طول الشهور الستة الماضية كنت مشغولًا بالتفكير والكتابة عن موضوع تصوَّرت في البداية أنه سيستحوذ على مساحة محدودة من تفكيري، ولن يستغرق وقتًا طويلًا. لكنني كنت مخطئًا، فما أزال عالقًا في بحث لا أفق له، لأن بعض الوقائع الحياتية اليومية تعمِّق من كثافة بعض عناصره، فالناعي إذ يردد كل يومين أو ثلاثة اسمًا جديدًا، يجعلني أعود للحلقة الأولى من هذا البحث الذي يبدأ من المسرحية والفيلم اللذين يحملان عنوان “الموت والعذراء“، وقد اختار الكاتب أرييل دورفمان العنوان من اسم الرباعية الوترية التي ألَّفها فرانس شوبرت، وتلعب دورًا مهمًا في أحدث المسرحية. في تلك الحلقة كان البحث عن مقاربات لموضوع الموت متعلقًا بالمفاهيم الرومانسية الجمالية في الشعر والموسيقى بداية القرن التاسع عشر، مجرد مدخل، والآن إذ أحاول الكتابة عن محسنة توفيق لا أستطيع التهرب من الدخول عبره، وتجاوز سؤال “لماذا مات هذا الشخص، ولماذا هناك حياة على الاطلاق، وعلى وجه الخصوص ما معنى حياتي؟ فما دمت قد علمت من هذه التجربة أن حياتي أيضًا ستنطفئ في هذا الظلام– اللا نهائي فلماذا إذن أحيا على الإطلاق؟ وتجاوزت كوننا “نجرب الموت في موت الآخرين“، لأصل إلى أنه “لا بد أن يفهم الموت أساسًا على أنه تقطُّع نسيج العلاقات بين الأشخاص. وعن هذا الطريق يصبح الموت مهمًّا للتجربة؛ فما نجربه أو نمارسه على أنه الموت ليس مجرد موت الآخر، ولكنه التمزق المفاجئ لهذا النسيج الهشّ للوجود.”
هذا التمزق يكون كبيرًا أو قليلًا تبعًا لمدى الروابط المشتركة التي تتمزق، من هنا ربما يكون مفهومًا هذا الحديث الذي يكون في بعض الأحيان مضطربًا عن حضور الذات في رثاء الراحلين، ولأنني لا أريد أن تكون كلماتيعن محسنة توفيق “رثاءً” عابرًا، سأبحث عما يظهرها ضمن احتشاد كبير يليق بها، فهي هنا لا تأتي بمفردها، بل يحضر معها عشرات ومئات وآلاف. وللغرابة جميعهم موتى، لذلك سأعبر هذه المقدمة بتذكر “إن ما يكشفه الموت هو التناقض الذي طرفاه: أننا على الرغم من أننا نعتمد في قيام شخصياتنا على الآخرين فإننا من ناحية لا نوجد كأشخاص إلا في حالة الحرية، والحرية في صورتها العليا هي القدرة على مواصلة الاتصال في وجه الموت وليست استبعاد الموت“.
يرما.. التنافس الخشن من البداية
التفكير في مسرحية “يرما” بمثابة دخول إلى نقطة تقاطع لموضوعات عدة لها صلة وثيقة بمحسنة توفيق كإنسانة وفنانة، وبمسيرتها الفنية، وبتحولات الواقع الثقافي والفني، وتعقيداته وصرعاته؛ المهم منها والتافه.
في كتابه “المنسيون ينهضون” يتناول شعبان يوسف ترجمة وحيد النقاش لمسرحية “يرما” في مجلة الآداب البيروتية 1957، ثم يذكر “بعد نشر المسرحية في مجلة الآداب بسبع سنوات، وبعد انتشار اسم ومعنى لوركا في مصر والعالم العربي، تم عرض هذه المسرحية في مسرح الجيب، وكان العرض الأول لها في 16 يوليو 1964 من إخراج الفنان كرم مطاوع، وساعدته في الإخراج عطيات عوض– عطيات الأبنودي، فيما بعد– وكذلك عادل هاشم، وقام بالبطولة سهير البابلي وعبد الله غيث ومحمد الدفراوي وآخرون، ولكن العرض جاء مصحوبًا بترجمة أشعار المسرحية من جديد، وقد قام بصياغتها الشاعر صلاح عبد الصبور، ثم أعيد نشرها في مجلة المسرح في سبتمبر 1964 هكذا “يرما.. الشاعر الإسباني فيديريكو جارثيا لوركا.. ترجمها عن الفرنسية وحيد النقاش.. صاغ أشعارها الشاعر صلاح عبد الصبور“.
