كان هاني شكر الله بارعًا في صنع فجوات في الجدار.. ولد هاني قبل عامين من وصول جنرالات يوليو إلى الحكم؛ عائلته من البرجوازية العليا؛ لأب ديبلوماسي وشاعر، وفيلا في تقاطعات الدقي والمهندسين، لكن هاني اتجه يسارًا، منذ أن كان طالبًا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وحتى يومه الأخير حين كان يفكر في تطوير موقع ``بالأحمر`` الذي أسسه أخيرًا... دائمًا ما فتح هاني فجوات في كل المؤسسات، من العائلة وإلى المؤسسة الصحفية الكبيرة ``عمل لفترة مديرًا لتحرير الأهرام ويكلي، ثم رئيسًا لتحرير الأهرام أون لاين``، مرورًا بالفجوة التي صنعها في الحزب ``لم يرض بمصير المثقف الحزبي، أو الداعية المهووس بالرسالة الكاملة… حاملة الخلاص النهائي``... وفي كل ارتباطات الشأن العام والخاص ``حتى فيما يسمونه بحب الحياة`` لم يكن مستهلكًا للكليشيهات الفارغة... لم يقبل هاني بالضيق الذي يصاحب الطمأنينة التي تصنعها هذه الكيانات؛ كانت فجواته نوعًا من انتماء خاص، يصعب اختزاله حتى في صورة المتمرد ذي الملمح المراهق... فجوات هاني أعمق، تتيح لأجيال جديده المرور منها ، كما أتاحت لهاني تلك العلاقة القلقة مع كل ``الإطارات المغلقة`` لجيله... ترك هاني أثرًا في الأجيال الشابة، بقدر ربما لم يعرفه هو، وهذا ما جعلنا في مدينة نختار هذا المقال الذي كتبه عمرو عبد الرحمن لا لنرثي صانع الفجوات، بل لنرى لقاءً بين هاني وأجيال مختلفة عنه، عبر هذه الفجوة. لا لنختزل هاني في أيقونة تعلَّق على حوائط الذكريات، بل طاقة فعالة تسري، على الرغم من غيابها الفيزيائي.
تعرَّفت إلى هاني شكر الله، الذي غادر عالمنا قبل أسبوع، في فترة متأخرة نسبيًّا من حياته كان فيها شاهدًا ومحللًا وناقدًا لعصر مبارك وإرثه الثقيل الذي فتك بوعود ثورة يناير. عرفته مُنظِّرًا قبل أن ألتقي به شخصيًّا، وكان لقائي به وبعمله المكتوب فاتحة لمسار مُعقَّد لم ينته من التأمل في هذا العصر، الذي أكل نصف عمري، وكل شبابي الباكر، وفي الثورة التي سعت إلى كنسه من التاريخ فانتهى مسارها إلى إحلاله بما هو أبشع. بل أكثر من ذلك، كانت معرفة الراحل نافذة أطل منها على معاني الثورة والديمقراطية والماركسية والشيوعية وغيرها من المفاهيم المعقدة التي تستعصي على الاختزال أو التبسيط. السطور التالية محاولة لإعادة بناء تصورات الراحل تجاه هذه الأسئلة، وهي تصورات تستحق أن تبقى معنا طويلًا متحدية كسلنا وركوننا إلى رثاء الذات والزمن وغواية البكاء على أطلال الثورة وما يجرُّه من راحة.
الخروج من قبو التسعينيات
في مطلع الألفية، وقت أن كان يخنقنا الملل والركود المباركي، كنت منخرطًا مع مجموعة من الزملاء في جامعتي القاهرة وعين شمس، وعدد من رفاق أكبر سنًا، في محاولة مبتورة لإحياء أحد المنظمات الشيوعية الرائدة والتي كان لها حظ من صياغة وجهة وخطاب ما عرف بالحركة الشيوعية المصرية الثالثة منذ سبعينيات القرن الماضي. كانت الكتابات المؤسسة اللامعة للمنظمة قد تقادمت، ولم تعد تكفي كوثائق مؤسسة لمنظمة تنشط في عالم جديد ومختلف جذريًّا، وكان المتاح من رؤى جماعة الاشتراكيين الثوريين – والتي عملنا مع كوادرها معًا في الجامعة – غير مقنع لنا في هذه المرحلة لأسباب يطول شرحها. كنا نبحث في كل الاتجاهات تقريبًا عن رؤى جديدة مكتوبة بالعربية يمكن أن تساعدنا على بلورة خط سياسي جديد، في زمن كان من يملك فيه كومبيوتر متصل بالإنترنت يعد صيدًا ثمينًا.
