النهاية
“عدت إلى منزلي بعد الغداء في أحد الفنادق. في الطريق المؤدي الي مدخل العمارة ، رأيت حشدًا من الناس يحيط بملاءة بيضاء. سألت ماذا حدث. قالوا: “لقد ألقت السيدة نفسها من شرفة الطابق السادس“. نظرت تحت الملاءة البيضاء وجدت جثة جارتي درية شفيق، هذه المرأة، التي دوى صوتها في جنبات العالم و ملأت تصريحاتها الدنيا، هذه المرأة، التي ألقيت عليها الأضواء العالمية أينما ذهبت، هذه المرأة، التي كانت نجمة المجتمع المصري والعربي والأوروبي والأمريكي. نسي الناس اقتحامها البرلمان، مطالبة بحق المرأة في التصويت. نسوا إضرابها عن الطعام في عام 1954 من أجل حقوق المرأة، ونسوا أنها فقدت حريتها ومجلاتها وأموالها وزوجها لأنها طالبت بحقوق المرأة. لقد دفعت ثمنًا فظيعًا لمقاومتها بينما استسلم الآخرون“…
هكذا وصف مصطفى أمين حادثة (انتحار) درية شفيق كما رآها، في سبتمبر 1975..
البداية
كانت درية أحمد شفيق “امرأة مختلفة” كما عنونت الباحثة الأمريكية سينثيا نلسون كتابها عنها؛ ويمكننا كذلك ترجمة العنوان “A woman Apart” امرأة منفردة، منعزلة، وهو ما ينطبق تمامًا عليها ؛ الكتاب الذي ترجمته نهاد سالم، وصدر عن المشروع القومي للترجمة تحت عنوان ” إمرأة مختلفة”.
درية شفيق مناضلة وكاتبة وشاعرة، من أولى النساء اللاتي طالبن بحقوقهن المهدرة، وسعت لنيلها سعيًّا دؤوبًا، دافعة كل ما استحق الأمر من أثمان. ولدت في طنطا يوم 14 ديسمبر 1908، وماتت وحيدة منعزلة في الزمالك يوم 20 سبتمبر 1975.
أمها رتيبة ناصف “بك“، وأبوها أحمد “أفندي” شفيق. ويبدو من الألقاب أن أسرتي الأم والأب كانتا متفاوتتين في المكانة. ومع أن الزيجات بين الطبقات لم تكن أمرًا مألوفًا إلا إن ظروفًا اقتصادية ما ألمَّت بعائلة الأم وجعلت هذه الزيحة ممكنة.
عندما ولدت درية شفيق كانت الحياة السياسية في مصر موزعة بين الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل (1874-1908) الذي كان يطالب على صفحات صحيفة اللواء بالجلاء الفوري ويرى أن “لا مفاوضات إلا بعد الجلاء“- لماذا قد تكون هناك مفاوضات بعد الجلاء؟!- وحزب الأمة ذي التوجه الليبرالي الذي أسسه أحمد لطفي السيد (1872-1963) الذي تبنى فكرة الأمة المصرية، ونادى بقوانين وتشريعات حديثة، والحركة “السلفية” التي كانت تواجه الدعاوى الليبرالية وأسسها محمد عبده (1849-1905) واستكملها رشيد رضا (1863-1935). وفي 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى، وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وظهر على الساحة وجه قيادي جديد ينتمي للبرجوازية مالكة الأراضي؛ سعد زغلول (1857-1927). وفي 1915 التحقت درية بمدرسة نوتردام دي أبوتر وعاشت مع جدتها لأمها خديجة في طنطا. وفي 1918 ولد جمال عبد الناصر. وفي 1919 تزوج الملك فؤاد (1868-1936) من نازلي صبري، وفي 1920 ولد فاروق الأول، وتصدر سعد