-متى قررت أن تصير فنانًا؟ وهل تعيش من الفن؟ متى كان لديك أول مرسم خاص؟
علي عاشور: لا أدري متى قررت أن أصير فنانًا.. لكني لا أعيش من الفن.. مؤخرًا حدث ذلك بشكل ما، لكني طول عمري كنت أعيش بالفن لا من الفن، كان من الوارد أن أتوقف عن الرسم لفترة طويلة لأي ظروف؛ ليس لدي مكان مثلاً، لكن كما أعتقد فكرة الإبداع ليست في اللوحة، بل في شغفي بمطالعة الإبداع في الحياة..
في أوائل السبعينيات كان يوجد مرسم في الأنفوشي، وتركو لي صالة جميلة تحولت إلى مرسم.. لكن لم يكن هناك رواد، كنت هناك وحدي، وكانت في المرسم قاعة استماع للموسيقى وقاعة لمناقشة الأعمال الأدبية والشعر. ودائمًا ما كان يزورني شعراء وفنانون وسينمائيون.. ذات مرة زارني علي بدرخان، وكنت قد صممت أقنعة للمسرح، وجاء ولم يجدني، فأخذ أحد الأقنعة، وعندما حاولت الموظفة منعه قال لها “ابقي قوليله علي بدرخان..”. فجاءت وقالت لي علي بدرخان أخذ القناع.. خلاص أنا مبسوط!
هناك أيضًا زارني الجميل زكريا الزيني، فجأة قرع الباب وقال لي “أنا زكريا الزيني.. سمعت إن حد بيرسم حلو هنا”، جلس معي لساعتين وتفرج على اللوحات وشربنا الشاي. وكانت المرة الوحيدة التي أراه فيها.. كم أنا ممتن لفنان بهذا الحجم، جاء لمجرد أن سمع أن فنانًا “بيرسم كويس”! وقد عملني هذا الموقف الكثير، وصرت أفعل ذلك مع الفنانين الشباب، أذهب وأتفرج على ما يفعلون، وأتحاور معهم.. تعلمت ذلك من الكبار.
تعلمت من صبحي جرجس أيضًا، كان لي معرض سنة 90 في أتلييه القاهرة، وجاء ولف فيه لساعتين، وبعدما انتهي كان لدي فضول أن أعرف رأيه، فقال “هو احنا لما بنطلع من الكونسير بنرغي؟”، قلت “لأ.. بنطلع بطاقة الموسيقى ونمشي بيها”. قال لي “اشمعنى في التشكيل؟ ما تدوشنيش.. سيبني أمشي بالمزيكا اللي أنا أخدتها.. باي باي”. تعلمت ألا أثرثر بعد خروجي من معرض رأيت فيه شيئًا جميلاً أمشي بالمزيكا التي منحني إياها..
-هل تعامل معك الناس في بيئتك الأصلية وفي الحارة باعتبارك فنانًا؟
علي عاشور: منذ البداية ارتبط بي هذا الاسم، ولا أدري كيف.. في المدرسة كانوا ينادونني بالفنان. وحتى في المدينة العشوائية التي يعيش فيها عشوائيون.. تسألهم أين الفنان فيشيرون إلى بيتي! وحاولت إقناعهم أن اسمي علي، لكن لأ، أنت الفنان.. مع أنهم لم يروا فني!
-هل ترى عبر كل هذه الرحلة أن صورة الفنان تغيرت لدى الناس؟
علي عاشور: لا أظن.. يمكن لأني عرضت فني ورأوه فتأكدوا.. لكني عمومًا مُقل في العرض، لا أحب الزحام ولا أزاحم أحدًا، أعرض فني حين أكون مستعدًا نفسيًّا.. يرهقني كثيرًا أن يكون لدي معرضان في وقت واحد، يزعجني.. حتى والناس سعداء بالعمل ويعبرون عن إعجابهم لكني لست مسرورًا بذلك “مابحبش أبقى مرطرط”!
–كنت تعرض أعمال أصدقائك في مرسمك.. وهذه تفصيلة تخص المدينة، أن أرى اللوحات في مكان إنتاجها في المرسم.. هذه فكرة حيوية للغاية في علاقة الفن بالمدينة..
علي عاشور: المرسم هو المكان المثالي لذلك.. في أتلييه الإسكندرية كان المرسم وكان الناس يأتون لزيارته، ليس فقط مرتادي المكان المعتادين.. أمر مختلف تمامًا أن تلتقي بالناس حيث تعمل، تقابل شبابًا تتحاور معهم حول الفن، ويظل عقلك مستنفرًا ونشطًا طوال الوقت.. كان الأتلييه مكانًا غنيًّا، سأفتقده كثيرًا لو أقفل!