وقع أحد الزملاء على دراسة طويلة بعنوان “تحلل الاستبداد الشعبوي في مصر: من البونابرتية إلى الأوليجاركية” (نُشرت هذه الدراسة في العام التالي في كتاب بعنوان “العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي” من تحرير عبد الباسط عبد المعطي بعنوان آخر فيما أظن). كانت الدراسة ممهورة بتوقيع هاني شكر الله وتاريخ ١٩٩٩. كان هذا النص من عينة النصوص التي تقرأها فتصرخ “وجدتها“. عرفت حينها أن هاني نفسه أحد روَّاد المنظمة التي نحاول إحياءها، وإن لم يكن جزءًا من محاولتنا اليائسة، أو هذا ما قيل لي على الأقل. وعرفت كذلك أن الرجل هو رئيس التحرير المؤقت للأهرام ويكلي. تعبِّر تلك الدراسة بشكل صافي عن الأفكار المحورية لمساهمات هاني التالية الغزيرة في التراث الماركسي المصري المعاصر، وأدعي أن كل ما كتبه لاحقًا هو تطوير وتفصيل وتنقيح لأفكاره في تلك الدراسة.
بلور هاني أطروحتين في هذا العمل؛ الأولى، أن التجربة الناصرية في النمو الرأسمالي – والتي كانت مرحلة انتقالية رفعت فيها فئات وشرائح من البرجوازية الصغيرة والمهنيين تحت قيادة صفوة عسكرية لواء الرسملة والتحديث بعد فشل كبار ملاك الأراضي ونظامهم البرلماني – قد تحللت تمامًا بعد بونابرتية قصيرة تحت زعامة عبد الناصر الشعبوية الجارفة. إلا أن ما خلفها لم يكن “تعددية مقيدة“، وهو الوصف الذي كان معتمدًا في الأدبيات الغربية في ذاك الحين لنظام مبارك، ولا سلطوية جديدة، وهو مفهوم عام لدرجة أنه لا يشرح شيئًا تقريبًا، ولا يحيط بخصوصية الأوضاع المصرية. استدعى هاني مفهومًا قديمًا بعض الشيء غير متداول بكثرة في التراث الماركسي؛ وهو مفهوم الأوليجاركية (والمعنى الحرفي هو حكم القلة عبر الهيمنة على سلطات الدولة الثلاث). إلا أن خصوصية الوضع المصري كانت تكمن في أن الشرائح والفئات الرأسمالية التي تشكلت منذ بداية الثمانينيات كانت قد أعادت السيطرة على جهاز الدولة بالكامل بشكل مباشر وشخصي “من خلف المجال السياسي وعلى الرغم منه” وفقًا لتعبير هاني. وفقًا لهاني، فعمليات خصخصة القطاع العام والسياسات المالية والنقدية الجديدة، بخلاف تفكيك الهياكل التعبوية للنظام الناصري من اتحاد اشتراكي واتحادات مهنية وعمالية، لم تكن مؤشرًا لتحول منقوص باتجاه مزدوج الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية الناجزة بقدر ما كانت طريقًا ملكيًّا لخصخصة الدولة نفسها وإخضاعها بشكل مباشر لحكم الأوليجاركية الرأسمالية.
الأطروحة الثانية المركزية في هذه الدراسة، أن نمط الحكم الأوليجاركي يحدد نمط معارضته. من ناحية أولى فالتضييق الأمني والتخلي عن أي مهمات تحديثية من أي نوع بخلاف مراكمة الثروة ونهب أصول الدولة، سمح للإخوان بإعادة موضعة أنفسهم في منطقة مريحة بعيدة عن نزعة السبعينيات الجذرية/ الخلاصية عبر التمدد في كل مساحة تخلفها الأوليجاركية ورائها في انسحابها الجشع وتمترسها في مدنها الجديدة (تذكروا أن هذا الكلام كتب عام ١٩٩٩). وبالتالي تحدد سقف تلقائي لمعارضة الإخوان تمثل في خطوط حمراء واضحة، هي مؤسسة الرئاسة وسياساتها الاقتصادية العامة، التي لم يكن الإخوان يناصبونها العداء في كل الأحوال. وفي المقابل تحور الإخوان إلى طائفة مغلقة على نفسها تراكم مصادر قوة لا تعرف ماذا تفعل بها على وجه التحديد، بخلاف إثارة الغبار في معارك ثقافية لا تستهدف إلا التضييق على الحريات العامة والشخصية للناس (مرة أخرى كتب هذا الكلام في ١٩٩٩ قبل ظهور تحليلات معمقة مبنية على بحوث ميدانية ومعايشة مطولة للإخوان). في المقابل، فالظروف نفسها حكمت على من تبقى من فصائل اليسار والمعارضة الليبرالية والقومية القديمة أن تتحرك في مساحة آمنة كذلك تدور في الأغلب حول توجهات السياسة الخارجية للأوليجاركية إياها والتي لم يكن لمعارضتها المحمومة أي أثر في الشارع ناهيك بأن يشكِّل تهديدًا لمسار هذه السياسات الخارجية نفسها. بل إن هذه المعارضة سمحت بهامش معقول لتلك الأوليجاركية يمكنها من المناورة وتعظيم المكاسب.
