هل هناك جديد يمكن قوله حول فيروز؟ إنها تشبه الأيقونات المكتملة. صنع جمهورها لها تمثالاً وهي على قيد الحياة. ممنوع الاقتراب. ممنوع اللمس. هي مثل شبيهاتها من “آلهة” الأزمنة الحديثة سوى التبجيل أو المروق. وهذا ما لا نحبه عادة في “مدينة “أو ما نحاول تفاديه؛ فالتكريس ليس لعبتنا. اخترنا العكس تماماً: التفكيك. ولهذا سعدنا بما وصلنا من عمرو ماهر؛ ومع أنه باحث متخصص في فيروز والرحابنة، وغرامه بكل ما يتعلق بهما لا يخفى إلا أنه اختار في بحثه منطقة جديدة، وهي النسخ المتعددة لمسرحية واحدة، كل نسخة في مدينة وهو ما يفجر من خلال البحث أسئلة من نوع :ما الذي يمنح عرضًا مسرحيًّا مرونة لا نهائية، تجعل في الإمكان عرضه ثم إعادة عرضه بتعديلات كبيرة على الموضوع والممثلين؟ يمكن طبعًا أن يكون لعرض مسرحي أكثر من حياة، تغيرات تصنعها السياسة والاجتماع والفن الخالص. هل يملك صناع الفن تلك الصلاحية المطاطة؟ من المؤكد أن الرحابنة ومعهم فيروز، التي يقترب عيد ميلادها الثالث والثمانين، استغلوا ما أتيح لهم من مساحات شاسعة من الفن، ولعبوا ألعابًا جديدة مع المستجدات، التي ربما تمر على غيرهم دون أن تلفت النظر.. فقد شغلتهم قضايا الإنسان الكبرى في ذاك الوقت، وقد ترافقت مع مجال عام يموج بثورات التحرر الوطني والتحرر الشخصي؛ في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
كفن مدعوم بظهير شعبي ريفي، وموجه له، كان من الصعب تخيل ما فعله الرحابنة ببعض مسرحياتهم، التي قدموا لها أكثر من نسخة، في كل مرة يضاف ملمح ويحذف آخر.. ربما الصعوبة أنهم كانوا يقدمون فنًا استعراضيًّا مغنى، وربما على العكس تمامًا، كانت المغناة الشعرية المخلوطة بالاستعراض، واللغة البسيطة تصل للجماهير في كل مكان. وتواجه في الوقت نفسه اتهامات بأنها منوعات غنائية لا تهتم بتماسك الحبكات، وبعيدة عن الجدية، وحافلة بالأغنيات المندسة بلا سبب مقنع وسط الحدوتة، واتهامات أخرى بأن مسرح الرحابنة–الغنائي بالأساس– فيه من الغناء أكثر مما فيه من المسرح.. إلخ. هوجم مسرح الرحابنة كثيرًا، دون أن تهاجم فيروز، وكأنها لا تُمس!
هكذا وجدنا مانتكلم عنه حول فيروز .
مسرحيات الأخوين رحباني سحرية لا شك، فإن لم يكن سحر القصة ذاتها، كما في “جسر القمر” أو “هالة والملك“، فسحر الكلمة واللحن، والمعنى الشعري الملغّز، الذي يدفعك للتفكير طويلاً بعد مشاهدتها.. من أين أتت وردة؟ (المحطة 1973) من هي إم الأصفر؟ (يعيش يعيش 1970) ما الذي أبكى الحسّون؟ وما قصة إبريق الزيت؟ (ميس الريم 1975) كم لبثت فتاة جسر القمر مرصودةً على الجسر، قبل أن تتجلّى لشيخ المشايخ؟ (جسر القمر 1962). ما المعنى الحقيقي خلف التعبير الرحباني “فرح الرحيل” الذي يغمر الدنيا (أغاني أيلول وجبال الصوان 69). كل هذه التساؤلات، والألحان، هو ما قالت عنه فيروز في وثائقي كانت حكاية “زوّادة للأيام اللي جايي“.