في مقدمة المسرحية جاءت دراسة عنوانها “أعمدة مسرح لوركا” للناقد إسماعيل البنهاوي، مع حذف المقدمة التي كتبها وحيد النقاش. وللأسف عندما نشرت المسرحية في كتاب مستقل 1967، كُتب على الغلاف “يرما صلاح عبد الصبور ووحيد النقاش“، وجاءت مقدمة الترجمة لصلاح عبد الصبور، ويلاحظ أن اسم صلاح عبد الصبور سابق لاسم وحيد النقاش، مع أن النقاش هو المترجم الفريد للمسرحية، وللأسف تكرر ذلك الأمر بعد رحيل صلاح عبد الصبور، حين ضمَّت الهيئة المصرية العامة للكتاب المسرحية إلى المجلد الذي يشمل ترجمات صلاح عبد الصبور، وكذلك حدث في المجلد الذي ضم ترجمات وحيد النقاش.
طغت نجومية عبد الصبور على سبق وجهد النقاش الصغير، لكنه في مقدمة ترجمته في الآداب يشير إلى بضع مسائل متصلة وثيقًا بحديثنا اللاحق عن مسيرة محسنة توفيق، فهو يؤكد أن المسرحية “لون فريد من ألوان المسرح، ليس بالنسبة لنا فقط، وإنما بالنسبة لتاريخ المسرح الأوروبي أيضًا، ونستطيع أن نرجع هذا التفرد إلى أن عناصر جديدة، لم يكن ينظر إليها من قبل على أنها يمكن أن تتخذ شكلًا مسرحيًّا أو تشارك في البناء الدرامي، وقد اضطلعت بهذا الدور الجديد في مسرحيات لوركا. فالأغنية الشعبية؛ أو على الأقل ذات المضمون الشعبي، التي يخرجها الشاعر في شكل جديد مستعينًا بكل إمكانياته ومواهبه، لم تعرف طريقها إلى خشبة المسرح إلا في بعض الأعمال التي يصعب إدراجها مع المسرحيات الجدية المرتكزة على القوانين العلمية للمسرح جنبًا إلى جنب. فهذه الأعمال غالبًا ما تعتمد الأغنية كتعويض عن فقدان العنصر الدرامي لتحتفظ بجمهورها على أكبر نطاق ممكن… أما لوركا، فلا يذكر اسمه إلا وتثار معه قضيتان من أخطر قضايا الفن المعاصر. أما الأولى فهي قضية علاقة الشعر بالمسرح، وأما القضية الثانية فهي قضية الأدب الشعبي “الفولكلور“. ففي مجال الشعر نراه يعود إلى الينابيع الشعرية في وطنه فيجمع منها الأغاني والأناشيد ويعيد صياغتها معتمدًا على موهبة لا ينضب معينها“. وسنستحضر ملاحظات النقاش هذه في الحديث اللاحق عن نجيب سرور وياسين وبهيَّة.
حين قدمت مسرحية “يرما” في مسرح الجيب كان فريدريكو جارثيا لوركا “1898- 1936” قد أضحى معروفًا على نطاق واسع، أشعاره ومسرحياته باتت معروفة، لكن حياته وموته ظلا يمثلان الجانب الأكثر “رومانسية” في عالمه، فمن الذي يمكنه أن يقاوم جاذبية صورة الشاعر الذي يلقي آخر أشعاره لحظة إعدامه، الفاشيون بقيادة فرانكو أعدموا الشاعر ودفنوه في قبر ظل مجهولًا لفترة، وما يزال الشك محيطًا بحقيقة المكان الذي دُفن فيه حتى اللحظة.
