“كيمو”
هكذا كان يناديه الأصدقاء المقربون قبل أن تصبح تسميته العمومية تقريبًا. وهو مدلل بين أصدقائه بطريقة تفتح له أبوابًا مغلقة، يسير في مدن لا يعرف لغتها لكنه يعقد صداقات عبر العين والمشاعر الطيبة، وعبر إيمان بأنه سيمر من التجربة. يحسب حتى المغامرة، ويضع لنفسه استراحة محسوبة خارج شغفه الدائم بالاستقرار، لا يحب المفاجآت.
ومع ذلك استمرت صداقة بيننا بدأت من المنتصف كأننا التقينا من زمن، ومع أنه بدأ الكتابة قبل أن أولد فقد تحمل نزقي الدائم في البحث عن إيقاع خاص وزمن قد يتصادم مع أزمنة الآخرين. تحملني حتى وأنا أحاول هنا أن أرسم له صورة أعبر فيها كل دفاعاته كي لا تظهر ملامحه الذاتية. ليس لأنه غامض، بل لأنه يخاف أن تجتاحه رياح النزعة الفردية، وأن ينسى أحلام الناس، أو يضبط متلبسًا بالكلام عن ذاته. إنها خيالات تصنع حربًا بين العام والخاص، وتعتبر الثقافة الفردية جريمة، والخروج عن الإجماع مشروع خيانة.
***
سألته مرة: كيف كان يرى بورخيس السينما؟
كيف تسلل ضوؤها الشحيح إلى عينيه المظلمتين المنهكتين تمامًا؟
تتحسس يده سطح المرآة، ربما ليلمس ما تحتفظ به من تفاصيل شخصية وآثار مبهمة الحضور بما يصنع بورخيس من لمس الأسطح المشحونة ذاكرته الخاصة، وكأنه يترجم ما قاله الشاعر اليوناني ريتسوس:
خلف أشياء بسيطة أخبئ نفسي لتجدني
وإن لم تجدني
ستجد الأشياء
تلمسها
تلك التي لمستها يداي
وستمتزج آثار اليدين.
هذه هي السينما.. الوقت العابر الصغير الذي نعيش فيه زمنًا كاملاً، وأنا أحب هذه السينما، ولا أعرف هل يحبها كمال رمزي أم لا، لكنني أهدي له هذه المحبة.
…
هكذا أنهيت مقدمتي للحوار المطول مع كمال رمزي، وعند نشره في كتاب تكريمي صدر مع (المهرجان القومي الثالث عشر للسينما المصرية-2007) قررت أن أؤجل المقدمة إلى ما بعد الحوار.. نسيت السبب الفعلي لهذا القرار الآن، لكنه غالبًا فصل من فصول لعبتي المحيرة مع كمال رمزي، التي حاولت فيها الابتعاد عن ثنائية “الوجه و القناع”، أو حتى “الشكل والمضمون”.. وهي ثنائيات لم تعد فعالة في عمليات التفكيك أو الاكتشاف، بل تحولت مع الزمن إلى أداة تمنع النظر وتحد التفكير .. اللعبة التي اخترتها أقرب إلى “المدرسة الطبيعية” التي يحبها كمال رمزي في الفن، وتحدث عنها في الحوار لنرى ما يحرك كاتب ليكون ناقدًا، الحوار لعبة لم تكن سهلة لاكتشاف مدى اتساع أرض النقد.
إعادة نشر الحوار مع كمال رمزي بعد حوار سمير فريد؛ تأتي ضمن فصول في لعبة أكثر تعقيدًا للتفاعل مع “الهوة الزمنية” بعد ظهور عالم الديجيتال الواسع، وهي لعبة لا تنفي الفرح بالتكريم والاحتفاء، لكنها لا تكتفي بهما.
قبل الحوار وبعده
يكره كمال رمزي الصور.
أقصد صوره الشخصية، يخاف منها، يتبرم، يوحي بأنك ضبطته في وضع غير ملائم، ويسخر “أخبرني لأستعد بملابس مناسبة؟”، تصورت في البداية أنه تواضع أو خوف طبيعي لكن بعد قليل قلت ربما هي “أصول المهنة”، وهو لا يريد أن يتحول إلى هدف للصور والمراقبة، هوايته صيد المعاني في الصور المتناثرة، والصيد في كل مرة اكتشاف يدهشه أولاً.
هذه لعبته. وربما مهارته الأولى التي تنقذه الآن من حالة “فتور الحماس”.
في مكتبه خلف تلال من أوراق صحف يكرهها ولا يصدقها، من أيام يونيو 67، ورفوف كتب، وشاشة يتابع صورها دون صوت، وأوراق مسطرة وقلم حبر من موديل قديم. يحاول إنقاذ “صورة غابرة” جمَّعها على مهل في ذاكرته. إنه العالم كما رآه سعيدًا، أو تحديدًا كما رآه في زهوة حلم اقترب قطافه. هنا مع هذا العالم يلعن تغير الصور، وتبدلها، ويخفي تحت ابتسامته، وربما ضحكاته التي تنفجر كعيار ناري، شعورًا هائلاً بالرثاء.
1
“دوري انتهى”! جملة كمال رمزي لم تنته. يكملها “علي أبو شادي يسخر مني عندما أقول ذلك”. الدور، أو المهمة التي يتصورها هدفًا لحياته، وللأصدقاء، أو السد العالي الشفاف الذي يحميه، عالمه المفقود يبحث عنه في أصدقاء يعيشون بنفس إيقاعه أو يشعر بأمان معهم.
والدور؟
فوجئت بأنه لا يقصد نشر الوعي والمعرفة بين جماهير الشعب كما كان أغلب مثقفي جيله يضعون المهمة المثالية على رأس الأجندة الشخصية. الدور كما قاله لي كمال رمزي أوسع قليلاً: أنا لم أؤدِ دوري جيدًا، فاُحتلت بغداد.
الشعور بمسؤولية مباشرة عن سقوط عاصمة عربية هو شعور يتحرك بتصور ولد في الخمسينيات عن “جماعة المثقفين” التي تلعب دورًا في التغيير.
ولم يكن التصور يعني أن تكون هناك أجندة عمومية للدفاع عن القيم الأولى والمشتركات التي تجمع طيفًا من المثقفين، لكنني ومع الأيام اكتشف أن التصور كان يعني “وحدة جيش” تتوازى مع الدولة التي قررت أن تلغي المجتمع، فحاول المثقفون الالتفاف ولعب دور مفترض عبر تصور من صنع الخيال اسمه: جماعة المثقفين.
وكمال رمزي باعتباره فردًا من هذه الوحدة يعلن مسؤوليته -هكذا فهمت- عن الهزيمة. يشعر بالخوف، ولا يطمئن إلا على مجموعته النادرة من الأصدقاء.
يدفعه الخوف إلى مزيد من العزلة، عزلة من نوع خاص، لا تقطع كل الخيوط مع المجتمع المحيط به، ولا تجعله في نفس الوقت واحدًا منه. الأصدقاء جسره إلى العالم؛ علاماته الإرشادية للخروج من العزلة، والنافذة التي يمد يده منها، أو يدخل منها الهواء لتجديد حجرته و”هذا سر عصابة الأربعة”. ضحك عندما ذكرته بها، ضحك بقوة، لمحته في ضحكته نوعًا من التحدي، فهو أحد أفراد العصابة مع علي أبو شادي، وسمير فريد. وسألني: من الرابع؟
قلت له احكِ لي الحكاية أولاً.
حكى لي بطريقته التي توحي بأنها كاملة، وفي نفس الوقت تمنحك شذرات عليك أن تكملها على طريقة لعبة “الصور الناقصة”. عرفت أنه على خلاف مع سامي السلاموني، كان كمال حلقة الاتصال بينه وبين “العصابة” ومع ذلك حسبه عليهم في وصف يوحي بأنهم “سلطة” و”مراكز قوى” فالتعبير المستعار من الصراع السياسي في الصين بعد اختفاء الزعيم الأسطوري ماو تسي تونج، لا يعني سوى أن النقد السينمائي أصبح بين نجومه رمزًا من رموز السلطة. معنوية؟ أو رمزية؟ أو حربًا على مصالح صغيرة مثل السفر إلى المهرجانات؟ المعنى وراء هذا أكبر قليلاً، ويشير إلى حقيقة مدهشة مع أنها قديمة.
النقد أصبح أرضًا واسعة، لم تكن الكتابة عن السينما سوى منتجعات الراحة لكبار كتاب السياسة أو الأدب، يمرون عليها في استراحة من الأحداث الساخنة مثل أحمد بهاء الدين عندما كتب عن “وإسلاماه”، أو يعبرون فيها عن ذوق رفيع كما كان يفعل يحيي حقي، وأحيانًا قليلة نجيب محفوظ وربما سعد نديم.. أرض النقد في السينما غير هذا؛ هي “فاترينات النجوم” يسيطر عليها محرر فني، موهوب في عمليات التجميع والتلميع، وفنون الدعاية والترويج. كل منهم “قاطع طريق”، والكتابة عن النجوم باب من أبواب الرزق والشهرة.
كمال رمزي تحدث معي عن الجسور؛ حسن إمام عمر، وعثمان العنتبلي، ومحمد السيد شوشة الذين كانوا الجسر إلى صبحي شفيق الذي كتب في الأهرام أولاً، وأحمد الحضري، وسعد الدين توفيق، وهؤلاء كانوا الجسر إلى سمير فريد وسامي السلاموني وفتحي فرج.. وهكذا.
2
محمد مندور كان مثله الأعلى.
حكى كمال رمزي “رأيته في مدرسة عين شمس الثانوية، كنت طالبًا، وهو عملاق كبير، يلقي محاضرة لنا عن المدارس الفنية، سمعنا مصطلحات صعبة مثل الكلاسيكية، بسهولة مثيرة للدهشة، كان لدينا ناظر مدرسة مثقف ثقافة واسعة، ويمكن أن يستضيف ناقد بحجم مندور ليتكلم مع التلاميذ عن النقد والأدب”. مندور أول نجم كبير يراه الشاب الخارج من بيته في أرض النعام، إلى مدرسة قد تفتح له المستقبل أو تضمه إلى جيوش الموظفين في جسد الدولة الذي كان في لحظة من لحظات تمدده الأقصى. ومندور ليس ناقدًا أو مدرسًا يفتح أسرار النقد الأدبي، لكنه سياسي له تاريخ في التمرد على الوفد التقليدي، ولمع في الطليعة الوفدية، وشخصية عامة مثيرة للإعجاب؛ “مرشد فكري” بالمعنى الذي راج في الخمسينيات، حين كان جسرًا لأفكار تعلمها في السوربون وباريس “مدينة الجن والملائكة” الفوارة بأفكار الحرية، والالتزام في الأدب والثقافة. ولد مندور في السنوات الأولى من القرن العشرين (1907) وغادر الحياة (1965) بعد فترة قصيرة جدًا من نشر كمال رمزي مقاله الأول.
مندور من الجسور أيضًا، ولم يكن وحده في المعهد العالي للمسرح الذي فوجئت بأن كمال رمزي لم ير فيه إلا “وكرًا للبصاصين” ولم يخفف الصدمة أنه حدد التاريخ “أقصد في السنتين الأخيرتين”.
كان المعهد حلم شاب تشاغله الثقافة من بعيد. فاشل في الدراسة كما اعترف لي، لكنه هرب من ألغاز حساب المثلثات والبيولوجي إلى الأدب والمسرح والسينما. تصورت أن المعهد كان طريقه إلى الثقافة والمعرفة والحياة المختلفة، لكنه لم يكلمني إلا عن عيون المباحث التي تراقب وتصطاد الزملاء الطيبين ليصبحوا وشاة ومرشدين. لم يتكلم سوى عن مغامرات الصحبة الأولى مع مهدي الحسيني الناقد والمخرج المسرحي، وأحمد رشدي صالح.
3
رشدي صالح أستاذ الفولكلور الشهير، سياسي أيضًا لكن من الطرف الآخر: اليسار.
“أعجبتني طريقته في تأمل شكسبير”. قال كمال رمزي عن ملاحظة رشدي التي أضاءت له جانبًا جديدًا من شكسبير “لماذا يرهن الأمير معذب الأرض ليحصل على المال، ليشتري ما يعرضه التجار من سلع. من هنا كانت بداية تحلل الإقطاع، وتراكمت الأموال عند التجار، واشتروا مصانع، فاستطاعوا أن يصرفوا الأموال على مخترعين ومبتكرين، وتغير المجتمع وتراجعت صورة الأمير.. هذا سر عذاب الأمير عند شكسبير”.
كانت هذه نظرة جديدة على كمال رمزي للأمير المعذب المحطم، صريع الألم، واكتشف معها أن “النص ليس مجرد نص.. بل نقطة في سياق طويل”. من هنا تسلل سحر المنهج الاجتماعي إلى أدوات كمال رمزي.. سحر لم يفارقه حتى الآن.
والشاب المعجب بحضور مندور. وأضيفت له محبة رشدي الصالح السياسي المطارد في المعتقلات، ومنهما تكونت “صورة الناقد” قبل أن يختار كمال رمزي السينما.
“الأدق أنها اختارتني” يقول وهو يشير إلى حس براجماتي أرشده إلى أن مقالات السينما هي المطلوبة. حدث هذا في زمن “الطليعة”.
4
“الطليعة” كانت مجلة اليسار في أقوى مؤسسات صحافة السلطة؛ الأهرام.
انتزع اليسار (فرع لطفي الخولي) المساحة؟ أم منحها لهم محمد حسنين هيكل، مندوب النظام الناصري الذكي في التعامل مع المثقفين الشاردين عن القطيع، كانت لعبته: امنح للمثقفين جنة في الدور الخامس يلعبون فيها على حريتهم، وحتى لو وصل تمردهم إلى عنان السماء فهم تحت مظلة مؤسسة جبارة، وتحت يديها المسيطرتين. وفي ملحق الطليعة، كان فاروق عبد القادر الذي طلب من كمال رمزي أول مقال في السينما. وكان قبلها “نصف غريب” على وسط النقاد الذي كان يتشكل، لكن الطليعة كانت مجلة الـ 80 ألف قارئ (وفقًا لمعلومات وتقديرات كمال رمزي نفسه). بعد المقال بحثوا عنه، وبالتحديد سمير فريد، الأقرب إلى الوسط الصحفي، والمشغول بصناعة الحركة، التقط الاسم وسأل، وكان هذا أول اعتراف من شيء جديد على الكتابة اسمه: النقد السينمائي.
كان المقال الأول عن سينما جديدة في إيطاليا، والنقد بنى قواعده بالانحياز إلى سينما جديدة.
اختار كمال رمزي من الجيل القديم: صلاح أبو سيف. مخرجه الأول، الذي يعبر عن مزاجه النقدي، واختياره لما يُعرف في عالم النقاد بـ”الواقعية”. وهو في الحقيقة ليس اختيارًا، بل فتنة، الواقعية هي فتنة أغلب الجيل الأول من نقاد السينما، فتنتهم التي انتقلت عدواها إلى جمهور واسع لم ير في الواقعية أسلوبًا وزاوية نظر، بل هي المعايير، وعلامة الجودة. وكمال رمزي في مقدمة المفتونين بالواقعية، ولا يعتذر عنها، ولا يعترف بأنه “متطرف” في الافتتان.
والحقيقة أنه اختيار لمزاج عمومي، مزاج غالبية، صبغ السينما لفترات طويلة، وأزاح إلى الهامش أفلام كان تفكيرها أميل إلى الوجودية (على مستوى التفكير) أو إلى لغة الصورة (على مستوى السرد السينمائي). هذه هوامش.. لكن السينما هي الواقعية، هذه حقيقة يمكن أن ينكرها كمال رمزي وفريق كبير من النقاد منحتهم النظرية الماركسية طاقة اكتشاف “الثورة” في الفن والثقافة. أقصد طاقة التحريض (التحريض على معرفة الحقيقة، وليس مجرد التحريض على فعل مقاومة) لا الثورة بمعنى أوسع قليلاً: اكتشاف مناطق جمال مختلفة في العالم، وليس فقط تقديم وجهات نظر تقدمية، بداية من البطل الإيجابي وحتى النظرة الرفيعة للمرأة، التي جعلت كمال رمزي يغرم بفيلم “الآنسة حنفي” لإسماعيل ياسين، الذي اكتشفه برنامج “ذاكرة السينما” في التليفزيون، الذي أعاد اكتشاف عدد من أفلام مهمة في السينما المصرية. والبرنامج نموذج لإنجازات الصداقة، فالبرنامج من إعداد علي أبو شادي وحلقة “الآنسة حنفي” ضيفها كمال رمزي، وهما معًا وضعا الفيلم على خريطة مشاهدة عمومية بما فيه من اكتشاف لقوة مختلفة للأنوثة وسخرية مبطنة من الرجولة الخشنة.
الفيلم بالنسبة لكمال رمزي موديل لأفلام تشحن المتفرج بطاقة قوة “أفلام إيجابية” تجعلك تخرج أقوى بعد ساعتين في الظلام. وهذه علامة أساسية من علامات “الفيلم الجيد”.
وعلامة أخرى هي الاعتراف بالغرائز كحقيقة وليست اتهام كما في أفلام المدرسة الطبيعية “رنة الخلخال” و”امرأة في الطريق”. علامات أغلبها تهتم بالموضوع، لكنها أيضًا تشير إلى فكرة “الصناعة الجديدة”. نظرة هي خليط من “الانطباعية” و”الواقعية”، تتعامل مع مغامرات اللغة البصرية على أنها “شطحات شكل”، وهو ما جعلنا نختلف أنا وكمال رمزي على أفلام سعيد مرزوق، وجعلته أيضًا ينسى يوسف شاهين في قائمة السينما المفضلة. وهذه واحدة من نوادر هروب كمال رمزي من غواية الجيل الأول من نقاد السينما. الأدق أنهم جيل تمهيد الأرض الواسعة للنقد، وكانوا تحت وطأة تمهيد الأرض يتحركون بمنطق “العمليات الفدائية” يبحثون في السينما عن إشارات الثقافة الرفيعة أيضًا، تعبير عن مفهوم يرى الفن تابعًا لمؤسستين كبيرتين هما السياسة والفكر. الفن أقرب إلى نقوش على جدران معبد كبير تروج فكرة أو تشرح فلسفة. بمعنى آخر الفن هو زهور التعبير عن الحب وليس الحب نفسه.
هذه النظرة تحتقر- تقريبًا- ما يسمى “الثقافة الشعبية” تضعها في مرتبة أدنى، ومع أن هذا “الجمهور العادي” هو هدف الرسائل الكبرى و”بيانات المعرفة” فكل ما يحبه ويهواه على الشاشة هو “أفيون الشعوب” وبضاعتها الاستهلاكية.
كمال رمزي ابن هذه النظرة، لكنه مختلف قليلاً.
قريب إلى سامي السلاموني الذي لم يكن “من النقاد الأرستقراطيين الذين يتعففون عن التعرض للأفلام الهابطة، بل كان يرى أن من واجبه كناقد أن يقيِّم العمل السينمائي المعروض على الجمهور مهما كانت قيمته، وعادة كان يجد الصيغة الملائمة وربما النموذجية للكتابة عن هذه الأفلام المتدنية”.
