في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
لم تتحدث الأميرة بديعة عن “ميس بيل” أو “بنت الصحراء” كما كانوا يسمونها في أوائل القرن العشرين، مع أن هذه “الميس” هي صاحبة النفوذ القوي في بريطانيا عندما كانت إمبراطورية عظمى، ولعبت الدور الرئيسي في رسم حدود العراق الجديد، وفي اختيار حاكمها الأول الأمير فيصل، وعلى مدى سنوات كانت الشخص الأقرب إليه، ومستشارته السياسية، وصاحبة الكلمة العليا في بلاط حكمه، مكانة عظمى في زمن لم تقرب فيه نساء العرب السياسة، منحتها لقب “ملكة العراق غير المتوجة“؛ إنها جيرترود مارجريت لوثيان بيل؛ المولودة يوم 14

جيرترود بيل في سن الثالثة، 1871
يوليو 1868، لعائلة بورجوازية في مقاطعة دورهام بإنجلترا.. كانت فوضوية، لكنها تعلمت قواعد السلوك والمظهر اللائق تحت ضغط زوجة أبيها الباريسية، قليلة الجمال، المتسمة بالصرامة. ويبدو أن هذا سر توترها وقلقها، وحبها للمغامرة، وهي صفات أهلتها للدور الذي لعبته لاحقًا ببراعة في تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة، إذ كانت المرأة الوحيدة بين 19 شخصًا اختارهم وزير المستعمرات البريطانية – في العشرينيات – ونستون تشرشل وهو يرسم مستقبل العالم العربي بعد القضاء على الرجل المريض في تركيا.
كانت الميس بيل من نوع خاص من المستكشفين: لم تكن مجرد مغامرة، تريد أن تلعب على حريتها في الصحراء، بعيدًا عن لندن التي لم تحبها، مغرمة بسحر الشرق، الذي كان أكبر من “رحلة غامضة” تشعرها بلذة السفر، بل كان مكانًا اكتشفت فيه ذاتها بالطريقة نفسها التي عثر فيها توماس إدوارد لورنس– والذي نعرفه باسم لورنس العرب– على ذاته، فهو الابن الثاني غير الشرعي لبارون إيرلندي فقير ومربية كانت ترعى أطفاله وقد هرب الاثنان إلى أكسفورد، واتخذا لقب لورنس اسمًا لعائلتهما، وتخفى المغامر المثير في عدة شخصيات ليلعب دوره هو الآخر في رسم الوجه السياسي للصحراء العربية، وشارك الأمير فيصل في قيادة جيش القبائل الذي تحرك من مكة، ثم تناثرت الحكايات عنه وعن علاقته مع زعماء القبائل، واختلط دوره السياسي بحكايات جنسية دارت في الغالب حول استخدامه للعلاقة المثلية مع الزعماء المتيمين بأجساد الرجال البيض، ليسيطر على القرار السياسي لصالح الإنجليز، ليكون هو وفرقة الجواسيس عشاق الصحراء والشرق، المبشرين بعالم عربي جديد.

جيرترود بيل في تركيا
لورنس أصبح صديقًا مهمًا في حياة الميس بيل، بعد لقائهما الأول في موقع أثري جنوبي تركيا عام 1911، وذلك قبل أن تصبح سيدة القرار في قصور الحكم ببغداد، وعلى مقربة منها نساء قادمات من الصحراء أو من الحرملك التركي. أما الأميرة بديعة فقد كانت مثل غالبية نساء الأسرة الهاشمية البعيدات عن الدخول في اللعبة السياسية، وهي قاعدة كُسرت ثلاث مرات؛ الأولى مع أختها الملكة عالية؛ الملكة الهاشمية الأولى في تاريخ العرب كما وصفتها الأميرة بديعة، كما وصفت دورها في عملية انتقال السلطة بعد مقتل زوجها الملك غازي الذي عاشت معه حزينة لأنها أجبرت على الزواج منه، لكن العلاقة بينهما ظلت محترمة على حد تعبير شقيقتها الصغرى، وفي المذكرات تنفى بشدة تورط عالية في مؤامرة اغتيال غازي، وهي المؤامرة التي أنهت محاولة الخروج من تحت السيطرة الإنجليزية.