زغلول الوفد المصري الذي سافر إلى باريس لحضور مؤتمر باريس للسلام والمطالبة بالاستقلال، ولم يسمح له ولمرافقيه أن يحضروا المؤتمر، فقامت ثورة 1919، ثم نفي سعد إلى مالطة. وفي 1920 ماتت أم درية وهي تلد، وفسخت خطبة درية من قريب لخالها. وفي 1922 أعلنت بريطانيا رفع الحماية عن مصر، وأعلن السلطان فؤاد ملكًا. ولحقت درية بأبيها في الإسكندرية والتحقت بمدرسة فانسان دي بول، وبدأت في الاستعداد لشهادة البريفيه. وفي 1923 صيغ أول دستور مصري، ونصَّ على تشكيل برلمان من مجلسين؛ النواب والشيوخ، وفي 1923 أيضًا عادت هدى شعراوي اجتماع الجمعية الدولية للمرأة في روما وخلعت حجابها. وفيه أيضًا التحقت درية بمدرسة الليسيه، استعدادًا للحصول على البكالوريا. وحصلت عليها في العام التالي، مستحقة وسامًا فضيًّا لتحقيقها المركز الثاني من بين المتقدمين للامتحان في مصر. وفي 1924 انتُخب أول برلمان مصري، وتصدَّر سعد زغلول، وهو على رأس الوزارة، الهجوم على الإنجليز، وقُتل السير لي ستاك. وفي 1925 أسست هدى شعراوي الاتحاد النسائي المصري، ومجلة “ليجيبسيين/المصرية” وتولت سيزا نبراوي رئاسة تحريرها. في 1927 تولى مصطفى النحاس رئاسة الوفد، وأصبحت السلطة في مصر مقسمة ما بين السراي والوفد والإنجليز. وفي 1928 تأسست جماعة الإخوان المسلمين. وفي أغسطس 1928 كتبت درية شفيق إلى هدى شعرواي، وقابلتها في القاهرة، ثم حصلت على منحة دراسية من وزارة التربية والتعليم، وفي 4 مايو دعتها هدى شعراوي لإلقاء كلمة على مسرح حديقة الأزبكية. وفي أغسطس سافرت درية إلى فرنسا للالتحاق بجامعة السربون.
كان سفرها وحدها أمرًا غريبًا على العائلة، عبرت الجدة خديجة عن دهشتها “هذا جنون! كيف تسافر هذه الصغيرة للعيش وحدها بين الدروز؟” كان كل من ليس مسلمًا عند الجدة درزيًّا بالتأكيد!تعترف درية في مذكراتها أنها فكرت في كلام جدتها، وفي أن مصيرًا موحشًا ينتظرها “وتخيلت نفسي أعيش وحيدة في أواخر أيامي” وهو ما حدث. قبل سفرها اصطحبها الأب إلى طنطا ليزورا قبر أمها، هذه المرة لم تبكِ، كانت تشعر أنها امتداد لأمها، وأنها “على أعتاب تحقيق حلم عظيم غير معلن، وإن راود أجيالاً من النساء المقهورات“..
أنت وحدك تجرؤين
كان زملاؤها في باريس يطلقون عليها أبا الهول، لأنها تفضل الوحدة، وفي إحدى قصائدها تخاطب أبا الهول:
كم تأملت في مرآة ضميري
فسمعت صوتك يقول:
أنت وحدك تعرفين
أنت وحدك تستطيعين
أنت وحدك ترغبين
أنت وحدك تجرؤين..
على متن السفينة التي كانت تحمل فتيات البعثة، جرؤت درية على كسر التقاليد؛ هربت من المشرفة البريطانية الصارمة، وذهبت وإحدى رفيقاتها ليشاركا في حفل راقص على ظهر السفينة.. في هذه الرحلة كان البحر هادئًا، ربما لم يرد أن يعكر صفو رحلتها الأولى؛ كما كتبت لهدى شعراوي في إحدى رسائلها، إثرها نشرت ليجبسيين صورة لدرية شفيق في صفحتها الأولى، عدد سبتمبر 1928.