وقد كتب كمال رمزي عن سامي بعد رحيله، والتقط العلاقة بينه وبين مكان ولادته (قرية في الدقهلية اسمها سلامون القماش شهيرة بصناعة السجاد اليدوي للفلاحين الفقراء). و”جاء سامي إلى القاهرة مع نهاية الخمسينيات محملاً بتراثها وقيمها، فلم يعرف طول حياته سوى المجاهدة في العمل، ينسج مقالاته بدأب محاولاً أن تكون زاهية الألوان، مبهجة، تدفع قارئها إلى الابتسام مهما كان “فقر” الأفلام التي يتحدث عنها”. ربما لأنه “خريج أزقة وحواري”. وهي كلمة كمال رمزي الشهيرة. أو طريقته في مدح شخص يحبه “أنت مثلنا؛ خريج”. بالعادة تكون قد تعودت على الكلمة فتكملها بينما يضحك بصوت عالٍ وكأن هناك اتفاقًا مسبقًا على أن هذه علامة تميز أو مبرر جاهز للجودة.
ومع انتقالاته الاجتماعية ومغادرته “أرض النعام” التي زحفت فيها الطبقة الوسطى من الحرفيين الشطار على جزر الأثرياء مع انفجار الطبقات عقب يوليو 1952. جزيرة الأغنياء أصبحت مخيم أحلام الصعود الطبقي. وكمال رمزي الذي يسكن الآن في مدينة نصر، ملجأ الهاربين من زحام الطبقات في المدينة، ما زال يكره الحياة المرفهة ويعتبر الانتساب إلى الأزقة والحواري “دليل” الكتابة الحقيقية، وربما هذا سر إعجابه بفيلم أجمع عليه النقاد رفيعي المستوى أنه نموذج تدهور الذوق وانحطاط الثقافة. لكن كمال رمزي أحب “اللمبي”. هو صورة بطل هامش لا يقدم رحلة الصعود البلهاء كما في أفلام “النمر الأسود” و”همام في أمستردام”. اتفقنا في “اللمبي” الذي رأيته: بطل خارج السياق، صعلوك، فاجومي، غير مهذب، يعلن سخطه على الجميع، ربما يفتقد الفيلم إلى عناصر السينما الجيدة، وهي سمة في الأفلام “الناجحة” تقريبًا. إلا أنه كان أقربها إلى الصدمة التي لم يتحملها المرفّهون أخلاقيًّا. كيف نحتمل هذا المسطول، الذي لا يختفي وراء أحد أقنعة الطبقة الوسطى؟ كيف يحتملون هذا المنفلت عن التوافق؟ هذه الصورة المؤرقة لنفايات مدينة حديثة في المجتمع، لا شكله ولا لغته ولا أخلاقه العنيفة تناسب أصحاب الصورة اللزجة التي تلعب في مساحة المعاني والقيم السائدة. خشونة اللمبي المطرود من المؤسسات، أعجبت ناقدًا من “الزمن الجميل” في السينما، والتعبيرات الأخيرة هي “قاموس” الهجوم على سينما هذه الأيام، لكنه هجوم نوستالجيا، يعلي من كل الماضي ويكثف شعور الغربة الذي يعيشه كمال رمزي “زمن غير الزمن”. لم يتكيف كمال رمزي رغم أن هذه سنوات حصاده أو مجمع خبراته، الذي يمكن أن يرى في مراياه صورة مختلفة، لكنها على ما يبدو طريقته في النظر إلى الحياة: رجِل في الواقع ورجِل في الكتب. وكلاهما صنع منه الآن رجلاً حزينًا ينظر أمامه بغضب.
5
تتصور دائمًا أنه يعرف أكثر مما يقول أو يكتب. وتتوقع له تاريخًا مختلفًا. تخيلت أنه كادر في تنظيمات اليسار تحت الأرض، أو محرك جماعات طليعية في السينما، أو كاتب لم يعرف طريق الوظيفة، وتصدمك الحقائق. كمال رمزي لم يعرف الطريق إلى التنظيمات تحت الأرض أو فوقها، عرف جماعات السينما الجديدة عبر صداقة مع أفرادها، وأخيرًا استمر في الوظيفة (إخصائي الفنون المسرحية بوزارة الشباب) حتى وقت قريب. وفي الوظيفة لم يعرفوا لسنوات طويلة أن كمال رمزي، الذي يوقع مقالات في نقد السينما هو زميلهم الطيب الودود، الحريص على الالتزام والاتقان؛ اكتشفوها بالمصادفة، عندما ظهر في برنامج تليفزيوني. لم يرتبط بصحيفة طول عمره إلا مجلة “فن” التي اتفق رئيس تحريرها معه أن ينشر كل ما يكتبه على ألا يرى اسمه في مطبوعة أخرى. 10 سنوات كاملة خرج فيها كمال رمزي عن حياة “الهواية” إلى حياة “نصف الهواية.. نصف الاحتراف” في الصحافة. الوظيفة أنقذت حياته العائلية، صنعت الاستقرار، وأضفت على شخصيته بعضًا من طبيعتها.
اختار كمال رمزي الوظيفة بعيدًا عن “وزارة الثقافة” فهي “المؤسسة” التي لا يتحملها، قال لي: لا أدين الآخرين الذين اختاروا العمل بها، لكنني حر بعيد عنها”. هو أقرب إلى الباحث في معمل، يحصل على عينات من الواقع ليحللها. وهذا سر مهارته في كتابه البورتريهات عن أبطال السينما، يمعن في تحليل أصولهم الاجتماعية باعتبارهم “منتجات ثقافية” وليست نبتًا فرديًّا من الفراغ. بارع في صناعة البورتريهات ومغرم بتتبع مسارات النجم، وتدهشه نجومية فريد شوقي في “الترسو”. يحاول أن ينصت إلى رغبات جماعية يخفي تحتها نزعاته هو.. لا يحب الكلام عن ذاته، وهذا سر آخر من أسرار كراهيته للصورة الشخصية.
يهرب من الكلام عن نفسه، ويتحدث دائمًا باستخدام “نحن”. هل هو “مندوب الأغلبية” أم “خايف من الإعلان عن نفسه” أم يخفيها كي لا تكون موضع السؤال والنقد. هي أخلاق باحث أو محلل في معمل. يحب الواقع، لكنه يجره إلى مكتبه ليراه ثم يحب أن يتكلم عنه أمام الجمهور، يتكلم عن الاكتشافات ليفتح عين لا ترى السينما مع أنهما مفتوحتان تمامًا.
كمال رمزي ابن الرؤية الواضحة والحكايات المحبوكة. والصنعة الباهرة. وهذه ثقافة تبدو كلاسيكية الآن، لكنها في لحظة دخوله عالم النقد، كانت ثقافة استكشاف ووضع ملامح لأرض أخرى، كانت مفقودة.
الجيزة، الهرم. أبريل 2007
صدمة يحي حقي في أرض النعام
– كنا نتكلم عن علاقتك بالكتابة.. وأشرتَ إلى أنك تكتب الآن من 40 سنة.. لماذا تتذكر الرقم بهذه الدقة؟
لأنهم فعلاً 40 سنة!
– هل تعرف أن هذا هو تقريبًا عمري الآن(كان ذلك في 2007).. أي أنك بدأت الكتابة قبل أن أولد.. هل تتذكر العام بالتحديد؟
سنة 64
– تتذكر بدقة مدهشة.. رغم أنني أعرف أن ذاكرتك فيما تتعلق بالأرقام ضعيفة؟
كان أول مقال يُنشر لي في مجلة رفيعة الشأن، هي مجلة “المجلة” التي يرأس تحريرها يحيى حقي، والمقال كتبته بصعوبة وفي عدة شهور.. نشرت مقالاً قبل هذا، لكن أرتبط مقال “المجلة” باختبار حقيقي ولهذا اعتبرتها البداية وأحب أن أحكيها؛ لأمنح حق رجل جميل في حياتنا هو يحيى حقي.. أعطاني أول درس في حياتي.. كان فؤاد دوارة سكرتير التحرير ووافق على المقال.
– المقال في السينما؟
عن كتاب (الأدب والثورة) للدكتور لويس عوض.
– ومتى ظهر يحيى حقي في الحكاية؟
سمعت صوته.. كان ينادي عليَّ وأنا أخرج من الباب، بحثت عن مصدر الصوت وكان هو يجلس كعادته على مقعد أسيوطي منخفض يسند ذقنه على عصا، ويضع رجله تحت مقعدته والرِجل الأخرى يتركها حرة، اقتربت منه، فقال لي: اسمك إيه؟ ونادى على حسان حسن مصطفى.
– من؟
موظف في المجلة.. طلب منه يحيى حقي أن يحضر مقالي، وطلب مني أن أجلس على مقعد بجواره، وقال: اقرأ المقال بصوت عالي.. بدأت في القراءة، وما زلت حتى الآن أتذكر أول جملة: الأفكار الواردة في المقال المعنون بعنوان كذا بمثابة عملية استكشاف للأفكار الأكثر تكاملا الواردة في مقالة كذا بنفس الكتاب.. يحيى قال لي: لماذا كلمة بمثابة أو عملية.. وليه تعيد ذكر اسم الكتاب، ثم ما كل هذه الواوات التي تكتبها في المقال.. وطلب مني حذف أشياء، وبالفعل بعد أن حذفت من الجملة ما طلب ..وجدتها أكثر سلاسة، ومع تكرار الحذف أصبحت أكثر إحكامًا ودقة،وتكررت العملية مع الجملة الثانية والثالثة، ثم قال لي: روَّح البيت النهاردا وأقعد اشتغل في المقال وشيل كل الواوات وكل الكلمات الزائدة وهاتهولي مرة ثانية.. طبعًا بالنسبة لي كان درسًا قاسيًا جدًا؛ لإنني اعتقدت أن المقال سيُنشر كما هو.. وارتحت، وخرجت من عند يحيى حقي وأنا أمام عملية إعادة صياغة، القاهرة يومها كانت أصغر من خرم الإبرة.. لكنني في البيت قمت بالتعديلات واكتشفت أن المقال أجمل.. وعدت إليه ونُشر المقال بالفعل، كان يحيى حقي رجلاً حنونًا ورقيقًا جدًا، ورقته مغلفة بالدقة والصرامة الإدارية، يوجهك بطريقة تخلو من القسوة المعلنة.
– هل قبلت توجيهاته لأنه يحيى حقي أم لأنه رئيس التحرير؟
كان كلما يقول لي على شيء، اكتشفت فورًا أنه الأدق، وكانت مقاومتي غير المعلنة نابعة من تصوري أنني بذلت مجهودًا ضخمًا جدًا، وأن كل شيء كان مكتملاً.
– هل كنت تقبل الملحوظة من شخص آخر؟ هل كان يحيى حقي وقتها يمثل لك شيء أكبر من رئيس تحرير؟
كان بالنسبة لي رجلاً مثيرًا للإعجاب والدهشة، كنت أقراه واستغرب جدًا من البساطة التي يتكلم بها في مقالاته.
– هل كنت تعرفه من قبل؟
أعرفه ككاتب، وكانت هذه أول مرة ألتقي به، وربما لو جاءت الملحوظة من شخص في مثل عمري كنت رفضتها بشدة.
– وقتها كنت تفضل حكمة الشيوخ؟
ليس بشكل مطلق؛ لأنني نزلت من عند يحيى حقي وأنا أشعر بقدر كبير من الكدر تجاهه لأنه كشف لي مدى الوهن الموجود في المقال، ربما بعد فترة أدركت أهمية ما فعله معي، وهو قال لي عندما تكبر في السن وتصبح في مثل عمري ستعرف أن ما أقوله لك في صالحك. كنتُ أراه أيامها رجلاً كبيرًا جدًا، أيامها لم يكن قد وصل بعد إلى سن التقاعد (المعاش)، وسأعترف بشيء غريب جدًا: ما زال يحيى حقي هو القارئ المتخيل بالنسبة لي، يتراءى لي طيفه أمامي، وأقول لنفسي لو يحيي حقي قرأ هذا سيطلب حذف كذا وكذا.
– كم كان عمرك وقتها؟
20 أو 21 سنة.
– كنت قررت أن تصبح كاتبًا؟
نعم.
– وماذا كان يعني لك أن تكون كاتبًا؟
وقتها كنت أكتب قصة قصيرة ومقالات نقدية، وأشياء من هذا القبيل، كنا مجموعة أصدقاء نحب الكتابة.
– مَن؟
من بقاياهم، رضا الطويل وماهر حافظ وأحمد حسني البشاري هذه هي مجموعتي الأولى، مجموعة الحي وزملاء الدراسة، هم سبقوني لأنني كنت متعثر دراسيًّا.. لا أجد ميولاً كبيرة في حساب المثلثات والميكانيكا والستاتيكا، كنت أعرف أيضًا إبراهيم أصلان. ومجموعة أخرى لم تكتمل، واختلفت المصائر.
– أين ذهبوا؟
بينهم أصدقاء أكثر تميزًا وثقافة مني.
– مثل مَن؟
بعضهم توفي وبعضهم لم يكمل.. وهذه أشياء غريبة.
– غريبة؟!
غريبة لأنهم كانوا أفضل مني بكثير وكانوا يستطيعون أن يأخذوا حياتهم مأخذ الجد أكثر من ذلك، وكان المتوقع أن يختاروا اختيارات أفضل في اللحظات المناسبة، لكن لأسباب متعددة اختاروا مسارات أخرى، من بينهم صديق اسمه طلعت همام، الله يرحمه، كان أذكانا وعقلية حية ومتوقدة ونشطة وملاحظاته النقدية ثمينة، لكنه كان دائمًا يختار اختيارات عشوائية تؤثر عليه تأثيرًا كبيرًا، لكنه في كل موقع يذهب إليه، يلاقي لمعانًا، وربما تتذكر أنت أشهر مدرس فلسفة وعلم نفس في الثانوية العامة وله مذكرات باسمه، وعدة مراكز باسمه للدروس الخصوصية، وشنت وزارة التربية والتعليم حربًا قوية عليه، هذا هو طلعت همام، الذي كان يفاجئنا دائمًا بحكايات مدهشة، آخرها أنه توفي قبل سنوات.
– هل تذكر أسماء مؤثرة عليك في تلك الفترة؟
في البدايات يحيي حقي، ثم كان هناك شخص عظيم جدًا له أثر هائل على جيلنا كله، هو عبد الفتاح الجمل، كان مشرفًا على الصفحة الأخيرة في جريدة المساء ويتمتع بحس إنساني وأدبي مرتفع.. لم يكن يقيم وزنًا للأسماء الكبيرة ويشجع باستمرار الأسماء الجديدة، ولا يوجد كاتب في جيلنا لم يمر من بوابة عبد الفتاح الجمل. تعرفت عليه في نفس الفترة ونشر لي أول مقالات في نقد السينما في المساء. أذكر أيضًا من بين أسماء الذين فتحوا أمامي أبواب لا يُستهان بها، فاروق عبد القادر أثناء إشرافه على ملحق الطليعة، كنا أجرينا حوارات أنا ومهدي الحسيني مع نعمان عاشور وألفريد فرج.. تعرفت على مهدي في المعهد، الذي دخلته وأنا عمري كبير بعض الشيء 20 عامًا، بسبب جولاتي الدراسية الخائبة كما قلت لك، المهم نشرنا الحوارين في مجلة المسرح عندما كان فاروق عبد القادر سكرتيرًا للتحرير، وبعدها بسنوات سافرت للعمل في المنصورة، وعندما عدت قابلني فاروق مرة وطلب أن أكتب في الطليعة، وكانت هذه فرصة مميزة بالنسبة لي.
– ما هو تصورك لفكرة الكاتب وقتها؟
تصور غريب جدًا، أنا كنت من عشاق السينما والروايات، لكن باستمرار أبحث عن سر جمال الرواية أو الفيلم، أريد أن أعرف لماذا هذه الرواية جميلة، ولماذا الأخرى رديئة، ومن هنا بدأت مسألة البحث عن كلام مكتوب عن الرواية التي أقرأها أو الفيلم الذي أشاهده.. تمنيت ساعتها أن يكون لدي قدرة أن أقول هذا العمل جيد وهذا رديء.
– مَن اللامعون في كتابة النقد أيامها؟
الدكتور محمد مندور في مجلة المجلة، يكتب عن كتب، والدكتور محمد غنيمي هلال، يحيى حقي نفسه وسعد الدين توفيق الناقد الذي كنت اقرأ له بانبهار شديد جدًا، كيف يكتشف الفكرة الموجودة في رواية أو مسرحية. ولم أتخيل أن يكتب أحد كتاب كامل عن فنان، وفوجئت بكتاب “عزيزي شارلي” لكامل التلمساني عن شارلي شابلن، وبُهرت به، كيف جعل من الممثل الكوميدي قيمة رفيعة، عبر تحليل مشاهده ودلالتها، هذا ما أبهرني في هذه المهنة.
– هل كنت تنظر إليها على أنها مهنة؟
نعم.
– منذ متى؟
وعمري 18 سنة تقريبًا.
– قبل دخولك معهد المسرح؟
طبعًا.
– هل قررت من البداية أن تدرس في قسم النقد؟
كان أملي وقتها لأنني حصلت على الثانوية العامة في 3 سنين وليس في سنة واحدة، كان المعهد حلم صعب، الوصول إليه عسير، وسبقني إليه زميل دراسة كنا نحلم بالمعهد معًا، لكن المعهد كان أول نجاح لي في حياتي. تقدمت طابورًا طويلاً من المتقدمين، وكان هذا أول نجاح لي بعد فشل طويل مزمن سابق لدخول المعهد.
– لا يبدو عليك أنك كنت من المتعثرين في الدراسة!
كنت مدمن سينما، ولم يكن هناك فرصة لمشاهدة السينما إلا في وقت الدراسة، وكنت أزوّغ للذهاب إلى السينما، وكان وقتها في 1957 و1958 موجة من الأفلام الرائعة جدًا جدًا، مثل (امرأة في الطريق) و (رنة الخلخال)، والعجيب أن هذه الأفلام حتى اليوم هي التي أذكرها بشكل دائم لا أتذكرها؛ لأنني تقدمت في السن، بل كنت دائم التذكر لها، مثل الأغنية الجميلة التي تقفز في ذهنك دون أن تقصد.
– ما الذي يعجبك في الأفلام؟
أنها عالم كامل، تتفرج عليه في ساعتين، ما زلت حتى اليوم يأتي لي صوت زكي رستم في نهاية فيلم (امرأة في الطريق) وهو يقول: “ولدي يا حسانين يا ولدي” هذا السحر المذهل يصيبني بالجنون.
– ألم تكن لك علاقة بالمسرح؟
لم يكن المسرح واردًا، وإن كان والدي يصحبني معه إلى المسرح، وكان هناك اختلاف في الأمزجة بيننا، لم أكن أحب مسرح يوسف وهبي، وهو كان مغرمًا به، مرة أصريت على أن أتفرج على مسرحية (بداية ونهاية) المعروضة على المسرح القومي، وهو نفسه أعجب بها، إنما السينما باستمرار كانت رحلتي المفضلة، سينما (سهير) في العباسية، سينما (كليبر) في عماد الدين، اختفت الآن سينمات كثيرة من القاهرة.