لكن بديعة لم تنكر دور عالية في حصول شقيقها الأمير عبد الله على وصاية العرش، وقد جعلته يحتكر أيضًا طريقة تربية ابنها الطفل ليبتعد عن حياة وأسلوب أبيه، وهو الفعل السياسي الذي أعاد الكلمة العليا إلى فرع الأسرة الهاشمية الأكثر محافظة والأقل تحررًا من سيطرة العادات والأفكار السياسية التقليدية، والأهم أنه الأقرب إلى الإنجليز، بل إنه الفرع الذي سار الشوط إلى نهايته وساهم في إعلان حلف بغداد.
الغريب أن عالية كانت ستتزوج من ابن عمها طلال، ابن ملك الأردن عبد الله، الذي تذكره الأميرة بديعة في مذكرات “أتذكره شابًا في العشرينيات من عمره (مواليد 1910) عندما كان يأتينا إلى بغداد أواخر العشرينيات ومطلع الثلاثينيات فنلعب ونمرح معًا، كان مؤدبًا للغاية، لطيف المعشر، خفيف الدم، صاحب نكتة، بيد أن عمي يميل في نفسه إلى نايف (أخي طلال غير الشقيق) أكثر منه“.
لماذا؟
لا تفسر بديعة، لكنها تروي أوصافًا أخرى لطلال “كان يكره الإنجليز كرهًا شديدًا، ويحملهم مسؤولية كل ما واجهه جدنا وأبناؤه من متاعب وخيانات، فضلاً عن مساندتهم وتأييدهم لقيام إسرائيل في المنطقة، ووقوفهم إلى جانبها في حرب 1948 ضدنا“. هل هذا هو السبب في الحب الناقص من عبد الله إلى ابنه طلال؟! المهم أن الحسابات السياسية سارت في الاتجاه المعاكس، وتزوج طلال من “زين الشرف” ابنة الشريف جميل المولودة في مصر عام 1916، وهي ثاني امرأة قوية في الأسرة الهاشمية، خصوصًا بعدما عُزل طلال من الحكم عام 1952 بسبب معلن، وهو إصابته بمرض نفسي استدعى العلاج في مستشفى الأمراض النفسية بإسطنبول، وظل هناك عشرين عامًا حتى مات عام 1972، والغريب أن “زين” كانت تزوره مرة واحدة في العام، تتفرغ بعدها لإدارة قصر الحكم من خلف الكواليس، وكان دورها معروفًا إلى درجة أنه في إطار الحرب الإعلامية في الستينيات كان عبد الناصر يصف الملك حسين بأنه “ابن زين“؛ والمقصود هنا هو توجيه الإهانة على طريقة الحواري المصرية للملك الذي ربته امرأة، وبعيدًا عن هذه النظرة الذكورية المتخلفة، كانت تلك الصفة إعلانًا عن الدور الفعلي للملكة زين طيلة أكثر من نصف القرن، وهو الدور الذي أشعل حرب نساء في قصر الملك حسين؛ بين أمه وزوجته الأولى الملكة دينا عبد الحميد المرأة القوية الثالثة في الأسرة الهاشمية، التي كانت، كما تصفها الأميرة بديعة “مفكرة يسارية ونشطة سياسيًّا، تخرجت في جامعة كمبريدج، وهي تكبر الملك حسين بنحو سبع سنوات، وتزوجت بعد طلاقها سنة 1956 من عضو منظمة التحرير الفلسطينية صلاح صلاح“. والفرق بين دينا وزين كما تقول بديعة، أن الأولى تبطن شخصيتها القوية في نفس هادئة مستكينة، بينما الثانية تظهر شخصيتها القوية بوضوح لغلبة الطابع الهجومي على سلوكها وتصرفاتها مع الآخرين!
الباقيات غرقن في مجلات الموضة وصور نجوم السينما التي كانت أكبر علامات التحضر وقتها، وتحكي الأميرة بديعة بأسى شديد عن عزة ابنة عمها فيصل التي هربت مع حبيبها اليوناني.. وعن جليلة التي أحرقت نفسها بعد زواج فاشل، من رجل من الأشراف يكبرها بنحو 15 عامًا!

الأميرة بديعة و الأميرة جليلة في باريس، 1948
نساء الأسرة الهاشمية، كما حكت عنهن بديعة بنت علي، كن يذهبن إلى السينما في بغداد محجبات، ولا يخلعن الحجاب إلا عندما يطفأ النور، لا يعرفن من الحياة إلا ما تعرفه بنات القبائل في الصحراء العربية، بعد قليل ومع تعرفهن على الحياة في مصر، وسفرهن إلى الخارج، صار من الممكن أن يخرجن في لندن وباريس كأوروبيات.