في باريس كانت المواجهة الأولى مع السلطة التي اختارت لها أن تدرس التاريخ والجغرافيا؛ مادتان ترى الوزارة أنهما تصلحان للمدرسات؛ لكنها كانت تكرههما، وصرحت بذلك، كانت تريد أن تدرس الفلسفة، وكان رد الإداري المسؤول “المسألة ليست ما تحبين وما تكرهين، فالقرار قرار الحكومة، ولا نستطيع أن نعدل من قرار الوزير“، ولم يكتف بهذا الرد الرسمي فأضاف “أحذرك من الحديث مع الشبان، حافظي على سمعتك، وإلا أعدناك إلى مصر!”؛ لكنها لم تقطع هذه المسافة لتستسلم، كتبت إلى طه حسين تطلب مساعدته؛ وهو صاحب الفضل أصلاً في التحاق الفتيات بالجامعة 1928، وبعد أيام قليلة أرسل طه حسين برقية إلى المسؤول موجهًا بتغيير برنامج دراسة درية حسب رغبتها، بعدها بأسبوع كانت مسجلة في قسم الفلسفة في السربون “انتصرت، لكني دفعت الثمن غاليًا؛ إذ أصبح المدير عدوًا“.
في باريس اكتشفت درية أنها شاعرة؛ في البنسيون الذي كانت تقيم فيه كان هناك شاعر فرنسي شاب، مجهول الاسم، وقد نمت بينهما صداقة لطيفة، وعرَّفها على الثقافة والفنون، وكان يرسل لها القصائد، فكانت ترد عليه بقصائد.. كان وجودها معه يشعرها بأن “جروحها على وشك الاندمال“! لاحقًا ستنقل درية رغمًا عنها إلى سكن طالبات في بولونيا، وعند عودتها من سويسرا؛ حيث كانت تستكمل أبحاثها حول روسو، ستجد أن رفيقاتها في السكن سرقن قصائد صديقها الفرنسي وأعطينها للمدير، وستحدث بينهما مواجهة حادة، يخبرها فيها أن عليها الاستعداد للعودة إلى مصر، ستترك بعدها السكن متمنية أن يذهبوا جميعًا إلى الجحيم.
المرأة الجديدة ``وجهان لكائن واحد``
بعد 4 سنوات عادت درية إلى مصر، حاصلة على ليسانس الدولة من السربون. كانت مصر تعاني من عواقب الكساد الاقتصادي الذي عانى منه العالم، وتعاني الحداثة صدامات مستمرة مع الإسلاميين، ويعاني الراغبون في الإصلاح الديني يأسًا شديدًا، وتسود البلاد روح وطنية محافظة.
وكالمعتاد حاول أهلها تزويجها بعريس ثري، فوافقت، وبمجرد موافقتها قدم لها العريس خاتم ألماظ، لكن الخاتم وغيره من المجوهرات أشعرنها أنها باعت نفسها، وأنها بسبيلها للتحول إلى امرأة عادية سجينة زيجة فاشلة، فغيرت رأيها وفسخت الخطبة. وبعد إجازة قصيرة عادت إلى باريس لاستكمال دراستها.
في إجازة أخرى عام 1935؛ نُظمت في الإسكندرية مسابقة لاختيار فتاة مصرية لتمثيل مصر في مسابقة ملكة جمال العالم، لم يسبق أن جرؤت فتاة مصرية مسلمة على التقدم لهذه المسابقة، فقررت درية أن تشارك فيها، دون أن تستأذن أبيها؛كانت مخاطرة حقيقية لسمعتها كفتاة من وسط محافظ، لكن المرأة الجديدة –في نظرها– كانت تمثل الجمال “الأنوثة“، والذكاء “الرجولة” في كائن واحد! توجت شارلوت واصف ملكة، وحصلت درية على لقب الوصيفة الأولى.
كان حدثَا مثيرًا أن تشارك مسلمة في المسابقة. وكانت ردود الفعل على اشتراكها في المسابقة عارمة؛ انتقدت الصحافة المصرية هذا التصرف، واستقبلت درية رسائل من زميلات ومدرسات قديمات في طنطا يلمنها على عبثها بتعاليم الإسلام وخروجها على التقاليد، لكن أباها كان داعمًا، وهو ما أدهشها كثيرًا. لم تقتصر الضجة على ذلك، إذ أتاها طلب جديد للزواج، العريس هذه المرة هو الصحفي أحمد الصاوي محمد، صاحب ومؤسس مجلة “مجلتي“، وهو صحفي موهوب وشهير، تخرج في السربون، وعرف بمقالاته المؤيدة لقضايا المرأة “في خضم الجدل الذي أحاط بي تسلل إلى حياتي صحفي مصري يمتلك مجلة ناجحة. كان شديد الدمامة وشديد الجاذبية، فأغمضت عيني عن قبحه، وتخيلته سيرانو دي برجراك، وأغرق بيتنا في فيض من الورود الحمراء، وكان يحدثني عن باريس، فرأيت فيه روح شاعر..” سيرانو دي برجراك بطل مسرحية تحمل الاسم ذاته لإدموند ستان، وقد كان فارسًا مغوارًا دميم الخلقة– تم القران سريعًا، في بيت هدى شعراوي في الإسكندرية، بمهر قدره 25 قرشًا ومؤخر صداق قيمته 300 جنيهًا.
