غادر علي عاشور مقعده فجأة، بعد أن سألته عن شعوره “بالاضطهاد”، وكانت إجابته بكلام الواثق من رحلته، الفخور بها، ثم تغيَّر صوته قليلاً، وتوقف عن الكلام.. كانت لحظة درامية؛ صحيح أننا أكملنا الحوار بعدها، لكنها وضعت الحوار كله في مكان مختلف. علي عاشور قليل الكلام، مع أن كل لوحة من لوحاته تكشف عن عالم آخر بعيد عن الصمت.. عن المكان الخاص الذي لا نراه داخل أنفسنا جميعًا، ويستطيع الفنان أن يعريه، لا ليشكو أو يتألم أو يغضب معلنًا الرفض، بل ليتحول هذا المكان إلى قطعة مرئية حية يتغير بها الواقع الذي نراه. الغضب والألم وحتى الكآبة التي يمكن وصفها بتعبيرات نفسية واجتماعية محدودة، تتحول بالفن إلى “كائنات” من عالم ممتد زمنيًّا بامتداد رحلة التجربة الإنسانية. وهذا هو الفرق بين مشاعر الفنان حين ينتهي من اللوحة، وبين انفلات هذا العالم السري الخاص به في كلام عادي؛ كأنه نوع من التعري غير الفني. هذا الفرق في التأثير بين اللوحة والكلام المرسل في حوار، أكد لي أن كل محاولات تسمية الفن الذي نراه في الأعمال الفنية، بالمسميات المعتمدة مثل “الفن التشكيلي” أو حتى “الفنون الجميلة” هي محاولات قاصرة لفهم تأثير أو وجود الفن في حياتنا. لا أشعر في لوحات علي عاشور أنه محاصر بالغضب، بل أشعر أنه يلعب، ليقدم في تلك المساحة الصغيرة وعبر اكتشافاته في سطحها الهاديء، أزمانًا متباينة وشخوصًا لها روح ومغامرات بشرية مختلفة. اللوحات لا تجعل العالم أجمل، لكنها بالكشف عما يدور في العالم غير المرئي للفنان، تسهم في إضافة نوع خاص من الجمال، يضيء الجوانب التي نهرب إليها من الحياة اليومية، الجرداء، التي نستهلك فيها الزمن مثلما نلتهم السندوتشات السريعة. في عزلته؛ وبين حدود مرسمه، يتحرر الفنان من كل ما يدفعنا لنكون ضحايا نشكو بؤس العالم.. هذه الحرية تصل عبر الحفر في السطح إلى عمق ما يختبيء في أنفسنا الغاضبة. وهذا ما حاولت الدوران حوله في حواري مع علي عاشور. لنكتشف كيف يتجاور الحب والخسارة.. كيف نصارع السلطة لنصل إلى السلطنة، ونضع الرعب في مواجهة المتعة.. لندخل في التجربة ونرى!
1
أساطير وكاريكاتير
-متى دخلت مجال الفن التشكيلي.. خصوصًا وكان ذاك الوقت وقت معارك بين المدارس والاتجاهات الفنية.. كيف كان المناخ؟
علي عاشور: أنا أرسم منذ صغري.. يبدو أنه كان هناك من يرسم في الأسرة فالتقطت العدوى.. أنا من بيت متواضع لا علاقة له بالفن، كان أهلي طيبون وأخلاقيون ومحبون للحياة، لكن لا علاقة لهم بالفن؛ يعني منذ اللحظة الأولى كنت أسبح ضد التيار.
-من أي منطقة في الإسكندرية؟
علي عاشور: لا أزال أذكر اسم الحارة؛ حارة تماضر في منطقة راغب باشا في الإسكندرية.. ولا أزال أكن لها المحبة، وكنت أود أن أكتب كلمة في بامفلت معرض القنصلية: تحية لحارة تماضر التي عبأتني بكمية هائلة من الأساطير.. كل مخزون الأساطير عندي مصدره حارة تماضر براغب باشا.
-من أو ما هو مصدر هذه الأساطير؟
علي عاشور: الناس من حولي.. أنا شخص فضولي وخيالي يشتغل على الواقع ويعيد إنتاجه.. كل هذا خارج اللوحة، لأن المسألة ليست مسألة لوحة، بل كيف تعيد اكتشاف العالم من منطقة سحرية.. لكني لا أعلم تحديدًا كيف حدث ذلك.. فقد كانت تلك الأساطير تشبه المحيط الاجتماعي من حولي.. الشبابيك التي يطل منها أناس تضفي عليهم خيالك الخاص.. كنت طول الوقت أراقبهم وأتخيل أحوالهم، ومن أين يأتون وإلى أين يذهبون.. أنت من تنتج الأسطورة مع نفسك.. لقد حدثت التضفيرة بين الخيال وبين الواقع مبكرًا ولا أدري كيف.. لكني أرسم، أسرق الرسم.. كانوا في البيت دائمًا ما يقولون الرسم سيعطلك عن الدراسة.. هم من طبقة عمالية، نزحت من الوجه البحري، من بسيون طنطا تحديدًا، ودخلوا في قوة البروليتاريا في صناعة القطن في الإسكندرية.. هذه المنطقة في الإسكندرية شهدت زحف المزارعين الذين دخلوا في قوة الصناعة وتحديدًا تحضير القطن للتصدير.. لكنهم بالمصادفة كان عندهم إصرار على أن يعلموا أولادهم.. فخرج من هذه الحارة من يدرس في جامعات أمريكا، ومن يدرس علوم نووية في جامعة دولية أخرى.. كانت هناك رغبة قوية في العلام.. كانوا يريدون أن يكبر أبناؤهم على مستوى.. الرسم عندهم ممكن يكون معطل وأنا كنت أرسم في الكراريس وأبوظ الدنيا وأرسم على حيطان المدرسة.. وطبعًا كنت أُضرب في كل الحصص إلا حصة الرسم، صار الرسم مصدر قوتي، فهو خلاصي.. في الثانوي في أوائل الستينيات لقيت نفسي في الكاريكاتير.. وفعلاً عملت مجلة للكاريكاتير، وكان أستاذ الرسم قد أخذني لجورنال الجمهورية وعرفني بمدير التحرير في الإسكندرية.. فأصبح عندي تصور أني رسام كاريكاتير.
-كان هذا في فترة انتقالية مهمة لفن الكاريكاتير.. حين حدث التحول من الكاريكاتيرست منفذ الأفكار الكبرى مثل صاروخان، إلى الشكل الذي اتخذه فنانو صباح الخير..
علي عاشور: التحول نفسه أن تمشي وتصطاد الفكرة خفيفة الظل التي تضحك عليها أنت أولاً. توفي والدي وأنا في مرحلة المراهقة، فأكملت الثانوية العامة وقدمت في كلية الفنون، وقبلت بالفعل.. لكن كان لا بد أن أتولى مسؤولية الأسرة، فسافرت إلى القاهرة في أوائل الستينيات ٦٣ /٦٤وكان هناك جورنال اسمه الحقائق، مؤسسه هو الأستاذ أنور زعلوك.. ومنحني مربعًا بجانب المانشيت الرئيسي.. تخيَّل ولد في هذا السن وله مربع خاص به بجانب المانشيت! بعدها قابلت حسن فؤاد “العظيم”.. أحببنا بعضنا جدًا ونشر لي مرة أو اثنتين في روزا.. وبعدها غطست في الإسكندرية بعد أن عُينت في وزارة العدل، فانقطعت لفترة، ورجعت فوجدت صلاح جاهين.. ولي معه حدوتة طريفة؛ فقد دخلت عليه ذات يوم ومعي ملف فيه رسومي، فتفرج عليه، ثم قال: شغل كويس بس هنشر لك في نادي الرسامين.. “دلوقتي دا موقف اتكسف أعمله مع عيل صغير”، قلت له: الرسوم اللي قدامك دي بتاعة فنان متميز.. ثم سحبت الملف، وقلت له: باي باي صباح الخير.. باي باي كاريكاتير.. cut!