لماذا الحديث عن ناس من ورق بالذات؟ إنها ذروة المنحنى الصاعد للإبداع الرحباني؛ بعدها قدم الرحبانيان مسرحية ناطورة المفاتيح بفكرة محدودة ومقاومة سلبية وانفراج ساذج للأزمة، ثم انفجر دماغ عاصي الرحباني، ومن يومها لم يعد إنتاج الأخوين كما السابق أبدًا، وكأن الأقدار كانت تستعد لذلك الانفجار، فحوت ناس من ورق ذروة كل لون برع فيه الأخوان.
ما الاستثنائي في ناس من ورق؟ قُدّمت المسرحية للمرة الأولى في 1971، في الدورة الثامنة عشرة لمعرض دمشق الدولي، ثم في فبراير 1972 ولدت مسرحية ناس من ورق بنسختها البيروتية في مسرح قصر البيكاديللي، وهي النسخة التجارية التي طُبعت كأسطوانات وصدرت ويعرفها الجمهور..
في سنوات الارتباك والاضمحلال وقلة الابداع الرحباني، ظلّت ناس من ورق حاضرة دائمًا كفكرة جاهزة يسهل تجديدها وتقديمها أكثر من مرة، ثم عاد الحديث أواخر السبعينيات عن مسرحية جديدة بعنوان “ورق بلا ناس“؛ ربما ضمَّ فيها الأخَوان نتاجهم من الأغاني الجديدة المفردة المتفرقة التي أنتجوها في تلك الفترة، ولم تسجل لا وقتها ولا بعد ذلك لاضطراب الأحوال الوطنية، والأحوال الشخصية بين فيروز والأخوين.. وعلى المنوال نفسه تم تقديم مسرحية المؤامرة مستمرة في العام 1980 بعد انفصال فيروز، بل إن برنامج قصيدة حب الذي قدمته فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية في بعلبك عام 1973 تم الترويج له في البداية باعتباره جولة جديدة لفرقة ماريا؛ لذلك فهي مسرحية كل المسرحيات.
في العام 1892 قدم ليونكافيللو أوبرا “المهرجين” Pagliacci والتي تحكي قصة فرقة ممثلين جوّالة، يختلط فيها جمهور القرية على المسرح، بجمهور الأوبرا، وتمثيلية داخل تمثيلية، تنتهي بنهاية مأساوية، بالخيانة والقتل، وجملة أخيرة مشهورة “انتهت الملهاة La Commedia è finita” أيضًا تقدم ناس من ورق فرقة شعبية جوّالة، تعرض مشاهد تمثيلية غنائية متنوعة، في إطار درامي محكم.. بين جمهور ساحة المدينة الملتف حول الفرقة بأزيائها الملونة الحلوة، ليشاهد عروضها المبهرة، وبين الجمهور الحقيقي الآتي ليشاهد فيروز والفرقة اللبنانية الشعبية تدور مسرحية ناس من ورق..
في بداية المشهد الأول، من الفصل الأول، من النّص الأصلي الأول للمسرحية، كتب الأخوان رحباني وصف المشهد المسرحي كما يلي:
“الستار مسكّر. بينسمَع أكورديون مع طبلة وبينفَتَح الستار على مهل. صدر المسرح؛ حي من مدينة، على الشبابيك وعلى البلكونات. على جانب المسرح عربية ظاهر نصها. على الجانب التاني عم ينجَمَع بعض المتفرجين. بنت بتياب مهرجة بوسط الساحة، واقفة على طبل أحمر وعم تغني ومعها عازف أكورديون. بوليس عم بينظِّم الناس“.