– أين كنت تسكن؟
في عين شمس.. في أرض النعام.
– هل تعرف لماذا سُميت بهذا الاسم؟
لأن عددًا كبيرًا من الأجانب سكنوها وكانوا يربون نعام فعلاً، كانت منطقة الأثرياء، حتى قامت الثورة وقررت بناء مجمعات سكنية، لصغار الموظفين وصغار العمال، ولا يزال بيت والدي موجودا في أرض النعام. بيت 80 أو 85 متر من دورين، ونحن كنا بداية زحف جحافل الطبقات المتواضعة على منطقة الأثرياء، وهي منطقة جميلة، فيها حدائق واسعة، وقصر الأمير يوسف كمال، الذي كلما مررت حوله حتى الآن أشعر بالأسى الشديد جدًا.
– ماذا حدث في القصر؟
القصر كان تحفة معمارية، وفي المدارس نظموا رحلات لنتفرج عليه، أدهشتنا ونحن صغار التماثيل والأسود المحنطة؛ لأن الأمير يوسف كان من هواة الصيد ويحنط الحيوانات التي يصطادها. السلالم نفسها كانت نوعا من الفلين، القوي جدًا والطري جدا.. ما حدث لهذا القصر يؤرخ إلى إحدى آفات مصر في عدم الحفاظ على تراثها؛ لأنه ظل يتدهور من سيئ إلى اسوأ حتى أصبحت التحفة الجميلة محاطة بمجموعة من البنايات الدميمة لشيء اسمه معهد الصحراء، وفي فترة من الفترات تحولت هذه الحديثة أو جزء من الحديقة الغناء التي كانت تحتوي أندر أنواع النباتات بالإضافة إلى بطارية دواجن. وعندما تسير الآن لن ترى القصر، القصر محاط بمبان.. مبان.. نموذج للقبح، والعجيبة أن دورات مياه هذه المباني هذ التي تطل على الشارع من الخارج، ونتيجة للإهمال التقليدي في أعمال السباكة ستجد آثار الماء المتسرب على الجدران، منظر بشع جدا، وهناك قلة قليلة هي التي تعرف أنه كان هنا قصر الأمير يوسف كمال. وفي مقابله قصر آخر ظلت شركة مصائد الأسماك تقتطع منه جزءًا فجزءًا إلى أن قارب على التلاشي.
– كيف كان موقع عائلتك في هذا الزحف الطبقي على منتجعات الأثرياء؟ كيف كان شكل عائلتك؟
والدي كان ميكانيكي سيارات، من النوع الكسيب الذي لا يقيم وزنًا للغد، لم يكن يعمل حساب للمستقبل ولا لمستقبل أولاده، وفي هذه الفترة أتت مجانية التعليم وأصبحت مسؤولية التعليم على الدولة. والدولة حملت مسؤوليات كثيرة على أكتافها وبالتالي دوره تضاءل من ناحية الرعاية أو من ناحية أثاث البيت، هذه أشياء كان أبي غافلاً عنها، والحقيقة أمي هي التي حملت العبء كاملاً، كانت امرأة من الصعيد تعليمها أقل من المتوسط وإنما خبرتها بالحياة وقيمها كانت مرتفعة جدًا، هي التي ربتني أنا وأختي، وكانت تستخدم معنا أسلوبًا عندما قرأت فيما بعد في علم النفس اكتشفت أنه أسلوب علمي مهم، رغم أنه كان على ما يبدو من عادات الصعايدة، فقد كانت أمي تُجلسنا على الكنبة أنا وأختي، وتجلس أمامنا، بحيث يكون مستوى عينيها في مستوى نظرنا، ثم تبدأ في تلقيننا أشياء على درجة عالية من الخطورة، وتبدو بالنسبة لنا أنها تكلمنا على مفاتيح مهمة جدًا، كانت تقول: أنتو إخوات ومالكمش غير بعض.. لو كان فيه بلحة لازم تقسموها بالنص.. الواحد لما بيتخبط بيقول أخ، يعني بينده على أخوه.. حتى بعدما تتجوز البنت ؛طالما أخوها بيزورها، زوجها يحترمها.
كنت وقتها مخضوض، أشعر أنها تقول شيئًا لا أقدر على استيعابه بشكل كامل، تقول لي مثلاً “عيب جدًا أن رجل البيت ياكل بره البيت، لازم ياكل في وسط أولاده، الرجل الكويس ما يقدرش يبلع حاجة ابنه ما يبلعهاش”، والعجيب أن في هذه الفترة عندما أخرج مع والدي أحيانًا يخطر في ذهنه أن يدخل أي مطعم، أدخل معه لكنني لا أستطيع الأكل، كلام أمي مؤثر في، هي التي علمتني قيم كثيرة، وفي حياتي العائلية تلافيت المتاعب التي كان والدي يسببها للأسرة.
– كيف؟
مثل كل جيلي الآن.. أعمل حساب مستقبل أولادي.
– هل يمكن اعتبار أسرتك تقليدية؟
آه أكثر من تقليدية.
– رجل عامل وأولاده تعلموا.. حتى أختك؟
نعم.
– أمك لم تكن تعمل؟
هي التي أصرت على استكمال التعليم، والدي كان يقول مفيش مشكلة ممكن يجي معايا الورشة ويتعلم..
– في هذا الجو العائلي التقليدي، من أرشدك إلى القراءة؟
ممكن يكون والدي، كان فيه شيء غريب، ورغم أنه لم يكن متعلمًا كان يمكن أن يظل يقرأ في رواية من سلسلة “كتابي” التي كان يصدرها حلمي مراد حتى الرابعة صباحًا، ويقرأ لوالدتي مقاطع مما يقرأ. أوقات أكون مستيقظًا فتنتابني حالة شغف شديدة جدًا بهذه القصص، هذه كانت أول خطوة في حب الحكاية.
– كيف سارت رحلة القراءة فيما بعد؟
في البداية عشوائية، اقرأ أي شيء يقع تحت يدي، بينها مجلتين أتابعهما بانتظام، الأولى هي “الشرق” وكانت أميل إلى الاتحاد السوفيتي، وتنشر قصصًا لتولستوي، ومكسيم جوركي، والمجلة الثانية هي “المختار”.
– الأميل إلى أمريكا؟
فعلاً.. كنت اقرأ كليهما، والأهم بالنسبة لي وقتها مكتبة محمد عبده في الزيتون، كانت مهمة في القراءة التي ظلت عشوائية يتخللها إشارات إلى روايات نقرأها أنا وأصدقاء الحي ونرشحها لبعض، ومن هنا اكتشفنا آفاقا أرحب والتفتنا إلى دور نشر تصدر ترجمات مهمة، فأصبح إنتاجها هو دليلنا، كنا نقرأ أي كتاب عليه اسم دار اليقظة السورية، من إصداراتها قرأنا بشغف شديد جدًا رواية اسمها (الساعة الخامسة والعشرون) في هذه الفترة عرفنا من الكتاب الأجانب عدد لا يستهان به، واستولى علينا لفترة ليست قليلة الأدب الروسي، وديستويفسكي بالتحديد، الأدب في هذه الفترة كان يأخذنا.
– هذه الأيام كانت الثورة في عزها؟
في الفترة من 1955 إلى 1965.
– أستطيع أن أقول بأنك ابن الثورة؟
بالتأكيد.
– بأي معنى؟
كانت كل أحلام الثورة وأفقها الواسع كانت أحلام شخصية.
– كيف؟
حلم أن نصبح دولة كبيرة.. وعندنا صناعة، وأن يطلع من عندنا أدباء ومفكرين، حلم أن تصبح البلاد العربية كلها مترابطة، وتتحول إلى مساحة واحدة وأفق وأحد. نتحرر ونكون أقوياء، كلها كانت أحلام شخصية جدا، في 56 المسألة بالنسبة لنا معركة شخصية، كنا أطفال، عمري وقتها 12 سنة تقريبًا، أتذكر روح التعاطف، في تلك الأيام، وكنا في المسكن قريبين من طريق السويس والإسماعيلية. نستقبل الجنود في طريق عودتهم، منطقتنا كانت محطة من المحطات، والجندي يكون في أشد الاحتياج إلى كوب شاي، وأتذكر جيدًا كيف كنت أحمل الأبريق ويحمل أصدقائي الصواني والأكواب لأقدم الشاي إلى العساكر.. يلفت نظري تعاطف السيدات مع العساكر وكل منهن ترى في العسكري ابنها، قلبي كان يخفق مع كل شيء يمس الوطن. ولهذا أشعر بدهشة من الأجيال الجديدة التي اجتاحتها النزعة الفردية.
– ماذا تقصد بالنزعة الفردية؟
أنت لاحظت من قليل أنني أقول دائمًا نحن، الآن لا أسمع كلمة نحن، أسمع كلمة أنا، هذا جانب، والجانب الثاني أنك لو سألت شباب هذه الأيام عن طموحه سيحدثك عن طموحه الشخصي، لا يكلمك عن طموح وطنه.
– زمن مختلف.. كيف تكوَّن وعيك أنت بالقضايا العامة؟
كنا نتابع خلال كلام الآباء وكلام الناس أخبار الثورة، كان عمري وقتها 8 سنين، ونتابع أنباء جمال عبد الناصر ومحمد نجيب.. اختفاء محمد نجيب، ثم عودته، القلق من صعود عبد الناصر ثم تسلله إلى القلوب خطوة خطوة، حتى أصبح جمال عبد الناصر المحبوب.
– كيف تعبر عن حبك لعبد الناصر؟
عادي.
– كنت تعلق صورته؟
لا.
– كنت تغني له؟
لا.
– خرجت في تظاهرات تأييده؟
كنت أخرج في المظاهرات لكن لم يكن لأسباب وطنية خالص، كان نوعًا من الفرح بالانتهاء المبكر لليوم الدراسي، لم يتحول حب عبد الناصر إلى سلوك، كان موجودًا في القلب فقط. ثم بدأت المسائل تتغير بعد 67.
مقعد بجوار الموت في المنصورة
– كلمتني كثيرًا عن تجربة المنصورة.. ماذا تعلمت منها؟
أشياء كثيرة.. كثيرة جدًا وبقيت في ذاكرتي كجمل عابرة. لكنها أنارت لي جوانب كثيرة من الحياة، أتذكر مثلاً امرأة كانت تعمل عندنا في بيت كنا نستأجره أنا وأصدقاء في المنصورة، عملت عندنا فترة، ثم ارتكبت خطأ لا أتذكره الآن، وكان أحد الزملاء يتمتع بقدر من الشراسة، فطردها، وفوجئت بها تحمل طفلها وحقيبة ملابسها المتواضعة وتستعد للرحيل، فقلت لها إن الدنيا تمطر. وحاولت أن أخذ منها الحقيبة والطفل لتنتظر إلى الصباح، وقلت لها: أين ستذهبين في هذا الجو وهذه الساعة؟ لكنها فاجأتني بجملة لا أنساها. قالت: يا خبر أبيض الدنيا الواسعة دي كلها مش هاتساعني والبيت الصغير ده هو اللي ها يسعني. وفعلاً غادرت البيت وكانت مبتهجة. هذه من ضمن الدروس التي تعلمتها، هناك قابلت شخصًا اسمه ماهر رضوان في بلد اسمها (بدواي) رجل غريب جدًا، يصر على أن تصبح قريته قرية كبيرة، يدفع كل أمواله ويجمع أموال من الناس لكي يُنشأ فصول إعدادي ثم ثانوي، وتدرج حتى أصبحت مدرسة ثانوية، كنت أتعجب من إصراره، يعمل مدرسة ويبذل مجهودًا لتقام في القرية وحدة صحية، ويتعارك لكي تكون قريته أفضل حالاً، ويعمل خناقات لكي يقف القطار أمامها، نماذج من البشر لا يمكن أن تصادفها إلا عندما تنزل إلى الواقع وتتوغل فيه.
– كانت المنصورة تقريبًا قبل 67؟
لا بعد 67.. بالتحديد أواخر 68 وحتى 71.
– أي أنك كنت بدأت هناك..
بالنكسة.
– كلمتك عن 67 وقلت لي نتكلم عنها فيما بعد.
طبعًا كانت تجربة فاجعة، تراجيديا كاملة الشروط لأن الآمال كانت ضخمة والهزيمة أضخم، كل جيلنا حتى اليوم هناك شرخ في قلبه من الهزيمة.
– أين كان موقعك في كل هذا؟ كيف كنت تفكر في مستقبلك والثقافة وفي السينما؟
كان كله عن الهزيمة.
– كيف كانت حياتك تسير وقت الحرب؟
كنت في السنة قبل الأخيرة من المعهد، وتطوعنا كلنا أنا ومجموعة من المعهد في معسكر بنادي الشمس، وبالفعل بدأنا نتعلم كيف نتعامل مع الكلاشينكوف (ماركة بندقية روسية شهيرة وقتها) بدأنا في يوم 7 يونيو، وفوجئنا في يوم 9 بخطاب التنحي، سمعناه في المعسكر، وحدث نوع من الهستيريا، انهيار عصبي وصراخ. ثم أتوا بسيارات نقل وخرجنا في المظاهرات الكبيرة الرافضة للتنحي، استمرينا حوالي شهرين في المعسكر حتى تم وقف إطلاق النار ثم حرب الاستنزاف. وقتها بدأت السفر إلى المنصورة، وهناك رأيت حرب الاستنزاف بشكل مختلف، يكاد يكون سينمائي، ليس بمعنى أنني كنت أتفرج عليها من الخارج، بالعكس كنت داخلها، وما زال تأثيرها عنيفا إلى الآن، فتحت عيني على أبعاد جديدة في قضية الموت والحياة، وما زلت أتذكر جاري في القطار الذي كنت أسافر عبره إلى قرية (منية النصر)، كان مرتبكًا، ويردد بصوت مسموع: مش عارف أقولهم إيه. أخرجت سيجارة من علبتي وأعطيتها له، فأكمل: أنا امبارح كنت عند أخي في الكاب، وهي منطقة تتعرض دائمًا للغارات، سافرت له بعد أن غاب لفترة طويلة وقلقت الأسرة عليه، فقررت أن أطمئن بنفسي، وبالفعل قابلته هناك، وعندما لاحظ قائد الوحدة أن الوقت تأخر؛عرض أن أبيت في المعسكر مع أخي، وفي الليل وقعت غارة، وخرج الجنود من الخيام، لكي ينزلوا الخندق، لكن أخي قبل أن يصل الخندق، جاءت له شظية ومات، والآن أنا عائد إلى البلد ولا أعرف ماذا أقول لهم. هل ترى حجم المفارقة الموجودة في الحكاية، الرجل المرتبك، الذي يجلس بجواري ذهب ليطمئن على شقيقه المجند ووجده حي وسليم، لكنه مات بجواره، ماذا سيقول لعائلته، حكاية لا أنساها أبدًا، كما لا أنسى عندما ذهبنا إلى سيناء بعد حرب 73 وفوجئت بأحجام الحدايات، كانت ضخمة جدًا، وأدركت أن كل الحدايات في المنطقة العربية توجهت إلى سيناء، وراء الجثث.
– أنت رومانسي وتحب الأفلام الواقعية.
هذه أفلام…. الأفلام الواقعية.
– تتلقاها برومانسية!
كيف تريدني أن أتلقاها؟
– أنت تتلقى الأفلام كما تتلقى الواقع..
تحليل حلو.
– لديك جهاز لاقط مضبوط على الرومانسية..
ربما.. أنا لا أستطيع تأمل ما أفعله، كل هذا منطقة مجهولة بالنسبة لي.
– ألم تفكر مرة في القفز في تلك المنطقة المجهولة؟
أتمنى، لكن لا أعرف كيف.
– كيف تحاسب نفسك؟
أنا راض عن نفسي، ليس هناك شيء فعلته يؤلمني، لم أغدر بصديق قط، لم أشعر بكراهية لأحد، ربنا أنعم عليَّ بمجموعة حلوة من الأصدقاء يمثلون درعًا بالنسبة لي.. هذه مكاسبي.
– السينما ليست موجودة نهائيًا!
لا.. موجودة، وأحد المكاسب المهمة أنني اشتغلت في مهنة أحبها، كنت عاشقًا لها وأجهدتني، وكان أحد مصادر البهجة بالنسبة لي هي مشاهدة السينما، ولا أريد أن أفصح بأنها كانت وراء عدم الذهاب للمدرسة، ثم انتظامي في مشاهدة السينما، وسفري إلى المهرجانات، كل هذه منح استحقها.
– هل كنت حامل رسالة؟
لا.
– ألم يقل لك أحد من قبل إنك تشبه الحمام؟
لا.. لا أتمنى أن أكون شبيها بالحمام، حتى لو كانت ملامحي تشبهه.
– كيف تصف مهمتك التي قلت لي قبل قليل إنك راضي عنها؟
ألا أغدر بأحد.
– فقط؟
لم أفكر في ما تسميه مهمتي في الحياة، يمكن أن تقول بأنني وجدت نفسي هكذا وعملت ما وجدت نفسي عليه، أي ذهبت في الاتجاه الذي أحبه، وحاولت أن أكون مخلصًا له، كانت المقالات النقدية في السينما في البداية عزيزة جدًا، وعندما يكتب أحد مقالاً كنت أتفرغ لقراءته، باستمتاع شديد جدًا، أتذكر الآن مقالاً في سلسلة كتب للجميع لكاتب اسمه الثاني هو (الدالي) عن فيلم (عائشة) لفاتن حمامة، هذا المقال أثَّر في جدا؛ لأنه التقط أن الفيلم مزيف ويُظهر الرجل الغلبان على أنه نشال يعلم أولاده السرقة بينما الرجل الثري الذي أخذ عائشة ليربيها، إنسان نبيل ولطيف ورائع ولا يبخل عليها، بينما الرجل الفقير يبتزه. كاتب المقال قال إن هذا لا يحدث في الواقع.. هذا النقد يفتح لك أفقًا، لم تكن في فترة البدايات مقالات نقدية، ووجدت نفسي أكتب بعد سنوات نقدًا سينمائيًّا إلى اليوم الذي وصلت إلى ما أنا عليه..
– إلى أين وصلت؟
إلى فقدان الحماس (يضحك ضحكة مقطوعة).
– فقط؟
لا أعرف، بالتأكيد سأعمل (يصمت) لا أعرف (صمت أخر) تعرف.. أنا أرى الدوامة التي نعيشها الآن صامتة ليست بوضوح هزيمة 67، أشعر أن قلبي مقبوض الآن، قبضة تذكرني بـ 67، لكنها دوامة غير ظاهرة، ليست ملموسة. عدوك في 67 أنت تعرفه وتعرف ملامحه وقدراته، لكن الآن المسألة مختلفة.. من هو عدوك بالضبط؟
عاشق الأزقة والحواري في أرض التوت
– هل اعترضت العائلة على اختيارك معهد المسرح مصيرًا لحياتك؟
والدي كان يفضل كلية الزراعة أو كلية المعلمين.. إنما أنا كان حلمي أني أدخل معهد المسرح الذي لم يكن يدخله سوى من يمتلك قدرًا من الثقافة.