ولم أعد للكاريكاتير، لم تكن تلك الإرهاصات مشبعة لي، كان هناك الكثير مما يجب عمله في الفن. ثم دخلت في مرحلة البحث عن دراسات حرة في الفن في حين كنت أعمل ومسؤول عن أسرة.. تخيَّل حالة الفصام؛ أعمل في وظيفة لا علاقة لي بها.. بس لازم، فظهرك للحائط، ولا بد أن تقوم بهذا الدور، وفي نفس الوقت لا بد أن تقرأ جيدًا كي تنشئ لنفسك منهجًا يفوق منهج كلية الفنون.. لا بد أن تقرأ في كل شيء.
2
رهان سيف وانلي
-أنا مهتم بالفيزياء الكمية هذه الأيام.. بها طاقة فنية وشعرية كبرى.. أنا أكتشف هذا الجانب بعد عمر من عقدة الفيزياء لكن حاليًا أرى أن فيزيائي الكم هم الشعراء أصلاً، فخيالهم واسع..
علي عاشور: عندي صديق أستاذ فيزياء، وعندما يشرح لنا معادلات فيزيائية أراه ساحرًا.. هو مدرس فيزياء وحاسب آلي، وحين يدرس طلبته لا يكلمهم عن الفيزياء مباشرة بل عن علاقتها بالأفكار الجديدة في العالم.. وصديق آخر من الإسكندرية هو صالح شهابي، يدرس في كلية الهندسة وفي الأكاديمية النقل البحرية على ما أظن، وهذا صعلوك لا أستاذ “اللي يقوله دكتور يزعل منه”. كنت في القسم العلمي في الثانوية العامة لكن العلوم كانت صعبة عليَّ، واكتشفت قيمتها بعد ذلك.. عندما تقرأ في الأدب أو الفلسفة وأنت مسنود علميًّا تضمن أفقًا أوسع في القراءة.. وحين حاولت في الفن أن أؤكد منهجي ببعض العناصر عدت ثانية لعلم الإستاتيكا؛ علم إثبات الأجسام.. كان لا بد أن أدرسه، وأدرس توازن الجسم رياضيًّا.. كان ذلك مهمًا بالنسبة لي مع أني كنت ضعيفًا في الرياضيات التي كانت تثقل عليَّ وأنا الفنان بتاع الرسم!
-الكيمياء أيضًا تتدخل في علاقة الخامة باللون..
علي عاشور: الكيمياء أيضًا، بالفعل، بالفعل.. نحن نعود للعلم ونحبه كلما احتجنا له.. احتياجك للعلم هو ما يربي عندك علاقة صحيحة به..
-كيف كنت توصل عالم الأساطير بعالم الوظيفة والمسؤولية الاجتماعية؟ كيف تعاملت مع هذا التناقض؟
علي عاشور: لا أعرف تحديديًا الآلية التي اتبعتها لفعل ذلك.. لكن أحيانًا تتداخل الخطوط في حياتك دون أن تدري.. أحيانًا تسود حالة ما، مثلما حدث مع الكاريكاتير؛ حين مارسته كان بحب وصدق، وعندما انتهيت منه انتهيت بصدق أيضًا.. لماذا؟ لأني اكتشفت أن هذه آخر حدوده معي، وأنه لن يكون مشبعًا لي بعد الآن، وسعيت للخطوة التالية؛ التشكيل.
كنت أرسم كاريكاتير جيدًا، لكن كيف فعلت ذلك، لم ألجأ لأساتذتي؛ بل جلست لأقرأ، وعلمت نفسي، ونهلت من فروع العلوم والآداب والفلسفة والشعر.. واظبت على المجلات المتخصصة؛ الفكر المعاصر، والتراث الإنساني، لذلك غرقت في القراءة أولاً قبل أي شيء. وحين كنت أزور أستاذًا كنت أراقب عمله.. وأكتب عنه، لأفهم نفسي جيدًا ماهية هذا الأستاذ الذي ألجأ له.. لا بد أن أعرف أستاذي كي أعرف كيف أتعامل معه.
-من كانوا أساتذتك؟
علي عاشور: بدأت بكامل مصطفى لأن عنده إجادة الرسم؛ كان أستاذًا في فنون جميلة.. كان عندي ذلك الطموح لأن أن أنافسه.. كان نوعًا من العِند، أن تشعر وكأنك تريد أن تقفز لمرحلة أعلى مما لديك بالفعل ومن قدراتك.. لدرجة أنه كان هناك اثنان من الأساتذة كانوا بيتخانقوا عليَّ في قسم الجرافيك؛ كان ماهر رائف قد سمع إنه يوجد ولد بيرسم حلو، فأراد أن يضمه للجرافيك.. وكامل مصطفى معلم، فرفضت؛ كنت أريد أن أرسم فقط..
ثم عويس، وقد اخترت عويس لأنه كان يدرس عمارة السطح..
-وماذا عن حامد عويس وسيف وانلي؟
علي عاشور: لقد أثر حامد عويس وسيف وانلي على جيل كامل.. لكن كيف استفدت منهما وكيف ذابت في أعمالك.. ذات مرة حضر حسين بيكار معرضًا لي.. وكتبت في بامفلت المعرض أن أساتذتي فلان وفلان، فقال لي: أنت لا شبه سيف ولا شبه عويس.. لكني مصر على أني استفدت منهما، وتعلمت منهما الكثير.. لكني في الوقت نفسه كنت مُصرًا أن آخذ منهما ما أريده.. أزورهما لفترات قصيرة، وأنا أعلم تحديدًا ماذا أريد من هذه الزيارة.. الغريب أن هذين الفنانين لم يكونا يحبان بعضهما بعضًا على الإطلاق!
لقد ذهبت لسيف لأني كنت مهووسًا بقراءة المسرح في تلك الفترة، وكنت أحلم أن أكون كاتبًا مسرحيًّا، وغرقت في ترجمات المسرح العالمي آنذاك مثل الأعمال التي ترجمها ثروت عكاشة.. وقرأت كل ما صدر عن هذه السلسلة. وكنت أتمرن على الحوار وعلى تصور النص ورسوم بدايات السينوغرافيا.. كنت أرسم سكتشات للتصور التشكيل للعمل الدرامي.. وذات مرة في متحف كلية الفنون وجدت لوحة لسيف وانلي تشع منها هذه الحالة الدرامية، وفورًا جريت نحوها.. هو الذي جرني لعلاقته بالدراما، وكان دائمًا ما يقول “اللي معندوش دراما ماعندوش تشكيل”.. وبالفعل الحس الدرامي عنصر أساسي في الإبداع، ليست الدراما بمعنى الحكاية، بل الدفعة.. وأنا أقربها أكثر لفكرة الديالكتيك في العمل الفني؛ أي حالة الصراع بين العناصر، كيف يعمل قانون الحركة بداخلها.. كيف يشع العمل بقانون حركة يخصه وحده..
