ولدت چويس منصور عام 1928، وأمضت جزءًا من شبابها في مصر قبل أن تستقر بشكل دائم في باريس عام 1956. كان والداها إيميل ونيللي أديس من اليهود السفارديم يحملون الجنسية البريطانية، وتنتمي العائلة إلى الأرستقراطية المصرية. أرادت چويس باستمرار تكثيف اللغز الذي يحيط بها، فمزجت الحديث عن حياتها الأولى في مصر بسير ذاتية كاذبة كثيرًا ما كانت تتحدث بها بفكاهة شعرية، كانت تحب أن تبث الارتباك مع الفكاهة، لتصنع أسطورتها الخاصة التي انتهت بأسطورة الشابة غريبة الأطوار، وكانت دائما تتحدث عن قرينة لها سترسلها لمن يريدون مقابلتها! مجدت الموت والصدمة الجسدية بتمزقاتها الوجودية التي تشعبت لثورة شعرية منذ رحلت والدتها وهي في الخامسة عشر من عمرها.
لم تكن چويس منصور ذلك النموذج للفتاة الأرستقراطية الغنية، عاشت في القاهرة مراهقة صغيرة ثم زوجة وشاعرة شابة، بعد ذلك لم تكن مدللة من السورياليين فقط لإعجاب أندريه بريتون بها، لكنها قبل كل ذلك أحدثت ثورة إيروتيكية وفلسفية وشعرية وسوريالية لها ملامحها الخاصة وطريقها الخاص، منذ فترة مراهقتها المبكرة التي عاشتها في مصر حيث عانت من تمزقات وجودية واجتماعية أرقت راحتها كسليلة لعائلة غنية ومستقرة.. ووفقًا حديث چيليان الأخت الصغرى لچويس منصور فإن أصول جدهم داڤيد أديس ترجع إلى جالية يهودية في حلب كانت مهددة دائمًا من السلطة في ذاك الوقت. وفي النهاية غادر سوريا وحصل على جواز سفر إنجليزي يسمح له بتأسيس بورصة للقطن في مانشستر في نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر، ثم استقر في القاهرة حيث أسس مصانع للغزل بالقرب من المدينة، بالإضافة لمحلات لبيع منتجاتها، ثم أقام متاجر في الإسكندرية حيث اعتاد أن يقضي أجازته، وفي عام 1897 أنجب ابنه إيميل ديفيد الذي عمل مع والده وفي عام في عام 1920، تزوج إيميل من نيللي أديس. كانت چويس تحب أن تقول إن والديها كانا أبناء عمومة على حسب چيليان.
ومنذ أن انتقل جد چويس منصور إلى القاهرة، عاشت العائلة هناك وكانوا يقضون عطلات نهاية الأسبوع والعطلات في الإسكندرية في منزل يستأجرونه على الشاطئ. وتتذكر جيليان، بين الحربين كانت أعمال العائلة في ازدهار، مكاتبهم كانت تعمل في مانشستر، وتدير الأعمال في مصر أقلية بريطانية منتمية إلى عائلة أديس، تقرب والدا چويس منصور من المجتمع الأرستقراطي في مصر، وخاصة دبلوماسي السفارة البريطانية حيث كانا يحضرون بانتظام كل فعالياتها الاجتماعية منفصلين تمامًا عن التوترات والصعوبات الاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد في ذلك الوقت بالإضافة لانتمائهم إلى اليهود السفارديم. كانت العائلة إذن نموذجًا ثقافيًّا مختلطًا فبعضهم يتحدث العبرية وبعضهم يتحدث الإسبانية بالإضافة للإنجليزية.
وُلدت چويس باتريس أديس في هذه البيئة الثرية في 25 يوليو 1928، في بودين، شيشاير بإنجلترا. وهي ثالث الأبناء. ولد أخوها الأكبر ديفيد عام 1920، وأختها الكبرى جيني عام 1923. وفي عام 1931 ولد أخوها نورمان، الذي ظل قريبًا جدًا منها طوال حياتها، ثم أختها الصغرى جيليان في عام 1937. وبعد ولادة چويس 1928، انتقل والداها إلى الإقامة في القاهرة في منزل بحي السفارات في 6 شارع عبد القادر، شارع قصر الدوبارة حاليًا. منزل واسع به العديد من الغرف، وتحيط به حديقة كبيرة ومسور بجدار عالٍ. في هذا السياق من الحياة المدللة والذهبية، كما تصفها چويس، تتلقى الفتاة تعليمًا بريطانيًّا. برفقة مربية إنجليزية. ثم تفقد والدتها في سن مبكرة، وهو ما غير مسار حياتها. وكانت تقضي معظم عطلاتها في إنجلترا.