– هل دارت مناقشات عائلية حول اختيارك الفن طريق حياة؟
لم يكن هناك كلام كثير حول هذا الموضوع، وأحد المزايا عندنا أن مساحة الحرية واسعة نتيجة لعدم الاكتراث وليس للديموقراطية، لم يكن لدى والدي مانعًا أن أعمل ميكانيكي أو كهربائي أو لا أعمل، لكنه كان يُفضل أن أكون مهندسا زراعيًّا؛ لأن كانت لديه شكوك أن أصبح ناقدًا معترفًا به.
– لماذا؟
ربما مسألة الكتابة لعدد كبير من الأسر مسألة بعيدة المنال، أن يجدوا اسم ابنهم موجود في الجريدة أو المجلة.
– هل عاش والدك حتى صرت ناقدًا؟
نعم.
– وكيف كان انطباعه؟
فرحان جدًا.
– وأمك؟
كانت حالة شعور بالانتصار في معركة حياة أو موت.
– هل كانت تريدك كاتبًا؟
تريدني ناجحًا، ومعيارها في النجاح طبعًا أنها شاهدتني في التليفزيون، لكن والدي كان يقرأ ما أكتبه.
– يعني عملت مصالحة عائلية؟
بالاستمرار لم تحدث خصومات، كان هناك حزن عائلي على وضعي التعليمي.
– من ناحية أخرى.. هل تتصور الآن أنك اخترت مهنة مفيدة؟
وأنا أتكلم معك اكتشفت أن له ضرورة وإنه شيء مفيد.
– لكنني لم أسألك عن ضرورة النقد.. لكن يبدو أن السؤال يشغلك.
يشغلني سؤال آخر: أين أنا من النقد؟ يسعدني من وقت لآخر إشارات بأهمية أو إعجاب بما أكتب، لأنك لا تمثل على خشبة مسرح وترى رد فعل الناس عليك، أنت تكتب ولا تعرف خريطة القراء، وماذا فعلت كتابتك معهم.
– هل تعتقد أن النقد مؤثر؟ ومتى اكتشفت أن مقال نقدي يمكن أن يُحدث تأثيرًا؟
في الفترة الأولى أقصد منتصف الستينيات، كنا نقرأ في كل الاتجاهات، وكان كل مقال يفتح الباب أمام أسئلة ومعرفة، فعندما يصف مقال فيلم بأنه “واقعي”، نسأل ماذا تعني الواقعية؟ ثم التراجيديا؟ الرومانسية؟ كل هذه المفاهيم اكتشفت أننا نحتاج أن نعرفها.. لم يكن وقتها كتب السينما-على ندرتها في تلك الأيام- هي وحدها المؤثرة فينا، كتب أخرى في نقد الشعر ونقد الرواية والمسرح.
– دفعتك في المعهد كانت لامعة؟
في دفعتي تعرفت على سمير ندا ومهدي الحسيني، وفي دفعة تالية حسن عطية، وقبلنا بدفعة سمير فريد.
– احكِ لي عن جو المعهد أيامها.
كان المعهد موجودا في الزمالك في فيلا جميلة قبل انتقاله إلى الهرم، والجو أيامها كان جو بوليسي وتحول إلى جو قاتم، وكنت تحس بأنفاس مباحثية في المعهد، كان لنا زميل لن أقول اسمه، كان ولد كويس جدًا ونقي جدًا، فدخلنا مرة صباحًا، وجدناه يجهش بالبكاء، فلما تقصينا عرفنا أن مباحث أمن الدولة استدعته وطلبت منه أن يتكلم عن بعض الزملاء، وينقل لهم ما يدور من نقاشات في المعهد، كان هذا هو الجو المقبض.
– هل الجو مقبض على الجميع أم على المشغولين بالسياسة؟
على كليهما، خاصة أن في المعهد كان هناك طلاب يعملون بالسياسة مثل فؤاد التهامي من الدفعة السابقة، ومهدي الحسيني من دفعتي، وهما من الشخصيات التي أحترمها جدًا.
– وأنت؟
لا لم أعمل في السياسة.. لكن كان عندي اهتمامًات سياسية.
– ما عناوين اهتمامًاتك في تلك الفترة؟
بالرغم من أن هذه الفترة كان فيها درجة عالية جدًا من العدالة إنما كنا نريد المزيد من العدالة.
– من تقصد بأنتم؟
مثقفين.. مهتمين.
– هل كنت عضوًا في التنظيمات السياسية؟
لا أبدًا.
– لكنك قريب إلى حد ما من اليسار. يسار شيوعي.. ماركسي؟
يسار ماركسي.
– ما الفرق؟
في تقديري أن التأثر بالماركسية هو تأثر فكري.. بالتحليل، لكن المثقف الشيوعي يحول هذه الأفكار إلى عمل يومي يعني يشتغل بالسياسة وينضم إلى حزب.. جماعة.. تنظيم أو تكتل، بالنسبة لي لم أدخل قط في تنظيمات.
– لكن كنت محسوبًا على هذه التنظيمات؟
ليس عندي فكرة، لكن عندما أرى نفسي أين أنا أرى أنني أنتمي لليسار بالشكل الواسع، وأفكاري في السياسة تجنح ناحية اليسار، وحتى تحليل الأفلام، تجنح ناحية اليسار.
– هل تتصور نفسك مندوب أو نائب عن الناس المطحونة وفق بعض مفاهيم سائدة ترتكز على الماركسية.. اسمع منك دائمًا تعبير إنك خريج أزقة وحواري (يضحك بصوت عالي) هل تنفي عن نفسك البرجوازية؟
سأقول لك على شيء، يسحرني نجيب محفوظ بشكل ملحوظ، يسحرني لأنه ليس يوسف السباعي، مع أنه كان يمكن أن يكون يوسف السباعي، عنده فيلا، وكان ممكن يلبس كرافتة وبدل من أرقى ما يكون، ومع هذا أحب الحياة البسيطة، لم يركب سيارة ويسير على قدميه، ويجلس في المقاهي ويشرب قهوة عادية ويختلط بالناس، إنسان بالغ البساطة عنده فضيلة الاستغناء. أنا تعجبني الحياة ليست المتقشفة لكنها الخالية من النعومة والطراوة، أنا جُبلت على هذا، والآن ابني وابنتي كل منهما عنده سيارة وأنا لا، ولا أحلم بأن يكون عندي سيارة، ولي أصدقاء يمتلكون أكثر من سائق، أنا لا أتخيل ماذا سأفعل مع السائق؟ لا أستطيع أن أتركه في الشمس مع أن هذه مهمته، حياة الخشونة فيها شيء جميل، طبعًا فيه فرق بين الخشونة وحياة الاحتياج، الاحتياج يؤلمني بشدة ويجعلني في أسوأ حالاتي عندما أرى امرأة أو رجلاً أو شابًا في لحظة احتياج، وبالتالي عندما أقول إننا خريجين أزقة وحواري، المسألة معنوية أكثر، أكثر من أنها حقيقة. أحب الشخص الذي يركب ميكروباص أو أتوبيس، هذه حياة فيها معرفة وفيها اشتباك مع الحياة، غير الحياة المرفهة.
– تحب الحياة الخشنة وتكتب عن الفن الناعم؟
(لم يلتفت لضحكتي) الناعم بمعنى إيه؟
– بعض الناس ترى أن السينما والفنون هي المنطقة المرفهة، التسلية، المتعة، لا يلتفتون إلى أن الفن هو إعادة ترتيب.
في الطبقات الشعبية عندها أبطالها النجوم، عندهم فريد شوقي، لفترات طويلة كان هو ممثل جمهور الترسو، أحب فيلم (جعلوني مجرمًا) جدًا، وأشعر بالمتعة في كل مرة أتفرج عليه، وهو فيلم عن بطل شعبي وحياة خشنة، وهذا يصبح معيار في قياس الأفلام.
– أفلام.. معايير!
مثل فيلم (الفتوة) أتخذه معيارًا أقيس عليه الأفلام الأخرى، وأحيانًا أجد أفلام أكثر حداثة منه لكنه أقوى منها، ولو أردت مثلاً شارحًا ستجد أن صلاح أبو سيف بحسه الشعبي والوعي العفوي جعلك تتعاطف مع فريد شوقي في البداية، وفي رحلة صعوده يقل التعاطف تدريجيًّا حتى تكتشف أنه الوجه الآخر لزكي رستم، وطلعت له مخالب وأنياب، وأصبح شرسًا جدًا.. فيلم آخر قُدم بعد عدة عقود من (الفتوة) هو (أهل القمة) لعلي بدرخان، يجعلك متعاطفًا مع البطل في رحلة صعوده، دون أن تدرك جريمته. وهنا يصبح (الفتوة) معيارًا للأفلام الحلوة، وكذلك (جعلوني مجرمًا) لا يجعلك تخرج من السينما وأنت تتصور أن الشرير وُلد وبداخله جرثومة الشر، ستدرك أن هناك ظروفًا هي التي تصنعه.
– كلها أسئلة اجتماعية..
بل معايير تقيس بها العمل الفني.
– هذه المعايير ليست سينمائية على ما أظن؟
أمامك شخصية تتحرك في إطار معين ولها علاقات مع بقية الشخصيات تسير بشكل منطقي مع الحياة، وهكذا. إلا لو كنت تقصد معايير فنية بمعنى لقطة كبيرة ولقطة صغيرة وكذا وكذا.
– أريد أن أفهم فقط..
فيلم مثل (الآنسة حنفي) أعشقه بشكل كبير، وستجد فيه إسماعيل ياسين يؤدي أداء تمثيليًّا بالغ الظرف، وفيه حيوية وحركة ومحاكاة ساخرة لمشاهد من فيلم (العزيمة)، وأعمال ويليام شكسبير، وهو في نفس الوقت فيلم اجتماعي متقدم جدا؛ لأنه يرفع من شأن المرأة.
– رغم أنك لا تعمل بالسياسة إلا أن عندك طريقة سياسية في النظر للعالم، وعندما كلمتك مثلاً عن الجو في المعهد لم تكلمني سوى عن المباحث!
هذا ما كان موجودا وقتها.
– لم تتعرف على أحد.. تتعرف على أفكار مدهشة أو صادمة لك.. لم تر محمود مرسي مثلاً.. ألم يكن في المعهد سوى البصاصين؟!
لو تكلمنا عن التفاصيل سنجد شخصيات تعلمنا منها أشياء عظيمة في المعهد، الدكتور فخري قسطندي أستاذ الأدب الإنجليزي، علمنا دروسا في التحليل، يتوقف أمام كل مشهد ويتأمله بدقة، فتكون رقصة الدانتيلا التي ترقصها نورا في مسرحية (بيت الدمية)، يقل عنها إنها قريبة إلى رقصة الطائر الذبيح المسكين الذي يقع في حبائل العنكبوت، تعلمت كثيرًا من دقته في التحليل. من الأساتذة المهمين أيضًا رشدي صالح ومحمود مرسي الذي لم تتطور علاقتي به إلا بعد فترة طويلة جدًا من التخرج، الذي أحببته واحترمته فعلاً كان عبد الرحمن صدقي “شاعر المرأة”، كان يتمتع بالقدرة على إبداء ملاحظات إنسانية جميلة.
– هل هذه كل اكتشافات المعهد؟
في الحقيقة المعهد في آخر سنتين كان يمثل لي عبئًا شديدًا، والحقيقة لا أريد أن أتكلم أكثر، المشهد تلخصه قصيدة لـماياكوفسكي، قصيرة جدًا عن ناس مثل الهوام ترتفع، دائمًا يرتفعون.. لماذا؟ ما السبب؟ ماياكوفسكي كتبها عندما تدهورت الأمور قبل أن ينتحر. وبعد مشوار طويل أرى بعض الوجوه التي قابلتها أيام المعهد، أقرب إلى الهوام ترتفع، وترتفع. ماياكوفسكي كان يعرف الإجابة على سؤاله لكنه رأى أن هذا ليس مجاله.
– لكن ماياكوفسكي لم يكن زميلك في المعهد.. لماذا بعد أكثر من 40 سنة تتحفظ على فهم ما حدث؟
كان عندنا معيد في المعهد كان شخصية مباحثية، وهو الذي ذهب بهذا الزميل إلى أمن الدولة، وزملاء آخرين لكي يتحولوا إلى وشاة، هؤلاء كان يمكن أن يلمعوا لكن أفسدوا، لهذا فالفترة الأخيرة من المعهد نسيت منها تفاصيل كثيرة، لكن يظل الإحساس جاثمًا بقدر كبيرة من القلق، هذه هي القبضة الحديدية للمؤسسات الأمنية التي جعلتنا في السنوات الأخيرة في حكم عبد الناصر نشعر بالضيق، رغم محبتنا له وإحساسنا أنه مثل الأب الأبدي، الذي لا نعرف متى ينتهي هذا الإحساس. اكتشفت بعد ذلك أن كل حكامنا لا يريدون أن يغادروا كرسي الحكم من أيام محمد علي وإلى الآن. كلهم خرجوا محمولين على الأكتاف، لم ينته منهم أحد نهاية حلوة، أبدًا. المهم أن هذا كان الجو، ووصل الأمر إلى كراهية المعهد ووزارة الثقافة كلها، رفضت التعيين في الوزارة نهائيًّا.
– مرة أخرى 1967؟
تعرف يا وائل لم تكن الضربة القاضية لكنها اللكمة المعذبة، أحدثت لنا عذابًا، كان بيني وبين الهذيان لحظة، لا أصدق، إحساس يشبه أنك دُفعت من أتوبيس، ووقعت وكان معك مبلغ من أجل عملية جراحية لشخص عزيز عليك جدًا فلما اترميت وأتخرشمت اكتشفت إنك اتنشلت.
– هذا على مستوى المشاعر.. لكن ماذا حدث على مستوى الوعي؟
أولا: جعلتني أؤمن بأن أحلامنا كانت صخر وأنها تحطمت وتناثرت لأنها كانت صح وليس خطأ.. ثانيًا: لا أثق في الصحف.. اقرأها، وأتأثر بها إنما في لحظة بيني وبين نفسي أعتبر إن كل هذا الكلام غير صحيح.. ثالثًا: ألا استخف بأحد أو بشيء، قبل يونيو 67 كان فيه نوع من الاستخفاف الشديد بإسرائيل، وقبل الحرب بيومين أو ثلاثة كل الناس تتكلم عن ماذا سنفعل بعد أن نصل إلى تل أبيب، كل هذا الاستخفاف أدى إلى النهاية، ماء مثلج على كل هذه المشاعر الساخنة!
– هل تغيرت أفكارك ونظرتك إلى السينما والفن والثقافة؟
كانت تبهرني طوابير الاستعراض العسكري، منظر المدرعات والدبابات، الآن عندما أضبط نفسي معجبًا أقول لنفسي فورًا: العبرة بالنهايات. ولهذا تقديري أرتفع جدًا لبعض الأفلام مثل فيلم (عازف البيانو)، فيه مشهدان الأول للقوات النازية وهي تدخل بودابست تتقدمها موتوسيكلات، ثم مدرعات ودبابات. مشهد جيش لا يُهزم، لكن في نهاية الفيلم لا ترى هزيمة هذا الجيش بل فلول من أسرى هاربين ممزقي الملابس، ثم رجل عجوز يخرج من بين صفوف المتفرجين يريد أن يخطف ضابط ويقتله لأنه هو الذي قتل ابنه.. أين ذهبت هذه العظمة؟ وأقول دائمًا العبرة بالنهايات.
– هل شعرت بأنك مهزوم في أفكارك؟
دائمًا أرى نفسي مع المهزومين ليس مع المنتصرين، وتؤرقني مشاهد غريبة مثل ثورة من فيتنام الجنوبية، قائد شرطة وهو يقتل شخص، هذه الصورة تزورني في الكوابيس، وأكون أنا طبعًا الطرف المضروب وليس حامل المسدس. وكما حكيت لك عن تجربة المنصورة، هناك لمست الهزيمة مع المهجرين من بورسعيد والإسماعيلية والسويس، ظروف تعيسة جدًا، أربع عائلات مثلاً يقيمون في فصل في مدرسة، تفصلهم ستائر من القماش، كنا ننظم نشاط لهؤلاء، وعندما نصل إلى مدرسة تسكن فيها 200 عائلة، ظروف بشعة ولا خدمات ولا مجاري، كنت تجد الشباب يقف بيننا، يرتدي كل منهم بنطلون جينز تتدلى منه مطواة. في هذه الفترة طبعًا عشنا أخلاقيات قد تكون أخلاقيات مجاعة، هنا لمست معنى هزيمة 67.
– مرة أخرى تكلمني عن الموقف وليس الوعي السياسي! لم تحدثني عن قراءات جديدة.. عن نظرة مختلفة للفن والثقافة!
ربما لأن اهتمامًاتي بأين يذهب المجتمع، له علاقة بالسياسة، والنظام في العالم، استرجع في ذهني باستمرار مناقشات عن الخطأ والصواب حتى وصل وضعنا إلى هذا القدر من الهوان، ليس بالنسبة لمصر فقط، بل بالنسبة للعالم العربي، وأنا مؤمن بالسؤال الذي وُجه إلى إبراهيم باشا في لحظة من اللحظات: أين ستتوقف مدافعك يا باشا؟ فأجاب إلى آخر رجل يتحدث اللغة العربية. وأنا ما زلت حتى اليوم مؤمنًا بأن الدول العربية لا تحتاج إلى وحدة على طريقة مصر وسوريا، بل على طريقة الاتحاد الأوروبي.
– أنت عاطفي في السياسة..
أزعم أنني عقلاني في السياسة وغير السياسة ودائمًا أحكم بالعقل.
– رومانتيكي؟
لا أعتقد.. إذا كنت تقصد بالرومانتيكية تغليب العاطفة على العقل، أحب أن أكون واقعيًّا.. في نظرتي لنفسي أقرب إلى الواقعية.
– هل حاولت أن تبحث عن أساس نظري للواقعية كمنهج نقدي؟
قرأت كثيرًا عن الواقعية، وأعجبني تصور بأن الواقعية ليست أن تصور الواقع بل أن ترى الواقع.. الواقعية هي معرفة الأسباب المؤدية للظاهرة وليس تصويرها. وهذا ما أبحث عنه في الأفلام.
– هل ما زلت واقعيا؟ ألم تتمرد على هذا المنهج وتحاول النظر بمناهج أخرى؟ وإن التجارب عصفت بالواقعية!
أنا لا أتحدث عن الشكل هنا، لكنني أبحث عن جوهر الواقعية وهو النفاذ ببصيرة إلى تحليل ظواهر الواقع، وفيلم مثل (البحث عن سيد مرزوق) أراه بشكل ما أقرب إلى الواقعية السحرية أو فيلم (أنياب) لمحمد شبل، هذين الفيلمين بمعايير الواقعية الشكلية ستخرجهما خارج الإطار، ولكن بالمعايير التي كلمتك عنها فهي أفلام واقعية.