وعندما هرعت إلى سيف، وقال لي “أنت بترسم كويس.. بس تعالي بس هنشوف”.. كنت ذاهبًا لأشرب من نموذج متفرد في الحركة الفنية وله طعمه وله أداؤه وسلوكه اليومي، فاقتربت منه لفترة، وكنت أخرج معه ونذهب إلى المسرح، ونجلس في إيليت بعدما ننهي الحصة.. وقد دخلت في رهان مع فاروق حسني أيامها، حين قلت له: أنا رايح لسيف.. فقال لي: بلاش سيف علشان هيمسح شخصيتك.. قلت له أراهنك..
ولا يزال الرهان معلقًا حتى الآن!
بدأت مع سيف، وتركت له نفسي قليلاً، كي أرى ما يفعل، كان في آخر الحصة يمر يعمل الفينيشينج بنفسه.. وتركته مرة واثنتين، وفي الثالثة وقفت وأعطيته ظهري، ففهم أن يتركني أنهي اللوحة بنفسي..
بعدها فكرت أن هذه الجرعة لا تكفي وأن عليَّ أن أغذي نفسي بجرعات أكبر؛ فغرقت في المكتبات التي كانت متوفرة في تلك الفترة.. سيف عرفني بمكتبة كانت في متحف الفنون- اختفت حاليًا- كنت أذهب إليها وأغرق في الأعمال الفنية لفنانين عالميين، وفي كل مرة أعود بواحد منهم.. ولعبنا معًا لعبة غريبة؛ مرة أذهب إليه بماتيس، فيأتي في نهاية الحصة ويجمع التلاميذ ويكلمنا عن ماتيس.. من غير اتفاق لعبنا هذه اللعبة.. مرة بيكاسو مرة ماتيس، وهكذا.. استدعيت تجارب هؤلاء الناس كي أقاوم الوقوع تحت سطوة أسلوب أوحد، وكان هو السهل الممتنع، وكان إغراؤه لا يقاوم.
وحين انتهت تلك الفترة قررت أن أعطي ظهري للوانلية لمدة عامين.. لا أرى أعمالهما نهائيًّا، كي أصفي ذهني من تأثيرهم وأبحث عما أريده تحديدًا..
-لماذا تجمعهما؟
علي عاشور: الوانلية؟ لأن منهجهما واحد.. يوجد اختلاف طبعًا في التفاصيل، لكنهما أبناء منهج واحد.. ومن روح ونفس قريبة.. لم أعاصر أدهم وانلي لأنه توفي 1959، وقتها كنت لا أزال طالبًا في الإعدادية، من سن سيف تقريبًا.. الفكرة أنني لا أريد أن أشبهك.. أنا أحبك أريد أن أستفيد منك، وأن آخذ منك الخلاصة منك.. لكن لا أريد أن أكون نسخة عنك..
كيف تقرر هذه الاختيارات في تلك السن؟ لا أدري، كان المهم ألا أشبه أحدًا، وألا أتبع أحدًا؛ حتى مستوى السياسة، فقد قالوا لي في منظمة الشباب التابعة للاتحاد الاشتراكي: تعال وانضم للشباب الاشتراكي وستسهل أمورك.. قلت لهم لا.. حديقة الاشتراكية البلاستيكية..
ماذا تقصد بحديقة الاشتراكية البلاستيكية؟
علي عاشور: غنوة حديقة الاشتراكية لصلاح جاهين.
-كان عندك غضاضة أو مرارة من صلاح جاهين؟
علي عاشور: لا، لا، لا. أنا حتى الآن أنا أعشق صلاح جاهين.. أعشقه بالفعل كشاعر.. دعك من ذاك الموقف الذي حكيت لك عنه. ولاحقًا في أوائل السبعينيات، 1972 تقريبًا عندما كان الشباب اليساريون يهاجمونه، وقابلته في الشارع مصادفة سلمت عليه وقلت له آسف..
لكني كنت أطلق حديقة الاشتراكية البلاستيكية؛ على راس بستان الاشتراكية علما وعمال، ومعانا جمال.. إلخ.. كان هناك أمر غير مريح في التجربة، مع أني استفدت منها تعليميًّا وثقافيًّا.
3
الصبار والسلطة
-وانتقلت كذلك من فكرة الريف إلى المدينة؛ تغير كبير..
علي عاشور: فكرة السلطة المطلقة تزعجني؛ أنا لا أحتمل السلطة المطلقة، ولا أحتمل الرهان على فرد.
-ربما بسبب غياب السلطة المطلقة في حياتك مبكرًا بغياب الأب؟
علي عاشور: يبدو ذلك؛ أنا بالفعل متحرر من السلطة المطلقة.
-كيف ترى التحرر من السلطة؟ متى شعرت بسطوة السلطة عليك؟ أكانت هناك سلطة شعرت بضرورة التمرد عليها؟
علي عاشور: ليس موقفًا شخصيًّا.. بدأ الأمر في الستينيات، لم تكن السلطة السياسية حتى حينها، كانت السلطة الفنية. أتمرد على أساتذتي كي أكون.. أبحث على فكرة تخصني، لا تخص أساتذتي.. ومن وقتها صرت لا أحتمل أي سلطة كانت؛ سواء فنية أو سياسية..
-ألم تقع في فخ أسطورة مثل محمود سعيد مثلما وقع أغلب من يعملون في التصوير في الإسكندرية؟
علي عاشور: جميل، جميل. ولو؛ أنا أتعلم منك، أستفيد منك، وسأحبك بطريقتي.. في علاقتي بسيف اكتشفت الفرق بين الحب والانبهار.. في الأول كنت منبهرًا به، وأجريت بحثًا كي أعرفه جيدًا.. المعرفة هي الباب لكي تحب بشكل حقيقي.. أن تعرف أحدًا أو شيئًا هذا هو ما يؤدي لأن تحبه بشكل حقيقي.. لا أن تنبهر به، وتقع في فخ اللمعان.. إذا أردت أن تحب شخصًا لا بد أن تعرفه بكل تناقضاته..
-كلمتك عن محمود سعيد فرجعت لسيف وانلي..
علي عاشور: هو أحد الرموز الكبيرة؛ وأنا أحبهم من باب أني أعرفهم.. غرقت فيهم ورأيتهم جيدًا؛ رأيت أدواتهم وأفكارهم.. أنا أحبك حتى لو أنك مختلف معي.. أحبك بقدر ما أعرفك، لا بقدر ما أنا منبهر بك.. وهذا درس لا أدري كيف توصلت إليه مبكرًا، لكنه كان عدتي في الحياة ولا يزال، وربنا يديمه.
–بعد أن أنهيت دراستك صارت لك لوحاتك؟
علي عاشور: بدأ التحول في السبعينيات.. أنا طبعًا لست منتظمًا في الرسم نتيجة لظروفي، وعدم وجود مكان ثابت، وعدم وجود مناخ حاضن ليك، فأنت الممول وأنت المُبدع.. أنت من عليه أن يؤمن موارده ليصنع فنًّا.. وترفض أن يرعاك أحد..
-أهذا موقف سياسي أم فني؟
علي عاشور: موقف فني.. ليسا منفصلين على فكرة.. أنت تحتاج لمن يمولك، لكي تنتج فنًا، لأن الفن تكلفته باهظة، وقد تعلمت أن أصنع فنًا بالإمكانيات الفقيرة.. كيف تربي نفسك على التعود على فقر الإمكانيات.. هذا ما رباني فنيًّا.. لاحقًا حين أقمت معرضًا بعنوان صبار؛ وهي مجموعة لوحات بالحبر الشيني، لم يبق منها غير ثلاث لوحات؛ واحدة عند علاء خالد، وواحدة في النمسا، وواحدة في متحف في المغرب على ما أظن.