أما المسرحية فهي مأساة شعرية تكشف القوانين الأخلاقية الأوروبية في ثلاثينيات القرن الماضي، كتبها لوركا في 1934، وتشكل جزءًا من ثلاثية تكتمل مع مسرحية “عرس الدم” “1933”، و“بيت برناردا ألبا” 1936. و“يرما” امرأة تعيش في صحراء من الحب، والشعور بالوحدة القاسية؛ فهي غالبًا ما تكون بمفردها، ليس لديها أحد تتحدث إليه، يرفضها المجتمع، لأنها وبكل بساطة، متهمة بالعُقم، وهكذا فهي حبيسة مجتمع لا يريد أن يعترف بأن زوجها خوان هو السبب. وفي المسرحية نقد جذري لاذع للدين وتأثيره “السلبي” على الحياة الاجتماعية.
أدت سهير البابلي دور “يرما“، بينما أدت محسنة توفيق دور “ماريا“، لذلك ظهرت كتابة شعبان يوسف خلوًا من ذكر محسنة توفيق، على ما حشد من أسماء، و“يرما” هي الشخصية الرئيسية التي خلع الشاعر اسمها على المسرحية، لمحوريتها في العمل الدرامي، ووفقًا لهذه المعادلة المتعلقة بمساحة وأهمية الدور نشأت العلاقة بين محسنة وسهير في أجواء من “التنافس“، وربما “الصراع” بين المجايلين، كلتاهما كانتا تطاردان بحماس “نجومية” وربما سطوة السابقات الراسخات: سميحة أيوب وسناء جميل، وإذا أضيف لاحقًا اسم سهير المرشدي، فقد أضحى المشهد مزدحمًا بطاقات وحمية لافتتين.
ظلت ذاكرة محسنة تحتفظ ببعض من تلك الأجواء، وتتذكر ما جرى في 1966 في مسرحية “أجاممنون“: عرض عليَّ كرم مطاوع الدور بعد انسحاب سهير البابلي بسبب خلافات بينهما، وبعد ثلاثة أشهر على عرض المسرحية وتحقيقها نجاحًا عادت سهير وأرادت أداء الدور، فوجدت نفسي في موقف حرج ورفضت التنازل عن الدور، عندها قرر كرم مطاوع أن تؤدي كل واحدة منا الدور لمدة أسبوع فوافقت، لأنني كنت متوقفة عن العمل بسبب السياسة وفي تحدٍ لمن منعني من العمل، ولسهير التي أحجمت عن الدور وعادت لتسحبه مني، والحمد لله حققت نجاحًا“.
كان الدور هو كاسندرا، ابنة بريام ملك طروادة وهيكوبا، وأسيرة أجاممنون، وهي شخصية رئيسية في المسرحية الأولى في ثلاثية “الأورستيات” لأسخيلوس، التي تضم أيضًا “حاملات القرابين“، و“الصافحات“، وقد مُثِّلت في سنة 458 ق.م، والمسرحيات الثلاث يوصل بعضها بعضًا؛ فالأولى موضوعها اغتيال أجاممنون بواسطة زوجته كلومنسترا المتواطئة مع خليلها أيجيست، والثانية موضوعها انتقام أورست من هذين القاتلين لأبيه، والثالثة موضوعها محاكمة أورست، الذي طاردته آلهة الانتقام “لقتله أمه” لكن برأته المحكمة.
بعد أجاممنون بعامين تشارك محسنة توفيق في مسرحية “حاملات القرابين“، من إخراج المخرج اليوناني تاكيس موزينيديس، في تجربة اعتبرت بالإضافة إلى مسرحية “دائرة الطباشير القوقازية” لبرتولد بريشت التي أخرجها الألماني كورت فيت، ذروة جهود ثروت عكاشة المسرحية، وسنعود لأجواء تلك الفترة فيما سيأتي.
تخطيط أوَّلى لصورة بهيَّة
الملاحظات الثاقبة التي ذكرها وحيد النقاش في تقديم ترجمته لمسرحية “يرما” عن مسرح لوركا، تكتسب أهمية ودلالة في النظر إلى مسرح نجيب سرور، وإلى ما يمكن أن نطلق عليه “مسألة بهيَّة“؛ ففور عودة نجيب سرور “1932- 1978” من بعثته لدراسة الإخراج المسرحي في الاتحاد السوفييتي 1964، أخرج له كرم مطاوع مسرحيته الرائدة “ياسين وبهيَّة“، ثم كتب مسرحية “يا بهيَّة وخبريني” 1967 وأخرجها أيضًا كرم مطاوع.