تدخل المهرجة، وتعرف بنفسها وبالفرقة “وصلت فرقة ماريا“ ويطل المغنون والراقصون، ويهتف أهالي الساحة متسائلين عن النجمة المحبوبة المعروفة “وماريا؟“. كل هذه المقدمة والموسيقى للاحتفاء بالنجمة، وتشريفات دخولها.. تهتف المهرجة: بالفستان الأصفر طلّي يا ماريّا.. تطل ماريّا بالفستان الأصفر.. اختلفت هذه الطلة ثلاث مرات في ثلاث نسخ من المسرحية بين دمشق وأمريكا الشمالية وبيروت.. في هذا الملف بمناسبة عيد ميلاد الست فيروز، نستعرض ملامح من النسخ الثلاث، ونضيء بعض أوجه الاختلافات المجهولة..
موّال دمشقي
اتسمت عروض المسرحيات الرحبانية في دمشق بالزخم الشديد.. هناك جمهور تفتحت كل مسامه بكل الحب لتلقي كل شيء، فأعطاهم الأخوان وفيروز كل شيء.. وإن اتسمت العروض الدمشقية بالزخم والامتلاء، فعروض البيكاديللي اتسمت بالدقة والتكثيف والتركيز..
كان الإطار العام لـ“ناس من ورق” انتقاد العملية الانتخابية للمجالس النيابية.. وقد كان خفيفًا إلى حدٍ ما في النسخة الدمشقية، ثم جاء واضحًا قويًّا لاذعًا في نسخة مسرح البيكاديللي.
في النسخة الدمشقية تبدأ المسرحية بوصول فرقة ماريا إلى ساحة بلدة جديدة لتقدم أغانيها، وتعرّف المهرجة عن حالها وعن الفرقة قبل دخول البطلة ماريا، من ضمن ما تقول:
طلت فرقة الموسيقى.. هودي اسمن الدقّيقة
هيدا اللي بيقود الفرقة.. دايما بيضلّو مشغول
خلف المسرح بيضحكلي بس هون متقّل راسو
تطل ماريا بالفستان الأصفر، وتغني من كلمات نزار قباني قصيدة موال دمشقي، تحية لجمهور الشام.. بعد وصلة الغناء ثم الرقص على دبكة “غيرو” يدخل القبضاي المأجور ديب المرجان الذي يعمل لدى “ضاهر بك البندر” الذي يحضّر نفسه للترشح للنيابة، وهو يُعدّ مهرجانًا خطابيًّا في سرادق عظيم؛ لكن كيف يذهب إليه الناس وقد التفّوا حول فرقة ماريا بعروضها المحبوبة، كان لزامًا عليه أن يرهبهم بالقوة ليرحلوا وتبقى الساحة لضاهر البندر، وهو ما سيحاول فعله طول المسرحية، مرات بالترغيب ومرات بالترهيب..
يلعب دور ديب المرجان في العرض الدمشقي الفنان أنطوان كرباج.. بعد أن تنتهي ماريّا من غنائها يدخل ديب ويقول لها أنطوان بلهجته المتأنيّة المتعالية “انتِ ماريا؟ انتِ اللي كنتِ عم تغني؟ بتعرفي منين جايبني صوتك؟ من فوق” تستعجب ماريا وتسأله في بساطة “عجبك صوتي؟” فيجيب بحدة “لأ.. مبسوطين بحالكن قاعدين تصرخوا وتدبكوا متل النَّوَر، ما بتستحوا جمعتوا الناس عليكن” تحاول ماريا أن تستفهم منه باللين فيقول “نحنا رجال ضاهر بيك البندر.. عذرك إنك غريبة؛ ضاهر البندر صاحب الزعامة صوره على كل حيط، خياله على كل باب، سطوته على هالساحة وكل ساحة“.