فالصبار يعيش على النزر اليسير من الماء لكنه صلب ومتماسك.. وهو من الأيقونات المهمة في حياتي..
وحين صنع عماد إرنست فيلمًا عني سنة 2003 2004 أسماه صبار المدينة، من إنتاج المركز القومي للسينما؛ 35 مللي مش فيديو. وقد نال عنه جائزة. وقد قلت له المفروض هذه الجائزة يأخذها الممثل.
4
دقن يساري
-لكن حتى لو رفضت الدعم أو التمويل تبقى دائمًا فرصة أن ترعاك جماعة فنية أو سياسية..
علي عاشور: لم أستطع نهائيًّا.. حتى على مستوى السياسة. في السبعينيات كانت الدكاكين السياسية التي تعرفها، وكثيرًا ما حاولوا أن يجروني، لكني كنت واضحًا، الفنان يحب أن يكون يتبع ضميره هو، وقراره هو، وألا ينضوي تحت أي تنظيمات تحركه.. وتوجد أمثلة كثيرة على فنانين مبدعين أثرت التنظيمات والسياسة على فنهم وأنتجوا أسوأ انتاج لهم.. مثلما حدث مع بدر السياف مثلاً.. وبيكاسو نفسه دخل وخرج.. أنا ضد حتى أن توجد سلطة في أي جماعة تمنحك الخط الذي ينبغي أن تمشي عليه.. خطك اختيارك أنت فقط.. أيا كان احترامك لأي جماعة كانت..
-لم يكن لك نشاط سياسي.. لم تمر بتجربة المعتقل مثل بعض فناني تلك الفترة الذين تورطوا في السياسة؟
علي عاشور: لم أخض تجربة المعتقل، أخذني أمن الدولة 3 أيام في لمة من اللمات، كان ذلك سنة 80 على ما أظن، في بيت عبد الرحمن الخميسي، وهو بيت شهير، لا بد أن تعدي عليه أي لمة، وفي تلك الليلة كنت سهرانًا مع صديق الله يرحمه، فأرسلوا في البداية شخصًا ليس من أمن الدولة فجاء ونظر وانصرف، فقالوا له “دي دقن يساري” فعاد رجال شداد من أمن الدولة، وقالوا لي “مش يا أبو علوة تتفضل معانا”، كنا في يناير وقضيت 3 أيام في بدروم أمن الدولة في الإسكندرية، وكان معنا إخوان ويساريون، وكانوا يظنون أني جماعات دينية، واحتاروا في أمري، وفي اليوم الثالث طلعوني لضابط شاب، فسألني “تشرب شاي الأول”، قلت “يا ريت!”، وكان أحلى كوب شاي شربته في حياتي.. ثم سألني “إيه الحكاية”.. قلت له “أنا فنان.. أصدقائي أكثر ناس مثقفين في مصر، وهما اليساريين”.. قال لي “يعني منضم لحاجة يسارية”.. قلت له “أنا لا أنضم”. وصارت نكتة بيني وبين الأصدقاء بعد ذلك..
لكني لا أنتمي لمنظمات أو كيانات.. وكذلك لا أحب أن أقول رأيي في الظل، وهذا ما سبب لي مشكلات مع فاروق حسني، الذي كان صديقي وهو لا يزال موظفًا في الأنفوشي، وعندما أصبح وزيرًا تغير الأمر، لا تدري ماذا يحدث لي إذا جلس أحد أصدقائي على كرسي سلطة، حتى لو كان أبي، مادام قد جلس على كرسي السلطة سأقول رأيي الحقيقي فيه.. وذات مرة سألني أحدهم عن رأيي في فاروق حسني فقلت له “أحسن واحد يعمل فاترينه.. من أول فاترينه شيكوريل إلى فاترينه نظام مبارك”. كان من الممكن أن أستفيد كثيرًا من صداقتي لفاروق، لكني لا أعرف المجاملة، وقلت قناعتي.. خصوصًا وأني مقتنع أن الفن هو صراع مع السلطة المتراكمة داخل البشر، لا مع النظام ولا رأس الهرم.. أنا صراعي مع السلطة، مع المعني العميق للسلطة؛ السلطة العقلية والوجدانية والعقائدية.. أنا ضد هذه السلطة، ليس لدي خناقة مع أي نظامك بل مع القاعدة التي تشكِّل الهرم.. الفن هو “النخورة” كما لو كان فعلاً جيولوجيًّا.. وأول سلطة عليَّ مواجهتها هي السلطة التي بداخلي، وصراعي مع السلطة الدينية أو السلطة الذكورية التي بداخلي وقد صارعتها وتحررت منها.. لقد تصارعت حتى مع الذكر الشرقي بداخلي، والذي زرع فيَّ منذ ولادتي.
-أعجبني ما قرأته ذات مرة عن أحد معارضك، عن علاقتك بالإسكندرية، وأنها عندك تشبه مدينة كفافيس.. وقد رأيت في هذا الرأي إزاحة رومانتيكية.. ففي لوحاتك شجن أقوى من الشجن الرومنتيكي العام..
علي عاشور: لا.. أنا مؤمن بأن الفن ابن محيطه أو مكانه.. ليس في المطلق؛ في التشكيل تحديدًا.. إذ ماذا يكوِّن مخزونك البصري والحسي والعاطفي! ماذا يعطي تجربتك مذاقها.. ولا بد أن أشم في الفنان من أين أتى.. مفردات المادة الأساسية للفنان هي هذا المخزون الحسي للمكان.. وهذا بالطبع ليس كافيًا في حد ذاته؛ هو مجرد الخامة التي تعمل عليها، لكن كيف تتعامل معها؟
أنا أتكلم عن الموقع والموقف؛ في الفن فكرتان أسميهما الموقع بكل مشتملاته الشخصية والسيكولوجية والفسيولوجية؛ هذه هي مادتك.. والموقف هو الطيران بهذا لمنطقة الإبداع.. تأخذ من مخزونك وتطير إلى أين؟ أين منطقة السحر الخاصة بك؟ أين منطقة الأسطورة.. لا بد أن أرى هذا السحر في وإذا لم يصلني مهما كانت ما يلزمنيش.. لا بد أن يوجد السحر.
-ماذا يعني السحر هنا؟
علي عاشور: الحالة.
-أهو الواقعية السحرية.. أهو سحر الأساطير عند عبد الهادي الجزار؟
علي عاشور: لا.. السحر أعمق من هذا الحكي.
–في لوحتك أجمل غريق حوار مع أعمال ماركيز.. وامتدادا للكلام عن السحر؛ أنت تستخدم دئمًا فكرة الصيد، وهذا جزء من الثقافة السكندرية.. فما السحر إذن؟
علي عاشور: بعد أن رسمتها اخترت لها هذا الاسم، أحيانًا ترسم شيئًا ثم تكتشف أنه قربك لشيء آخر.. أما السحر فهو تجسد حالة ما.. تركض وراء الحالة، ليست حكيًا أو حدوتة، وهو ما يسميه لوركا…. وما نسميه نحن سميعة الشرقي السلطنة.. تلك الذروة التي تضيء!
الحالة اللي تخلفها اللوحة؛ التي تحمل هذا التفرد بين كل سطح وسطح، وكل الأعمال بنت جينات واحدة، لكن إذا لم يكن هناك تفاوت في ملامح الشخصية بين سطر وسطر.. أزعل جدًا.. كل فنان له كينونته وملامحه الخاصة وله إشكالياته.