لكن الزواج لم يتم؛ سريعًا اكتشفت درية أن الصاوي في حقيقة الأمر رجل رجعي يرى أن زوجته مكانها البيت، ووصل الأمر أنه ابتزها بصورة لها بفستان عاري الكتفين، وطلب منها أموالاً وإلا سينشر الصورة في كل الصحف وستنتهي سمعتها إلى الأبد. فصممت على الطلاق قبل أن يتم الزواج أصلاً..وقد كان.
ألاعيب السراي
فجأةً، وجدت درية نفسها جزءًا من لعبة، لا علم لها بها، تحاك داخل القصر الملكي، في 1936 تولى فاروق الأول العرش، وبدأت الملكة نازلي تمارس سلطاتها بعد أن “أحست بالتحرر من زوج متسلط وقررت الانتقام من الحياة“، وقررت إحاطة نفسها بمن تتصور أنهم يخدمون أهدافها، وكان لا بد أن يكون لها أنشطة اجتماعية، وأن تكون بجوارها فتاة متعلمة لتساعدها، ووقع الاختيار على درية شفيق، التي رشحها لذلك مراد محسن، المسؤول عن خزانة القصر، وكان في سباق مع أحمد حسنين رجل نازلي المدلل. وحددوا لها موعدًا للقاء نازلي، وذهبت بالفعل، وراودتها فورًا رغبة شديدة في الهروب، ثم جاءت إحدى الوصيفات وظلت تستجوبها لمدة ساعة، بطريقة أشعرتها أن ثمة أمرًا خفيًّا وراء ذلك. وفي النهاية أخبرتها أنها صغيرة السن على تولي هذا المنصب.
بعد هذا المشهد الذي أضيف للخسارة الشخصية من الزيجة التي لم تكتمل قررت درية العودة إلى السربون، هذه المرة غزوًا، ورغبة في المعرفة التي ستمكنها من فعل شيء عظيم للبلاد التي تعاني كل هذه الحماقات.
باريس الثلاثينيات المختلفة
عاهدت درية نفسها ألا تتزوج، وأن تلوذ بعزلتها الاختيارية، وأصبح شغلها الشاغل اكتشاف جوهر باريس؛ فقضت 3 سنوات تقرأ وتكتب بالفرنسية، وتدرس تراث أوروبا الفلسفي وحضارتها، وتكتشف واقع أوروبا الجديد الذي أعقب الهجمة الفاشية. وقد كان لتلك السنوات أثر كبير على وعي درية النسوي الناشئ فمنحته مضمونًا ناضجًا.
كانت باريس في الثلاثينيات مكانًا براقًا، وفد إليه الأدباء الأمريكيون خروجًا على المواقف المتشددة من الجنس، وتوافدوا على صالون الناقدة الأمريكية جرترود شتاين، وتفجرت نظريات الحرية والمساواة بين الجنسين.
كان على درية أن تنهي رسالتي دكتوراه في ثلاث سنوات، فاختارت موضوعين؛ أحدهما عن الفلسفة الجمالية الفرنسية والفن المصري القديم. والآخر عن حقوق المرأة والإسلام.
وفي مصادفة غريبة التقت في باريس بابن خالتها، نور الدين رجائي، الذي كان يدرس القانون في السربون، وأصبح زوجها لاحقًا، وقد كان رجلاً وسيمًا لم تتخيل أن تتزوجه “لن أتزوج أبدًا من دون جوان ومقامر بالسليقة، فهذا مصدر للمشكلات العديدة، ثم إنه ليس برجل يفكر في الاستقرار“. لكنه أخرجها من عزلتها المستمرة منذ سنوات، وعرَّفها على حياة مختلفة تمامًا “وكأنني دخلت عالمًا آخر“ جمعهما حب الحرية، ولم تستطع مقاومة الزواج من رجل تتسابق عليه الفتيات، كما أنه بالغ الذكاء، ودائم التفوق.. في أكتوبر 1937، في مقر القنصلية المصرية تزوجته؛ وهي تكبره بسبع سنوات، بعيدًا عن الأهل، في تحدٍ واضح للأعراف السائدة.