وهذا يحميك من الوحدة، من العزلة والمنفى، التي لا أفضل أن أغرق في الوحدة إلا وأنا مشغول بمشروع ما وإلا ستأكلك.. في البداية ذهبت إلى المكان الذي أسميه المنفى، ويبعد عن الإسكندرية نحو 30 كم، بمشروع، وأنتجت جيدًا في السنوات الأولى.. بعدها لم أعد قادرًا على العمل هناك.. لكن في الأتلييه أنتجت معرضين، وصداقات كثيرة والتقيت شبابًا يحبون الفن كانوا يزورنني ليس بوصفي معلمًا، بل صديقًا محبوبًا…
–هل تزعجك زياراتك إلى القاهرة؟
علي عاشور: على فكرة أغلب أصدقائي، وأقرب أصدقائي في القاهرة.. لكن الفكرة أن الإسكندرية هي الموحية لي.
–لأنك ولدت فيها؟
علي عاشور: لا.. ليس هذا فقط.. هناك أمتلك مادتي التي أعمل بها.. حتى البحر الذي لا أرسمه بشكل مباشر، بل تبدياته وتأثيرات على ما حوله.. هذه متعتي في الرسم.. الأفق البعيد الذي يمنحك رجاءً مستمرًا، البحر يمنحك أفقًا تسعى إليه، ولو وهميًّا.. أما في القاهرة فلا يوجد خط الأفق، لا يمكن أن تشاهده!
طبعًا نحن نفتقد البحر هذه الأيام، لأنه محاصر، وهذا يسبب لي حزنًا شديدًا.. البحر يتآكل وتقل فرصة أن تراه.
-ماذا عن المرسم الذي كان فوق السطح..
علي عاشور: كنت أسميه الشرنقة، وزارني فيه كثير من الأصدقاء، وجلسوا على الأرض؛ منهم مصطفى ناجي رئيس الأوبرا السابق، حينها لم يكن قد عين رئيسًا للأوبرا بعد، هو عازف التشيللو العظيم وكان يرتدي بدلة ومع ذلك جلس على الأرض.. كان مكانًا صغيرًا لكن فيه دفء العالم، وفيه بؤرة ضوء ساعة العصرية مدهشة، لم أرها في مكان آخر، وكان آمنا على اللوحات، حتى أني لما غبت عن المرسم وأغلقته على اللوحات لم يصبها شيء.. كنت أرى البحر من ناحية ومن الناحية الأخرى كل شبابيك كوم الدكة.. عالمان مختلفان، ودائمًا ما سيكون عندي هذين العالمين المختلفين، كثافة العناصر، كثافة البشر بكل حواديتهم، وكنت أحيانًا أخترع لهم حواديت، شبابيك بها ناس تتحرك، أمر مثير! ثم تطل من الناحية الأخرى لكي تشاهد البحر. هذه هي الإسكندرية.. أحيانًا أذهب إلى جليم مشي، أو أمشي على الحبر حتى الأنفوشي.. كانت المشقة ضرورية للرسم، مثلما تبذل جهدًا للقاء حبيبتك.. أنا في هذا السن أقوم بهذه الرحلة اليومية 30 كيلو من ميرغم للأتلييه.. متشوقًا كي أقابل السطح “وبعدين أخلص وأروح”.
-تقابله وأنت غضبان؟
علي عاشور: لا.. أقابله وأنا مرهق، حتى يناديني ويعطيني إشارة “تعالى امسك الفرشاة” أجلس لأشرب قهوتي حتى يعطيني علامة، وعندما أمسك بالفرشاة يحدث التحول..
-اللحظة اللي تبدأ فيها علاقتك مع السطح، هي لحظة ونس أم غضب؟
علي عاشور: لا لا، هي لحظة ونس دائمًا، حتى ولو كانت تعبر عن غضب.. لا بد أن تبقى علاقتك بالسطح متسامحة وفيها ونس وإنصات.. لا بد أن تنصت لسطحك وتحترمه.
-ألا بد للرسم من فراغ كبير، ألا يمكن أن يحدث في مكان ضيق؟
علي عاشور: والله جربت هذا وذاك.. كنت أرسم في غرفة صغيرة “حتة حُق كدا” ورسمت فيها لوحات كبيرة؛ أنت تستأنس ظروفك. لا بد أن تتعلم كيف تستأنس ظروفك.. لقد علمتني الحياة الشاقة أنا أستأنس ظروفي، وأطوعها لعملي.