– هل تعمل بالمنهج الواقعي حتى الآن؟
لا أعرف.. لم أفكر قط أنني واقعي أو غير واقعي، وباستمرار تكون عين على العمل الفني وعين على الواقع.
– متى أدركت أن النقد منهج وليس انطباعًا؟
حتى الآن لم أعرف.
– هل النقد انطباع؟
لا بد أن يكون فيه قدر من الانطباعية، اقصد بالانطباعية: الانطباع الأول للعمل عليك.
– مَن أشهر كتّاب المنهج الانطباعي؟
يحيى حقي من أعظم الانطباعيين ويعتمد على ذوق سليم ووجهة نظر إنسانية وأسلوب ممتع، أنا من عشاق كتاباته.. انطباعي عظيم.
– هل تعتبر نفسك انطباعيًّا؟
لا. لم أفكر في تصنيف نفسي ولا في اختيار منهج نقدي.
– أنت تستخدم المنهج بوعي؟
لا أعرف.. وعندما كتبت عن نجوم مثل لبنى عبد العزيز وعماد حمدي، رددتهم إلى المناخ الثقافي وللمزاج العام للناس والتعبير الاجتماعي وشكل البنت والبطل. في هذه الفترة وهذا في تقديري يدخل في نطاق المدرسة الواقعية وليس الانطباعية. أو يكون انطباعي الأول أن هناك شيئًا صادقًا وجميلاً، فأبحث عن أصولها الواقعية.
– أنت خليط بين الواقعية والانطباعية؟
أنا لست ضد التصنيف، لكنني لا أعرف تصنيف نفسي.
– هل تعتقد أن الناقد لا بد أن يلتزم بمنهج واحد؟ أو مصنف؟
يدهشني عندما يكتب أحدهم عن ناقد ويقول إن مشروعه النقدي منذ البداية، ولا أفهم ماذا يعني المشروع النقدي، هل من الممكن أن يقرر أحد أن يكون انطباعيًّا، ويعمل في المجال الفني بالمنهج الانطباعي. بالنسبة لي، المصادر المعرفية والمصادر اللغوية متعددة المرايا، كيف ولماذا حدث؟ هذه طبيعتها، ولا تقدر تقول إن شجرة التوت قررت أن تكون شجرة توت.
– لكن الثقافة والفن اختيار وليس نموًا طبيعيًّا!
(يصمت)
– بمناسبة الأشجار.. هل ترى نفسك تشبه شجرة بعينها؟
شجرة التوت.
– تريد أن تكون وارف الظلال؟
التوت شجرة طيبة ومتوفرة وفوائدها كثيرة، ليست وارفة فقط، يستخدمها ناس كمصلى، وناس ترتاح تحتها، وناس تأكل التوت، وأوراق التوت مفيدة؛ لأنه يتغذى عليه دودة القز التي تنسج الحرير، وعصاها طرية لكنها قوية يستخدمها الرعاة.
– مرة أخرى: هل النقد مفيد؟
جدًا.
– لمن؟
للقراء العاديين وللمبدع نفسه، وللأجيال القادمة أيضًا.
الاعتراف الأول على خط النار
– بدأت كتابة النقد السينمائي خارج الصحافة، أي لم تكن مرتبطًا بصحيفة..
وحتى الآن
– أعرف، لكن كيف كنت ترى كتابة النقد بعيدا عن الالتزام تجاه صحيفة معينة؟
أراه ضرورة وليس اختيارًا؛ لأنه لم يكن أمامي ولا أمام جيلي كله فرصة للالتحاق بمؤسسة صحفية، مجالات الصحافة كانت ضيقة، وعدد من يكتبون من الخارج قليل.
– من الذين تعتبرهم جيلك؟
مساحة واسعة من الكتاب، روائيين مثل إبراهيم أصلان، وبعضهم أصغر مني بسنتين أو ثلاثة مثل عبد الرحمن أبو عوف وحسن عطية.
– كنت أتكلم عن جيلك في السينما؟ أو بالتحديد في النقد السينمائي؟
قبلي بسنوات قليلة فتحي فرج، علي أبو شادي، سمير فريد طبعًا، لكن سمير استطاع أن يجد مكانًا في الصحافة بطريقة أسرع ربما أكثر سلاسة، طبعًا سبقنا بعدة سنوات صبحي شفيق، أنا وسامي السلاموني بدأنا في نفس الفترة، بدايتنا كانت واحدة. أنا الذي تأخرت لعدة سنوات عندما عملت في المنصورة، يعني بدأت مع عدد لا يستهان به من الكتّاب لكنني تعطلت طوال سنوات المنصورة. وعدت مرة أخرى. ربما تكون خيرية البشلاوي أيضًا من نفس الجيل.
– متى شعرت أنك ناقد سينما؟
حتى الآن لم أشعر.
– متى اتخذت قرارًا بأنك ستركز في كتابة النقد على السينما؟
الحقيقة لم يكن الاختيار حرًا مائة بالمئة، طلب المقالات هو الذي حدد الاختيارات، مقالات السينما كانت هي المتاحة أو هي التي كانت لها مساحة على الخريطة شاغرة.
– سمير فريد قال لي إنه قبل جيلك لم يكن هناك نقد سينمائي بالمعنى الدقيق. هل أنت معه في هذا الرأي؟
من الصعب أن تقول إن ما يُكتب وقتها هو نقد سينمائي بالمعنى الدقيق. هي انطباعات ذكية يكتبها أحمد بهاء الدين وأخرى لأحمد حمروش وأيضًا سعد نديم وعدد لا يُستهان به من الكتّاب لم يكن أيا منهم ناقدًا سينمائيًّا بالمعنى الموجود الآن. كان موجودا وقتها وحتى الآن المحرر الفني، وأحيانًا كان يُطلق عليه اسم يزعجنا هو الناقد الفني. ماذا تعني هذه الكلمة؟ أنه الشخص الذي يُجري حوارا مع ممثلة ويكتب أخبارها، أو يكتب تعليقًا ظريفًا، كان هذا هو المجال المفتوح للكتابة عن السينما وقتها. ولهذا فأغلب نقاد جيلي قادمين من النقد الأدبي، بعضهم استمر وبعضهم توقف، آخرون توجهوا إلى السلك الأكاديمي، مثل الدكتور أحمد السعدني أستاذ الأدب العربي بجامعة المنيا.
– وأنت بدأت ناقدًا أدبيًّا.
فعلاً. كتبت مقالاً في مجلة تصدر من بيروت وأسمها (العلوم) عن الديوان الأول للشاعر محمد إبراهيم أبو سنة، كتبت أيضًا عن المجموعة الأولى لبهاء طاهر اسمها (المظاهرة).
– تقصد مجموعة الخطوبة؟
آه فعلاً.. المظاهرة اسم قصة في المجموعة، المهم أنني وقتها كنت أعد نفسي ناقدًا أدبيًّا، وأيضًا في المسرح، في مجلة اسمها (الرواد) تصدر من ليبيا، لكن مساحة النشر كانت أكبر في السينما.
– اختيار براجماتي؟
لا تستطيع أن تقول براجماتي، لأن عشقي الأساسي أو الجوهري كان السينما، لكن تقدر أن تقول بأن النقد السينمائي هو الذي اختارني.
– كيف؟
سأدقق العبارة: على قدر اختياري للنقد السينمائي، فإن النقد السينمائي هو الذي اختارني؛ لأن متعة مشاهدة الفيلم والإحساس به وتحليله فيها نوع من العشق.
– وقت الاختيار كنت تشعر بأنك في مجموعة سينمائية؟
لا.. أبدًا.
– ولا في المجموعات الحالمة بسينما مختلفة مثل (جماعة السينما الجديدة)؟
كنت أرى بعضهم في التجمعات الأدبية، مثلاً أول مرة ألتقي رأفت الميهي كان عند عبد الرحمن الخميسي، شاب متحمس ومخيف، يرتدي نظارة طبية، نموذج للمثقف المصري لكن ملامحه تقترب من المثقفين الفرنسيين كما تعرفنا عليهم في الروايات التي قرأناها. وما زلت أتذكر حوار تلك الليلة، رأفت قال يومها جملة حلوة جدًا وهو يشكو من الجيل القديم، قال: هم يعتقدون أن الإخراج السينمائي كهنوت رغم أنني أراه مثلاً أبسط بكثير.
– كانت علاقة عن بُعد؟
عندما رجعت بعد سنوات المنصورة تعرفت عليهم أكثر، لكن هذه المرة بالفعل كانت المعرفة من الخارج، وأذكر بشيء من التقدير فاروق عبد القادر الذي كان يشرف على ملحق الطليعة في سنة 1971 على ما أظن، قابلته على مقهى ريش، وقال لي أكتب لنا. فسألته عن الموضوعات التي أحب أن أكتب فيها، قال لي: أكتب ما تريد.. كانت أيامها قمة انتشار موجة أفلام اليسار الإيطالي.
– هل تقصد أفلام الواقعية الجديدة في إيطاليا؟
لا هي أفلام متجاوزة الواقعية الجديدة بمراحل، وقتها أيضًا ظهرت مدرسة نيويورك الواقعية أيضًا. ونشرتُ أول مقال في الطليعة كانت ملاحظات على سينما جديدة، المقال الثاني كان عن حصاد السنة كاملة ثم توالت مقالاتي في الطليعة، وعرفت أن سمير فريد جاء إلى الطليعة وقال أريد مقابلة كمال رمزي.
– هذا أول اعتراف من جماعة النقاد بك؟
انزعجت في البداية أنني كنت أُعامل كمبتدئ، ووافد، لكن مقالات الطليعة صنعت لي مكانًا خارج الأطر والمجموعات، وبالتالي عندما اقتربت من هذه المجموعات، كان اسمي معروفًا ولم أعد شخصًا وافدًا من الخارج، وحدث نوع من القبول الحسن لي، ولا أريد أن أقول الاحتفاء (يضحك) وقتها انضممت إلى جمعية النقاد المصريين.
– احكِ لي عن اللقاء مع سمير فريد؟
سمير قال لفاروق عبد القادر أريد أن أراه ضروري وينضم لنا، كنت أعرفه جيدًا لأنه يسبقني بعدة سنوات في المعهد وكنت أقرأ له بانتظام، وبدأ اللقاء بيننا كأنه صداقة قديمة أو استمرار لصداقة قديمة. وفي جمعية النقاد تعرفت على هاشم النحاس وأحمد راشد وسامي السلاموني، ومباشرة بدأت أقدم أفلامًا في نشرة نادي السينما، وأصبحت أمين صندوق جمعية النقاد بعدها بسنوات، وبدأت تُطلب مني مقالات في السينما، ساعتها اكتشفت أنني أدخل عالم السينما الرحب جدًا، وهو فعلاً رحب جدًا، وأصبحت السينما منطقة تحتاج إلى ضعف جهدك، واستعنت بالقراءات الأدبية في الاقتراب من الأفلام التي أكتب عنها.
– كيف؟
قرأت بعض الكتب في مجالات غير السينما وعشقتها لأنها أعطتني مفاتيح لفهم الأفلام، وفي مقدمتهم كتاب مثل (شعراء المدرسة الحديثة) لروزنتال الذي ترجمته على ما أظن سلمى خضراء الجيوسي، كتاب ممتع يحلل اللقطة داخل قصيدة الشعر عند إزرا باوند وإليوت وييتس، وحتى هذه اللحظة أشعر وأنا اقرأ هذا الكتاب أشعر بأنني أقرأ نقد سينما في أفضل مستوياته.
– اشرح لي قليلاً وجهة النظر هذه..
الكتاب يرى ويحلل تكوين اللوحة التي رسمها الشاعر، ويفسر جزئياتها ويهتم بالتفاصيل الصغيرة في القصيدة.
– ربما يكون إعجابك بطريقة كتاب أدبي في النقد هو سر الحمولة الأدبية الموجودة في مقالاتك عن السينما، وأيضًا في نظرتك إلى الفيلم نفسه والتعامل مع الفيلم على أنه نص.. يشبه النص الأدبي؟
ربما.. لا أستطيع تقييم نفسي، ولا أن أحلل ماذا أفعل أو فعلت، وحتى الآن لم أتوقف لحظة لأفكر هل أنا لدي مشروع أم لا، أو أن أتكلم عن مصادر ثقافتي، في النقطة الأولى أعتقد أن المشروع يتكون في أثناء الشغل، ولا يكتمل إلا عندما ينتهي المشوار.
– أعتقد أن فكرة المشروع مرتبطة أساسا بمفهوم أكبر يرى أنه تابع لمؤسستين كبيرتين هما الأيديولوجيا والسياسة، وأصحاب المشاريع -في ذلك الوقت- يدورون في مدار هذه المفاهيم بشكل أو بآخر.
بهذا المعنى، أنا لا علاقة لي بالمشاريع.
– لكنك بدأت في عز زهوة هذه المشاريع.
لم يكن في ذهني أن ترتبط كتاباتي بشيء أكثر من ارتباطها بأفكاري.
– لم أفهم!
لو دخلت فيلمًا من الذي يُطلق عليه فيلم سياسي، وخرجت منه وأنت تشعر بالخوف يكون هذا ضد قدرة الإنسان على تغيير مصيره، وعلى العكس إذا دخلت فيلمًا وخرجت أقوى وتشعر أنه لا بد أن يكون لك موقف من
الحياة، أنا مع هذا الفيلم. كانت أيامها مناقشات طويلة حول موجات أفلام السياسة أو للاتجاهات السياسية المتضاربة في الأفلام، بينها فيلم لا أتذكر اسمه الآن لعمر الشريف، يحكي قصة شخص يُعتقل 7 سنين وحبيبته تظل تنتظره، يقاوم في بداية المعتقل، لكنه يستسلم فيما بعد، ويخرج فلا يعرف حبيبته، كان الفيلم قويًّا لكن كان فيه حاجة مش مضبوطة، تجعلك لا تتقبل الفيلم، في نفس الفترة كانت هناك أفلام تنتهي بمصرع المناضل لكن الفيلم قوي، هنا وصلنا وبعد مناقشات طويلة أن الفيلم الذي يُخرجك من قاعة العرض وأنت قوي بعض النظر عما تم على الشاشة، هذا هو المعيار، أقصد المعيار الذي أقيس به، يعني فيلم مثل (إحنا بتوع الأتوبيس) هو نموذج يحذرك من أي اشتراك في السياسة أو أي محاولة لتغيير مصيرك، فيلم لا يمنحك أي مساحة لكي تكون قويًّا، أو يمنحك إحساسا بقدرتك على الصمود.
– المعيار الذي تتحدث عنه غامض!
ما الغموض الذي تقصده؟
– لأنه ليس معيارًا موضوعيًّا، حتى بالنسبة لمفهومك عن الخروج من السينما بقوة ما!
بمعنى؟
– بعض المتفرجين سيخرجون من (إحنا بتوع الأتوبيس) بأحاسيس ساخطة، والسخط جزء من القوة.
لا أعتقد.
– أكلمك عن فكرة التأثير على المشاهد، وهي فكرة نسبية للغاية.
عمومًا الاستقبال مختلف من شخص لآخر، وإنما يوجد تقريبًا مساحة عامة مؤثرة على الجميع، يعني ربما لن يخرج المتفرج ساخطًا، بل مرعوبًا أكثر منه ساخطًا، وعمومًا مسألة السخط تحتاج مراجعة، ساخط على إيه ومن أجل إيه!
– سأعيد سؤالاً مررت أنت عليه بذكاء. أريد أن أعرف موقفك من فكرة التعامل مع السينما على أنها وعاء تابع للأيديولوجيا والسياسة أم أنك لم تكن واعيًا بهذه الإشكالية؟ وربما لم يكن لديك موقف منها وقتها، أو ما زلت ترى أنه موقف صحيح؟
بالتأكيد أي فيلم يحتوي، لا أقول على بُعد سياسي بالمعنى الضيق، لكن بُعد أوسع من مسألة السياسة.. مثلاً في أفلام المدرسة الطبيعية مثل: رنة الخلخال لـمحمود ذو الفقار، وامرأة على الطريق، كانت هناك موجة من الأفلام الطبيعية وقتها، وكان يهمني جانب إيجابي فيها وهو الاعتراف بالغرائز، ليس الإعلاء من شأنها، لكنه الاعتراف بالجسد كقوة وكقيمة من الممكن أن تكون قوة بناءة أو مدمرة. هذه موجودة في المدرسة الطبيعية، هنا لا توجد سياسة بالمعنى المباشر لكن بُعد فكري، في النهاية يمكن أن يصب في طاحونة السياسة، لكن ليست السياسة بشكل مباشر.
– لكن الغالب الأعم على كتابتك النقدية-أنت ومعظم جيلك- هو الطابع السياسي.
ممكن.. وسأقول تفسيرًا لا تبريرًا، في بداياتنا كان الجميع مهتم بالسياسة، الآن قطاعات قليلة هي التي تهتم بالسياسة، أيامنا حازت القضية الوطنية اهتمام كل الشباب، ولكن الآن الديموقراطية هي القضية المهمة، ولم يعد العدو الخارجي في خطورة الخصوم الداخليين. أيامنا كان هناك نوع من أنواع التسامح مع النظام الناصري؛ لأنه قدم أشياء للناس. وليس أمامنا إلا العدو الخارجي، والعدو الخارجي قوة باطشة، وهو ما جعلنا جميعا نشتغل بالسياسة بشكل ما.
– تشتغلون بالسياسة أم تعيشون بإحساس أنكم على خط النار؟
وهل هناك فرق؟
– فرق كبير.
لا أعتقد.. لأن السياسة تبدأ من مناقشة بين اثنين. وذروتها عدو يطرق الأبواب، وعندما يحدث هذا فإن السياسة تطغى على كل شيء.
– وهل ما زال العدو يطرق الأبواب؟
الآن، في اللحظة التي نتكلم فيها، بالتأكيد، ما زال، لكنه في الحقيقة لا يطرق الأبواب، يتسلل من تحتها.
– أتكلم عن السينما
لا يمكن أن نتكلم عن السينما كإنتاج موحد مثل إنتاج الصابون مثلاً أو المعلبات؛ لأن السينما مليئة بالاتجاهات، كل مخرج له اتجاه، بل إن كل مخرج له اتجاهات متعددة، وبالنسبة للسينما كان هناك باستمرار اتجاهين، ما نسميه الاتجاه الجاد أو النقدي والاتجاه الترويحي، وطبعًا الفصل الحاسم بين الاثنين ليس دقيقًا، إنما نجد حسين كمال يقدم فيلم (البوسطجي) و(شيء من الخوف)، ثم يقدم بعدها (أبي فوق الشجرة) وينجح نجاحًا مهولاً، فنحن نفرق بين حسين كمال هنا، وحسين كمال هنا.
– تفرقة أم إدانة؟
لا ليست إدانة، صحيح زمان كانت الإدانة موجودة لكن الآن.. لا.
– لكن عند عرض (أبي فوق الشجرة) كانت هناك إدانة.
طبعًا.