تميز ذاك العام؛ 1964، بعدة ظواهر مسرحية– متصلة بحديث النقاش عن لوركا–، في مقدمتها المسرح الشعري، ففيه قدم صلاح عبد الصبور أولى مسرحياته الشعرية “مأساة الحلاج“، لكن عمل سرور كان أكثر اتصالًا، وأبعد تركيبًا، فهو إذ نشر النص لم يكتب على الغلاف “مسرحية شعرية” لأنه كان يدرك جيدًا أن نصه يختلف عما ألفه الناس وعرفوه عن المسرح الشعري، وصكَّ مصطلحًا جديدًا “رواية شعرية“.
حين قدمت “ياسين وبهيَّة” على خشبة مسرح “الجيب” في ديسمبر 1964 لاقت إقبالًا شديدًا، ورأى بعض النقاد أن سر نجاحها “استحداثه قوالب جديدة يصوغ فيها مادته المسرحية“-على حد قول أمين العيوطي في مجلة “المسرح“، في الشهر الذي بدأ عرضها فيه، ونجاح المؤلف الشاعر في “تصوير ما كان يعانيه الفلاحون من عبودية الإقطاع في مصر في لغة شعرية جديدة يمتزج فيها العامي بالفصيح” مزجًا يحمل في ثناياه روح الطبقة الأعظم في مصر ومثقفيها “طبقة الفلاحين” ليقدمها إلي جمهور العاصمة ومثقفيها الذين لا يعايشون هذا الواقع الاجتماعي الذي يكابده الفلاحون في مصر“.
في مفتتح المسرحية يخبرنا الشاعر الشعبي/ الراوي ما نحن بصدده:
أقصُّ عن بُهوت.. أقصُّ عن ياسين.. عن بهيَّة
حكاية لم يروها أحد.. حكاية أود أن تعيش للأبد
ثم، يصف ياسين:
كان ياسين أجيرًا من بُهوت.. جدعًا، كان جدع
شاربًا من بزِّ أمه.. من عروق الأرض.. من أرض بُهوت..
كان مثل الخبز أسمر “فارع العود كنخلة” وعريض المنكبين كالجمل..
وله جبهة مهر لم يروض.. وله شارب سبع يقف الصقر عليه..
غابة تفرش صدره.. تشبه السنط الذي يحرس غيطًا.
في الأجواء العامة للحكاية يقدم لنا الشاعر/ الراوي هذه الوصفة الاجتماعية:
فيه ناس بتشــرب عسـل ونـاس بتشرب خل
وناس تنام ع السـرير وناس تنام ف الطل
وناس بتلبس حـــــرير وناس بتـلـبس فَلّ
وناس بتـحكـم على الحـــر الأصـيـل ينذل
هل بدأت “أسطورة بهيَّة” من هنا، وهل هناك “رواية” أخرى، غير شعرية، غير درامية، رواية تناكف هذا التوظيف الدرامي وربما السياسي للأغنية الشعبية؟ يبرز العيوطي أهمية الشكل المسرحي، فيذكر أن العمل يثير قضية الشعر الحديث بقدر ما يثير قضية الشعر الدرامي والدراما الشعرية، ويثير قضية مدى درامية هذا العمل في حد ذاته… وقد أطلق عليه مؤلفه رواية شعرية. وقد يوهم هذا بعض القراء أن العمل كرواية لا يمت للمسرح بصلة. ولكنني أرى أنه ما لم يكن يحمل في طواياه الكثير من المقومات الدرامية، لما استطاع أحد أن يبرزه على خشبة المسرح في شكله الأخاذ الذي رأيناه على مسرح الجيب في الموسم الماضي.. فالتجربة في الواقع تجمع بين ملامح الرواية والدراما معًا“.