العودة إلى مصر
في 1939 عادت درية شفيق إلى مصر. لتفاجأ بأن الجميع يتعامل معها بطريقة غريبة؛ سيدات المجتمع يتهمنها بالتعالي، ويرون ملابسها أبسط مما ينبغي، والمثقفات يرين أن ملابسها غير مناسبة لهن، وكذلك ترددها على الحفلات، بينما المتدينون يرونها قدوة سيئة لبناتهن “لماذا تريد العمل ولديها زوج ينفق عليها!”. يا للمصير المتكرر! دائمًا كانت في منطقة تخصها، وحيدة، على الرغم من كل الجهد والتميز.
بعد فترة قصيرة اتصل بها وزير التعليم عارضًا عليها العمل مفتشة للغة الفرنسية في المدارس الثانوية فقبلت، مع أنها كانت تريد تدريس الفلسفة في الجامعة المصرية. وبعد عدة شهور جاءها خطاب من السربون يحدد موعد مناقشة رسالتها الثانية، وكان لا بد من إجازة من عملها لتسافر، لكن وكيل وزارة التعليم رفض السماح لها بالسفر، وهددها إن سافرت فستعتبر مفصولة، فأخبرته أن يعتبرها مفصولة، وخرجت من مكتبه لتحجز تذكرة سفر. في اليوم نفسه التقى وكيل الوزارة زوجها وسأله “أخبرني كيف تسوس درية؟” فأجابه نور ضاحكًا “ومن قال لك إني أسوسها!”.
سافرت وحصلت على درجتها العلمية بجدارة، لكنها لم تسلم من النقد، فقيل إنها منحت الدكتوراه لأنها امرأة جميلة؛ كان من الصعب على العقل الشرقي، وحتى الآن، القبول بوجود امرأة جميلة ومتميزة علميًّا في الوقت نفسه؛ وعندما عادت لتحقق حلمها بالتدريس في الجامعة، رفض الدكتور أحمد أمين (1886-1954) تعيينها بحجة أنه لا يستطيع تعيين امرأة جميلة للتدريس في الجامعة؛ كان يرى أن طباعها وحداثتها وجرأتها ستعرض الجماعة الوليدة للخطر. حاولت درية الاتصال بوزير التعليم للتوسط لدى أحمد أمين فأخبرها أن أمين قال “يوم تخطو درية شفيق الجامعة، هو يوم أغادرها أنا“. بعد ذلك حاولت الانضمام للاتحاد النسائي الذي أنشأته هدى شعرواي، لكن الدسائس والمؤامرات التي يقال إن سيزا نبرواي مساعدة شعراوي كانت وراءها حالت دون انضمامها، وهو ما يدعو للدهشة، خصوصًا وقد كانت نبراوي داعمة لها منذ البداية. وربما لعب أحمد الصاوي دورًا في تأليب شعراوي ضدها.
الدور التاريخي
في 1942 بحثت درية عن مربية لابنتيها عزيزة وجيهان، لتتفرغ للدور التاريخي “الذي ينتظرها في الحياة العامة“، وأخذت دعواتها للصفوة من نساء مصر بالتكاتف لمواجهة الفقر والجهل والمرض تنتشر، وكان من نتائجها أن أغدقت الكثيرات من سيدات الصفوة الميسورة لإنشاء منظمات خاصة، أو دعم منظمات موجودة كالمرأة الجديدة ومبرة محمد علي وغيرها. وفي أوائل 1945 اتصل بها صديق لزوجها، وأخبرها أن الأميرة شويكار؛ الزوجة الأولى للملك فؤاد، ترغب في إنشاء مجلة ثقافية جديدة، فاستهواها التحدي، مع أنها عديمة الخبرة في مجال النشر والصحافة. ومع إدراكها أن قبولها سيجر عليها عداء مجموعة هدى شعراوي ونساء الطبقة الوسطى، فقد رأت في العرض فرصة لا يمكن رفضها، وكالعادة كان وجودها وسط المجموعة المحيطة بالأميرة مرفوضًا.