والاستنتاجات الرئيسية التي خرج بها هاني من هذا التوصيف، أن الأوليجاركية المتحكمة ليست في وارد إنجاز تحول رأسمالي مكتمل ينقلها لمصاف النمور الآسيوية (وكان هذا الشعار شائعًا في أدبيات منظمات التمويل الدولية والخطاب الرسمي في هذا الوقت) تحديدًا بسبب تراكم فوائض مهولة في يدها عبر السيطرة المباشرة على الدولة ودون عبء يذكر يجبرها على إعادة تدوير تلك الفوائض في استثمار قابل للنمو والتعمق. وكذلك، من المستحيل أن تقبل تلك الأوليجاركية بأي ترتيبات ديمقراطية مهما كانت هامشية بحكم طابع تلك الطبقة اللصوصي والعصبوي المغلق، الذي يمنعها من مجرد التفكير في مشاركة سلطتها مع أي وافد جديد. وفي المقابل، فما لم تتمرد المعارضة الديمقراطية المصرية على المساحة الآمنة التي رسمتها لها هذه الأوليجاركية، فلن يكون مصيرها إلا التحلل والموت البطيء. وهذا التمرد لن يكون إلا بإعادة الاتصال مع أنوية الحركة العمالية البازغة في مساحات عمرانية جديدة وكذلك عبر التواصل مع شرائح جديدة مما يعرف بالطبقة الوسطى لا تكن ود يذكر للتجربة الناصرية التي لم تعايشها.
فكرتان مركزيتان على بساطتهما البادية إلا أنهما قدما إطارًا تحليليًّا متماسكًا كنا نبحث عنه وسمحت لنا ببلورة حفنة من الأفكار حول الاستراتيجيات الممكنة للخروج من هذا المأزق لم تختمر إلا مع تجربة مجلة البوصلة، التي صدر عددها الأول في ٢٠٠٥ في سياق مختلف وجديد ومع رفاق وزملاء جدد.
ربما لم يعلم هاني في هذا الوقت بحجم الأثر الهائل الذي ولَّدته دراسته تلك في حياة تلك المجموعة القليلة من الشباب، ونحن أصلًا لم نكن نعرفه شخصيًّا ولم نلتق به إلا بعد صدور البوصلة.
المهم تفككت تجربة الإحياء – التي كان محكومًا عليها بالفشل – وبقي أثر هاني الفكري من بعيد، وتأخر لقائي الشخصي به حتى عام ٢٠٠٦ في خضم العدوان الإسرائيلي على لبنان. وكان لقاؤنا السريع في نقابة الصحفيين وقتها فاتحة لعلاقة إنسانية تعلمت منها الكثير والكثير مما لم يخطر على بال هاني نفسه.
منتصف الألفية: رجال أعمال وأفندية
كان السياق العام الحاكم لعمل فصائل وجماعات اليسار المصري مع حلول صيف ٢٠٠٥ مختلفًا بشكل جذري عن سياق نهاية التسعينيات الذي تعرفت فيه على عمل هاني شكر الله. كما هو معلوم، بدأ العام مع ظاهرة “كفاية“، ثم دعوة مبارك لتعديل الدستور وتعيين حكومة أحمد نظيف المتخمة بنحو دستة من رجال الأعمال الجدد وانتهى بانتخابات برلمانية شهدت تنافسًا صريحًا وواضحًا بين الإخوان المسلمين والأوليجاركية الحاكمة التي وجدت لنفسها زعامة جديدة تمكنها من استئناف استيلائها على كل مفاصل الحكم (جمال مبارك وأحمد عز).
باختصار، كانت تفاعلات هذا العام وما تلاه تعد تجسيدًا مثاليًّا لأطروحات هاني شكر الله في دراسته عن التحول من البونابرتية للأوليجاركية: فئات وشرائح رأسمالية لصوصية الطابع تتوحد بشكل عصبوي تحت قيادة نجل رئيس الدولة، وتنطلق في سباق محموم للتكويش على المواقع الوزارية والبرلمانية، “طائفة الإخوان المسلمين” تمارس هوايتها الأثيرة في التمدد في المساحة الإضافية التي فتحتها تلك الأوليجاركية في سعيها الجشع فتجد تلك الطائفة نفسها فجأة في معركة انتخابية شبه جادة ربما للمرة الأولى منذ يوليو ١٩٥٢، وجماعات يسارية وقومية وليبرالية الهوى تطل برأسها أخيرًا على الرأي العام من منافذ جديدة كالصحف والفضائيات الخاصة ولكنها محملة بإرث ثقيل لمعارضة مبارك المهمومة بالمسألة “الوطنية” على ما عداها وتشتق منها معارضتها للأوليجاركية. فتجد إشارات متناقضة ما بين الدعوة للتغيير عبر “الشارع” في نفس الوقت الذي تبرز فيه دعوات مطالبة الجيش أو رئيس المخابرات القوي بالتدخل للخلاص من جمال ومحاسيبه. والدعاوى المتناقضة تصدر أحيانًا عن الجسم نفسه (كفاية ومن هم على أطرافها).