–وهذا يحدث بالاحتراف، بالخبرة، بالصنعة؟
علي عاشور: أنا ضد الحرفة.. وأدعي أني رسام بورتريه.. كان من الممكن أن آكل عيش من كوني رسام بورتريه شاطر.. لكني رفضت الرسم بفلوس.. مع أني كان ممكن أنعنش وأعمل فلوس، لكني ضد الصنعة.. أحيانًا تقف ضد خبرتك السابقة.. وفي كل لحظة تنتج فنًا تتحرر من خبرة سابقة.. لو قفزت لك خبرة سابقة وأنت تعمل، أو لون مثلاً، وقلت أنا سبق وأن رأيته أو نفذته، لازم تزعل من نفسك.. فهذا معناه ببساطة أن شريان الحياة لا يعمل، وأنك تقتات شيئًا أو أحد سبقك.. الفن هو شريان الحياة الجاري، والتشكيل كذلك.. ودائمًا أقول يوجد فرق بين الشكل والتشكيل؛ من الممكن أن أخلق شكلاً وأعمل عليه، لكن التشكيل هو الحياة؛ قانون الحياة هو التشكيل، والحياة تُعيد نفسها تشكيليًّا طول الوقت، يحدث لها تحول تشكيلي.. ونحن نلهث وراء الحياة كي نصطاد حالات التحول هذه..
5
أجمل غريق
-ذات مرة سألك أحدهم سؤالاً غريبًا، وقال إنك تذوب في اللوحة.. لكني لا أفهم هذا الكلام الجاهز، أيهما الأهم، أنت أم اللوحة؟
علي عاشور: نعم توجد حالة ذوبان صوفية في العمل الفني.. في لحظة تصبحان شيئًا واحدًا.. تنتجان كائنًا واحدًا معًا.. أنا أذهب إلى اللوحة بلا موضوع.. أحيانًا أذهب للأتيلييه بلا فكرة محددة.. وأبدأ أستفز السطح بالتعامل بما معي من ألوان، بعدها تستفزني اللوحة.. لذلك أنا مؤمن بجملة أظن قالها دي. اتش لورانس: إن لوحة عباد الشمس ليست مجرد عباد الشمس؛ بل هي زهرة عباد الشمس والتوال الذي رسم عليه فان جوخ، وباليتة فان جوخ وفرشاته.. كل العناصر الموجودة تعمل معًا لتنتج هذا الكائن العضوي المختلف.
-من أين جاءتك باليتة معرض الاغتراب وأنت تشعر بالاغتراب أصلاً.. تتكلم عن مدينة مدفونة، غائبة باهتة في الخلفية وشخوص متحجرة على عكس ما يقول الواقع؛ أن القديم هو المتحجر والحديث هو الحي..
علي عاشور: لم يكن اسم معرض الاغتراب في بالي قبل أن أبدأ العمل.. وأنا لا أدخل اللوحة بهذا التقسيم نهائيًّا.. يمكن أن يعمل شريط حياتي وانحيازاتي داخل اللوحة دون قصد.. لا أستطيع أن أتحدث بسهولة عن عمل يخصني.. ربما لو تطلب الأمر الكلام عن الفن بشكل عام أتكلم لبلب، لكن عند أعمل يتعطل لساني!
لكن مع كل مخزونك تستفزه لحظة موجودة حية.. الاثنان يلعبان معًا.. لكن كيف وأنت مسلم نفسك لهذا المخزون.. ودوري أن أكشف ما يفعله باللحظة الحاضرة الحية.. ذاكرتي موضوعي.. وما يحدث في العالم موضوعي، لكن كيف يذوبان في بعضهما.. أنا أسمي اللوحة كائن عضوي.. وفي النهاية أنا والسطح نصل إلى نهايات هذا الكائن المكتمل مثل أي كائن طبيعي.. شجرة تولد في ظروف ما؛ رياح تلعب دورها، تقذفها شمالاً أو يمينًا.. رحلة طويلة حتى يتحقق توازن هذا الكيان، ويلقى نفسه وملامحه.. ساعتها أقول إن اللوحة اكتملت.. لأن هذا الكائن ولد وصارت له ملامحه وتفرده الخاص..
لكن هذا يأتي بلا ترتيب، فأنا لا أحب الكونسبشوال آرت، وكل فنان له كونسبت يتحرك به، الكونسبت مثل تيار النهر الذي يمر بتحولات كثيرة في سكته؛ بروائح وبيئات مختلفة، لكنه تيار النهر؛ يلتقط رائحة شجرة كافور، رائحة شجرة جميز. في كل انحناءة منه يلتقط ملامح وظروفًا مختلفة.. وهذه هي ما تمنحه روح التجربة.. لا الأسلوب ولا النمط.. كان من الممكن أن أركن لنمط أداء معين، وأسرح وراءه، وهناك تجارب كانت ناجحة في نظر الناس، لكني كنت أهجرها سريعًا، وأنط لمنطقة أخرى.. لأني ضد الاستلاب والاستسلام لنمط أداء محدد.
-لكنك هنا لم تكن خجولاً على الإطلاق مع النوستالجيا.. يوجد فرق بين النوستالجيا التي تثبِّت المدن عند لحظة قديمة، وبين تلك التي تكتشف المدن الغارقة التي ذكرها أونجاريتي في إحدى قصائده.. حتى في مجموعات سابقة لك حول الإسكندرية القديمة كنت وكأنك تحفظها من الغياب، أو تنتشلها من الغرق.
علي عاشور: الصراع قائم بين النوستالجيا وبين التحرر منها..
–أريدك أن تحكي لي ماذا يفعل بك هذا الصراع.. ألم ترغب ذات مرة أن تكسر صورتها المثالية.. أو تفكك أسطورة مدينة الرب؟
علي عاشور: لقد انكسرت بالفعل.. أنت طول الوقت تتراوح بين الحنو والقسوة، وفي التشكيل يوجد ما يساعدك..
–أي الألوان يقودك لكل حالة؟ أيها يشعرك بالقسوة؟
علي عاشور: الجملة لا اللون.. الأمر لا يتعلق بلونك المفضل.. بل بالجملة اللونية.لا يوجد لون جميل ولون سيء، بل توجد جملة لونية صحيحة وجملة لونية فاسدة.. السر هو كيف تكون هذه الجملة.. لا يوجد لون في الطبيعة وحده، قوة اللون أو ضعفه تأتي مما حوله.. ثم هناك ما يطلبه السطح في أي لحظة، وعندما تتعامل معه على أنه ندُّ لك ستستجيب له، ويبقى الأثر الذي تحصل عليه ناتج عن أوامره، لذا لا بد أن تتعلم الإنصات لاحتياج السطح، وإلا ستتعسف ضده فينفر منك، وينتج تناقضًا.
6
القوة التي في الوجوه
-اشرح لي أكثر عن السطح، وكيف تبنى العناصر داخل اللوحة..
علي عاشور: الأمر كله عبارة عن تفاعلات العناصر، تضادها وتآلفها.. والأدباء لهم توصيفات أدبية، لكن أنا أريد أوصل أكتر للتوصيفات التشكيلية.. وأدواتي عناصر مادية وبصرية تتفاعل مع هذا المحيط.. تتضاد مع بعضها بعضًا أو تتآلف مع بعضها، فتنتج ناتجًا ثالثًا غير متوقع.. أنت والسطح تتحاوران وتتفاعلان لإنتاج هذا الكائن المتفرد.. أصعب ما في العملية التشكيلية عموما الهدم لا البناء.. من الوارد أن يكون عنصرًا شديد القوة والجمال لكنه ليس حيًّا في فضائي.. وقرار الهدم برغم قسوته هو الفعل التشكيلي العظيم؛ أن تهدم عنصرًا أبدعت فيه، لكن ليس له مكان هنا، تتخلص منه لصالح الكل حتى لو كان يعجب الناس.. في الأدب ممكن تحذف جزءًا من الجملة، لكن في التشكيل أنت تهدم شيئًا من أساسه.