يهدد ديب المرجان ماريّا ومدير الفرقة وينذرهم بإخلاء الساحة والرحيل، دون اهتمام كبير لوجود رجل البوليس، الذي لا يقوى على فعل شيء أمام هذه البلطجة المدعومة.. لكن ماريّا تقرر مع مدير الفرقة التحدي والبقاء.. تستأنف الفرقة فقراتها الغنائية الاستعراضية، فتطل نسّوم الجميلة الرقيقة النحيلة، تلعب الدور هدى حداد، يتبعها سعد القوّال (نصري شمس الدين).. ينتهي اليوم الأول للفرقة بالساحة بحوار حزين بين نسّوم وعنتر حارس ملابس الفرقة الذي يلعب دوره الملحن فيلمون وهبي– أبله قليلاً قليل الحيلة بسيط العقل كبير الحجم، وله أحلام كبيرة كجسده.. ونسّوم تحب أن تداعبه وتلهو بأحلامه.. في البداية تصطنع صوت قطة لتخيفه وتضحك منه، ثم تسأله “بتحب تمثيلي؟“ فيجيبها بلا اكتراث “بتصدقي عمري ما شفت الحفلة.. منين بدّي اسمعك؟ لما بتكونوا عم بتمثلوا أنا بكون عم لبس الممثلين تيابن، ولما بتخلص الحفلة انتوا بتناموا وأنا بسهر.. انتو النهار وأنا الليل“.
تطل ماريا من جديد في اليوم الثاني بأغاني “دقيت” و“حبيتك بالصيف، ثم دبكة لفرقة كركلا على نغم المجوز، ثم اسكتش “نفنافة” وهناك كان شكّور النهري وسط الجمهور يتلهف لملاقاة ماريّا؛ جارها القديم ورفيق صباها الذي لم يستطع أن يبوح لها بحبه طوال هذه السنوات، وعليه أن ينتظرها حتى تنتهي من فقرتها القادمة عن “زنوبيا“.. يلتقيان بعد كل هذه الغيبة “هوّي بتيابه البسيطة وهيي بتياب زنوبيا العظيمة“.. يلعب دور شكّور النهري الفنان يعقوب الشدراوي..
يلي ذلك مشهد طريف للقباضايات والمراجل وأغنية “عيني عيني على منظرها” التي سجّلها الفنان عصام كشتان “أبو الشباب” بمقطعيها الاثنين في مسلسل من يوم ليوم الجزء الأول للأخوين رحباني في الفترة نفسها.
ما يزال ديب المرجان يتربص بالفرقة، ويبغي رحيلها؛ فتخطر له فكرة سرقة ملابس الفرقة، ويغري أحد أعضاء الفرقة بذلك، اليوم أنسب يوم، حيث سيتم تعليق الملابس على الحبال بالساحة، وتغني المجموعة بلحن مَرِحٍ:
علقوا التياب.. وانشروا التياب
غنولها غنوا.. وخلوها تتلوى
صار لازمها كوى.. الهوا أعظم كوا
خلي الهوا يلعب بالفساتين
ياخدها يوديها شمال ويمين
بعد تعليق الثياب، وذهاب الفرقة في النوم، يحتال الحرامي على الحارس عنتر مستغلاً سذاجته، ويجعله يغادر المكان، ولكن نسّوم تدخل في اللحظة المناسبة وتضبط الحرامي، وتحبط محاولة السرقة ومعها خطة ديب المرجان؛ حيث ينتهي الفصل الأول بغناء ماريا لأغنية درامية فلسفية، تغنيها لنفسها بعيدًا عن جمهور الساحة، وهي أغنية شو بيبقى من الرواية؟
يفتح ستار الفصل الثاني على مشهد موشحات ضخم، بنات مقيدات أياديهن معقودة ورؤوسهن بالأرض، وفيروز/ماريا صارت شهرزاد الآتية لتحررهن.. بعد موشح شهرزاد سكتش رومانسي فكاهي لنسّوم اللعوب مع الشاويش وليم حسواني يشبه إلى حد كبير سكتش “العشاق والشاويش” الذي قدم لاحقًا في حفل الأولمبيا 1979 (أبو أسعد فيّاض أيضًا كان حاضرًا في حفل الأولمبيا في سكتشات العشاق والشاويش والشاويش والقبضايات)- تقف نسّوم لتغني خلف شباك كرتوني معلق كالذي تقف عنده سهام في “من خلف البرداية” 1965.. ويجتمع حولها الشباب أمام الشباك:
على شباك الهوى.. في بنيّة مغرورة
يا شباك الهوى.. صورها شي صورة
بعدها تغني ماريا مع الكورس بالساحة لحن “لو فينا ننقي حبايبنا” الطربي لفيلمون وهبي، والذي ينتهي بمقطع “في ريح بتلفح مراكبنا.. وبترمينا على حبايبنا“ ومنه إلى أغنية هيلا يا واسع..