في هذا السياق، أو قبله قليلًا، تشكَّلت مجموعة بريدية يسارية ضمت مئات الأشخاص بعنوان “مجموعة التقدم” للتفكير في مساهمة يسارية متميزة في الجدل العام حول النضال الديمقراطي. ولم يتأخر هاني في البناء على إطاره التحليلي المتماسك السابق التعرض له بهدف التفكير النقدي في السياق الجديد وتناقضات القوى الساعية لتغييره. في ورقة طويلة (غير منشورة للأسف) طوَّر هاني أطروحته حول مثالب التركيز المفرط على ما يعرف بالقضية الوطنية في صفوف القوى اليسارية وبدأ في البحث عن جذور تاريخية لها تعود لما هو أبعد من الحقبة الأوليجاركية. في هذه الورقة، تحدث هاني عن عبء النشأة المتناقضة لفئة الأفندية في سياق دمج مصر في السوق الرأسمالي العالمي واستنبات ممارسات تحديثية سلطوية بالارتباط مع هذا الدمج. بالنسبة لهاني، فالأفندية فئة متميزة وجدت نفسها في موقع متميز عن باقي محيطها دون أن تقارب بأي حال من الأحوال مصادر القوة المركزة في طبقة كبار ملاك الأراضي. وفي الوقت نفسه، فقد لُقحت منذ الولادة بهاجس النهضة واللحاق بالغرب الاستعماري، مع إدراك عميق لصعوبة المهمة تحديدًا بسبب العلاقات الاستعمارية نفسها التي سمحت بتشكل الأفندية كفئة ابتداءً. محصلة هذا التناقض، من وجهة نظر هاني، نتيجتان: الأولى الدفع بفكرة الهوية لمركز الجدل الفكري والسياسي بين أجنحة هذه الفئة، بمعنى أن حسم مسألة هوية الجماعة الوطنية قيد التأسيس سوف يحدد بشكل تلقائي وجهة السياسات التحديثية المرجوة، والنتيجة الثانية هي تضخم المكانة الاجتماعية لهؤلاء “الكتبة” بحكم أنهم حراس أو قابضون على تعريف تلك الهوية المزعومة، مع الاقتران بانسحاق كامل تجاه الطبقات المالكة ونخبة الحكم القابضة على سلطة الدولة وعجز هؤلاء الأفندية عن تصور أي تغيير لا يرعاه هذا الجناح أو ذاك من الطبقة الحاكمة.
هذه التصورات المتضخمة عن الذات، المقرونة بشعور عميق بالنقص، من وجهة نظر هاني، حددت كيفية استقبال عناصر هذه الإنتلجنسيا في وقت لاحق للأدبيات الماركسية عن التنظيم والحزب الثوري والثورة وغيرها، فتحولت ثنائية الوعي والعفوية اللينينية مثلًا إلى مصداق لتصورات الأفندية عن دورهم القيادي المزعوم وتحولت الأحزاب الماركسية لساحة لممارسة هيمنة ثقافية تفتقر لمؤهلاتها. في لمحة طريفة يقول هاني في أحد فقرات الورقة “من المستحيل تصور هيمنة إنتلجنسيا تفتقر للحد الأدنى من الإنتليجنسيا“! هذا العطب المؤسس لدى هاني يستمر مطاردًا بأشكال مختلفة تصورات الأفندية عن مسألة الديمقراطية وصولًا إلى حراك ٢٠٠٥ الذي تصدت له وجوه تلك الفئة سواء في جناحها الاسلامي أو اليساري أو اليساري/القومي والاسلامي/ القومي. وهذا العطب هو ما يقيم أسوارًا صينية بين الإنتلجنسيا اليسارية وجمهورها المفترض ويجرها جرًا إلى استراتيجية “سلالم نقابة الصحفيين” والرهان الدائم على تشققات وصراعات مفترضة في جسم الطبقة الحاكمة ويختزل دورنا في الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك. ناهيك بالغرام بما أسماه “تكتيك يسقط – يسقط” أو التمسك الغريزي بتصور عن التغيير يحدث بالضربة القاضية عبر بضع تظاهرات حاشدة تقودها فئة مخلصة ومؤمنة حقًا وصدقًا بمجموعة من المثل العليا بلا تصور دقيق عن طبيعة الصراع الطبقي ومهامنا فيه.
بالطبع من المشروع الآن إثارة الكثير من علامات الاستفهام النقدية حول رؤية هاني وربما وصفها بالاختزالية في بعض جوانبها. ولكن يحسب لها بالقطع نقل الحوار حول معضلات النضال الديمقراطي في هذه المرحلة إلى نقطة أكثر عمقًا والتنبيه لمزالق رأينا نتائجها المرة بعد ٢٠١١ مع تفجر الجدل الهوياتي المسموم الذي جرّ قطاعات من أكثر المخلصين والمتحمسين إلى المبادئ الديمقراطي إلى زواريبه.