-أحيانًا كانت هناك أبحاث تحليلية للوحات كلاسيكية، كانوا يبحثون عن العناصر التي اختفت.. مثلاً قرأت ذات مرة بحثًا عن حيوان العرسة- وهي أيقونة مدينة- وفيه أن الفنانين كانوا يرسمون بورتريهات للشخصيات ثم يرسموا فوقها حيوانًا ما، ثم يحذفونه ويستبدلون به حيوان آخر.. اللوحة في المرحلة الأخيرة تختلف كثيرًا عنها في المرحلة الأولى، وهذه هي رحلة اللوحة..
علي عاشور: حين تشاهد لوحة ما أنت تنظر للناتج النهائي.. لكن آخذك في رحلتي الطويلة من العمل عليها.. متى تعثرت، متى أحببت، متى اكتأبت.. السطح يشي بمجموعة التحولات التي حدثت لك، هذا هو غنى السطح/ ماذا بنيت، ماذا هدمت؟ الناتج النهائي ليس فقط الجملة المسبوكة جيدًا، بل هو رائحة هذه الرحلة ومذاقها.. دائمًا الرحلة هي الأهم عندي.. كيف ارتحلت في هذا السطح وارتحل فيك لكي ينتج هذا المنتج في النهاية.
-يواجهك سؤال ماذا تريد قوله بهذه اللوحة.. سؤال الخطاب.. والإجابة سهلة في حالة اللوحة، لكن في حالة البورتريه؟
علي عاشور: الإجابة في قوة البورتريه.. للبورتريه شقَّان، الشق التشريحي أو الملامح.. الفيزيكال ( الفيزيقي) الخاصة به أمامي وأجيدها.. لكن البورتريه أيضًا روح الشخصية، إكسيرها، فكيف تسرح وراها كي تستخرج إمكانياتها الخفية، هنا تجاوزنا التشريح إلى مناطق نفسية وروحية في الشخصية.
ذات مرة عرضوا على سيف أن يرسم أم كلثوم.. قال لهم “أنا شفتها في الصور مقعدتش معاها، لازم أقعد معاها جلسات كتيرة علشان أعرف ملامح الشخصية إيه، وأشوف هرتكز على إيه علشان أرسمها”..
–لكن لديك وجوهًا تخرج من داخلك، وجوه من الذاكرة ليست لشخصيات حقيقية.. أتصور أن البورتريه يختلف عن اللوحة، كطاقة وجوه الفيوم مثلاً، العلاقة التي بنتها هذه البورتريهات عبر ألوف السنين هي جسر ممتد بينها وبينك..
علي عاشور: يوجد وجوه من الذاكرة، ووجوه بنيت من شخصيات ثم انتقلت إلى منطقة أخرى داخلي.. لا أريد أن أسميها، أعصرها كي تصل إلى مرحلة أخرى غير الشخصية.. التشكيل فيما وراء البورتريه هو الطاقة التعبيرية لا الملامح.. تعصر الشخصية لصالح الطاقة التي في داخلها، فتنتقل من كتلة الملامح إلى طاقة الشخصية. وبالفعل رسامو وجوه الفيوم أساتذتي في البورتريه، ومصدر أساسي أعتز به لأنه يخصني كمصري.. في وجوه الفيوم كان الأسطوات يسرحون في الشوارع ينادون: بورتريه بورتريه، فيتقدم أحدهم طالبًا رسم نفسه، ثم حين يموت توضع الصورة على تابوته. هذه البورتريهات أخذت من تقنيات الفن الإغريقي، وروحانيات الفن المصري، اندمج الفنان وتعشقًا معًا وترى نتيجة ذلك في طاقة العيون في وجوه الفيوم، والخلود، والنظرة الأبدية.
-هذه نظرة أبعد، لحظة لا نعرفها، ولا يعرفها صاحبها حتى لكنه ذاهب إليها بثقة..
علي عاشور: بالضبط.. وهذا سر عظمة وجوه الفيوم، فهي فعلاً من أعظم بورتريهات العالم.. وطالما أدهشتني؛ وقد تعلمت منهم إلى أين تذهب العين، أبعد من المكان التي هي فيه، والعين كاشفة للروح، وترى بعيدًا جيدًا، لا أعرف أين تحديدًا لكن بعيدًا..
–هل الوجوه هي المدينة التي بداخلك أنت؟ المدينة التي ذكرها كفافيس حين قال إن هذه المدينة تبقى معك في كل مدينة تذهب إليها، وهذه الوجوه هي جزء من هذه المدينة..
علي عاشور: المدينة ليست المكان فقط بل البشر أيضًا.. حين أتكلم عن المكان أتكلم عن الجغرافيا، لكني هنا أتكلم عن تكوينات اجتماعية مكانية، وهذا شيء مركب للغاية، هذا هو المكان عندي.. لم أقصد حيزًا أو لوكيشن.. أتكلم عن المكان ببُعده الاجتماعي والسوسيولوجي.. لكني هنا سأقفز قفزة صغيرة تخص كلام روجيه جارودي عن بيكاسو حين قال: أنا ضد أي شيء يصور بيكاسو، ثم أكمل وقال الاغتراب. وأنا ضد الاغتراب.. الفن عندي معركة للتعامل مع هذا الاغتراب.. وتاريخ الفن قائم على مواجهة الإنسان لاغترابه؛ منذ أن رسم الكهوف والحيوانات الأقوى منه فاستأنسها على السطح؛ على الجدار، وكان يعتبر هذه الحيوانات حيوانات حقيقية وليست رسومًا.. مرورًا بكل أشكال الاغتراب الذي مر بي وصولاً للعصر الحديث المركب جدًا، حيث طاقة الاغتراب فوق الاحتمال، فكيف نواجهه؟ في تقديري الفن أداتنا للتعامل مع الاغتراب؛ سواء باستئناسه أو مواجهته. مثل هذا الاغتراب الذي حدث في السنتين الأخيرتين، بسبب عدم القدرة على التواصل نتيجة هذا الوباء، وانفصال الإنسان عن الإنسان.. فقدت المعرفة والتفاعل والمواقف ناتجة من تفاعل البشر معًا.. هذه الحميمية في التعامل.. ومن الممكن جدًا أن يكون الاغتراب الذي ظهر في معرضي الأخير نتيجة للحالة التي أنتجها الوباء.. الكائنات ليست ملتحمة ببعضها، تتجاور لكن تظل منفصلة.. وقد انتبهت مؤخرًا أن قراءة ما وراء العقل هي ما يحركك، وهذا جزء كبير من التشكيل أو الفن.
-فوق العقل أم اللاوعي؟
علي عاشور: لا أفضل تسميته باللاوعي، فأنا ضد هذه الكلمة.. أسميه الوعي العميق؛ كيف تشرَّب الإنسان مجموعة من المشاعر والمواقف وترسبت وصنعت الوعي الذي يحرك ما فوق الذهن، ذهن اللحظة وتجعل كيانك كله يستجيب.. وتجد نفسك دون أن تدري تصرفت كرد فعل لهذا المخزون.. لا يتعلق الامر باللحظة الذهنية.. اللحظة الذهنية هي لحظة، نقطة، الأمر هو تراكمت كل هذه الأشياء داخلك وأنتجت طاقة رد الفعل.
