في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
“أنا الملكة فضيلة؛ ملكة مصر!”
كانت دومينيك فرانس بيكار تحب التحدث بهذه الصفة، وقد كانت حتى سنوات قليلة مضت زوجة “الملك دون مملكة ” أحمد فؤاد الثاني ابن الملك فاروق الأول. قبل زواجها تحولت من اليهودية إلى الإسلام، وارتدت اليشمك ليلة زفافها، كان بداخلها شيء عصابي يدفعها إلى اقتحام عائلة ملكية لتجعل من الماضي مستقبلاً لها. وكان الماضي، أو أحمد فؤاد الصغير نفسه بجوار دومينيك/ فضيلة ساكنًا هادئًا، لا يسمعون له صوتًا، إلا بعض من عواطف حائرة يختلط فيها الحنين والأسى، وحكايات الطفولة عن الفردوس المصري الضائع، وعذابات الخوف والرعب في المنافي الأوربية؛ من روما إلى باريس مرورًا بسويسرا.
فضيلة عادت إلى دومينك بعد أن أصدر“الملك” ديكريتو (كما يسمون في التقاليد القديمة الأوامر الرسمية التي لها قوة القانون) يحرم دومينيك من فضيلة؛ من اللقب الرمزي “أميرة مصر“، لكنه لم يحرمها من الإقامة في بيت الزوجية مع محتويات 217 حقيبة من تذكارات وتحف ولوحات استطاع فاروق الأول أن يجمعها من قصر رأس التين قبل لحظات من رحلته الأخيرة على اليخت الملكي؛ المحروسة. صارت السيدة الفرنسية المالكة الوحيدة الآن لبقايا الأسرة التي حكمت مصر 147 سنة كاملة، وذلك وفقًا لترتيبات الطلاق بينها وبين أحمد فؤاد الثاني. الذي تولى عرش مصر وهو رضيع ليلة 23 يوليو 1952.
تبدو الليلة بعيدة الآن؛ غروب الشمس الأخيرة عن التاج الملكي الذي منح شهوة السلطة ومتعة الثروة لأحفاد ضابط ما يزال يثير الجدل حول دوره التاريخي. كان غروب الشمس الأخيرة على زمن الملوك، شروقًا لشمس جديدة لعصر ضباط من نوع جديد؛ مصريين ومن الطبقة الوسطى، مغامرين لكن في سبيل الدولة التي حلم بها المغامر الألباني؛ مفارقة لا تزال تحمل سرها المثير! فقد رحل الملوك في غمضة عين وخلفوا تراجيديا توارثتها الأجيال. ما تزال بقايا أسرة محمد علي تحكي عن “هوجة” الضباط الصغار الذين لم يتدربوا جيدًا على المراسيم الملكية، ما تزال الحكايات الميلودرامية الفاقعة تروى على طريقة حسن الإمام وثروت أباظة عن أميرات خرجن بقمصان النوم، وقصور تحولت إلى ملاعب للرعاع، ومجوهرات منهوبة.
هذه الحكايات هي التكوين النفسي لبقايا العائلة المتناثرة بين القاهرة وباريس وسويسرا وغيرها من عواصم لم تكتشف إلا حكاياتهم المثيرة عن غراميات الملك فاروق ومآسي المدمنين والشحاذين الذين انتهت حياتهم في المنفى يلعنون انقلاب الزمن. لم يعد أحد يتعامل معهم على أنهم ملوك؛ انتهى وجودهم السياسي بعد وقت قليل من خروجهم، وكأنهم كانوا عابرين على طريقة الحملات الغازية. كأنهم لم يكسروا حاجز الغربة في مصر، وبقي انتماؤهم الممزق بين بلادهم الأصلية والبلد التي يحكمونه، وكأن أغلبهم لم يستطع إقامة علاقة مع مصر إلا من منصة الحكم. هناك حالات فردية كسرت الدائرة وتعاملت خارج قانون العائلة.
الملكية في مصر حركتها شهوة السلطة، وانتقلت من رغبة محمد علي الكبير في الخروج عن هيمنة الدول القوية في الغرب إلى الحياة تحت حماية الاستعمار القديم، مرورًا برغبات إسماعيل في تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا. وهذا ما جعل سقوط الملكية في مصر مدويًّا وعلامة كبرى على بداية انهيار الاستعمار القديم. كان الملك فاروق الأول (والأخير) يراهن حتى لحظة وصوله إلى ميناء نابولي على أن بريطانيا لن تتركه يذهب إلى الأبد، لكن الأسد البريطاني العجوز لم يكن يهمه إلا الحفاظ على المظاهر الملكية. وكان التفاوض الأساسي مع الضباط الأحرار على أن يخرج الملك بشكل يليق به. وشاركت أمريكا في الحفاظ على حياة وشكل فاروق الأول مقدمة لإعلان وجودها قبل أن تطوي صفحة الملكية في مصر.