أعاد هاني تقديم نفس أطروحاته في سياق مختلف في العام التالي عندما تقدم الأستاذ أحمد نبيل الهلالي بمبادرة لتوحيد فصائل اليسار المصري المختلفة، أو على الأقل، تأسيس منبر واحد للحوار والتنسيق فيما بينها. سميت هذه المبادرة في حينها “اتحاد اليسار“، وتصدى لتسييرها رفاق وأصدقاء مخلصين على رأسهم عماد عطية بطبيعة الحال. هنا مرة أخرى، كانت فكرة هاني أن الاستغراق في الجدل حول “شكل الاتحاد وبناءه التنظيمي” يعد مضيعة للوقت طالما أننا لم نقارب العطب المؤسس الذي يعزلنا تلقائيًا في كل محطة من النضال الديمقراطي والاجتماعي عن جمهورنا المفترض. أتذكر تعبيره الرشيق وقتها الذي صاغه في إحدى رسائله لمجموعة الاتحاد “نحن نعيش في مصر منذ نهاية التسعينيات كابوسًا ما بعد حداثي آيته الاهتمام المفرط بالشكل على حساب المضمون“.
أما في مجموعة “البوصلة” فقد التقطنا التناص المذهل بين أطروحاتنا – تحديدًا شريف يونس– وأطروحات هاني. كنا قد أصدرنا العدد الأول من البوصلة في ربيع ٢٠٠٥ وخصصناه بالكامل لتحليل معضلات الجدل الديمقراطي في مصر. فأعاد شريف تقديم عناصر أطروحته المركزية التي نشرها في عمله الأول حول “المثقف الهوياتي وأزمة الحداثة” وطور الراحل سامر سليمان في أطروحة كتابه “النظام القوي والدولة الضعيفة” لتلائم تغول أوليجاركية مبارك على المزيد من المواقع التنفيذية والتشريعية. كنا نسير بشكل موازي مع أطروحة هاني عن الأوليجاركية ومعارضتها. وبالتالي كان لقاؤنا حتميًّا بقدر ما كان حافلًا بالمراجعات النقدية (من طرفي على الأقل).
منظر دون كلام في ``النظرية``
من الدروس المهمة التي تعلمتها من العمل الأكاديمي والسياسي أن أحد سمات “المنظرين الكبار” هي محدودية تعرضهم للجوانب “النظرية” في كتاباتهم! مهمة البحث الاجتماعي أو النص التحليلي أو الورقة البرامجية أو الحركية هي التعاطي مع ظاهرة اجتماعية ما وليس الاستغراق في مناقشة باقي “الزملاء” الباحثين، إلا بالقدر اللازم لنقد فكرة خاطئة أو الرد على وجهة نظر متصلة بالموضوع. وأحد المآسي المترتبة على “تخزين الماركسيين في الجامعات“، وفقًا لتعبير هاني شكر الله، هي تحويل التراث الماركسي لمجرد مدرسة في العلوم الاجتماعية ننتصر لها أو ننقدها أو نهتم ببيان أوجه قوتها أو ضعفها، متناسين أن هذا التراث نفسه لم يتشكل إلا في خضم صراعات سياسية واجتماعية كبرى ولم يُنتج إلا للاشتباك مع أسئلة ملحة مطروحة على جدول أعمال قوى سياسية في خضم هذا المعمعان. والنظرية كتجريد تتكثف عبر هذه الاشتباكات ويسهل إعادة بناء عناصرها بقراءة لاحقة لأعمال هذا المنظر أو ذاك.
وهاني، كمنظر كبير، لم يشذ عن هذه القاعدة. من النادر أن تجد لهاني في أي من أعماله مقدمة منهجية أو فصلًا نظريًّا “يرضع” القارئ السلبي بقناعات الكاتب قبل الدخول في الموضوع. هاني كان متميزًا في الدخول في الموضوع مباشرة ثم التعرض لرؤى الآخرين داخل التراث الماركسي أو خارجه كلما اقتضى الأمر. وعبر قراءة هاني يسهل إعادة بناء قناعاته النظرية. الاستثناء الوحيد فيما أعلم هو فصل في كتاب روجر أوين وتشارلز تريب عن “مصر تحت مبارك” صدر عام ١٩٩٠ وعنونه هاني “الأزمة السياسية والصراع السياسي في مصر ما بعد ١٩٦٧“. واللافت أن هذا الفصل الذي خصص فيه هاني جزءًا مستقلًا لمناقشة المنهج هو الأكثر إرباكًا للقارئ إذا ما قورن بأعماله الأخرى.