وفي عام 1936، أرسلت إلى كلية عليا للفتيات في سويسرا، وهناك تلقت تعليمًا صارمًا إلى جانب تعليم الرقص والموسيقى. وتقول شقيقتها چيليان إن چويس أتقنت الغناء الأوبرالي، وحين كانت صغيرة غنت في بعض الحفلات في القاهرة. كانت في ذاك الوقت مثقفة، ورياضية متفوقة في سباق الركض.. لغتها الأم هي الإنجليزية، رغم أنها تقول إنها بدأت ممارسة الفرنسية قبل الإنجليزية، والتي كانت اللغة الرسمية للطبقة الثقافية الأرستقراطية، في ذلك الوقت. وفي خلال صيف عام 1942، غيرت الأحداث السياسية العالمية حياة الفتاة البالغة من العمر أربعة عشر عامًا. ففي أثناء الحرب العالمية الثانية، حدثت معركة العلمين بين قوات المحور بقيادة الجنرال روميل والجيش الثامن البريطاني، وبدأ تحرك الألمان نحو الإسكندرية، وكانت بعض الطوائف متخوفة مما سيفعله النظام النازي إن دخل مصر، فشجع والد چويس زوجته نيللي برفقة أطفالها چيني وچويس ونورمان وچيليان على الاستقرار في القدس بينما ابنه الأكبر ديڤيد التحق بالجيش البريطاني.
ويشهد سمير منصور؛ الزوج الثاني لچويس، أن والدها وضع بعد ذلك جزءًا من ثروته تحت تصرف الجيش البريطاني، وبعدما تراجع روميل عن المضي نحو الإسكندرية، تمكنت نيللي أديس من العودة إلى مصر مع أطفالها الأربعة الصغار. عادت چويس إلى دراستها وحياتها الرياضية والاجتماعية، ورحلاتها إلى أوروبا وأفريقيا وعاد والدها إلى غرامه بسباق الخيل، شاركت چويس حب والدها بسباقات الخيل. وشاركت في العديد من السباقات ورافقته في العديد من رحلاته إلى الصحراء، كانت ووالدها دائمي الوجود في سباق الخيل، الذي يقام في الصيف في نادي الجزيرة الرياضي، وفي الشتاء في ميدان سباق الخيل في مصر الجديدة، في عام 1944، في سن الخامسة عشرة، فقدت چويس منصور والدتها بسبب السرطان، وتصف ذلك الفقد في قصيدتها المنشورة بعد وفاتها في العدد التاسع من مجلة Unknown President:
لقد ماتت أمي ليلة أمس
نجني من آلامك
أنت متجمدة من الرعب تحت قناعك الزجاجي
نجني من قبلاتك الأمومية
ازحفي على ركبتي
مثل الرخويات
ساعديني يا أمي
لأن عيني عالقتان في مستنقع الرغبة
نجني من ظلك الثقيل
مبيضي المليء بالطمي يختنق في يديك
الموت بطيء
نجني من غيابك
نجني من المطر
ثم ذكرتها أيضًا في مجموعتها الشعرية الأولى:
نحن الذين ننتظر قفزتك الأخيرة
لتمزيق إرادتك.