يعرّج الأخوان رحباني بعد ذلك على الفلكلور الشعبي، بوصلة شعبية لبنانية لنصري شمس الدين، ثم رقصة عرق سوس من وحي الفلكلور المصري؛ بنت بملاية مصرية ورجل بنبّوت وبياع عرق سوس وموسيقى “يا بهية وخبريني“.. يعقبه المشهد البدوي لفيروز..
ينتهي وقت المزاح، وينفد صبر ديب المرجان.. بدأ ضاهر بيك البندر خطابه الانتخابي، وشرع في تجربة الميكروفون بالفعل، يجب أن تخلى الساحة.. يهجم ديب ورجاله على ماريا والفرقة بغضب.. تخطر الفكرة فجأة لماريّا اللمّاحة، فتحتال على ديب لاقناعه بالاشتراك معهم في الفرقة والتمثيل.. تتركه وتخاطب جمهور الساحة “يا عمي شو هالممثل! لما بيحكي صوته بيودّي لبعيد” ثم تميل على مدير الفرقة “آخ لو عنّا ممثل متلو“ وديب ذاهل حائر، لا يستطيع عقله ولسانه مجاراة ماريّا الأريبة.. يودّ أن يعود لسيده ضاهر البندر، لكن ماريا لا تترك له الفرصة:
لمّا ضو المسرح رح يلفح وجّك
وتصير القيصر.. شو ضاهر؟ أنت أكبر
وعلى الفور يتم تعميد ديب المرجان عضوًا بفرقة ماريّا.. يظهر عنتر حارس الثياب ومعه ملابس يوليوس قيصر.. الممثلون في أزياء ملوك التاريخ العظماء؛ نبوخذ نصر ونابوليون، وينصب ديب المرجان قيصرًا لروما، ويغني له الجميع في قوة:
يا خيل الزمان العنيدة
يا سهل المعارك القديم
يا جيش المشارق السعيدة
تحية لقيصر العظيم
قبل الختام الأخير للمسرحية بوصلة القَوْل والغزل لفيروز ونصري، تطل المهرجة (جورجيت صايغ) العصفورة الزرقاء، للمرة الأخيرة، وتغني على اللحن الأول، كما بدأت المسرحية
عرّفت عن الكل.. وما حدا عرّف عني
وحكيت عن الكل.. وما حدا حكي عني
بيي بعدو مش مبسوط.. ورح عرّف عن حالي
May The Breeze Whisper
الولايات المتحدة الأمريكية 1971.. بعد الرحلة الطويلة العابرة للمحيط والمخاوف والاضطراب والاستعدادات والترقّب.. هل سيأتي جمهور؟ وكيف ستنتهي هذه الليلة الأولى القاسية في بدايتها؟ الفرقة بأكملها على المسرح لأغنية البداية.. بدأت الأوركسترا العزف بقيادة عاصي الرحباني، والفرقة شرعت تردد المذهب ورؤوسها ملتفتة تجاه الكالوس الذي ستدلف منه البطلة، والفرحة الغامرة تعلو وجوههم..
تطلُّ “ماريّا” بالفستان الأصفر من الجهة اليمنى للمسرح، وتبدأ بإعادة المذهب بعد الكورَس: نسَّم عَلَيْنَا الهوى..