ويلفت العيوطي إلى وعي الشاعر/ الرواي بالجمهور المستهدف، فيذكر أنه “في الحركة الثالثة يشمل الراوي بنظرته حلقة السامرين حوله ويتجه بحديثه إليهم، ويتعداهم إلى حلقات أخرى من البشر فيقصُّ: للعمال.. للزراع،
أقصُّ للعرايا، للجياع،
للكادحين تحت الشمس،
للثائرين فوق كل أرض،
للزاحفين في السهول، في الأدغال، في الجبال“.
ويلاحظ العيوطي أن ياسين إذ يعاني قسوة الواقع المتعدد الوجه “يعتقد أن الرحيل من هذا الجحيم هو الحل لكل المشكلات فينشد:
حيث لا يوجد سادة..
وعبيد،
حيث لا يوجد ضرب بالجريد.
….
حيث لا يوجد جوع
حيث لا يوجد عري
حيث لا يوجد من يزرع… يزرع
ثم لا يحصد شيئًا..
بينما الآخر يحصد
ثم يحصد
وهو لا يزرع شيئًا!
لا حاجة الآن للاستفاضة مع ياسين وبهيَّة نجيب سرور وكرم مطاوع، فلنذهب إلى الأمام كثيرًا، ففي السنوات القليلة الماضية، عاد البحث عن “ياسين وبهيَّة“، أحيانًا في صياغات فجة، مترافقة مع عرض فيلم “الأصليين” 2017 الذي يتناول في جانب من أحداثه موضوعنا، تناولًا اعتبره صناع الفيلم أساسيًّا فيه؛ إذ ضمَّنوا الشريط الدعائي لقطات من مشاهد متسائلة ومستنكرة لوجود ومعنى “بهيَّة“، ثم كانت فجاجة العنوان الذي لخَّص رد الكاتب أحمد مراد على التساؤل حول بهيَّة “أحمد مراد يفجّر مفاجآت عن فيلم «الأصليين»: «بهيَّة» طلعت شمال ولا تمثل مصر.. و«ياسين» قاطع طريق زي أدهم الشرقاوي“.
ليس من المستحب الدخول في جدل مع “الأصليين“، ربما تمنحنا مصادرهم فرصة أفضل للبحث اتصالًا بحديثنا الأساسي؛ محسنة توفيق. دون البحث في الأرشيف؛ الحكومي والأهلي والصحفي، هناك في الواقع مصدر واحد شائع، ترتكز إليه مثل هذه الأصوات الفجة، التي تحاول رسم صورة مغايرة ومعاكسة لصور ياسين وبهيَّة كما وصلت إلى محسنة، بداية من نجيب سرور، مرورًا بأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وصولًا إلى العصفور ويوسف شاهين، وامتداد كل منها في الحاضر، والمستقبل بلا شك.
المصدر هو مقال في مجلة “الشبان المسلمين” مؤرخ في أبريل 1957، للواء محمد صالح حرب، شقيق طلعت حرب. ونص المقال موجود في الفصل الثاني والثالث من كتاب “أبطال الكفاح الإسلامي المعاصر” للدكتور محمود دياب، الذي يذكر في مقدمته “ترجع صلتي بالمرحوم اللواء صالح حرب حين اجتمعت الجمعية العمومية لجمعية الشبان المسلمين في مقرها الحالي بشارع رمسيس لانتخاب رئيس لها خلفًا للمرحوم الدكتور عبد الحميد سعيد، وكان شخصية فذة ظن بعض الناس أنه لا يمكن ملء الفراغ الذي تركته، فلقد كان مجاهدًا إسلاميًّا ووطنيًّا من الطراز الأول، وكان ندًّا لمصطفى كامل ومحمد فريد، وانتخبنا محمد صالح حرب بالإجماع رغم عنف الهجوم عليه في جريدة البلاغ، وكانت لسان حال الوفد المصري في ذلك الوقت“.