امرأة تقف في منظر طبيعي خالي من العيوب
الضوء القاسي على بطنها المنتفخ
امرأة غنية وحيدة بدون رذيلة أو صدر
امرأة تصرخ بازدرائها في أحلام مضطربة
سيكون السرير جحيمها
چيليان، التي كانت تبلغ من العمر سبع سنوات آنذاك تؤكد مدى تأثر چويس بوفاة والدتها، ومدى عجزها عن تقبل الأمر على الرغم من حنان والدهما المتزايد ورعايته. وبعد ذلك قرر الوالد إرسال چيني ونورمان وجيليان إلى كمبريدج في إنجلترا، لمواصلة دراستهم هناك، والاحتفاظ بچويس معه، لترعاه. تابعت دراستها في المدرسة الثانوية الإنجليزية بالقاهرة. وكانت الفتاة، دائمة الاهتمام بالرياضة، وعضوة نشطة في نادي الجزيرة الرياضي في القاهرة، وبطلة في الجري؛ إذ كانت الرياضة وسيلة لها لمواجهة ذكرياتها القاسية من خلال تجاوز نفسها جسديًّا. أكملت چويس منصور عامها الثامن عشر وهو العام الذي التقت فيه في نادي سبورتنج بالإسكندرية بزوجها الأول هنري نجار الذي يكبرها بعامين فقط، وهو من أصل إيطالي، ومن نفس الشريحة الأجنبية الأرستقراطية التي تعمل في البورصة في القاهرة. كان هنري نجار يجيد الإنجليزية والفرنسية منذ طفولته فقد ربته مربية إنجليزية أيضًا، وكان طالبًا في الليسيه الفرنسية، والفرنسية لغته الأم أكثر من الإنجليزية. وكان رياضيًّا مثل چويس منصور، فكان بطلاً للوثب العالي، ووسيمًا وثريًّا، ولديه كل الصفات اللازمة لإرضائها. ومنذ سن الثامنة عشرة، ترددت چويس منصور على المجتمع الثقافي الناطق بالفرنسية. وهنا شعرت أنها مضطرة إلى تعلم الفرنسية التي لن تتقنها تمامًا إلا بعد زيجتها الثانية ووصولها إلى فرنسا عام 1956. في ذلك الوقت، ووفقًا لشهادة صديقها، أندريه جرين، الذي كان صديقها منذ شبابها في القاهرة، بأنه لم يكن هناك شيء يمكن أن يتنبأ بأنها ستصبح شاعرة عظيمة قريبة من أندريه بريتون.. نعود إلى هنري نجار؛ تزوجت چويس من هنري نجار في مايو 1947، وسافرا لقضاء شهر العسل إلى فرنسا ثم إلى سويسرا.
وبعد أن ورث هنري وظيفة سمسار في البورصة من والده، استغل سفره الكثير في عطلاته في أعمال البورصة. لكن بعد بضعة أشهر أصيب الشاب بالسرطان. وتوفي في 7 أكتوبر 1947 عن عمر يناهز الحادية والعشرين، مما تسبب في خلل عنيف آخر في حياة چويس، التي استسلمت لآلام الحداد الجديد الذي يقترب من ألم والدتها. وتتذكره في أحد أعمالها غير المنشورة: أتذكر جنازة والدتي مناديل متبادلة مثل إشارات تفوح منها رائحة العرق، البيانو تجرد من شالها، كل تلك الأذرع البيضاء لأصدقاء السيدة المتوفية الذين حركوا الهواء في غرفة المعيشة الكبيرة، دسمة دون حجاب، ثقيلة مثل حفرة ضحلة هلال على طول المحيط الراقص. هل نبكي هكذا في الغرب؟ أعتقد أنني سمعت دموع ترن على الأرض.
لن أتراجع خلف قبعتك السوداء، سأدفن صديقي الميت مثل اليهود القدامى، وجهاً لوجه مع الزجاج
لأتأكد من رؤيته حيا هناك في الرمال القادمة.
لم تستطع چويس تحمل الألم، في سن التاسعة عشرة، كانت تقيم في منزل والدها، لكنها ترفض التحدث كثيرًا. ولا تقبل إلا بصحبة أخت زوجها، وليلي آديس، زوجة شقيقها الأكبر ديڤيد الذي يحاول التخفيف عنها دائمًا بتنظيم الحفلات.. وتروي ليلي أديس محبتها لچويس منصور التي كانت تحاول حمايتها في نوبات السير في أثناء النوم. ووفقًا لشهادة الناقد الفرنسي آلان جوفروي، حاولت چويس منصور كي جروحها بمساعدة الشعر، الأمر الذي سيصبح بالنسبة لها ضرورة حيوية ووسيلة للثورة. وتعود الإشارات إلى وفاة زوجها الأول بوضوح في مجموعتها الشعرية الأولى حيث الصور المؤلمة بشكل عنيف:
مكائد يديك العمياء
على ثديي المرتعش
الحركات البطيئة للسانك المشلول
في أذني البائسة
كل جمالي يغرق في عينيك بلا تلاميذ
الموت في بطنك الذي يأكل عقلي
كل هذا يجعلني شابة غريبة
أرفعك بين ذراعي
للمرة الأخيرة
سوف أوصلك إلى نعشك الرخيص.
