقة أو الثيِّب–الأرملة، كما يقول الديوان، لا يكون لهن قابلية للتعليم) وازداد عدد التلميذات ستة أضعاف على مر الزمن، وقد أثبتت الخريجات كفاية–كفاءة نادرة، وأشعرن المصريات بفوائدهن الكثيرة. وكانت المدرسة مؤلفة من ثلاث فرق دراسية، يتعلم فيها التلميذات مبادئ اللغة العربية وفن التوليد نظريًّا وعمليًّا والعناية الصحية بالحوامل والنساء اللائي في حالة الوضع والأطفال المولودين حديثًا، وطرق علاج الأمراض السرية، ومبادئ الجراحة الأولية الكافية لعلاج الأورام الالتهابية وتضميد الجروح البسيطة، وعمل الكيّ ووضع اللزقات وما شابه ذلك، وطريقة عمل الحجامة وتلقيح الجدري وأخذ الكاسات الهوائية ووضع الدود– طريقة علاج قديمة باستخدام نوع معين من الدود يمتص الدم الفاسد، والعلم بالأدوية المتداولة وتجهيزها، وكان معلمو المدرسة من المصريين بإشراف كلوت بك وبعض الأطباء المصريين وكثير من المعلمات خريجات المدرسة نفسها. وكن إذا عينت واحدة منهن في وظيفة التدريس منحت رتبة الملازم الثاني ومرتبه، وكانت لها مساعدة تسمى العميدة. كما كان لمدرسة المعلمين والمعلمات (بلانة) تمشط رؤوس التلميذات يومين في الأسبوع، أما حياكة الملابس فقد تركت للتلميذات أنفسهن؛ على أن تعلم الكبيرات الصغيرات منهن، وكان المرتب المقرر للتلميذة المستجدة عشرة قروش في الشهر، وتزيد الحكومة هذا المرتب كلما نقلت التلميذة إلى فرقة أعلى، حتى إذا وصلت إلى الفرقة النهائية كان نصيبها في الشهر خمسة وثلاثين قرشًا، ثم ميزتهن الحكومة في الطعام فكان الخبز من الخبز (الخاص) بدلاً من الخبز العادي (الجراية) الذي كان يوزع في مدارس البنين، حتى لا يكون الخبز “الجراية” كما تقول الحكومة (سببًا في هزال التلميذات وضعفهن) وقد خصص لكل تلميذة طربوش من صنع فوه، وسالطة جوخ بقيطان من حرير – يعني صديري، والقيطان نسيج من الحرير أو القطن يُبرَم فيكون كالحبل الدقيق – وبالوكا شامي، وحزام وشنتيان ألاجه شامي– الشنتيان لباس–سروال، ومجسمان بدويرة، وقميصان من كتان، ولباسان من بفتة– نوع قماش، ودكتان من كتان– والدكة حزام من نسيجٍ أو مطَّاط يُربط به أعلى السِّروال، وحرير وبابوج– خُفّْ أو حذاء – إسلام بوللي، وخُفّ وطرحة من شاش بلدي قدرها خمسة أذرع، وفوطه للحمام، وحبرة– مُلاءة من حرير، وسبلة– ثوب.
وقد عين بعض الخريجات في المحاجر الصحية بالإسكندرية ودمياط، وخصص ثمان منهن لأقسام القاهرة الثمانية ليقمن بالكشف على المرضى من النساء، وكان يعين لكل منهن ساعٍ (بالطة جي) وحمار تركبه في أعمالها، وكانت تمنح الحكيمة لقب أفندي، وعين لحكيمات الأرياف أغوات يصحبنهن في عملهن، وكانت الحكومة تقوم بتزويجهن لأنهن كما تقول هي “من طائفة النساء ويحتجن إلى الزواج” فاختارت لهن أزواجًا من زملائهن الأطباء، وكانت الحكيمات المتزوجات يمنحن منازل صغيرة مفروشة على نفقة الحكومة، وخمسة أكياس من النقود، وتزيرة. وكانت تعمل على أن يكون الزوج الطبيب قريبًا من زوجته الحكيمة؛ فيعينان في بلد واحد، وذلك كما يقول ديوان المدارس (لأجل تمارسهم مع بعض في الدروس وحصول ثمرة من ذلك).
وكان ديوان المدارس يتسقط أخبار الأطباء غير المتزوجين، فيكتب إلى شورى الأطباء بأن يمد له بيانًا بأسماء (من يكون من حكماء أثمان المحروسة عازب ومضبوط – يعني حسن السير والسلوك– تفيدنا عن أسمائهم وهم بأي ثمن من الأثمان. لأجل الورود بالإفادة يجري اللازم).
فإذا تعذر وجود أزواج كافين، فعلى شورى الأطباء أن يجتهد في طريقة لتزويجهن.
وهكذا وضع محمد علي اللبنة الأولى في نهضة المصريات، وكانت مدرسته أول مدرسة للبنات في مصر الحديثة.