المدهش أن الميس بيل كانت تلعب في منطقة بعيدة إلى حد كبير عن مسيرة بنات الأسرة الهاشمية مع التحضر، كانت تريد أن تحافظ على العلاقة بين بغداد ولندن، وفي مسار متواز كانت تضغط من أجل تعليم المرأة في العراق.
ارتباط مدهش (مثير للدراسة) بين التحديث والاستعمار، وبين الجواسيس وأبطال التغييرات الكبرى في المجتمعات العربية!
ربما كانت المرة الوحيدة التي أشارت فيها الأميرة بديعة إلى “الميس بيل” كانت دون اسم، حينما تحدثت عن المغامرات النسائية لعمها الملك فيصل الأول، وأكدت “قيل أيضًا إن لعمي علاقات بامرأة هندية، وأخرى نمساوية، وثالثة إنجليزية، وهذه الأخيرة كانت تتجسس عليه لمصلحة الإنجليز، أستطيع أن أُكذِّب الكثير مما قيل، ليس حرصًا على عمي، بقدر ما هو سخرية من هذه التفاهات، ولكني أود أن افترض صحة بعض ما قيل، فهل سيتصور أحد بأن عمي كان بسيطًا لدرجة أن تتمكن امرأة من استدراجه ليبوح لها بأسرار مملكته؟ وإذا أردت أن أكون أكثر دقة، فأين هي هذه الأسرار؟! ولم يكن العراق محتلاً ومستعمرًا من قبل البريطانيين، وبفضل عمي وقوة إرادته (بعد فضل الله) وصمود شعبه وتضحياته استطاع أن ينجز استقلال العراق ويحافظ على وحدته وحدوده“.

جيرترود بيل في بغداد، 1917
وهي هنا تعبر عن سذاجة سياسية، ففي الوقت الذي تتحدث فيه بهذه الطريقة كانت الميس بيل هي الوزيرة المفوضة للشؤون الشرقية لدى المندوب السامي البريطاني في بغداد، ومن خلال منصبها لعبت دورها في تشكيل العراق الحديث. لكن الأميرة هنا كانت مهتمة بالجانب الأخلاقي، فهي صاحبة نظرة محافظة، فقد وصفت الملك فيصل الأول بأنه “لم يكن مثل أبي (الملك علي)، أو عمي (الملك عبد الله)، قارئًا مواظبًا للقرآن الكريم، أو ملتزمًا بشدة في أحكام الدين أو صارمًا مع نفسه“، وتعلق على هذا بأمنية لا تقل سذاجة “وكم تمنيت في نفسي أن يكون مثلهما، كي لا تدع السنة السيئة تنال منه وتتطاول على مقامه“.. والمثير للتأمل هي محاولاتها لتفسير اختلافه؛ فمرة تقول “لا أدري إن كانت لجولاته الأوروبية وكثرة أسفاره الخارجية وعدم استقراره في بلداننا عملاً من أجل القضية العربية وتحرير دولنا، علاقة بكل ذلك فيما حصل“.. وفي موقع آخر “كان رستم حيدر وزيرًا في حكومة عمي الملك فيصل الأول في الشام.. وجاء معه إلى العراق، مخلصًا، ذكيًا، شغوفًا بعمله، مؤديًا لواجباته على أتم وجه، لكنه علماني أكثر من اللازم، ذو عقلية أوروبية، إليه وإلى تحسين قدري ذلك السوري الأنيق، الذي تذكرنا ملابسه بأزياء القرن التاسع عشر صاحب اللسان الثقيل بالعربية الذي يجيد التركية والفرنسية، الطيب، الأناني بعض الشيء.. إليهما معًا، نعزو إدخال المشروب (تقصد الخمر) إلى بلاد عمي الملك فيصل الأول وتقديمه للضيوف، ما كان يفترض أبدًا أن يحصل هذا في بلاط عمي الملكي!”. وللمرة الثالثة “كان لعمي الملك فيصل الأول أغا أسود، نحيلاً، ذميلاً، طيبًا، فقيرًا، لم يمارس سيطرته على البيت، ولم يتدخل في أي شيء، ربما لأنه كبير، يجلس عند باب الحرم هادئًا مستكينًا، لعله يتحمل جزءًا من مسؤولية ما حصل من أخطاء في بيت عمي“.