– لهذا قلت لك أنكم كنتم تشعرون أنكم على خط النار.
بمعنى؟
– الإحساس الغالب وقتها أن السينما لها دور وهو تثوير الجماهير.
ممكن.. عمومًا النقطة التي تتحدث عنها كانت هي الطاقة الغالبة على كل الكتابات بما فيها الكتابات النقدية في الأدب.. والفن.
– وكتابتك أنت؟
لا أعرف.
– أليس لديك نقد لكتابتك القديمة، لا أتحدث عن تقييم، هل أعليت من قيمة فيلم وخسفت بآخر طبقًا لموضة البحث عن الثورة في الأفلام؟
لا أعتقد.. هناك ربما أفلام ترددت في الكتابة عنها لم أكن أتقبلها عقليًّا، رغم تجاوبي معها.
– مثلاً؟
أتذكر فيلم (خلي بالك من زوزو) عُرض في فترة حرب، عدد منا هاجمه، لم أكتب عنه لأنني شعرت بأنني متناقض، بالمعايير الفكرية الصارمة لست مع الفيلم، وعلى النقيض أحببته، وأحببت الأشياء الجميلة فيه، والحقيقة أن بعض الكتَّاب الأجانب كتبوا عن الفيلم كلامًا من الناحية الفكرية والسياسية ناضجًا جدًا، من نوع أنه ينتصر للحاضر ضد الماضي، وللمستقبل ضد الحاضر والماضي، وأنه فيلم يؤكد قدرة الإنسان على صنع مصيره ويدعم شجاعة الإعلان عن الوضع الوظيفي أو الطبقي للإنسان، وأنه فيلم مؤمن بالعلم، فبطلة الفيلم (زوزو) غيرت بالعلم واقعها كله، وهذه قيم إيجابية موجودة بالفيلم، لكن صوت السياسة كان عاليًا في المجتمع بسبب ما أثرته عن الوقوف على خط النار، وهو ليس تعبيرًا مجازيًا هنا، بل هو تعبير دقيق؛ لأن العدو كان على الضفة الأخرى من قناة السويس تلاحقنا مفاجآت وغارات وضرب أطفال بحر البقر وعمال أبو زعبل، أخبار عن سرقة العدو لرادار من العين السخنة، وأخبار أخرى عن المعارك الشديدة في جزيرة شدوان.
– وما علاقة السينما بكل هذا؟ أقصد كيف كنت تراها؟
هي ليست علاقة السينما بشكل مباشر، ولكن علاقتها بالشخص الذي يستهلك السينما، كنت أريده أن يرى صورة مما يحدث في الواقع على شاشة السينما.
– لماذا؟
لأنه عندما تدخل صالة العرض وفي ذهنك حرب في الخارج، ثم تشاهد فيلمًا يقدم مشكلات بعيدة تمامًا عن الحرب، ستبحث أنت عن أشياء أخرى.
– هل هذا ما فعلته الواقعية الإيطالية؟
الواقعية الإيطالية بدأت بعدما انتهت الحرب، وفعلت هذا وعكست أوضاع السينما بشكل ما.
– لكنها كانت تيارًا في السينما؟
نعم.
– وليس كل السينما؟
كان هذا هو الاتجاه الغالب في إيطاليا.. كانت هذه هي السينما التي يتوجه إليها كل الناس.
– مَن كان وقتها يعجبك في السينما؟
صلاح أبو سيف.. أنا من عشاق صلاح أبو سيف.
– فقط؟
عز الدين ذو الفقار أيضًا، كما كان هناك رهان على السينمائيين الجدد، مثل رأفت الميهي حينما كتب سيناريو (غروب وشروق) وكان مفاجأة. وغالب شعث مخرج (ظلال على الجانب الآخر) وهو فيلم تعرض لمجزرة من قِبل السلطة على يد يوسف السباعي، في هذه الفترة كنت تجد أجزاءً من أفلام مضيئة وأخرى متواضعة، والحقيقة أنه من ضمن الأشياء المدهشة أنه كان هناك تلاحق سريع للأحداث، كانت عين على الواقع وعين على السينما، بينما يتغير الواقع بشكل أسرع وأسخن من السينما.
– هذا شيء طبيعي؟
لا ليس طبيعيًّا لأنها فترة حرب، جاءت 73 وبعدها بخمس سنوات مبادرة السادات ثم تظاهرات واعتقالات.. حدوتة غريبة جدًا. ثم مقتل السادات، لكن في الربع قرن الأخير كان هناك ما يسميه البعض سلام أو سكون، لكنها فترة خالية من أحداث كبرى، البعض يسمي هذا استقرارًا وفي المقابل يعتبره آخرون تعفنًا، لكن في الفترة السابقة عليها هناك فوران بالأحداث، تبحث عن انعكاسات هذا الفوران على الشاشة ولا تستطيع أن ترصد استجابتها بشكل كبير.
– هل توقفت علاقتك بجماعة السينما الجديدة عند حدود اللقاء الأول مع رأفت الميهي؟
جماعة السينما الجديدة كان فيها نفحة حداثة (يصمت ثوان قليلة ويكرر) نفحة حداثة (ويواصل) هذه النفحة موجودة في النقاد أو في السينمائيين التسجيليين، وهذه نقطة مهمة لأن وجود الجماعة تزامن مع نهوض السينما التسجيلية في هذه الفترة، حدث هذا بأعمال صلاح إلهامي وسعد نديم وعبد القادر التلمساني، بعدهم جاءت الموجة الثانية، وبالتحديد عبر اثنين: هاشم النحاس وعطيات الأبنودي، كل منهما قدم فيلمًا فتح سكة في السينما التسجيلية، حيث اختفى صوت المعلق من خارج الكادر، واختفت أيضًا صور الرؤساء والوزراء وظهر رجل الشارع، ليحكي عن مشكلاته، ويتكلم وكان هذا تطورًا مهمًا جدًا في السينما التسجيلية.
والملاحظة المهمة هنا أن عددًا من المخرجين الذين لمعوا في السينما الروائية هم أبناء السينما التسجيلية؛ من بينهم خيري بشارة وداود عبد السيد، وطبعًا لن ننسى الإشارة إلى فيلم من أهم أفلام السينما التسجيلية أخرجه أحمد راشد واسمه (أبطال من مصر)، فيلم قوي ومؤثر بشكل كبير، باختصار موجة السينما التسجيلية عقب حرب 1973 موجة مهمة جدًا، طبعًا في نفس الفترة كانت هناك أفلام أقرب إلى النبوءة.
– مثل؟
عودة الابن الضال.
– لم تذكر اسم يوسف شاهين عندما سألتك عن المخرجين الذين تحبهم؟
يمكن أن أضيفه، تعرف أن ذهني ليس حاضرًا، كما أنني أضع صلاح أبو سيف نمرة واحد. والفرق بينه وبين نمرة اثنين مسافة كبيرة إلى حد ما، لكنني أحب يوسف شاهين، وهناك مشكلة في هذا الموضوع وهي أنني لا أحب للمخرج كل أفلامه، فمثلاً حتى الآن أرى أن أجمل أفلام توفيق صالح هو (درب المهابيل)، أفلامه الأخرى مهمة، وأنا أحبها، لكن هذا الفيلم هو أجملهم. وكذلك بالنسبة ليوسف شاهين أفلامه مهمة وخصوصًا الأبيض والأسود، أحبها جدًا، وعلى رأسها (باب الحديد)، لكن يوسف باغتنا بفيلم عظيم الشأن هو (عودة الابن الضال)، فيلم مدهش ينتهي بمجزرة للعائلة بالكامل، وبعد عدة شهور تندلع تظاهرات من أسوان حتى مرسى مطروح تلك التي اسماها السادات “انتفاضة الحرامية”.
– تريد أن تقول إن (عودة الابن الضال) حمل نبوءة سياسية؟
بالطبع.. وليس وحده في هذه الفترة كان هناك فيلم رأفت الميهي (عيون لا تنام) حيث رب العائلة المسيطر على كل شيء، ويرى أنه الألف والياء ثم ينتهي الفيلم بضربة واحدة تقتل رب العائلة، والعجيب أن الفيلم عُرض يوم الاثنين، بعدها بأيام قُتل السادات. الفيلم الثالث في أفلام النبوءات هو (البريء) لعاطف الطيب، الذي يحكي عن ثورة جندي أمن مركزي على تعليمات ضابطه بتعذيب المعتقلين السياسيين، وللمرة الأولى في تاريخ السينما يشاهد الفيلم لجنة مكونة من 3 وزراء مهمين جدًا: الدفاع والداخلية والثقافة، ليقرروا عرض الفيلم من عدمه، والعجيب أنه بينما تشاهد اللجنة الفيلم كان جنود الأمن المركزي تحتل منطقة الهرم كلها.. في أحداث الاحتجاج الشهيرة على أوضاع الجنود.
– كيف تفسر فكرة سينما النبوءة السياسية تلك؟ هل هي النظرية القديمة التي ترى أن يكون الفن انعكاسًا للواقع؟
المخرج يحاول أن يكون له عين على الواقع وعين على الشاشة، هو انعكاس ولكنه انعكاس إيجابي، في الأفلام إحساس قوي بما يعتمل في قلب الواقع ورصده وتقييمه وتقديمه، ربما أرى نفسي أقرب للواقعية، والواقعية تعني عندي إدراك الأسباب المسببة للظاهرة وليس مجرد تسجيل الظاهرة أو إلغائها وتزييفها.
– في هذه الفترة كيف شاهدت فيلم مثل (زوجتي والكلب) إخراج سعيد مرزوق؟
تجربة شكلية تمامًا، ومفيدة في مسألة التجربة.. إنما لم أر أنه فيلم عظيم، وتأكد لديَّ هذا في الفيلم الثاني لسعيد مرزوق (الخوف)، ويحكي قصة بنت مهاجرة من السويس-أيام الحرب- وولد يحبها يصعدان إلى سطوح عمارة، ويهجم عليهما البواب والولد يدافع عنها، شعرت بأن منطقة الخوف في الفيلم منطقة أوسع وكبيرة جدًا مما كانت عليه في الواقع، كما أن العدو الذي قدمه لا علاقة به شيء تمامًا.
– ماذا تعني بتجربة في الشكل؟ أليست السينما تجربة في الشكل؟ أي كيف تقدم حكاية بتقنيات السينما، تجرب في أدواتها لكي تصنع من حكاية مشاهد مصورة؟ هل ما زال هناك فرق بين الشكل والمضمون؟
نعم ما زال هناك فرق بين الشكل والمضمون وفي السينما بالتحديد؛ لأنها تقدم أفلامًا يمكن أن تعطي لك شكلاً دون مضمون أو شكلاً مبهرًا بمضمون سلبي، يعني ليس بالضرورة الفيلم المتميز جدًا الذي ترحب به يكون مصنوع بشكل جيد.
في السينما الأمريكية، هناك بعض الأفلام المصنوعة بمهارة شديدة، تكتشف أنها اليوم لم تعد تجربة مثيرة، كنا ننبهر زمان كيف تخترق الرصاصة جسد واحد من أعداء الجيش الأمريكي وتخرج من الناحية الأخرى، كنا مبهورين وقتها.
– هذه ليست تجربة في الشكل، بل إبهار في التكنيك..
وما الشكل الذي تقصده إذن؟
– الشكل هو طريقة بناء الفيلم.
سأقول لك.. المسافة بيننا ليست واسعة لكن السينما فيها هذا، وليس في مسألة البناء، ما أقصده يظهر تقريبًا في تجربة أفلام كلود ليلوش في مصر.
– ماذا حدث؟
عندما عُرضت أفلام ليلوش في مصر، حدث نوع من الانبهار، انبهار غير معقول، يمكن أن أحضر لك المقالات التي كُتبت عنه، أيامها كُتب بمنتهى الانبهار على مشهد كلب يجري على الشاطئ، يذهب ويعود، ومشاهد أخرى للبطل والبطلة وهما يسيران أمام تل من الجليد ثم يختفيان ويظهران من الناحية الأخرى، لمسات من هذا النوع دفعت بآراء عن تأثير تحول مصور إلى مخرج في تقديم أفلام مبهرة، وذلك حتى حضرت ندوة من الندوات وكان فيها جورج سادول؛ أشهر نقاد السينما في فرنسا، الذي قال إنه آن الأوان أن نكتشف أن هذا الشكل هو شكل مزيف، فالصو، يلمع لكن ليس كل ما يلمع ذهبًا، وفي الحقيقة هذا يجعلنا نرى مأساة أخرى في أفلام ليلوش، وهو أنه قدم المرتزقة الأوروبيين الذين كانوا يعملون في أفريقيا ضد أنظمة تخطو أولى خطوات الديموقراطية، يقدمهم كفرسان، وكتبت مقال عن سينما ليلوش واعتبرت أنها في عداء مع العالم الثالث، التجربة هنا شكلية، وغرضها مضمون بالغ البشاعة تجعلك تحب الناس المعادية للعالم الثالث.
– هل كل تجربة شكلية وراءها مؤامرة؟
لا.. لا، ليس بالضرورة من قال إن داود عبد السيد لا يجرب في الشكل وفي كتابة السيناريو، السيناريو عند داود يتكون من عدة مستويات، وفي تقديري هذا نوع من أنواع التجربة في الكتابة. فيلم مثل (مواطن ومخبر وحرامي) يمكن أن تراه على أكثر من مستوى، حتى أغنية شعبان عبد الرحيم يمكن التعامل معها على أكثر من مستوى، تصفق وتغني معها، ثم عندما تتأمل في معاني الكلمات، ستكتشف أنها مهمة جدًا، ليس بالضرورة التجربة في الشكل وراءها شيء سيء، التجربة هي محاولة لاستخدام عناصر اللغة بشكل يُبعدها عن التكرار.
– وهل هذا جيد أم رديء؟
مفيد.
– ما أوجه الفائدة؟
حتى لو كان للتجربة مضمون سيء، فإن التجربة تفيد لغة السينما، تطورها، وتغيرها، وتؤثر على تجارب أخرى.
– لكنك لم تعتبر هذا عنصرًا إيجابيًّا عند سعيد مرزوق!
لا.. أنا باستمرار أطلب الأكثر اكتمالاً ونضجًا، يعني عند سعيد مرزوق تجاربه وحتى فيلمه الأخير (المرأة والساطور) فيها لغة سينمائية ممتازة، ومنظر البحر ونتف قادمة مع الموج، تصنع جوًا مذهلاً.
– أليست هذه هي السينما؟
السينما أوسع مما أطلبه، نعم هذه هي السينما، أنا لا أصنع سينما، أنا أتفرج عليها، الناقد ليس صانع سينما، السينما موجودة قبله وستبقى بعده، كما أنها ليست اتجاهًا واحدًا، وفنان السينما لا يصنع فيلمًا من أجل الناقد، السينما أوسع بكثير، لكن عملك كناقد أن تحدد الأفضلية بين مستويات وأساليب السينما المختلفة، وسترى مثلاً رجلاً جميلاً مثل صلاح أبو سيف يصنع في فيلم (البداية) تجربة جديدة على مستوى الشكل، لكنها في النهاية تصب في واقعية صلاح أبو سيف.
– هل تعتبر أن الواقعية علامة الجودة في السينما؟
بالمعنى الذي شرحته وليس الواقعية التي تعني تصوير حارة وعجلاتي وبيوت قديمة وناس بتردح وتتخانق مع بعضها، ممكن الفيلم كله يدور في أجواء أرستقراطية ويكون واقعيًّا، الواقعية هي إدراك الأسباب المؤدية للظاهرة.
– كيف تنظر لأفلام فؤاد المهندس مثلاً؟
حسب المخرج، يعني معظم أفلامه مع فطين عبد الوهاب تتضمن إدراكًا عميقًا للواقع، والكثير من أفلام فؤاد المهندس تكاد تكون مسلية، ولكن له بعض الأفلام الجميلة جدًا مثل (أرض النفاق) أرى أنه فيلم واقعي، يقول إن واقع الناس لن ينصلح بعقاقير.
– باختصار أنت ترى أن السينما رسالة؟
نعم.
– ورسالة لإعطاء قوة إيجابية؟
نعم
– لكن أليس لها رسالة بمعنى آخر.. ألا توجد خصوصية للسينما، ما يمكن أن يُقال في السينما لماذا لا يُقال في مقال أو يُحكى في رواية؟ أعتقد أن هذا سؤال بديهي؟
أفترض أنه هناك فيلمًا لطيفًا، فيه ترويح فقط، بالطبع سأراه ظريفًا، وبعض أفلام فطين عبد الوهاب فيها هذا الترويح مثل (عفريت مراتي) فيلم لطيف.. أريد أن أقول لك أن هناك فرقًا بين قبولي لفيلم وتفضيلي لفيلم آخر، أقبل أنواع كثيرة، وفيلم رومانسي ممكن يكون لطيف وحلو ومسلي لكنها تسلية، في حدود عدم تضمنها قيم سلبية.
– تتعامل مع فكرة التسلية باحتقار نوعا ما!
سأقول لك على أحد الأخطاء، فيلم (بين الأطلال) أثَّر عليَّ تأثيرًا شديدًا جدًا، لكنني اليوم أراه بشكل مختلف، أرى أن الفيلم جعل الماضي أقوى من الحاضر والمستقبل، وأن البكاء بين الأطلال أفضل من الدخول للحياة، وأن الاستسلام للموتى أهم من الاستسلام للأحياء، رومانسية سلبية جدًا، وأنا لا احتقر الفيلم المسلي، لكنني لم أفضله مثل الفيلم القوي المشبع المقنع والمسلي في نفس الوقت، وفيه فكر.
– قلت لي إن من ضمن أفلامك المهمة فيلم (الآنسة حنفي).
فيلم جميل.. فيه مفاجأة اكتشاف أن الرجل بحكم تراث طويل فيه قدر كبير من الأنانية والغرور وإيثار الذات، وأن المرأة من الممكن أن تكون أقوى من الرجل ومتفتحة على الحياة أكثر منه، هذا فيلم بنَّاء ومسلي.. مسلي جدًا.
– لكن شخصًا آخر يمكن أن يرى العكس.. أو يراه مجرد فيلم عادي!
آه.. غالبا يحدث هذا لأنني أتعامل مع مستوى والآخرين مع مستوى آخر، لكن دائمًا ستجد أنه ليس أقل من 95% سيقبلون على الفيلم.
– أفهم من كدا إنك ابن الاجماع أو الأغلبية؟
لا.
– أين النقد هنا؟
النقد يشرح لماذا تحب الفيلم وتقدره.
– ممكن تعمل صدمة؟
وارد.
– وارد أم حدث؟
بالنسبة لي؟ لا أستطيع أن أجزم، أنا لا أعرف من قرأ المقالات التي كتبتها، أنا لا أعرف فعلاً.
– تواضع ولا قلق؟
إحساس حقيقي.
– هل كان من الممكن تعمل في شيء آخر غير النقد؟
كان ممكن أشتغل جنايني.
– لماذا؟
لأني أحب الجنينة.
يساري الهوى.. في زمن غير الزمن
– كتبت في مجلات أغلبها يساري؟
ممكن.