***
في 26 سبتمبر/ أيلول 1971 سافرت فيروز والأخوان رحباني والفرقة الشعبية اللبنانية بقيادة صبري الشريف إلى الولايات المتحدة الأمريكية، للمرة الأولى، لتقديم جولة فنية مسارها محدد سلفًا كما يلي:
عشر حفلات في عشر ولايات، وحفلة واحدة في مونتريال–كندا.. الجولة نظمتها Forum For Arab Art And Culture، وهي منظمة غير ربحية، أرادت تقديم الفن العربي للجمهور الأمريكي للمرة الأولى، فأمّنت لحفلات الجولة أرقى قاعات عرض متاحة في كل ولاية..
الحفل الأول في “كارنجي هول” بنيويورك. كانت “روزاليندا إلياس” مطربة الأوبرا الأمريكية الشهيرة، ذات الأصول اللبنانية، ضمن رعاة الجولة، وأكثرهم احتفاءً وفرحًا بفيروز.. قبل صعود فيروز على خشبة المسرح، قدّمتها روزاليندا بهذه الكلمات:
“فيروز التي أعطت في أغانيها الشرق الأوسط الكثير من الحب والحنان والقوة، تعطينا الآن في نيويورك بعضًا من هذا الحب والحنان والقوة.. إن لنا شرف الاستماع هذه الليلة إلى أدفأ صوت وأجمل لحن.. ويكفي أن تكون فيروز بيننا حتى يكون ذلك حدثًا بحد ذاته يعجز اللسان عن وصفه“
نهاية الفصل الأول من الحفل؛ تطل فيروز بلباس بسيط متقشّف كمسوح الرهبان. ووجه خاشع متجهّم، ولحن شجيّ مهيب للأخوين رحباني، وترتل بلسان المسيح “شوبحو لهو” في مشهد للصلاة باللغة السيريانية، تعظيمًا لكلمة الله التي تجسّدت، وقد خلب ألباب الحاضرين، وحملهم للشرق وسحره.. بعدها تزداد السرعة ويعلو الإيقاع الراقص احتفالًا وتبجيلاً للذي أحيى الموتى بإذن الله.
هَاو دِقْرو لِه لْلعُزُر وْلَعْليَموْ بْرُ دَرْمَلْتو هو نِروس طالا دْرَحْمه عَلْ جرْمَيْهون دعنيده
بورك الذي دعا لعازر والصبي ابن الأرملة.. من يرش ندى المراحم على عظام المنتقلين
منصور رحباني، صاحب ذاكرة الأفيال، استعاد الترتيلة ذاتها ودمجها ضمن القداس الإلهي في العام 2000.
Solitude and Anguish
بكلمات مختارة بعناية فائقة، قدّم الشاعر والمترجم العراقي “سركون بولص” للجولة الأمريكية لفيروز والأخوين رحباني بمقال رشيق ودقيق بعنوان “فيروز والموروث العربي“.. خاطب فيه الجمهور الأمريكي بلغته، معرِّفًا بفيروز وفن الأخوين رحباني.. كتب سركون بولص، المستقر في سان فرانسيسكو وقتذاك:
“خلال صوتها غير العادي، بعمقه وتأثيره غير المألوفين، استطاعت فيروز، لأول مرة، اختراق الوحدة والعزلة التي تغلف عقل الإنسان العربي، وأن تخفف المعاناة والكدر التى ألفى عرب اليوم أنفسهم فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. هذا الصوت العجيب، مع باقة من أفضل الألحان والنغمات، خلق الهارموني المتناسق الذي كنا نفتقده جميعًا“
لم يغفل سركون بولص دور الأخوين رحباني في إحياء الفلكلور وتراث الموشحات بصورة حديثة، وذكر بدقة وعجالة نشأة الموشحات والموسيقى الأندلسية وفن الشعراء الجوّالين Troubadours وانتشار ذلك الفن عبر أوروبا.. وأشاد بأداء فيروز في مشهد “النبي” لجبران، الذي أضافه الأخوان للجولة الأمريكية خصيصًا، ولم يقدماه في دمشق..