والأغاوات؛ هم الرجال الذين عُطلت وظائفهم الجنسية بعناية، ووفق قواعد بدائية مستوحاة من سحر القبائل الأفريقية، يقوم بها متخصص يخدر الفتيان تخديرًا كاملاً، ثم يستأصل أعضاءهم التناسلية بالكامل، ثم يصب الزيت المغلي ليسد مكان الجرح، ثم يضع كمادات من أوراق النباتات المطحونة فوقه، وإذا لم يصب الفتى بتلوث في المثانة يؤدي إلى وفاته خلال ستة أيام، فإنه يكون قد تخطى مرحلة الخطر، وتبدأ مرحلة تغذيته اللحم النيء الغارق في الشطة والفلفل، والعسل، وبعد شهرين يكون جاهزًا للتصدير.
إن عملية الخصي هي انتصار لرجل واحد على رجولة بقية الرجال المحتملين، ووجودهم في خدمته تعزيز لهيبته الذكورية، لأن مهمتهم الأساسية هي التأكد من عدم وجود ذكر آخر في عالم الحريم.
وتذكر الأميرة بديعة في مذكراتها الدور السياسي الذي لعبه “الأغاوات” في قصور الأسرة الهاشمية “ربما لا يعلم كثيرون بأنه كان لبعض الأغاوات تأثير كبير وخفي في المسرح السياسي لبعض البلدان يومذاك، يفوق حتى تأثير الوزراء ورؤسائهم لما يتمتعون به من نفوذ وسيطرة عليهم وبما ملكوه من خبرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية متعددة فهم أشبه بالأمراء وأصحاب السلطة، ومنهم من كان يجيد أكثر من لغة أجنبية“. وتحدد “لقد أوكل إليهم سادة البيوت مهمات تعذر عليهم هم أنفسهم القيام بها، لكثرة مشاغلهم والتزاماتهم السياسية خارج بيوتهم، فقام بها الأغاوات على أحسن ما يرام، بعد أن ظلوا يبحثون عمن يؤدي أدوارهم نيابة عنهم من الرجال، فلم يجدوا حلاً لهذه المشكلة، سوى عن طريق هذه الشريحة من البشر، يستطيع الأغا القوي أن يفرض سيطرته على سائر الأغاوات العاملين معه في نفس المكان، لا بل حتى على سيدة البيت أو القصر، إن كانت ضعيفة أو سهلة الانقياد، فهي الأخرى تخشاه وتهابه وتنفذ أوامره ونواهيه، لأن سلطته تكاد تكون منحصرة على النساء بالدرجة الأساس“. وغير الأغاوات كانت هناك الجواري، عادة عثمانية أخرى اكتسبتها الأسرة الهاشمية، مما وضع الحكم في مهب رياح التغيرات، إذ كانت أوروبا تقدم نمط الحياة الحديثة القائم على التساوي السياسي (الجمهوريات)، والاجتماعي (خروج المرأة وتحررها)، وكانت قصور الهاشميين عامرة بالجواري، بل إن الأميرة بديعة تحكي عن عمها الملك عبد الله الذي تزوج من إحدى جواريه وأنجب منها الأمير نايف، ولم يكن وحده، فالكثيرون من أجداد الهاشميين تزوجوا من الجواري الشركسيات والحبشيات، بل إن الملك الذي يطالب بعرش العراق الآن جدته جارية! و“الملك هو علي، ابن الأميرة بديعة؛ ووالده هو الشريف حسين بن علي باشا، الذي كان يسمى “أبا مايلة” لميلان عقاله الذي يرتديه مع الكوفية في الشتاء والعمامة في الصيف، كان وسيمًا تعشقه النساء، فتزوج من الكثيرات، ولم ينجب منهن حتى تزوج جارية شركسية اسمها “ماهيتاب” (اسم يعني بالتركية البدر وبالفارسية أشعة القمر) فأنجبت له الحسن والحسين، والأخير هو زوج بديعة، ووالد ابنها علي الذي صرَّح في 2002 “أنا قادم إلى بغداد“!
يمكن أن نكشف “الخلطة” السياسية التي قامت عليها الأسرة الهاشمية، فهي سليلة العائلات الحاكمة في الدولة الإسلامية، تلك العائلات التي تمزج بين الدين والسياسة، بمعنى أدق تخلط بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة التي قامت لأول مرة بعد هجرة النبي محمد إلى يثرب، وتكوين دولة المدينة، الامتزاج بين المؤسستين امتد بعد رحيل المؤسس الذي لم يكن هناك اختلاف حول أحقيته فهو المفوض الإلهي بحكم الوحي، وهو القائد العسكري، والسياسي بحكم الحروب والصراعات التي ساهمت في تأسيس الدولة وتكريسها في الواقع، الأسرة الهاشمية أرادت وراثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في قيادة الدولة على اعتبار أنها العائلة التي تنتسب إليه، لكن الخلفاء أخَّروا الحلم حتى أتت بيعة علي بن أبي طالب، وقامت الفتنة الكبرى وبدأت تراجيديًا أبناء علي، ومأساة الأسرة الهاشمية التي دخلت العصر الحديث تبحث عن دور جديد يعتمد على ثلاث أفكار: النسب إلى النبي، ووراثة الدور الديني والسياسي لأحفاد محمد (النبي) وعلي (الإمام)، وأخيرًا شرعية التضحية.