من السهل إعادة بناء عناصر قناعات هاني النظرية عبر أعماله: هو ماركسي يتحرك بحرية في مساحة ما بين لينين/جرامشي وآلتوسير/بولانتزاس. استوعب من لينين/جرامشي أن ممارسة الصراع الطبقي من موقع منحاز لتحرير العمل من براثن دورة رأس المال، وبناء مجتمع جديد على هذه الشاكلة، محكوم عليه أن يمر عبر دروب “الهيمنة، أي تجميع ومفصلة مطالب ورؤى وحساسيات أوسع من الحساسيات المطلبية الضيقة للطبقة العاملة في ظرف تاريخي واجتماعي بعينه. الهيمنة هي فن بناء الجبهات السياسية الأيديولوجية المنحازة للهدف بعيد المدى. وعبر قراءة آلتوسير/بولانتزاس صكَّ هاني فهمًا ماركسيًّا عميقًا للدولة بوصفها كل مؤسسي متميز وليس منفصلًا عن محيط الصراع الطبقي: يختزل بداخله كل مكونات هذا الصراع وأن كان يعبر عنه، أو “يترجمه“، وفقًا لتعبير هاني في الفصل المذكور، وفقًا للغة أيديولوجية خاصة، ولا يعكسه بشكل ميكانيكي. بل في الكثر من الأحيان قد يتنافر واقع الهيمنة الطبقية، من جانب، مع واقع الترتيبات الدستورية والقانونية والبيروقراطية بما يفتح المجال لظواهر الثورات السياسية أو السلطوية البيروقراطية أو البونابرتية وغيرها من الأشكال السياسية المتميزة. وبالتالي، أخذًا في الاعتبار خصوصية اللغة السياسية للدولة الرأسمالية وإمكان التنافر ذاك بين الشكل السياسي القائم وواقع الصراع الطبقي ينفتح المجال للبحث التاريخي عن خصوصيات تشكل الدولة ولغتها وعلاقة ذلك بخصوصية تطور علاقات الانتاج الاجتماعية في سياقات متنوعة. ودراسته عن خصوصيات الإنتلجنسيا المصرية – السابق التعرض لها – تعد نموذجًا معبرًا عن هذا البحث التاريخي. قد نختلف مع هذا الفهم بطبيعة الحال، ولكن على الأقل هذه قراءتي لكيفية تعامل هاني مع الأدبيات الماركسية المذكورة.
بالعودة إلى الحوارات الممتدة بين مجموعة “البوصلة” وبين هاني، أسترجع الآن أننا قد وصلنا للاستنتاجات نفسها من طرق مختلفة تمامًا. وصلنا إلى تحليلنا لأوليجاركية مبارك وتناقضات خطاب الإنتلجنسيا الوطني من سكك ما بعد بنيوية وما بعد حداثية، أو من ناحية المراجعات النقدية للتراث الماركسي من موقع ليبرالي أو اشتراكي ديمقراطي، ووصل هو للاستنتاجات نفسها من طريق ماركسي متجدد يربط تحولات الدولة والأشكال الأيديولوجية المهيمنة بالتحولات في تكوين رأس المال وعلاقات الانتاج الاجتماعية والصراع الطبقي. ولكن تلك السكك وإن تلاقت في الاستنتاجات فإنها سرعان ما كانت تتباعد فيما يخص رؤية المستقبل أو الاستراتيجيات. ما بعد البنيوية، بقدر ما تقدم تحليلًا لامعًا، إلا أن مآلاتها النهائية على أفضل التقديرات هي طبعة متطورة من الليبرالية الاجتماعية أو الاشتراكية الديمقراطية. وكلا الطبعتين لا يمكن أن يقدما أي إجابات شافية على أسئلة معقدة بخصوص مستقبل العالم الرأسمالي الذي نحيا فيه ناهيك بمساعدة التفكير في تجاوزه من الأصل. أما طريق هاني فكان دائمًا مفتوحًا على استنتاجات حركية ثاقبة النظر.
وبالتالي كان هاني متعاطفًا مع ما أسميناه في البوصلة بالدعوة لتأسيس “يسار ديمقراطي” – والمعنى يختلف عن معنى الاشتراكية الديموقراطية الشائع– بحكم نقده المعمق لهيمنة الهاجس الهوياتي على انشغالات اليسار، أو الميل النصوصي الأرثوذكسي للكثير من فصائله، وكان مختلف معنا بشكل جذري بخصوص ميلنا ما بعد البنيوي – أو ميلي أنا على وجه التحديد – باعتباره مسارًا نظريًّا منفتح على العدم ويغطي فقره ببهرجة لفظية من العيار الثقيل.