“صوت فيروز تطهير للنفس.. في صوتها حكايا مطوية، وأساطير، وبطولة، وتاريخ من ماضٍ ذهبي.. لذا ليس مصادفةً أن تغنى مقاطع من كتاب النبي لجبران.. لقد حاول جبران أن يرسم على نبيه سمت الخلاص وآيات النقاء، وليس أفضل من فيروز لتجسيد تلك المعاني بما تتمتع به من صفاء وسكون نادر وثراء أيقوني مهيب“
***
6175699300 – Boston
كانت الصحافة اللبنانية تلهث وراء فيروز؛ حاولت الاتصال بها في نيويورك، فوجدتها قد انتقلت إلى بوسطن، في بوسطن استطاعوا اللحاق بها، في اتصال هاتفي سريع عبر آلاف الكيلومترات على الرقم أعلاه.. وسألوها عن شعورها بالانتصار بعد كل هذه الأصداء التي طارت إلى لبنان، فأجابت في تواضع وعُجالة:
“لا نعلم شيئًا هنا، فالعمل متواصل والوقت محدود.. الحفلة الأولى التي قدمناها على مسرح الكارينجي هول كانت حدثًا ممتازًا.. لقد صفقوا كثيرًا ورشقونا بباقات الزهر، حتى كاد المسرح يتحول إلى حديقة، وأكثر من مرة لاقى الراقصون والراقصات صعوبة في التنقل على المسرح.. أمس قدّمنا حفلة ناجحة جدًا في بوسطن حضرتها والدة الرئيس الأمريكي جون كينيدي، وصفقتْ طويلاً رغم أنها لا تفهم أي كلمة عربية.. تحدثنا في التليفزيون، وغنينا باللغة العربية، وسمع الملايين هنا صوتنا القادم من لبنان.. مرة أخرى أكرر: نحن سعداء جدًا، وعندما نعود نتحدث تفصيليًّا“.
رجعت ليالي زمان
بيروت 1972.. نحن في أول فبراير/شباط، ولم يتبق سوى أسبوعان على بدء عروض “ناس من ورق” على مسرح قصر البيكاديللي في بيروت..
عادت فيروز مع الأخوين رحباني والفرقة الشعبية بعد ثلاثة أشهر، فاستقبلهم اللبنانيون استقبال الفاتحين.. فيروز والأخوان بقبعات الكاوبوي وبناطيل الشارلستون كما يشاء عاصي، بقمصان مشجّرة زاهية، لا ينقص عاصي سوى شارة الشريف حول رقبته ونجمة على صدره.. صالون الشرف يُفتح لفيروز.. هل يوجد مجال للراحة؟ الموسم الجديد لمسرح قصر البيكاديللي على وشك الافتتاح.. شهران كافيان ليقوم عاصي بإدخال تعديلات جديدة على مسرحية ناس من ورق، وصياغتها مرة أخرى بصورة أكثر كثافة وتركيزًا عن نسخة دمشق الرائقة المزاج، المترعة بالأغاني الحية.. شهران كافيان لتسجل فيروز في ستديو بعلبك أغنية دقيت من كلمات سعيد عقل وشو بيبقى من الرواية للأخوين.. وليستلهم الأخوين السيمفونية الأربعين لموزار ويضعان على اللحن كلمات “يا أنا يا أنا” وتسجلها فيروز بصوتها. التمارين على قدم وساق والتعديلات حتى اللحظة الأخيرة.. أغنية جديدة من وحي الرواية عن الانتخابات كُتبت لجوزيف ناصيف.. وستغني هدى أغنية أرمنية حفظتها عن والدها، “غِنيّة البابا” كما تسميها؛ تغني نسّوم بحزن عن القمر الذي غاب والحقول الناعسة:
سيروس كخدني توغ مّنا.. سيروس ياريس بيس
فليبقى حبي سرًا دفينًا.. ولن يبوح الدرب لأحد
ولكي تكون المسرحية أكثر تماسكًا وكثافة حُذفت مشاهد عديدة.. لعب حنا معلوف دور البطولة أمام فيروز بدلاً عن يعقوب الشدراوي. تطلب فيروز من عاصي أن يلحن لها أغنية طربية على الطريقة المصرية للرد على الصحافة المصرية التي اتهمتها بأنها لا تجيد القفلات الطربية فكان لها ما أرادت؛ كتب عاصي ولحن دور رجعت ليالي زمان الذي تستهل به ماريا دخولها في بداية المسرحية؛ كلمات بسيطة وقليلة، ليست ذات معنى خاص (طُبعت على أسطوانة ٤٥ دورة لتملأ وحدها وجهي الأسطوانة).