وهو ما تشير إليه الأميرة بديعة حين تكتب “إنني أتحسر على تضحياتنا من جدي علي بن أبي طالب إلى أبي علي بن الحسين، لا أحد يقدر لنا ذلك، ولا أحد ينطق بالحقيقة“. فهي تعتبر مأساة عائلتها بدأت بقتل علي بن أبي طالب منذ 14 قرنًا، وليس من وقت اقتحام الضباط الأحرار القصر الملكي ليلة 14 يوليو 1958. وتحكي عن أبيها علي بن الحسين “ملك الحجاز” الذي ضاع ملكه في أقل من 15 شهرًا فهرب إلى مملكة أخيه في العراق، ليعيش في وضع نائب للملك، وبمرتب متواضع لا يمكنه من الصرف على أتباع لحقوا به من الحجاز، ولا على الأسرة التي تعيش عيشة الملوك (زوجته نفيسة، التي تتحدث بعربية ركيكة، كانت تلبي احتياجات الأبناء والبنات من ثروتها الخاصة، وهذا ما جعل باحثة بريطانية تشير إلى دور سياسي لها؛ خصوصًا عندما أجبرت ابنها عبد الإله على رفض اقتراح عمه الملك عبد الله بتولي ولاية عهد الأردن كي لا يأكل حق أبناء عمه).
المهم أن الأميرة بديعة تربط بين المأساة القديمة والجديدة، يجسدها مشهد الأب وهو يستقبل في شرفته شيعة العراق يلطمون على صدورهم، وهو يرد عليهم باللطم، حكايات ممزوجة بأسى عدم تقدير الجميل وشعور الضحية، وهي مفاهيم قديمة جدًا في السياسة، تعتمد على أن الأسرة افتدت المسلمين بداية من الجد علي بن أبي طالب، وعلى المسلمين أن يردوا الجميل بإعطاء شرعية الحكم للأحفاد!
هذه المفاهيم لم تكن سوى الغلاف الذي تحركت تحته الأسرة الهاشمية منذ أول القرن حين لاحظت رغبة القوى العظمى في تفكيك تركة المريض التركي، ولم يكن من السهل منافسة السلطان العثماني على التحدث باسم الإسلام، فكانت القومية العربية التي لعبت عليها إنجلترا في برقية أرسلتها إلى الشريف حسين “إن حكومة بريطانيا وحلفاءها يقفون بثبات إلى جانب كل حركة تهدف إلى تحرير الشعوب المظلومة، وهي مصممة كذلك على مساندة الشعوب العربية في كفاحها لإنشاء عالم عربي يحل فيه القانون محل المظالم العثمانية، عالم عربي جديد تحل فيه الوحدة محل المنافسات والحزازات المصطنعة التي كانت تثيرها سياسة الموظفين الأتراك، إن حكومة بريطانيا تؤكد مرة أخرى تمسكها بتعهدها المتعلق بتحرير الشعوب“.

1930 ،الملك فيصل الأول، أول ملوك العراق
الورقة القومية إذن هي ما جمع المقاتلين والمفكرين حول الشريف حسين (الشيخ محمد رشيد رضا أعلن في البداية مساندته للثورة العربية الكبرى، والمفكر المعروف ساطع الحصري أيد الملك فيصل حين انتصر في دمشق، وبعد إجباره على الخروج صحبه إلى دمشق..). واللعبة كانت على الجانبين؛ الشريف وعائلته يريدون السلطة، والإنجليز يريدون وضع العالم العربي تحت السيطرة، ولم تكن العروبة سوى السيف الذي ضربت به السفينة التركية العجوز. والنتيجة هي تقسيم العرب على خريطة سايكس بيكو، وتحول الأسرة الهاشمية إلى ملوك يضعون حجر الأساس للدولة الحديثة.