أربعة رجال يحملونه بعد تسميره
على وجهك المهزوم
على أطرافك المنكوبة.
ينزلون ويقسمون الدرج الضيق
وأنت تتحرك في عالمك الضيق
انفصل رأسك عن الحلق المقطوع
هذه بداية الخلود
وتعبر هذه الرؤى الكابوسية المسكونة عن المخلوقات الشبحية الثائرة والحزينة التي تسكن چويس منصور في مواجهة ذكرياتها وصراعاتها الوجودية، وفي المقابلة نفسها مع الصحفي جان بيير إنكيري حين سألها متى وكيف ولدت داخلها الشاعرة تقول “شعرت في البداية بالانجذاب إلى الشعر عندما كنت طفلة مريضة.. العالم الذي تتخلله الحقن والجرعات الدوائية صدمني فجأة باعتباره بغيضًا، ولجأت إلى الشعر” لذا شرحت له ما كان تصورها الشخصي عن كتاباتها الأولى: حالتا وفاة لم تكن تتخيلها، وفاة والدتها وزوجها الأول. ويطلب منها جان بيير إنكيري أن تصف حياتها اليومية، فتجيب بأنها نادرًا ما كانت تغادر المنزل طول الأسبوع: تقرأ كثيرًا، ترسم قليلاً، وتقوم ببعض أعمال البستنة، وفي عطلات نهاية الأسبوع، تذهب للتخييم على شواطئ البحر الأحمر، حيث تذهب للصيد بالرمح. كما تتجول في المواقع الأثرية وتنام في الهواء الطلق.
شيئًا فشيئًا، تتعلم چويس منصور، البالغة من العمر تسعة عشر عامًا مواجهة المآسي التي رصعت شبابها والتي ستميز عملها الشعري. وفي عام 1948، بعد عام من وفاة زوجها الأول، التقت چويس بسمير منصور في نادي اليخوت؛ وهو رجل وسيم، قضى العشرين عامًا الأولى من عمره في فرنسا حيث درس ثم انتقل إلى القاهرة لتأسيس شركة نسيج عائلية والانضمام إلى شركة تبريد كبرى.
تزوج سمير منصور وچويس منصور في 7 فبراير 1949 في القاهرة. ولقضاء شهر العسل، غادرا لمدة شهر إلى كابري، حيث نظم سمير أمسية كبيرة في مطعم حول موضوع “القراصنة والعبيد”. وكان لهذه الأمسية صدى كبيرًا، كما ذكر ماري لوري ميسير في مقابلة مسجلة في 19 يونيو 1995.
أعادت چويس منصور الشابة اكتشاف السعادة بالعيش مع سمير؛ تتناوب حياتهم بين القاهرة والإسكندرية وأوروبا حيث العطلات. عاشا في القاهرة في شقة بحديقة في الحي الجديد بجزيرة الزمالك، 1 شارع عزيز عثمان، بالقرب من نادي الجزيرة الرياضي في القاهرة، كانا يختلطان بعائلتها كثيرًا. يروي سمير منصور كم كان يحب إيميل والد چويس، وكم أعجب به أيضًا لأنه قاتل مع ابنه ديفيد لحماية قناة السويس. كما اعتاد سمير وإيميل الحديث عن كراهيتهم للجيش النازي.. بالنسبة لسمير، كان والد چويس شخصية مرحة للغاية، وحيويًّا، ورياضيًّا. وبعد أن واجها صعوبة في إنجاب طفل، أنجبا ابنهما الأول فيليب أخيرًا، في باريس، في عيادة بولون بيلانكور، في 19 فبراير 1952. ثم جاء أصغرهم، سيريل، في 14 مايو 1955، في نفس العيادة. وفقًا لسمير، كانت چويس مغرمة بشغف بأبنائها، وكان إفراط زوجته في حبها للأطفال جزءًا من سحرها. وحتى وفاة چويس، كانت سيريل تتناول الغداء معها كل يوم تقريبًا. خلال هذا الوقت السعيد، لا تزال الجروح المستعصية بسبب “الموت” باقية، وتواصل چويس الكتابة لتعالج نفسها من تلك الجروح. وخلال حياتها مع سمير منصور بدأت چويس في إتقان الفرنسية كلغة كتابة وحديث.