-بدأت حياتك الفنية في عز فكرة الالتزام، بمعناها القديم الذي يعيب على الفرد فرديته، فهل كسرت اغترابك بالانتماء لأي شيء، تيار سياسي، جماعة فنية؟
علي عاشور: الفن هو نتاج لكل هذا؛ يوجد فرق بين الانتماء الذي يعني الونس، وبين الانتماء القائم على القراءة والتحليل والاختيار.. نحن دائمًا نبحث عن مجموعة ننتمي إليها، بداية من السياسة وحتى الكرة.. والمغامرة أن تظل خارج الأنساق الاجتماعية، وهو ما يعرضك لأن تظل تسبح ضد التيار طول الوقت.. لكنك لست منفصلاً عن الواقع، بل تراه، وهذا ضروري، وحرية حركتك الضد، ضد الضرورة، لكي تفهمها وتحللها لا لكي تكرس حياتك من أجلها.
يوجد نوعان من الفن؛ فن يكرس لفكرة أو جمالية ما، وفن يفكك منظومة ما لفهم طبيعتها.. لا بد أن نفهم ذلك.. طول عمري أتعامل على أني شخص لا منتم.. ليس بمعنى أني لا أهتم لشيء، بل بمعنى أني لست تابعًا لعقلية تقوني لفكرة أو فعل.. أفهم الضرورة من حولي، أحللها، أبحث فيما وراءها، وهذا هو جوهر فكرة الحرية عندي؛ الحرية هي فهم الضرورة..
7
نرجسية الفقراء
-متى قررت أن تصير فنانًا؟ وهل تعيش من الفن؟ متى كان لديك أول مرسم خاص؟
علي عاشور: لا أدري متى قررت أن أصير فنانًا.. لكني لا أعيش من الفن.. مؤخرًا حدث ذلك بشكل ما، لكني طول عمري كنت أعيش بالفن لا من الفن، كان من الوارد أن أتوقف عن الرسم لفترة طويلة لأي ظروف؛ ليس لدي مكان مثلاً، لكن كما أعتقد فكرة الإبداع ليست في اللوحة، بل في شغفي بمطالعة الإبداع في الحياة..
في أوائل السبعينيات كان يوجد مرسم في الأنفوشي، وتركو لي صالة جميلة تحولت إلى مرسم.. لكن لم يكن هناك رواد، كنت هناك وحدي، وكانت في المرسم قاعة استماع للموسيقى وقاعة لمناقشة الأعمال الأدبية والشعر. ودائمًا ما كان يزورني شعراء وفنانون وسينمائيون.. ذات مرة زارني علي بدرخان، وكنت قد صممت أقنعة للمسرح، وجاء ولم يجدني، فأخذ أحد الأقنعة، وعندما حاولت الموظفة منعه قال لها “ابقي قوليله علي بدرخان..”. فجاءت وقالت لي علي بدرخان أخذ القناع.. خلاص أنا مبسوط!
هناك أيضًا زارني الجميل زكريا الزيني، فجأة قرع الباب وقال لي “أنا زكريا الزيني.. سمعت إن حد بيرسم حلو هنا”، جلس معي لساعتين وتفرج على اللوحات وشربنا الشاي. وكانت المرة الوحيدة التي أراه فيها.. كم أنا ممتن لفنان بهذا الحجم، جاء لمجرد أن سمع أن فنانًا “بيرسم كويس”! وقد عملني هذا الموقف الكثير، وصرت أفعل ذلك مع الفنانين الشباب، أذهب وأتفرج على ما يفعلون، وأتحاور معهم.. تعلمت ذلك من الكبار.
تعلمت من صبحي جرجس أيضًا، كان لي معرض سنة 90 في أتلييه القاهرة، وجاء ولف فيه لساعتين، وبعدما انتهي كان لدي فضول أن أعرف رأيه، فقال “هو احنا لما بنطلع من الكونسير بنرغي؟”، قلت “لأ.. بنطلع بطاقة الموسيقى ونمشي بيها”. قال لي “اشمعنى في التشكيل؟ ما تدوشنيش.. سيبني أمشي بالمزيكا اللي أنا أخدتها.. باي باي”. تعلمت ألا أثرثر بعد خروجي من معرض رأيت فيه شيئًا جميلاً أمشي بالمزيكا التي منحني إياها..
-هل تعامل معك الناس في بيئتك الأصلية وفي الحارة باعتبارك فنانًا؟
علي عاشور: منذ البداية ارتبط بي هذا الاسم، ولا أدري كيف.. في المدرسة كانوا ينادونني بالفنان. وحتى في المدينة العشوائية التي يعيش فيها عشوائيون.. تسألهم أين الفنان فيشيرون إلى بيتي! وحاولت إقناعهم أن اسمي علي، لكن لأ، أنت الفنان.. مع أنهم لم يروا فني!
-هل ترى عبر كل هذه الرحلة أن صورة الفنان تغيرت لدى الناس؟
علي عاشور: لا أظن.. يمكن لأني عرضت فني ورأوه فتأكدوا.. لكني عمومًا مُقل في العرض، لا أحب الزحام ولا أزاحم أحدًا، أعرض فني حين أكون مستعدًا نفسيًّا.. يرهقني كثيرًا أن يكون لدي معرضان في وقت واحد، يزعجني.. حتى والناس سعداء بالعمل ويعبرون عن إعجابهم لكني لست مسرورًا بذلك “مابحبش أبقى مرطرط”!
–كنت تعرض أعمال أصدقائك في مرسمك.. وهذه تفصيلة تخص المدينة، أن أرى اللوحات في مكان إنتاجها في المرسم.. هذه فكرة حيوية للغاية في علاقة الفن بالمدينة..
علي عاشور: المرسم هو المكان المثالي لذلك.. في أتلييه الإسكندرية كان المرسم وكان الناس يأتون لزيارته، ليس فقط مرتادي المكان المعتادين.. أمر مختلف تمامًا أن تلتقي بالناس حيث تعمل، تقابل شبابًا تتحاور معهم حول الفن، ويظل عقلك مستنفرًا ونشطًا طوال الوقت.. كان الأتلييه مكانًا غنيًّا، سأفتقده كثيرًا لو أقفل!
وهذا يحميك من الوحدة، من العزلة والمنفى، التي لا أفضل أن أغرق في الوحدة إلا وأنا مشغول بمشروع ما وإلا ستأكلك.. في البداية ذهبت إلى المكان الذي أسميه المنفى، ويبعد عن الإسكندرية نحو 30 كم، بمشروع، وأنتجت جيدًا في السنوات الأولى.. بعدها لم أعد قادرًا على العمل هناك.. لكن في الأتلييه أنتجت معرضين، وصداقات كثيرة والتقيت شبابًا يحبون الفن كانوا يزورنني ليس بوصفي معلمًا، بل صديقًا محبوبًا…
–هل تزعجك زياراتك إلى القاهرة؟
علي عاشور: على فكرة أغلب أصدقائي، وأقرب أصدقائي في القاهرة.. لكن الفكرة أن الإسكندرية هي الموحية لي.
–لأنك ولدت فيها؟
علي عاشور: لا.. ليس هذا فقط.. هناك أمتلك مادتي التي أعمل بها.. حتى البحر الذي لا أرسمه بشكل مباشر، بل تبدياته وتأثيرات على ما حوله.. هذه متعتي في الرسم.. الأفق البعيد الذي يمنحك رجاءً مستمرًا، البحر يمنحك أفقًا تسعى إليه، ولو وهميًّا.. أما في القاهرة فلا يوجد خط الأفق، لا يمكن أن تشاهده!