منذ فترة كان التليفزيون يعرض مسلسل “من يوم ليوم” للأخوين رحباني من بطولة هدى.. وخرج رجل ما، رغبة في الشهرة ربما، ورفع دعوى على تليفزيون لبنان والمشرق والأخوين رحباني يطالبهم فيها بمبلغ مئة ألف ليرة كعطل وضرر، وإيقاف المسلسل فورًا، وذلك لأن اسمه “سليم الديك“، وهو الاسم الذي استخدمه الأخوان رحباني في المسلسل لشخصية زعيم العصابة الشرير الذي لعب دوره أنطوان كرباج..
ملقانا يا حبيبي
لم يسمع جمهور دمشق بعد حبيتك بالصيف، درة مسرحية “يعيش يعيش“.. يحتال عاصي لذلك، ويدرجها ضمن “ناس من ورق“؛ بعد أن تنهي ماريا أغنية “دقيت” يجتمع عليها جمهور الساحة، يريدونها أن تغني لهم “حبيتك بالصيف” أغنية الفنانة فيروز.. من فيروز ومن ماريا؟ وما فرقة ماريا؟ هي الفرقة الشعبية اللبنانية بذاتها ببطلتها فيروز بمسرحياتها السابقة.. حين يقرر مدير الفرقة الترشح هو أيضًا للانتخابات، تُخرِج الفرقة من جعبتها أسماء مسرحيات الأخوين رحباني السابقة في مشهد فانتازي.. تستجيب ماريا لطلب الجمهور بغناء حبيتك بالصيف، وعلى الفور يشكل إيلي شويري وجوزيف ناصيف كورال لتهيئة المقدمة الموسيقية.. جوزيف ناصيف هنا (في نسخة دمشق) أحد أعضاء الفرقة، وهو الإمبراطور أورليانوس في مشهد زنوبيا.. أما شخصية “أبو أسعد فياض” فلم تكن سوى اسم للتهديد فقط.. في نسخة بيروت سيصير أبو أسعد فياض شخصية مستقلة من لحم ودم..
***
إلى مصر أيضًا وصلت أصداء ناس من ورق؛ وقد علّق محمد الموجي صاحب “كامل الأوصاف” بقوله إن الرحبانيَين دارسان وليسا خالقان.. بينما قال منير مراد صاحب “قاضي البلاج” إن الرحبانيين مبدعَين وهما الأقرب لروح سيد درويش..
كان بليغ حمدي، قد صرح تصريحات هاجم فيها جميع الملحنين المكرسين، بدءًا بالسنباطي، وانقلبت الدنيا فوق رأسه في القاهرة، فترك كل شيء، وطار إلى بيروت، وحين سألوه عن الهجوم الصاخب عليه، لم يبال، وقال لقد أتيت لحضور عرض فيروز ناس من ورق.. أراد بليغ أن يعيد المسرح الغنائي لمصر وأن يستفيد من تجربة الأخوين الثرية، وإن لم يعترف.. بعدها بعامين سيقدم مع وردة مسرحية تمر حنة في القاهرة، ثم يطير بها لعرضها في دمشق، وفي دمشق سيكثُر الحديث عن تأثره الواضح بالأخوين رحباني والسير على خطاهم، دعك من أن المسرحية التي كتب أغانيها الشاعر المرهف عبد الرحيم منصور تكاد تتشابه تمامًا مع مسرحية دواليب الهوا (1965) للأخوين رحباني.