في مذكراته تلك يذكر حرب: تخرجت في مدرسة السواحل 1903 وعينت ضابط حدود وبخفر السواحل برتبة ملازم ثان. وكانت مهمتي محاربة التهريب والمهربين. وخلال هذه الفترة قتلت ياسين بطل الأغنية والأسطورة الشعبية والمصنوعة من الخيال، الذي من أجله نشأت الأغنية المشهورة التي تقول “يا بهيَّة وخبريني… ع اللي قتل ياسين“. كان ياسين هذا من أكبر وأشد الأشقياء في زمنه، وهو عربي من قبيلة العبابدة.. نعم.. كان ياسين هذا أعنف شقي وأجرم مجرم مشي على أرض مصر في زمنه، فقد اتخذ من القتل حرفة، كما اتخذ من إزهاق الأرواح تسليته التي لا تعادلها تسلية، فقد كان يقتل ليلهو ويلعب، ويقتل ليطرب ويبلغ به الطرب ساحاته عندما يسمع اسمه يردده الناس في خوف وهلع. وقد رُوَّع بجرائمه العديدة وقتذاك مديريتين كبيرتين هما مديرية قنا ومديرية أسوان“.
في سرده للوقائع التي تلت قتله لياسين، يأتي حرب على ذكر عدد من القادة الذين يأتمر بأمرهم، وينفذ تعليماتهم، ويتلقى منهم التكريم، كما يتلقى العقاب “وأرسلت برقية إلى مفتش الصحراء الغربية الأميرالاي الألماني فون دومربكر بك.. وأبلغت اللواء هنيز باشا” والجنرال جورج هنيز شقيق الجنرال أرشواد هنيز مفتش المديريتين قنا وأسوان.. تلقيت من مستر وندسون خطاب شكر وصرفت لنا وزارة الداخلية عشرين جنيهًا مكافأة“.
ويشدد حرب على أن ياسين الذي أمعن في وصفه بتلك الأوصاف البشعة كان يقول لبعض أقاربه “لماذا لا أكون مثل أبوزيد الهلالي على الربابة“، ويختم مذكراته عنه وهكذا قتل ياسين. وهكذا كانت نهايته، ولم تمض غير أيام حتى نَظَم أحد أبناء الصعيد أغنية في ذلك، لم تلبث حتى رددها الشعب كله من أقصى الصعيد إلى شمال الدلتا “يا بهيَّة وخبرينى.. ع اللي جتل ياسين“.
هذا هو المصدر الوحيد الذي نقل عنه جمال بدوي ما ذكره في كتابه “مصر من نافذة التاريخ” وأعاد صياغته متأثرًا بالفاصل الزمني بينه وبين حرب، لذلك نجده يتحدث عن “أصدقاء ياسين“، ويوجه لهم الخطاب “وقد يدهش أصدقاء ياسين، إذا عرفوا أن بطلهم الأسطوري لم يكن سوى مجرم سفاح يحترف مهنة القتل بالأجر، ويتعيش من دماء الضحايا والأبرياء. وسوف تزداد دهشتهم، إذا عرفوا أن قاتل ياسين هو المجاهد الإسلامي المعروف اللواء محمد صالح حرب باشا وزير الحربية ورئيس جمعية الشبان المسلمين، يرحمه الله“.
والمجاهد الإسلامي، يدفع لنا بالمشهد الملغز في صياغة محكمة جديدة على لسان حرب نفسه: “ودخلنا المغارة المظلمة على أعواد الثقاب.. ففوجئنا بامرأة تصرخ ومعها طفل يولول.. فأخرجناها، واتضح أن المرأة المسكينة زوجة الشقي، والولد ابنه، فلما علمت الزوجة بمقتل ياسين اندفعت تزغرد وتقول في حماس: بركة لي.. بركة لي.. وحسبت أنها تتصنع الفرح خوفًا منا.. ولكني علمت أنها جادة لأنها كانت تعيش معه في خوف وبلاء“. ويختم بدوي “وانتهت حياة ياسين.. السفاح المحترف.. وبقيت أسطورته في وجدان الجماهير التي تبحث دائمًا عن بطل يملأ الأرض عدلًا بعد أن ملئت جورًا، فإذا لم تجده في الحقيقة.. صنعته في الخيال“.