المفارقة أن تلك الأفكار واليد الغربية التي ساهمت في إقامة مجد الأسرة الهاشمية لم يمنع هاجس الخوف من الأجنبي في حياتهم اليومية، وخصوصًا عند النساء، حكت بديعة عن أختها عالية التي طلبت في أيام مرضها الأخيرة “لا تتركوني لوحدي مع النصارى“، تقصد الممرضتين الإنجليزيتين، وعن أمها الملكة نفيسة التي كانت تصحب جاريتها الشركسية معها في كل مكان خوفًا من أن تموت في أي مكان ولا تقوم على غسلها امرأة مسلمة!
في الدولة الحديثة لم يكن هناك أقوى من الضباط في العراق. وفي المقابل كانت هناك نماذج عليا وأبطال يلمعون في العالم كله، من أتاتورك إلى هتلر وموسوليني وأخيرًا عبد الناصر والضباط الأحرار في مصر التي صدرت ثورتها إلى العالم العربي؛ بداية من النصف الثاني للخمسينيات.
تحب الأميرة بديعة نوري باشا السعيد القائد الشهير لألوية الملك فيصل من دمشق إلى بغداد، وأكثر رؤساء الحكومات العراقية إثارة للجدل، الذي لم نعرفه في التاريخ سوى عميل للاستعمار ومهندس حلف بغداد، لكنها في المذكرات دافعت عنه، وذكرت إن “هاجسه الأول والأهم كان الشيوعيين“، ويوم أن وقع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 لم يكن من بد أمامه سوى الانسحاب من الحلف (لكنه لم ينسحب)، وتعتقد أن هذا هو السبب في إنهاء النظام الملكي بالعراق.. ومع هذا فهي تراه وفيًا لأهلها الملوك، وتحكي عنه حبه للنكتة، وموهبته في تقليد الشخصيات المعروفة، حتى أنه كان يسخر من شيوخ الأزهر بقوله “شيوخ الأزهر سمان وأساتذة في الهتاف” ثم يضع نوري باشا شيئًا على بطنه بحيث يبدو بدينًا ويمسك بمن يجلس إلى جانبه ويقوم ويهتف كما يهتف الأزهريون “داون وذ تشرشل.. لايف عدلي باشا” (يسقط تشرشل ويحيا عدلي) ويكررها بالإنجليزية.

الأميرة بديعة
نوري السعيد مات مسحولاً في شوارع بغداد على أيدي الضباط الأحرار العراقيين الذين أعادوا باترون ثورة عبد الناصر، لكن على الطريقة العراقية العنيفة، ولم ينجح لا نموذج هتلر ولا موسوليني، فقط عبد الناصر الذي كرهته بديعة وزوجها إلى درجة الشماتة في موته، أو رفض الزوج الحصول على الجنسية المصرية بسببه، وهو الذي حذر ملوك العراق من أنه يرى شبح عبد الناصر يطوف ببغداد، وكان يقصد بأنه يخاف من حركة بالجيش على الطريقة التي صعد بها عبد الناصر إلى السلطة، لينهي سيرة أبطال العروبة “الشيوخ” القدامى، ويبدأ عصر من عروبة “الضباط“، “الثوريين“!
كلاهما اليوم أمام المحك العنيف القاسي، لم تعد عروبة الشيوخ تصلح ولا عروبة الثوار، ولا دولة الأسرة الواحدة، ولا دولة الفرد الواحد، كل شيء ينفلت حتى أن هناك من كتب في “لوموند” تحت عنوان “عراق بلا صدام” (30 سبتمبر) “في الواقع العراق هي اختراع بمدلول نفطي عميق يعود إلى الإمبريالية البريطانية غداة الحرب العالمية الأولى” ويضيف الكاتب “لقد كان ذلك جنونًا من تشرشل، الذي أراد أن يجمع بئرين من النفط يفرقهما كل شيء (وهما كركوك والموصل وذلك بتوحيد ثلاثة شعوب يفرقها كل شيء وهي الأكراد والسنة والشيعة“.
إن كل الكيانات التي نعيش فيها الآن “اختراعات” أوروبية، وهذا نسيان متعمد يهدف إلى شيء واحد، أن يسمح لأمريكا هذه المرة باختراع دول جديدة، ما دام المنطق مقبولاً، وفي الوقت نفسه يكون أجمل أهدافنا هو الدفاع عن حدود رسمها تشرشل مع جواسيسه، وهذا عبث تكتفي الأميرة بديعة أمامه بالبكاء على أهلها، وانتظار ابنها القادم إلى عرش العراق!
وهي خدعة أكبر من خدعتنا في عالم رسمته المس بيل!