– يعني أنت يساري الهوى؟
أظن هذا.
– ومرجعيتك السينمائية أغلبها يسارية؟
تقريبًا.
– يعني أنت كتبت في “الطليعة” و”أدب ونقد” و”الأهالي” وكلها منابر يسارية، ثم عملت في “المصور” باعتبارك على يسار النقد.
هذا تصنيفك.
– تقريبًا من لا يعرفك يتصور أنك تربية هذا التيار، إلى أي درجة ترى هذا التصور صحيحًا؟
غالبًا كل قراءاتي يسارية حتى بالنسبة للأدب الأمريكي.. أنا من عشاق “اسبارتاكوس” الرواية وليس الفيلم، أيضًا أعمال جاك لندن وشتاينبك في أعماله الأولى قبل أن يذهب إلى فيتنام ويكتب مقالاته السخيفة في تمجيد أمريكا. قراءاتي في المسرح كذلك، وانحيازاتي في المخرجين، أعتقد أنه بحكم وضعي الاجتماعي أصلاً، ثم بحكم قراءاتي يمكن أن تضعني في مسار اليسار.
– مرجعيتك الأفلام أم النظريات النقدية؟
الاثنان.
– هل يمكن أن يدمر فيلم سينما المرجعية النظرية؟
يمكن أن يجعلني أفكر فيه، لا أن أغير توجهاتي.
– أي إنك أحببت فيلم “اللمبي” من وجهة نظر ماركسية؟
لا أستطيع أن أجزم، لكن تستطيع أن تقول بأنه قدم نوعًا من أنواع الواقعية، تتخذ شكل الكوميديا الفاجعة، نموذج لشاب لم تتح له فرصة التعلم، لا يعمل، المجتمع لا يمنحه فرصة، حاول، وتمت إزاحته، ودائمًا يُطرد إلى الهامش، حتى عندما عمل على عربية بيع سندوتشات كبدة، أتت قوات البلدية وسحبت منه العربة، وهذا مشهد نراه يوميًّا، واحد غلبان يضع شوية ليمون أو جوافة على قفص أو واحد آخر يبيع فول أخضر (حراتي) ويسير بعربة يد خشبية، ستظهر لهم الحكومة في أي وقت، هل تتذكر قصيدة بيرم التونسي عن الـ 4 عساكر وهم يسحبون امرأة غلبانة على رأسها عيل صغير، هذا هو بالضبط ما عبر عنه (اللمبي).. بعد ذلك اختار سكة أخرى.
– مرة أخرى تمجد الواقعية.. ألم تشعر مرة أنك تريد أن تثور على الواقعية بعد أن انحسرت زهوتها؟
لم تنحصر زهوتها.. من قال ذلك؟ بالعكس.
– حدث نقد عنيف للواقعية أو لمنهجها في النقد على وجه الخصوص.
يمكن أن يكون الذي انتهى هو اتجاهها الأيديولوجي الضيق، لكن الواقعية الآن انفتحت على كل التيارات.
– كيف انعكس هذا على عملك، على طريقتك في الكتابة عن الأفلام؟
هناك أفلام بريطانية اليوم واقعية جدًا، أقصد الواقعية بمعناها الأرثوذكسي، ومع هذا أفلام بالغة البراعة، وهناك أفلام ذات بُعد رومانسي لكن أساسها واقعي بالمعنى الذي قلناه، وهي أن الواقعية إدراك وإبراز الأسباب المادية للظاهرة. مثلاً في فيلم (تيتانيك) هناك بُعد واقعي، لماذا كان العدد الضخم من الغرقى من ركاب الدرجة الثالثة؟ ببساطة لأن ركاب الدرجة الأولى نزلوا في مراكب الإنقاذ.
– لكن هذا التحليل يمكن أن يعتبر هامشيًّا في الفيلم، أو تأويل مفرط، ولن تشعر بوجوده إلا إذا أردت أن تبحث عن أشياء معينة.
لا.. موجود في الفيلم.
– لكنه ليس البناء الرئيسي ولا هي المشاهد التي تعلق بذاكرتك، الفيلم مصنوع على بناء آخر، رومانتيكي، مشاعر فوارة ويخاطب أحاسيس أولية.
بص.. أريد أن أقول لك شيئًا، السينما فيها أشياء مدهشة جدًا، وهي أنها تتسلل عبر مستويات مختلفة، في المشاهدة الأولى ترى أشياء، لكن بعد فترة عندما تسترجع الفيلم أو تراه مرة أخرى تكتشف أشياء أخرى.
– لكنك تعظم التحليل الاجتماعي
ممكن أن أكون أميل لهذا.
– هذا سبب لأخطاء في تقييمات بعض الأفلام؟
أعطني أمثلة.
– تم الاحتفاء بأفلام تمثل خط إنتاج سينمائي ووضعه كمعيار في مقابل إغفال أعمال مجموعة كبيرة من المخرجين مثل: فطين عبد الوهاب، وحسن الإمام، وغيرهم ممن تم التعامل معهم بخفة باعتبار أفلامهم للتسلية فقط، وطردوا من الاعتراف بالسينما الجيدة.
أوافقك جزئيًّا فيما يخص حسن الإمام وحسام الدين مصطفى.. وأيضًا عز الدين ذو الفقار.
– وكمال الشيخ..
عندك حق.. وأنا في تقديري هذا يرجع إلى ارتباطنا بمخرجين من الجيل القريب منا، وفي نفس الوقت مخرجين من أجيال سابقة مثل توفيق صالح، الذي كان بالنسبة لنا مخرج مهم جدًا. ويوسف شاهين طبعًا، وهذا ما أريد أن أقوله إن متابعة الأفلام سحبتنا إلى حد ما عن دراسة مخرجين. هل معقول ألا يصدر كتاب عن حسام الدين مصطفى و 3 أو 4 كتب عن عز الدين ذو الفقار وأكثر من كتاب عن كمال الشيخ، أضف إلى هذا، النقطة التي أثرتها عندما كنت تتحدث عن سمير فريد، وهي أن النقد السينمائي لم يتجاوز عمره 50 سنة، وأعتقد أن هناك مهمة على الأجيال الجديدة، يكمل المشوار، ولكن أعتقد أنهم سيهتمون بجيل المخرجين الأقرب لهم، أعرف أن هناك كتابًا يُعَد الآن عن داود عبد السيد، وأتمنى أن تصدر كتب أخرى عن خيري بشارة ورأفت الميهي وسمير سيف، ونادر جلال أيضًا، ما أريد أن أصل إليه أننا ليس لدينا إلى الآن تراث نقدي.
– اعتراف أم تمني؟
تقرير حقيقة.. كما أراها طبعًا.
– هل تشعر إنك في النقد لديك مهمة؟
لا أعرف.
– مهمة أم متعة شخصية؟
هي أقرب ما تكون للتنفس.. أنت تؤدي التنفس بشكل لا تعرف هل هو اختيار أم ضرورة، لكن إذا لم تتنفس ستشعر إنك مشلول، وهذا هو الإحساس الذي ينتابني عندما لا أشتغل لفترة طويلة. أشعر أنني لا أقوم بدوري، هناك شيء ما ناقص.
– جيلكم نقل النقد إلى التليفزيون.. أنت قدمت “نجوم الاستعراض” و “لحظة تنوير”، وقدم علي أبو شادي “ذاكرة السينما”.
كان برنامج هايل.
– كيف ترى التجربة؟
التليفزيون قام بدور هائل بالنسبة للسينما، وهو انتزاع مئات الأفلام من دوائر النسيان، والأهم أن بعض البرامج وعلى الأخص البرنامج الذي ذكرته (ذاكرة السينما) أحيا أفلام كادت أن تتحول إلى مناطق مجهولة مثل: لاشين، والآنسة حنفي، وأفلام توفيق صالح التي أعاد اكتشافها مرة أخرى. مع مراعاة أن الجمهور الذي يشاهد الفيلم في إطار نقدي، جمهور واسع جدًا، أضعاف الجمهور الذي شاهده في زمن عرضه الأول، ولهذا تجربة التليفزيون ممتازة، وأفادت السينما بشكل هائل، ثم إن بعض القنوات التي تشتري الأفلام تقوم بعملية غسيل للأفلام وتعرض جديدة كأنها خارجة من المعمل حالاً.
– ألم تشعر أن النقد عاد عبر التليفزيون إلى المرحلة الشفاهية؟
النقد الشفاهي لم يبدأ مع التليفزيون، لكن مع تجربة الثقافة الجماهيرية، حين كانت الأفلام تُعرض في نوادي السينما التابعة لقصور الثقافة وتحدث مناقشة مثيرة للجدل بعد عرض الأفلام وتفتح مناطق مغلقة في الأفلام. وبالنسبة لي أحب أن أتكلم عن الأفلام؛ لأنني في أثناء الكلام أكتشف بعض أشياء تساعدني في الكتابة.
– لكن هل الجمهور مختلف؟
لا تستطيع أن تعرف جمهور التليفزيون.
– لكن التليفزيون عام.
ممكن.
– والكتابة جمهورها خاص بعض الشيء!
أحاول في الكتابة باستمرار ألا أستخدم تعبيرات غامضة.
– ماذا تعني بتعبيرات غامضة؟ كيف تكتب مثلاً عن سينما تعتقد عموم الناس أنها غامضة، مثل أفلام يوسف شاهين.
السينما يمكن أن تكون غامضة لكن الكتابة ليست غامضة.
– هل توجه كلامك إلى المخرج؟
لا.
– إلى جمهور السينما الخاص؟
لا.
– إلى عموم المتفرجين؟
نعم. أكثر شيء يزعجني هو أن أتخيل شبح من أكتب عنه؛ لأنه سيكون في هذه الحالة أقرب إلى الرسالة إليه. وغالبًا إما أن أستبعده أو لا أكتب عنه.
– كيف هي علاقتك بأهل السينما؟
ممكن أكون صديق لمخرجين مثل داود عبد السيد.. وقبل منه رأفت الميهي وصلاح أبو سيف ومحمد خان. خيري بشارة كنا أصدقاء جدًا قبل أن يعمل في السينما، لكنه غضب مني حينما كتبت عن أحد أفلامه وظن أنها كتابة سلبية.
– أي فيلم؟
فيلم ظهر فيه أحمد زكي ملاكمًا، أعتقد أن اسمه كابوريا، كتبت وغضب خيري، وأعتقد أنه غاضب مني حتى الآن.
– هل تكرر هذا النوع من الخلاف كثيرًا؟
لا أعرف.. وأنا في موضوع خيري نسيت المقال والفيلم، لكنه كلما قابلني أصافحه بحرارة ويقابلني بفتور، وأقرر في كل مرة ألا أصافحه بحرارة لكنني أنسى في المرة التالية. فهو صديق عزيز، أما بالنسبة للنجوم ربما يقابلونك بدفء أشعر أن عنصر التمثيل فيه أكبر من عنصر الحقيقة، بعضهم أحترمه جدًا، الآن بعض من قابلتهم مثل نبيلة عبيد ونادية الجندي، أصدقاء لي حتى اللحظة التي أكلمك فيها، نبيلة أكن لها معزة خاصة لأنني اكتشفت فيها جوانب كثيرة طيبة على المستوى الشخصي. ونادية الجندي قابلتها في العديد من الأفلام، والآن عندما أقيّمها أرى أنها شخصية دؤوبة وعاشت للسينما، تصر على أن تتابع أفيشات أفلامها في الشارع وتتابع الجمهور في الصالات، أنا أحترم جدًا من يحب مهنته.
– أفهم أنك أعدت اكتشاف بعض النجوم؟
ليس إعادة اكتشاف قدر ما هو تقدير متأخر لبعض الأشياء الغائبة تحت السطح، لكن طبعًا بالنسبة للنجوم كظواهر أو ظاهرة النجم نفسها فهي موضوع دراساتي عن الجوهر والقناع.
– هل ترى النجم ظاهرة إيجابية أم سلبية في السينما المصرية؟
ظاهرة إيجابية في كل سينمات العالم.
– رغم أن الواقعية الاشتراكية والنقد السياسي وقف ضد ظاهرة النجم؟
لا ليس بالضرورة.
– هل هذا هو موقفك الشخصي أم رؤيتك فعلاً للنظرية النقدية؟
أعتقد أن النقد الماركسي بالمعنى الدقيق له تقييمات تثمن من وجوه أخرى في فن السينما، وليس هناك رفض لفكرة النجم في حد ذاتها، وحتى السينما الصينية والكوبية والسوفيتية لها نجومها. الاعتراض يأتي عندما يتحول النجم إلى بطل على الشاشة ومنقذ للبشرية. أو أن تصنع من خطاياها بطولة ناصعة البياض. المرفوض هو تحويل ضابط في الجيش الأمريكي إلى قاهر الأعداء. كما حدث في (كتيبة القبعات الخضراء) التي كانت مهمتها العمليات القذرة في الجيش الأمريكي، وكان هناك نقد ذكي أيام السوفييت لجون وايت الذي قام ببطولة فيلم عن القبعات الخضراء وحصل على دعم من البنتاجون، وصنع منه فيلما يضلل الناس. ويجعل من أصحاب القبعات الخضراء أبطالاً، وفي نفس الوقت كانت هناك مقالات متعددة ترفع من شأن مارلون براندو تقديرًا رفيعًا ليس لأدواره الرائعة فقط، بل لأنه رفض أدوارًا من هذه النوعية. وكذلك بالنسبة فانيسا ريدجريف التي كانت تقّدر تقديرًا راقيًا. وكذلك جين فوندا وخاصة في فيلم (جوليا). كان هناك باستمرار احتفاء بمثل هؤلاء النجوم، لكن عمومًا النجم قمة جبل الجليد العائم، لا يخرج من فراغ، وهناك عدة عناصر تساهم في صناعة صورة النجم وهو ما حاولت أن أكشف عنه في دراساتي عن النجوم. من أين يأتي شكل النجم؟ ماذا تريد الناس أن ترى فيه؟ كيف المخرج يقدمه؟ وماذا يمثل في المجتمع لأنه ليس هناك نجم قادم من الهواء الطلق وذاهب إلى الهواء الطلق. في مقالي عن عماد حمدي رأيت فيه فارس الأحلام المهزومة، حاولت أن أبحث من أين أتت هذه العاطفية المغالى فيها، كذلك الحال بالنسبة لمريم فخر الدين، ما هذه الرومانسية الهشة الضعيفة ولماذا لم تستمر؟ ومن سار على دربها مثل زيزي البدراوي وزبيدة ثروت لماذا لم تكملن؟ أحاول أن أكتشف إجابات عن هذه الأسئلة، وأتعلم من هذه المحاولات، اكتشفت مثلاً أن الزمن تجاوز فتاة من هذا النوع، لم يعد هناك مكان للوهن الذي تظهر به زيزي البدراوي وزبيدة ثروت واقعيا لم يعد موجودًا، وبالتالي عندما تتفرج البنات عليهن في الأفلام لن يشعرن بالسعادة، فهن لا يمثلهن. أحمد رمزي مثال آخر لماذا أحبه الناس؟ تكتشف أنه في ظل الالتزام السياسي لا بد أن يظهر الولد العابث. هذه هي طريقتي في النظر إلى ظاهرة النجوم.
– وماذا تعني فكرة القناع؟
هو سؤال عن العناصر التي اشتركت في صنع الوجه الذي يظهر على الشاشة.
– ألم تغير رأيك أو نظرتك في نجم بعدما قابلته وجهًا لوجه؟
لا أقابل عادة النجوم. مصافحة أو لقاء عابر مع شكري سرحان أو محسن سرحان. هناك ممثلين من أجيال تالية كان الحوار معهم يمتد أطول، كان هناك حوار مع أحمد زكي اسأله كيف صنع انفعالاً معينًا في فيلم. وتقريبًا الردود كانت تفتح لي أفقًا جميلاً لأنني من عشاق الأداء التمثيلي. أحيانًا أعيد مشهد 15 أو 20 مرة لكي أتابع الانفعالات المركبة.
– من أكثر نجم شعرت أنه يضيف لك؟
نور الشريف. في مرة سألته عن نظرة ساكنة وهو يتابع البنت الصغيرة شقيقة عايدة في (بين القصرين) وهي تتابع الفاترينة. نور قال لي بحماس إن النظرة أتت من استيعابه لسطور نجيب محفوظ، وأيضًا من عمه الذي رباه هو وأخته ولم يتزوج. وعندما كبر في السن وكانا مرتبطين به لأنه الراعي والعائل بالنسبة له ولأخته، وبعد أن كبر نور وأخته شعر بأن حياته انتهت وكان يقف في الشباك وينظر إلى الدنيا هذه النظرة الساكنة. ومرة حكيت لنجيب محفوظ عن نور الشريف، كان معنا ماجدة موريس وفاروق عبد القادر الذي نظر له نجيب وقال له: شايف يا فاروق الفنان، بياخد من هنا، وياخد من هنا ويطلع. في الحوارات الطويلة مع نور حكى عن أصول حركاته الشهيرة، بربشة العينين من أعمال ديستوفسكي، وحركة رفع كم الجلباب من رجل كان زبون ملهى ليلي، وفي الإسكندرية ارتبطت الحركة باستمتاعه وشعوره بالسعادة، ورغم أنه كان يرتدي بدلة وقتها كان يتصرف كما لو كان بالجلباب.
– أعتقد أن محمود مرسي لم يكن مجرد ممثل، بل كان أحد أساتذتك المهمين؟
علاقتي بمحمود مرسي غريبة جدًا، ظل يتعامل معي لفترة طويلة على أنني نفس الطالب الذي كان يدرسني في المعهد في الخمسينيات، وقابلني مرة في نهاية السبعينيات وقال لي: إيه يا ولد. لسه بتمشي مع أصحابك المتشردين. لم يدرك أنني كبرت وتغيرت، كنت أنزعج، لكني ظللت أحبه وشعرت بأنني محظوظ لأنني كتبت عنه كتاب التكريم. وأتيح لي أن أحاوره في الحوار الوحيد الذي تكلم فيه باستفاضة. هل تصدقني إذا قلت لك إنه لا يمر عليَّ يوم إلا وأتذكره من قوة تأثيره؟ وقد أجريت معه الحوار دون ورقة أو تسجيل. كانت لغته راقية. عندما أعود ليلاً وأكتب أشعر أنه يملي عليَّ. أعد قراءة الكتاب لتكتشف رونق كلامه وتأمله في الحياة، والفن، واعترافه بقدرات الآخرين، وخصوصًا حسين كمال، الذي شهد بأنه أفضل مخرج يدير الممثل، وكذلك تقديره الرفيع لهدى سلطان، ومن ضمن ملاحظاته الجميلة قال لي إن هدى سلطان عملت دور ست أمينة في (بين القصرين) بمفهوم مختلف تمامًا عما قُدم في المسرح والسينما. هدى أدت الدور بمفهوم المرأة التي تعلم تمامًا ما يفعله زوجها ولكنها تريد أن تحافظ على البيت. وقال لي محمود مرسي إنها كانت تباغته بنظرات ليست شرسة، إنما فيها فهم وبصيرة فهي تعلم عني كل شيء. ومن نزاهته قال لي إن يحيى شاهين عمل أحمد عبد الجواد أفضل مني، قالها بتعبير جميل: لقد كنتُ أبحث عن أحمد عبد الجواد بينما أحمد عبد الجواد يبحث عن يحيى شاهين. والحقيقة أنني تعلمت من هذا الرجل أشياء جميلة جدًا.