-ماذا تعني لك الخسارة؟
علي عاشور: الخسارة ألا أستطيع أن أمسك الفرشاة.. ألا أستطيع الرؤية.. هذه خسارة كبيرة.. اللحظة التي تتوقف فيها روحي عن الرؤية.. هذه خسارة مرعبة.
-لو لديك قصة حب ترسمها وأنت تحب أم وأنت خسران؟
علي عاشور: هذا أمر مركب.. يوجد فن ينتج في لحظات الحب، وفن ينتج في لحظات الخسارة.. هذان مختلفان، وقد جربت الاثنين.. توجد تجارب رسمتها وأنا في عز لحظات الحب، في سلام الحب.. وفي لحظات أخرى تقاوم كي تتخلص من ألم ما.. تتحرر من ألم ما.. فتنتج شيئًا آخر.
-ماذا عن الخفة التي تكلم عنها وانلي؟ خفة اللوحة.. أتقررها أم أنها تحدث؟
علي عاشور: خفة الظل.. الفنان حتى لو يصنع التراجيديا لا بد أن يفعلها بخفة دم.. هناك ناس تستظرف وهي دمها تقيل.. وآخر يحكي لك مأساته وتحبه وتريد أن تحتضنه وتطبطب عليه.. خفة الظل في الروح.. في التكوين الشخصي يعني.. وهذا ما يميز أحدًا عن أحد.. وأيضًا القدرة على التسامح.. في فترة أخيرة قررت أن أتسامح مع الكثير من الأشياء، بعد أن أحللها وأبحث عن المبررات والدوافع التي أدت لها كي أتصالح معها.. من أجل نفسك.. عندما تسامح تصفو روحك..
-كنت تشعر بالاضطهاد؟
علي عاشور: لا إطلاقًا.. أرفض الإحساس بالاضطهاد فهو إحساس مهين.. أنا فخور أني مررت بكل ذلك، ولا أحب أن أختبر شيئًا آخر..
-لهذا أحبك، لا أفضل النوع الذي يحس بالاضطهاد، ودائمة الإشارة إلى الآخرين بأنهم “مش واخدين حقهم”..
علي عاشور: ذات مرة كتب عني عصمت داوستاشي مقالة، قال فيها إني مظلوم، قلت له “إوعى تقول الحكاية دي.. أنا أرفض إن حد يشحت عليا.. بالنص كدا”. هذا هو اختياري وأتحمل مسؤوليته، وأعتز به، وأعتز بكل ما مررت به وبكل مواقفي.
-ماذا عن نرجسية الخلود؟
علي عاشور: اللوحة جزء مني.. أحيانًا أحلم بلوحة وأتساءل أين ذهبت! لكن هذا ليس نرجسية خلود، لذلك يهمني أن يرى الناس الإبداع، يتقاسموه معك، هذا هو الأهم، هذه هي المتعة الحقيقية..
-يوجد الكثير من الفنانين الحقيقين عاشوا وماتوا دون أن يتقاضوا مليمًا عن أعمالهم، وجنى ورثتهم الملايين..
علي عاشور: حدث ذلك كثيرًا، لكن نجا منه الناصح بيكاسو أو رينوار.. ذات مرة بيكاسو الخبيث أخذ الجميل مودلياني وقال له تعالى نزور فنانًا كبيرًا، وذهبا ليزورا متحفًا لرينوار، ونظررينوار لمودلياني وقال له “هل تعرف ثمن هذه الفيلا؟ قال له بثمن لوحة.. هل تعرف سر هذه السيارة؟ قال له بثمن سكتش”.. حدث هذا في وقت مودلياني كان يدور على المقاهي كي يبيع رسومه، وكان بيكاسو يغار منه.
-ما الجديد الآن؟
علي عاشور: لا أدري ماذا بعد، وهذه هي الحيرة الكبرى، والرعب الأكبر الذي يواجهني.. لكني لست أسيرًا لهذه الحالة، بالتأكيد سأفعل شيئًا، لن أقف هنا.. من المهم الحفاظ على الهوية، يحدث أحيانًا أن يحصل ظرف يفقدك هويتك.. لكن للأسف الرسم فن برجوازي.. هل تصدق أنه لو جاءت مؤسسة وطلبت مني أعمالي لتعرضها مجانًا في متحف سأرحب وأكون سعيدًا للغاية، بل أتمناه.. أتمنى أن يرى الناس الفن، تحبني تلعنني لكن المهم أن يشاهدوا الفن ويتفاعلوا معه.. ساعتها سأمضي وأنا مطمئن!

علي عاشور مع وائل عبد الفتاح بمقر مدينة