هنا كان هاني أدق وأعمق وكنت بشكل شخصي أكثر ارتباكًا وأقل اطلاعًا. ومن الحوار مع كتابات الرجل، ومع هاني نفسه، بدأت أحول اهتمامي بعيدًا عن فوكو والمتأثرين به إلى البحث في الجرامشيين والآلتوسيريين الجدد كبوب جيسوب وإرنستو لاكلاو وشانتال موف. وعبر كتابات هاني بدأت أدرك الإشكال الجوهري في معالجات ما بعد البنيوية، والمتمثل في عماها الرئيسي عن سؤال إعادة الانتاج الموسع للعلاقات الاجتماعية التي تألقت الإسهامات ما بعد البنيوية في تحليل بنائها الداخلي وديناميات عملها. باختصار بدأت أستوعب من التراث النظري الذي فتح هاني عيني عليه أن إعادة إنتاج أي حزمة من العلاقات الاجتماعية سيحيلنا شئنا أم أبينا للبحث في دورة رأس المال، ليس بوصفها محرك أول أو بذرة تتفرع منها مصفوفة العلاقات الاجتماعية القائمة، ولكن بوصفها عملية متميزة تعتمد عليها هذه المصفوفة في إعادة إنتاج نفسها، ولا يمكن فهم خصوصية وشكل أي علاقة اجتماعية بالتبعية إلا بالبحث في تاريخ ارتباطها بدورة رأس المال وتحولاتها. (مرة أخرى هذا فهمي الخاص).
وبالتالي أدين لهاني بالفضل في نهاية غرامي العابر بما بعد البنيوية، والذي تحول معي إلى دوجما في مرحلة ما، لصالح العودة للماركسية كتقليد منفتح، أو كنظرية لممارسة الثورية، وليس كلاهوت مكتمل وضع أسسه آباء مؤسسون. هاني مثلًا هو من نصحني بالالتحاق بجامعة إيسكس للتتلمذ في مدرسة أساتذته من الجرامشيين الجدد (جيسوب ولاكلاو)، مع التحذير بالطبع من مثالب الميل ما بعد البنيوي لدى لاكلاو على وجه الخصوص. أتذكر مقولته عن نظرية لاكلاو في الهيمنة “ممتازة للتحليل، وفقيرة للغاية للتكتيك“.
ثورة يناير: انتقام المباركية البارد من خصومها وضحاياها
هذه الجرد السريع لانشغالات هاني شكر الله عشية ثورة يناير، يمكننا من فهم إسهامه النظري في السنوات السبع التالية عليها بانتصاراتها الشحيحة وخسائرها المهولة. ما كان لمناضل مهجوس بأسئلة الهيمنة، ويرى في تراثه النظري تراكمًا لمعارك سابقة من موقع منحاز لنضالات الغالبية العظمى من المستغلين في العالم، إلا أن يشغله سؤالين مركزيين: كيف يمكن صياغة وجهة سياسية واضحة، أو خط تماس واضح، لجماهير الثورة التي تجود بحياتها طوعًا في الشوارع والميادين، وكيف، من جهة أخرى، يمكن تطوير تنظيم يرفع لواء هذه الوجهة ويسهم في تحويل تلك التضحيات المهولة إلى قوة سياسية محددة بدقة أو على الأقل الحيلولة دون تحولها لمجرد “كارت” للمزايدة بين المتصارعين على “أكلة” الثورة!
لم يرتبك هاني للحظة في إدراك طبيعة الثورة المصرية بوصفها محكومة بالصدام مع مجمل أجنحة الطبقة البرجوازية. بالنسبة لهاني فقد ولى الزمن الذي تقود فيه برجوازية ناشئة حركة شعبية واسعة تساوم بمطالبها مع متحكمين استعماريين أكبر. في دراستيه المطولتين اللتين نُشرا قبل عامين كسلاسل في “بالأحمر“، “ثورة بلا منظمات ثورية” و “مشكلة التنظيم ونهاية عصر الأفندية“، يبني هاني على تحليله للتحول الأوليجاركي للرأسمالية المصرية السابق التعرض له للوصول لاستنتاج أساسي أن الطابع الأوليجاركي للتراكم والحكم لم يترك أي مساحة للمناورة لهذه البرجوازية وأن مجرد تعايشها مع مجال سياسي منفتح تمارس عبره هيمنتها أضحى في عداد المستحيلات. ويعرج في المقالين لمناقشة نظرية ثرية لخرافة التزاوج الكاثوليكي بين الديمقراطية والليبرالية الاقتصادية، أو ضرورة أن تقود “الطبقة الوسطى” التحول باتجاه الديمقراطية، ليفند تلك الأوهام من خلال عدد كبير من الأمثلة التاريخية التي انُتزعت فيها الترتيبات الديمقراطية انتزاعًا عبر نضال الطبقات المستغلة على حساب البرجوازية وعلى الرغم منها، وأن ما نراه من تزاوج تاريخي هو محض تكيف للبرجوازية مع القيود المفروضة على حركتها.
هذا لا يعني أن هاني بلغ به الجموح المتفائل ليرى في ثورة يناير ثورة اجتماعية متكاملة الأركان يقودها حزب اشتراكي طامح لتأسيس مجتمع بديل بالكلية. بل كان يستشرف مسار تلك الثورة ومصيرها التي قد تنجح في التعامل معه أو لا تنجح. لهذا ومنذ اللحظة الأولى، التقط هاني ضرورة وجود كل من الوجهة السياسية والشكل التنظيمي والذي بدونهما سيحكم على تلك الثورة بالتخبط ثم الهزيمة.