– من تحب من الممثلين؟
أحب كل الممثلين.
– إجابة دبلوماسية!
عمومًا كل الممثلين أرى فيهم شيئًا أحبه. لكنني أعشق بعض الممثلين الثانويين.
– مثل من؟
عبد الغني النجدي، الأسمر الذي كان يظهر غالبا في دور بواب. لكنه على مستوى آخر كان متخصصًا في عمل غريب. يأخذ السيناريو ويضيف إليه أفيهات. كان شخصية ظريفة جدًا أتذكر مشاهد له في فيلم “حياة غانية” مع برلنتي عبد الحميد. يجلس في البار ويسكر ويلاحظ أن الراقصة جديدة ولم تتعلم بعد أصول المهنة، فيقول جملة شهيرة “أموت أنا في اللي ملخبط لخابيط..”، ومع نهاية الفيلم تكون الراقصة قد أصبحت محترفة وهو في نفس مكانه يسكر، فيقول: “آه أتودجنا.. تمام يا بوي”-يعني اتعودنا واكتسبنا خبرة- كان النجدي متخصصًا في صنع مفارقات لطيفة، تظل عالقة في الذاكرة.
هناك أيضًا أمينة رزق قابلتها قبل سنوات من رحيلها بخصوص كتاب تكريمها، كنت أنتظرها في فندق سفير بالزمالك. وفوجئت بها تدخل ثم تخرج، وانتبهت وظننت في البداية أنها هي وسألت أحد العاملين فأكد لي، فخرجت مسرعا وناديت عليها. كانت تقريبًا قد نسيت الموعد بعد وصولها، لكن بعد أقل من 10 دقائق من الحوار، عادت أمينة رزق بذاكرتها الجميلة وتفاصيلها الدقيقة ولماحيتها. الممثل الوحيد الذي فقدت التواصل الذي أريده معه هو يحيى شاهين، فقد كتبت عنه أنه كان من أسرة متواضعة وقدم في أول حياته طلبًا لوزارة التعليم بمنحة تساعده في إكمال تعليمه، قرأت الحكاية في أكثر من مكان ولم أراجعه فيها، وفوجئت بالسيدة زوجته غاضبة مني، وأثرت الحكاية على التواصل مع يحيى شاهين.
– هل جربت العمل كمستشار لممثل؟
لا
– ولا لشركات إنتاج؟
في قراءة السيناريوهات فقط، وفي التليفزيون، وليس في السينما، لكن أنا أصلاً من مهام وظيفتي كموجه مسرح، أن أوجه الممثل والمخرج، غير هذا لم أعمل في شركات إنتاج إطلاقًا.
– عندما تقرأ سيناريو وتوافق عليه ويتحول إلى فيلم.. هل تشعر أنك متورط في الفيلم ولا تستطيع نقده فأنت الذي أجزته؟
بالقطع لا.
– إلى أي حد تكون حرًا وأنت تكتب؟
شيء واحد فقط أعطل فيه حريتي وهو أن يكون الفيلم عملاً أول، ساعتها لا أطبق عليه المعايير الكاملة، وهو ما يرفضه علي أبو شادي معتبرًا أنه حنان غير مبرر.
– من تعتبره ممثل سينما فعلاً؟
أحمد زكي.
– وفي العالم؟
ربما مارلون براندو.
– تبدو مُحبًا لمدرسة التلقائية والذوبان في الشخصية، لكنك معجب في كتابتك بمدرسة أخرى.
على فكرة التحديدات الفاصلة بين طرق التمثيل ليست موجودة بهذه الحدة، التمثيل يختلف من عصر لعصر، حتى الثلاثينات كان الأداء خارجي ومغالى فيه، الآن الأداء داخلي، وهنا لا بد بجانب الموهبة من دأب ودراسة، ومارلون براندو وهو يعمل على شخصية الأب الروحي ظل يدرس الشخصية كثيرًا ليعرف كيف يكّون صوته، فالرواية لا تتضمن وصفًا للصوت، فقال إنه متآمر، وأصيب برصاصة في رقبته، لهذا لا بد أن يكون صوته منخفضًا جدًا جدا، كما أنه لا بد أن يظل ظهره محميًّا بجوار حائط، وسار منتبهًا إلى جوار الحوائط، وبدا أنه أقرب إلى الثعبان وصوته مثل فحيح الثعبان، هنا موهبة وأيضًا دراسة.
أحمد زكي موهبة ضخمة جدًا، نور أختار سكة مارلون براندو في دراسة حجم الانفعال والغضب. محمود عبد العزيز موهبته في إحساسه بالأشياء، وهؤلاء الشبان، أقصد هؤلاء النجوم أفضل من الجيل الجديد الذي لم يُختبر حتى الآن.
– لا ترى أي ممثل جيد في الجيل الجديد؟
ممكن فتحي عبد الوهاب. الباقين مجرد ولاد حلوين، وستجد أن ممثل مثل كريم عبد العزيز لم يأخذ حتى الآن فرصة دور يُظهر هل هو موهوب أم لا.
– هل هذا حكم يخضع لصراع الأجيال أم أنه حكم فني؟
أنا ذكرت فتحي عبد الوهاب، وأعتقد أنه لا ينتمي إلى الأجيال السابقة.
– لكنه يشبه الأجيال السابقة..
(يضحك عاليًا) وارد.
– أنت أسير السينما التي بدأت معها؟
ليس بالضرورة وإلا لماذا أحببت (اللمبي)؟
– ألم تفكر في صداقة أجيال جديدة من المخرجين؟
تعجبني بعض الأفلام لكن لا أعرف أصحابها.
– ألم تفكر في تواصل أجيال.. أن تنقل خبرتك إلى أجيال جديدة؟
………
– هل تشعر أنك تعيش زمن غير زمنك؟
(………) علي أبو شادي يسخر مني عندما أقول هذا، لكن أنا حاسس إن دوري انتهى.
– دورك انتهى؟
لا أدري.
– ماذا كان دورك الذي انتهى؟
المتابعة الدؤوبة جدًا وبحماس، الآن هذا الحماس قل جدًا، حتى الكتابة للصحف التي تصدرونها كنت سعيدًا بها في الأول وبعد مدة أرى أنها ثقيلة، وإنها كميات من القش والعثور على خيوط ذهب داخلها عملية منهكة جدًا ستجهدك وتضيع وقتك. قرأت مؤخرًا صفحتين عن الفيلم المكسيكي المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، كاتب الصفحتين يقول باطمئنان إن المخرج شاهد الفيلم ولم يقرأ الرواية مع أن الفيلم المكسيكي قدم أشياء من الرواية غير موجودة في الفيلم. اطمئنان غريب جدًا.
– إنها أشياء تتكرر في كل عصر، الجاهل فخور بنفسه أو ربما أخطاء عادية؟
تعرف، أنا لا أشعر بأنني في زمن غير الزمن، هل تعرف الزبد الذي يطفو على ماء البحر، أشعر أن الزبد أصبح أكثر من الماء، أعرف أنني أعيش زمني، لكن الرغاوي أصبحت أكثر مما ينبغي، وأصبحت عندي هموم كثيرة جدًا. أنا زعلان.. أنا زعلان، من أشياء تبدو مضحكة للآخرين، أشعر بحزن شديد جدًا على العراق، حزن حقيقي وإحساس بأنني مسؤول تخلى عن مسؤوليته، شعرت بحزن كبير عندما شاهدت صورة أخيرة لجنود يضربون فلسطينيًّا بينما يطلقون كلبًا على امرأة معه، أشياء ربما يثير حزني عليها، سخرية ما، أشعر بأنني عشت في عصر لم يكن من الممكن أن تجتمع فيه وزيرة خارجية مع وزراء خارجية 4 دول ومعهم مديري مخابرات الدول الأخرى. أعرف أن هذا كلام في السياسة وليس في السينما، لكنني عشت زمنًا آخر كان الجيش العراقي فيه يحارب مع الجيش المصري. زمن مختلف. وأنا أشعر بأنني الآن ليس لي دور. الآن.
– الدور يتغير!
يتغير ازاي؟!
– بحسابات السينما والدراما لماذا تشعر بأنك تندهش من انتصار الأشرار في مرحلة ما من الفيلم.. هل أنت من عشاق انتصار الخير؟
لا.. أنا من أنصار تصفية الحسابات.
– ألا ينهزم الأبطال في الفيلم؟
لكنني أرى أن الأشقاء مفروض أن يفعلوا شيئًا وشقيقهم يُذبح.
– أليس هذا منطقًا بسيطًا قليلاً؟
ومن قال إن المنطق البسيط خطأ؟
– أقصد أن الإحساس بأن الدور انتهى إحساس مبكر.
أقول لنفسي هذا أحيانًا لكني أعبر لك الآن عن إحساسي بصدق. أنا زعلان وزهقان.
– هل تحب شارلي شابلن؟
شخصية عظيمة.
– لكنه كان شخصًا صغيرًا ضد حضارة كاملة.
هذا لأنه شارلي شابلن.
– تبدو معجبا أكثر بدون كيشوت!
شخصية رائعة.
– لكنه مغرم وشغوف بإعادة الزمن القديم.
لكن ظل عنده حماس.
– أشعر بالدهشة كلما حاورت أحد من جيلك تحدث لي عن العصر الذهبي والزمن الجميل.. سمير فريد قال لي في الكتاب إنه فلاش باك!
أنا ليس عندي حنين للزمن القديم، وإذا قلت لي هل تريد أن تعيد حياتك مرة أخرى سأقول لك لا.. الأيام الجميلة ليست خاصة بالماضي، الأيام الجميلة هي التي كنت أحلم بأنها قادمة ولم تأت.. لهذا هناك مشاهد تسحرني في السينما مثل مشهد الأصدقاء في فيلم (سواق الأتوبيس) وهم يتجمعون أمام الهرم ويتذكرون أيام حرب 73. هذه هي الأيام، بينك وبين الحلم شبر واحد، كل الناس شاركت في الحرب، وانتظرنا أن توزع مصر خيرها على عيالها بالعدل، وكلنا ننهض وأيدينا في أيدي بعض، كل هذا انتهى بالصحف التي تصدرونها.
– سأعتبر أن هذا نقدًا بناءً (رغم أنه يعرف رأيي في تلك الصحف).
ضحكتك الساخرة تعبر بدقة عن رد فعلك.
العصابة.. التي انتهت أحلامها مبكرا
– كلما كلمتك في السينما جررتني إلى السياسة، وكلما أردت أن أعرف شيئًا عنك هربت إلى أشياء عمومية..
ربما أرى إن السياسة فيها سينما وليس العكس فقط، وأعتقد أنك قرأت مقالاتي في تأمل وجوه الحرب المشؤومة في العراق، أحاول أن أقرأ صورًا، أحب أن أرى بوش وهو يتكلم عشان أعرف الفرق بين ملامح وجهه وهو على ظهر البارجة البحرية يعلن لقواته أن الحرب انتهت وأمريكا انتصرت، ثم وجهه وهو يقول إنه سيستخدم الفيتو إذا أراد الديموقراطيون سحب قواته من العراق.. هذه سينما، فإذا كنتُ أنقلك من السينما إلى السياسة فإنني في الحقيقة أنقلك من السينما على الشاشة إلى السينما في مكان أوسع.
– لكنك تهرب دائمًا من الحديث عن تحولاتك الذاتية، كيف اشتغلت على نفسك لتفادي كل هذه الهزائم في الواقع؟
كيف أتفاداها؟
– أكيد الإحساس بالهزيمة لا يكون واحدًا على الجميع وبالتأكيد حدثت تحولات في جيلك على مستوى الأفكار والمواقف..
يمكن لآخرين أن يتحدثوا عن تحولاتي.. إذا كان هناك تحولات.
– هل تعتبر التحولات شيئًا سلبيًّا؟ ألم يحدث لجيلك تحولات؟
معظم الأفكار الأساسية ثابتة، ربما هناك بعض تطورات إنما لم أر تحولات بمعنى التحول الكامل.
– يعني علاقتك بسمير فريد الآن نفسها كما كانت من قبل.. أم هناك تأثير على تحولات كل منكما، في الأفكار؟
بلاش سمير فريد؛ لأنني أحبه جدًا كإنسان وناقد سينمائي كبير، لكن دائمًا نختلف في السياسية ونصل إلى نتيجة مؤداها إن هذه إحدى المناطق الخلافية الموجودة بيننا ونحترمها ولا نقترب منها إنما مناطق الاتفاق والود أوسع بكثير جدًا من هذه المنطقة.
– في فترة من الفترات كانوا يطلقون عليكم عصابة..
هذه كانت طرفة جميلة جدًا.
– المقصود كان أنت وسمير فريد وعلي أبو شادي.. ولم أعرف أبدًا من هو الرابع؟
المفروض أنه هاشم النحاس، لكننا تعاملنا على أن الرابع متغير، وهي تسمية لطيفة لم أنزعج منها قط، وهذه فرصة لكي أرد على سؤال سابق لم أجب عليه، وهي إن عزائي دائمًا في الصداقة التي تمثل بالنسبة لي قيمة رفيعة جدًا، وأكاد أكون عايش بأصدقائي.. أصدقائي هم كل حياتي ولهذا أحببت أفلام رضوان الكاشف لأن فيها تقديرًا رفيعًا بشأن (..) هذه الصداقة هي التي دفعت سامي السلاموني إلى إطلاق تسمية عصابة الأربعة علينا، وهو تعبير مأخوذ من عصابة الأربعة في الصين، وأرى أنها ظريفة.
– طوال الوقت تعاملت معها على أنها دعابة لطيفة؟
لا.. أحيانًا كانت تثير خلافات شديدة.
– ربما لأنها تعني أن النقد تحول إلى جماعات مصالح؟
بالفعل كان المقصود إنها جماعة مصالح وضغط.
– اشرح لي الموضوع بطريقتك.
سامي السلاموني كان شخصية جميلة.. مرح.. وساخر، ويسخر من نفسه قبل أن يسخر من الآخرين، وأكن له تقديرًا ظهر في مقالي الذي كتبته بعد رحيله، سامي كان يلتقي معنا أنا وسمير فريد وعلي أبو شادي والخلاف الأساسي كان بينه وبين سمير. وكنا وقتها مجموعة، بيننا سمير فريد لامع في مجاله، وعلي أبو شادي بدأ موظفًا في المستوى المتواضع واستطاع بجهده ودأبه وذكائه أن يصل إلى ما هو عليه الآن، لكن البعض يعتبر أن النجاح قرين مسائل أخرى. كنتُ صديقًا لـعلي وسمير، وفي نفس الوقت كنت صديقًا لسامي السلاموني، وأعتقد أنه كتب مقال عصابة الأربعة متوهمًا أن هاشم النحاس رابعنا وأنه يستعد لمنصب في المركز القومي للسينما، فكتب سامي عن سيطرة عصابة الأربعة على السينما في مصر، والتقطه آخرون، لكن أعتقد أن التسمية انتهت الآن، حتى يأتي جيل جديد ويبعث الحياة في التسميات القديمة.
– مصدر استغرابي أن النقد يتحول إلى جماعة ضغط ومصالح؟!
عن تجربتي إطلاقًا لا يحدث هذا.. طبعًا كان المحرر الفني فينا يمكن أن يتلقى ربطة عنق هدية سهرة، هدايا، لكن في النقد بالمعنى الحديث لا يمكن أن يحدث هذا؛ لأنه لا يمكن أن يكون ناقدًا معترف به إلا والناس تصدقه، يعني نقاد مثل مصطفى درويش أو خيرية البشلاوي أو رؤوف توفيق أو أحمد الحضري، توافق أو لا توافق على مقالاتهم.. هؤلاء جميعًا لا يمكن أن يكونوا أصحاب مصالح.
– أسألك عن نقطة معينة.. خاصة بما يوحي به إطلاق توصيف العصابة على مجموعة من النقاد.. كيف يمكن أن نرى هذا في عالم النقد؟ هل يضغط النقاد من أجل فرض وجهة نظر معينة أو تأييد تيار سينمائي معين؟
لم يحدث هذا.
– لماذا تدافع.. أنا أحاول مناقشة الدور النقدي هل يمكن أن يتحول إلى ضغط لتغيير المزاج الفني، أقصد الجانب الإيجابي أيضًا؟
لا يحدث هذا عادة، وإحقاقًا للحق عندما عمل سمير فريد في الشركة العالمية للإنتاج لم يكتب مقالات نقدية نهائيًّا، وكذلك علي أبو شادي.
– كيف حافظت على استقلالك النقدي؟ هل حافظت على استمرارك فترة طويلة في الوظيفة لتبتعد عن فكرة الكسب من كتابة المقالات التي ستؤدي بك إلى الصراع حول المناصب، أو للعمل في شركات الإنتاج؟ هل كنت واعيًا بهذه الإشكالية؟
كان اختياري من البداية أن أنزل من بيتي وأذهب إلى السينما أرى الفيلم وأعود لأكتب عنه، ثم بعد تجربة حضور افتتاح أفلام، أضطر إلى أن أصافح أصحاب العمل وأقول لهم مبروك، وربما الفيلم لم يعجبني، فإذا كتبت عنه بشكل سلبي، يتعجبون بحجة أنني قلت لهم مبروك، فلم أعد أذهب إلى افتتاح الأفلام.
– أتكلم عن استقلالك يعني أنت الوحيد الذي لم تحصل على مناصب، وابتعدت عن أي شيء في النقد إلا الكتابة؟
الحقيقة هذا من أيام المعهد، وبعد التخرج، وتعييننا في وزارة الشباب اجتمع معنا سعد الدين وهبة، وقال من يرد أن يعمل في وزارة الثقافة يكتب طلبًا، اتخذت ساعتها موقف أن أكون حرًا وأبقى خارج المؤسسة (وزارة الثقافة)، في وزارة الشباب أعمل، لكن بحرية أكبر، وفي نفس الوقت هناك علاقة بالفنون أيضًا وظللت سنوات لا أحد يعرف أنني الذي أكتب مقالات في النقد، أنا بالنسبة لهم مجرد أخصائي الفنون المسرحية، ولاحظ أننا ولفترة طويلة لم تكن مجالات الكتابة مفتوحة أمامنا بعد مقاطعة أغلب الدول العربية للثقافة المصرية بعد مبادرة السادات وزيارته للقدس، ولسنوات طويلة لا دخل لي إلا الوظيفة. وأحمد ربنا أن لي وظيفة.
– أي أنك كنت واعيًا بفكرة الحرية بعيدًا عن العمل في المؤسسات الثقافية؟
إلى حد كبير.
– هل تعتقد أن خبرات الحياة هي التي تعلمك أكثر من النظريات في الكتب؟
لكن لا بد أن يكون لك موقف من البداية، والحياة تبين لك إذا كان اختيارك صحيحًا أم لا.