وفي يوم وليلة أصبحت رئيسة تحرير مجلة المرأة الجديدة. وزادت الانتقادات حول هويتها؛ فهي تتكلم الفرنسية وتعلمت في فرنسا، وهو ما يبدو عوارًا واضحًا في وطنيتها، وكان الرد المناسب هو إصدار مجلة نسائية باللغة العربية، وكانت مجلة “بنت النيل“. صدرت بورق مصقول، ومقالات حول قضايا نسائية، ونصائح للمرأة بشان تربية الأطفال وأقسام للموضة. ظهر العدد الأول في 1 نوفمبر 1945، بخمسة قروش، وفي ساعتين بيعت 5000 نسخة!
اقتحام البرلمان
على مدى سنوات بذلت درية شفيق جهدًا كبيرًا لتغيير القوانين المجحفة بحقوق النساء، فبالإضافة للحق في الانتخاب، كانت تسعى لتغيير القوانين التي تحول دون حصول المرأة على عضوية البرلمان، وكذلك تغيير قوانين الأحوال الشخصية الذي يسمح بتعدد الزوجات، وتطليق الزوجة والاحتفاظ بالأطفال. وفي بداية الخمسينيات كان الوضع في مصر يزداد اضطرابًا، فحوَّلت درية مجلتها من منصة هدفها تحرير المرأة البرجوازية، إلى حركة تربط حركة تحرير المرأة بالسياسة عمومًا. وفكرت للمرة الأولى في الخروج بالاحتجاجات إلى الشارع. وبالفعل خططت لاقتحام البرلمان؛ تحركت من الجامعة الأمريكية إلى مقر البرلمان في شارع قصر العيني، بصحبة 1500 امرأة، واقتحمن بوابة البرلمان، واستمرت التظاهرة لأربع ساعات، حتى استقبلها رئيس مجلس النواب في مكتبه، ووعدها بأن ينظر البرلمان في مطالب النساء. كانت المطالب: السماح للنساء بالاشتراك في الكفاح الوطني، وإصلاح قانون الأحوال الشخصية، والمساواة في الأجور عند العمل المتساوي. بعدها بأسبوع قدم النائب الوفدي أحمد الحضري مشروعًا يطالب بمنح النساء حق الانتخاب والترشح للبرلمان.
فاروق لم تعجبه حركة اقتحام البرلمان، وقال لنور الدين رجائي، حين التقاه في نادي السيارات “أخبر زوجتك أن النساء لن يحصلن على حقوق سياسية طالما بقيت ملكًا“.
الحلم الكاذب
في موقف مناقض لكل تصوراتها خرجت درية في 23 يناير 1952 على رأس تظاهرة لفتيات يرتدين الزي العسكري، وذهبن لمحاصرة بنك باركليز، ووقف نشاطه لمدرة 24 ساعة، استجابة للفوران الذي كان يعم البلاد، وتعاطفًا مع الفدائيين الذين يقاتلون قوات الاحتلال في الإسماعيلية. بعد ذلك بستة أشهر قامت ثورة يوليو، التي بدا للجميع في البداية أنها جاءت لتطهير البلاد من سلطة فاسدة، وسرى أنهم لا يريدون سوى تغيير الوزارة وتعيين محمد نجيب قائدًا أعلى.. بعدها بيومين كانت درية شفيق في مكتب محمد نجيب، وذكرته أن الثورة لن تكتمل إلا إذا تحررت المرأة، استقبلها نجيب بلطف بالغ، لكنه أخبرها أنها قد تستثير القوى المؤيدة للثورة لو بدأت الآن المطالبة بالحقوق السياسية للمرأة. فوعدته بالتزام الهدوء لفترة “أتذكر المشهد تمامًا؛ عينا محمد نجيب يملؤهما الثقة في مستقبل الثورة وفي زملائه، وفي مواجهته وجه السادات المغلق، والذي سيطر تمامًا على حديث محمد نجيب كانت نظرة واحدة من السادات تكفي ليمسك نجيب لسانه أو يغير الموضوع“.