كتب هاني مقالًا قصيرًا غداة تنحي مبارك في صحيفة الشروق، حاول فيه أن يتلمس ملامح هذا الأفق السياسي الممكن للحركة الجماهيرية. بعيدًا عن أوهام مرحلة انتقالية طويلة تنتهي كتابة دستور جديد بالكلية تحت أنف الحكم العسكري، أو الاندفاع لانتخابات برلمانية ورئاسية متعجلة تنتهي حكمًا بأغلبية إخوانية وصفقة إسلامية عسكرية، اختط هاني برنامجًا للنضال المدني الديمقراطي الاجتماعي هدفه الأهم تصفية الدولة الأمنية وشرعنة مجال مدني وسياسي جديدين، يمكنان الحركة الجماهيرية الواعدة من بناء تنظيماتها الديمقراطية المستقلة على أمل أن تستأنف نضالها الذي افتتحته في ٢٥ يناير في مساره المنطقي.
أتت الرياح كما نعلم بما لا تشتهي سفن هاني وغيره، ووقعت الجماعات المشكلة لقوام المجال السياسي الجديد أسيرة التقاليد المباركية في المعارضة معطوفة على أزمات نشأتها التاريخية كفئة متميزة من الأفندية المستنكفة دائمًا وأبدًا عن مخاطبة الشعب إلا من منصات عالية تدعوه ككتلة هائمة للاستيقاظ تأثرًا بوقع تعاويذها السحرية. وعلى الجانب الآخر كانت مناشدة تلك الجماعات الجديدة للأوليجاركية ذاتها أن تتحرك ضد مصالحها وتنحاز لنضال الغالبية الساحقة من المصريين مثيرًا للشفقة. وهنا يقول هاني مفتتحًا دراسته عن نهاية عصر الأفندية “أننا بصدد ثورة حمراء أصابها عمى الألوان فتخيلت نفسها برتقالية“، أي أننا بصدد جماعات ثورية تصورت نفسها في أوروبا الشرقية نهاية الثمانينيات، حيث يمكن أن تنحاز البرجوازية الطامحة للالتحاق بالسوق الرأسمالي العالمي لطموحات الشارع، فلا نال الأفندية في بلدنا ودَّ البرجوازية المستحيل، ولا نفعتها تعاويذها في التواصل مع الشارع الذي دار دورة كاملة للعودة لأحضان الأوليجاركية مرة أخرى بعد رحلة غرام سريعة وملتبسة مع الإسلاميين.
لم تكن هذه نهاية هاني، ولا يمكن أن يليق حديث النهايات والهزائم الدرامي بمثل هذا الشيوعي العتيد المسلح باستيعاب خبرات عشرات الثورات في التاريخ وبفهم نقدي منفتح لما أنتجته من تراث نظري. فكان حتى اللحظة الأخيرة أكثرنًا أملًا… الأمل كموقف متعالٍ على التفاؤل أو التشاؤم المفرطين وهي سمات تليق بمثقفين رومانسيين أو عشاق خائبين لا بثوريين انحازوا منذ البداية لهدف بناء عالم جديد ولا أقل.
وآية التزامه بالأمل كموقف وجودي كان “وديعته” التي كتبها في خضم معركة انتخابات رئاسة ٢٠١٨ المبتورة. حاول هاني هنا الخروج من الجدل العقيم حول المشاركة أو المقاطعة، وما يستتبعه من حديث ممل عن احتمالات وجود تشققات في جسد النخبة الحاكمة يمكن استغلالها تجاه التذكير بضرورة وجود برنامج سياسي يرسم أفق للحركة الجماهيرية في حالتها الراهنة المتراجعة. فأودعنا برنامجه من أجل تأسيس جمهورية ديمقراطية ذات أفق اجتماعي، واتفقنا على سلسلة من المقالات بشأن تطويره وبلورته ولكن لم يمهله الوقت ولم يمهلنا مع الأسف.
هكذا كان هاني كما عرفته، وأتمنى من رفاقه الذين جايلوه في شبابه الباكر الكشف عن إنتاجه في حزب العمال الشيوعي المصري؛ سواء ذلك الممهور بتوقيعه أو المكتوب باسم حركي…
باختصار كان هاني شيوعيًا حتى النهاية: يرى في الماركسية منهجًا للممارسة الثورية؛ لا معنى لمقولاتها المؤسسة إن لم تمكِّن المناضل من الاشتباك الفعال مع واقع الصراع الطبقي… أما هذا المناضل فلا يستحق اسمه إلا إذا طور لحياته منظومة أخلاقية آيتها أن يتحول لجزء من مجموع حيوي قيد التشكل، يسهم في تشكله بالتعلم والنقد والتفاني والأمل… كانت هذه هي وجهته… أخطأ وأصاب في الطريق، لكن كما قال لينين؛ أحد ملهميه العظام “وحدهم الذين لا يفعلون شيئًا لا يخطئون“.