طبعًا نحن نفتقد البحر هذه الأيام، لأنه محاصر، وهذا يسبب لي حزنًا شديدًا.. البحر يتآكل وتقل فرصة أن تراه.
-ماذا عن المرسم الذي كان فوق السطح..
علي عاشور: كنت أسميه الشرنقة، وزارني فيه كثير من الأصدقاء، وجلسوا على الأرض؛ منهم مصطفى ناجي رئيس الأوبرا السابق، حينها لم يكن قد عين رئيسًا للأوبرا بعد، هو عازف التشيللو العظيم وكان يرتدي بدلة ومع ذلك جلس على الأرض.. كان مكانًا صغيرًا لكن فيه دفء العالم، وفيه بؤرة ضوء ساعة العصرية مدهشة، لم أرها في مكان آخر، وكان آمنا على اللوحات، حتى أني لما غبت عن المرسم وأغلقته على اللوحات لم يصبها شيء.. كنت أرى البحر من ناحية ومن الناحية الأخرى كل شبابيك كوم الدكة.. عالمان مختلفان، ودائمًا ما سيكون عندي هذين العالمين المختلفين، كثافة العناصر، كثافة البشر بكل حواديتهم، وكنت أحيانًا أخترع لهم حواديت، شبابيك بها ناس تتحرك، أمر مثير! ثم تطل من الناحية الأخرى لكي تشاهد البحر. هذه هي الإسكندرية.. أحيانًا أذهب إلى جليم مشي، أو أمشي على الحبر حتى الأنفوشي.. كانت المشقة ضرورية للرسم، مثلما تبذل جهدًا للقاء حبيبتك.. أنا في هذا السن أقوم بهذه الرحلة اليومية 30 كيلو من ميرغم للأتلييه.. متشوقًا كي أقابل السطح “وبعدين أخلص وأروح”.
-تقابله وأنت غضبان؟
علي عاشور: لا.. أقابله وأنا مرهق، حتى يناديني ويعطيني إشارة “تعالى امسك الفرشاة” أجلس لأشرب قهوتي حتى يعطيني علامة، وعندما أمسك بالفرشاة يحدث التحول..
-اللحظة اللي تبدأ فيها علاقتك مع السطح، هي لحظة ونس أم غضب؟
علي عاشور: لا لا، هي لحظة ونس دائمًا، حتى ولو كانت تعبر عن غضب.. لا بد أن تبقى علاقتك بالسطح متسامحة وفيها ونس وإنصات.. لا بد أن تنصت لسطحك وتحترمه.
-ألا بد للرسم من فراغ كبير، ألا يمكن أن يحدث في مكان ضيق؟
علي عاشور: والله جربت هذا وذاك.. كنت أرسم في غرفة صغيرة “حتة حُق كدا” ورسمت فيها لوحات كبيرة؛ أنت تستأنس ظروفك. لا بد أن تتعلم كيف تستأنس ظروفك.. لقد علمتني الحياة الشاقة أنا أستأنس ظروفي، وأطوعها لعملي.
-ماذا تعني لك الخسارة؟
علي عاشور: الخسارة ألا أستطيع أن أمسك الفرشاة.. ألا أستطيع الرؤية.. هذه خسارة كبيرة.. اللحظة التي تتوقف فيها روحي عن الرؤية.. هذه خسارة مرعبة.
-لو لديك قصة حب ترسمها وأنت تحب أم وأنت خسران؟
علي عاشور: هذا أمر مركب.. يوجد فن ينتج في لحظات الحب، وفن ينتج في لحظات الخسارة.. هذان مختلفان، وقد جربت الاثنين.. توجد تجارب رسمتها وأنا في عز لحظات الحب، في سلام الحب.. وفي لحظات أخرى تقاوم كي تتخلص من ألم ما.. تتحرر من ألم ما.. فتنتج شيئًا آخر.
-ماذا عن الخفة التي تكلم عنها وانلي؟ خفة اللوحة.. أتقررها أم أنها تحدث؟
علي عاشور: خفة الظل.. الفنان حتى لو يصنع التراجيديا لا بد أن يفعلها بخفة دم.. هناك ناس تستظرف وهي دمها تقيل.. وآخر يحكي لك مأساته وتحبه وتريد أن تحتضنه وتطبطب عليه.. خفة الظل في الروح.. في التكوين الشخصي يعني.. وهذا ما يميز أحدًا عن أحد.. وأيضًا القدرة على التسامح.. في فترة أخيرة قررت أن أتسامح مع الكثير من الأشياء، بعد أن أحللها وأبحث عن المبررات والدوافع التي أدت لها كي أتصالح معها.. من أجل نفسك.. عندما تسامح تصفو روحك..
-كنت تشعر بالاضطهاد؟
علي عاشور: لا إطلاقًا.. أرفض الإحساس بالاضطهاد فهو إحساس مهين.. أنا فخور أني مررت بكل ذلك، ولا أحب أن أختبر شيئًا آخر..
-لهذا أحبك، لا أفضل النوع الذي يحس بالاضطهاد، ودائمة الإشارة إلى الآخرين بأنهم “مش واخدين حقهم”..
علي عاشور: ذات مرة كتب عني عصمت داوستاشي مقالة، قال فيها إني مظلوم، قلت له “إوعى تقول الحكاية دي.. أنا أرفض إن حد يشحت عليا.. بالنص كدا”. هذا هو اختياري وأتحمل مسؤوليته، وأعتز به، وأعتز بكل ما مررت به وبكل مواقفي.
-ماذا عن نرجسية الخلود؟
علي عاشور: اللوحة جزء مني.. أحيانًا أحلم بلوحة وأتساءل أين ذهبت! لكن هذا ليس نرجسية خلود، لذلك يهمني أن يرى الناس الإبداع، يتقاسموه معك، هذا هو الأهم، هذه هي المتعة الحقيقية..
-يوجد الكثير من الفنانين الحقيقين عاشوا وماتوا دون أن يتقاضوا مليمًا عن أعمالهم، وجنى ورثتهم الملايين..
علي عاشور: حدث ذلك كثيرًا، لكن نجا منه الناصح بيكاسو أو رينوار.. ذات مرة بيكاسو الخبيث أخذ الجميل مودلياني وقال له تعالى نزور فنانًا كبيرًا، وذهبا ليزورا متحفًا لرينوار، ونظررينوار لمودلياني وقال له “هل تعرف ثمن هذه الفيلا؟ قال له بثمن لوحة.. هل تعرف سر هذه السيارة؟ قال له بثمن سكتش”.. حدث هذا في وقت مودلياني كان يدور على المقاهي كي يبيع رسومه، وكان بيكاسو يغار منه.
-ما الجديد الآن؟
علي عاشور: لا أدري ماذا بعد، وهذه هي الحيرة الكبرى، والرعب الأكبر الذي يواجهني.. لكني لست أسيرًا لهذه الحالة، بالتأكيد سأفعل شيئًا، لن أقف هنا.. من المهم الحفاظ على الهوية، يحدث أحيانًا أن يحصل ظرف يفقدك هويتك.. لكن للأسف الرسم فن برجوازي.. هل تصدق أنه لو جاءت مؤسسة وطلبت مني أعمالي لتعرضها مجانًا في متحف سأرحب وأكون سعيدًا للغاية، بل أتمناه.. أتمنى أن يرى الناس الفن، تحبني تلعنني لكن المهم أن يشاهدوا الفن ويتفاعلوا معه.. ساعتها سأمضي وأنا مطمئن!