وفي أكتوبر، قدمت لوزير الداخلية، جمال عبد الناصر، ما يفيد بتحويل جمعية بنت النيل إلى حزب سياسي، وقُبل طلبها. بلا شك كان موقف درية شفيق وحزبها مؤيدًا تمامًا للثورة في بدايتها، منتظرًا منها الكثير للنهوض بالحريات والتعليم والحقوق، وهو ما كان حلمًا كاذبًا.
كانت أولى مواجهاتها مع الثورة في 1954؛ حين قررت دولة الضباط وضع دستور جديد، دون أن تضم اللجنة التأسيسية له امرأة واحدة، فقررت درية الإضراب عن الطعام حتى الموت في نقابة الصحفيين، كانت ترفض الخضوع لدستور لم تشارك في صياغته. وبالفعل توجهت لنقابة الصحفيين وانضمت إليها بضع سيدات، كان نصيبهن التشهير والانتقاد، فوصفهن طه حسين بـ “العابثات” وتتالت الاتهامات. وبعد مفاوضات كان على ماهر ممثل الحكومة فيها، استمر الإضراب حتى دخلت درية وكثير من رفيقاتها المستشفى، وفي اليوم السادس أرسل محمد نجيب، محافظ القاهرة محمود نور ليخبرها أن الدستور الجديد سيكفل للمرأة حرية كاملة.
المواجهة الثانية مع ضباط يوليو لم تمر مرور الكرام؛ في 1957، كان عبد الناصر هو الرئيس، الديكتاتور، الذي لم يحقق ما كان يتمنى من رحبوا بالثورة، بل إن كل المؤسسات الديموقراطية انهارت، وبعد شهور مما حدث في حرب السويس 1965، في 6 فبراير 1957 دخلت درية السفارة الهندية على بُعد خطوات من مسكنها بالزمالك، وأرسلت بيانًا لعبد الناصر “نظرًا للظروف العصيبة التي تمر بها مصر قررت بحزم أن أضرب عن الطعام حتى الموت، وأنا كمصرية وكعربية أطالب السطات الدولية بإجبار القوات الإسرائيلية على الإنسحاب فورًا من الأراضي المصرية.. وأطالب السطات المصرية بإعادة الحرية الكاملة لمصريين رجالاً ونساءً، وبوضع حد للحكم الديكتاتوري الذي يدفع بلادنا إلى الإفلاس والفوضى، وقد اخترت السفارة الهندية لأن الهند بلد محايد، ولن أتهم بأنني فضلت معسكرًا ما“. غضب عبد الناصر غضبًا شديدًا لأن الشرطة المصرية لا تستطيع أن تدخل السفارة الهندية للقبض على درية، خصوصًا وقد أثار الأمر ردود أفعال دولية داعمة، وبعد 48 ساعة انتهى الإضراب بنقلها لمستشفى مورو لتلقي العلاج.
“أنا أضحي بحياتي بغية تحرير وطني، وأنا وحدي أتحمل المسؤولية” قالت درية شفيق هذه الجملة، وكانت تعنيها، تحملت وحدها المسؤولية؛ أمر عبد الناصر فورًا بتحديد إقامتها في بيتها، وفي 28 فبراير طردها زملاؤها من اتحاد بنت النيل، واتهتمتها بعض زميلاتها بالخيانة، وعينت الحكومة لجنة من خمس سيدات أصدرت قرارًا بإغلاق دار النشر، وقضت على كل إصدراتها من المجلات تدريجيًّا. ظلت لثلاث سنوات رهن الإقامة الجبرية، بعدها، وحتى عندما رفعت الحراسة، لم تخرج منه، ربما تحققت المخاوف التي نبهتها إليها جدتها، بأنها ستعيش وحيدة وسط كل هذا الصخب، ربما كانت ترفض مواجهة من أدوا بها إلى هذا المصير بعد ثلاثين عامًا من النشاط والإنجاز والحرية..
وفي 20 سبتمبر 75، سقطت درية شفيق من الدور السادس لعمارة وديع سعد في الزمالك..تاركة في ختام مذكراتها هذه الأبيات لبول إيلوار:
أيتها الحرية
إليك أهدي قلبي
لولاك ما كانت لي أبدًا حياة.