الغريب أن الكلمة الأخيرة من كلام بدوي سنة 1994 تبدو وكأنها تنبهنا إلى فجاجة “الأصليين” الذين يفتتحون فيلمهم بهذه العبارة المنسوبة لألبرت أينشتاين “الخيال أهم من المعرفة“. ولو أن هناك وسيلة ما تمكننا من مخاطبة اللواء محمد صالح حرب من وراء الحجب، لكنا أخبرناه أنه في اليوم الذي كان يتجهز محبو محسنة توفيق لوداعها ويرسلون إلى أحبتهم بنعي “بهيَّة“، كانت فرقة “فرسان الشرق للتراث والرقص المعاصر“، التي أسستها دار الأوبرا المصرية سنة 2009، تفوز بالجائزة الأولى في مهرجان المسرح الحر بالأردن، عن عرض “بهيَّة” إخراج كريمة بدر، الذي سبق وأن قدمته في 2012، صياغة “فرسان الشرق” للإجابة عن سؤال “مين قتل ياسين؟“، ولا يختلف كثيرًا عن صياغة نجيب سرور، فمن خلال العرض الراقص جُسِّد دور ياسين باعتباره “رمزًا للشجاعة والشرف فهو ابن البلد الجدع، الذي يدافع عن أرضه من عدوان الباشا الأجنبي الذي أخذ أرض أبيه وتركه دون ميراث، ودفع أباه إلى السجن حتى مات مقهورًا، قاتل ياسين أيضًا من أجل الحفاظ على حبيبته بهيَّة، وينتظر اليوم الذي يتزوجها فيه ويحقق آماله وتستقر روحه في ظلالها، ولا تخلو حياة ياسين من الصراع المستمر حول الأرض والشرف والحب الذي لا ينتهي، وقد جزم العرض أن الباشا الإقطاعي المسيطر على الناحية هو من قتل ياسين“.
بإمكاننا بسهولة ودون تدقيق أن نلاحظ الفارق الهائل بين رواية صالح حرب ومن بعده الدكتور محمود دياب وجمال بدوي ثم “الأصليين” وبين رواية نجيب سرور، الذي كان يعي بلا شك، كما وعى نقاده وشارحوه، الفرق بين وقائع التاريخ وذاكرة الناس وخيالها الشعبي الشعري. والمدهش في الفريق الأول أنه بصورة مباشرة يضع خطًّا صراعيًّا حاسمًا بين السلطة والناس، يعبر فوق كل الأنظمة والعهود السياسية.
والمهم أيضًا أن بهيَّة في رواية الفريق الأول شبه غائبة، أو “مقهورة، مخدوعة“، وفي نسخة الشماتة المنحطة “شمال“، بينما صورتها وحضورها وفاعليتها تتعزز مع زيادة القهر ومقاومته، حتى تصل إلى محسنة فتصوغ صورة مناقضة تمامًا لصورة “الأصليين“. وأخيرًا فمن المهم أن الجسر الذي عبره ياسين وبهيَّة من سرور إلى نجم– إمام، ثم إلى شاهين، كان جسر سقوط أوهام السلطة الأبوية الحاكمة، أبوية مهزومة عرفنا أنها في أيامها الأخيرة كانت تخشى التنظيم الذي شكلته يداها، وتعرف أنه في الواقع “من ورق“، لكن يبدو أن درس الدكتور بالمي كان في طور الجنين.
الفوز العظيم ألا تمكِّن الطاغية من القضاء عليك
لم تكن محسنة توفيق تمل من الحديث عن تقديرها لكرم مطاوع، وترجع إليه الفضل في نجاحها وصقل موهبتها. في 1964 حقق كرم مطاوع “1933- 1996” عدة نجاحات دفعة واحدة، فكانت مسرحية يوسف إدريس “الفرافير” أولى مسرحياته التي يخرجها بعد عودته من الدراسة في إيطاليا، في أبريل 1964، بعدها بشهرين، تقريبًا، عُيِّن مديرًا لمسرح “الجيب“، فكون للمسرح أول فرقة دائمة له، ووضع برنامجًا يعطى الأولوية للنصوص ذات المصادر التراثية، سواء من المسرح المصري أو العالمي، إلى جانب أعمال الكتاب “الشباب“؛ مثل زميل دفعته نجيب سرور، والكاتب شوقي عبد الحكيم، الذي خرج من السجن للتو مع من خرج من الشيوعيين الذين ألقى عليهم القبض وحوكموا في 1959. وأخرج مطاوع في الموسم المسرحي نفسه ثلاث مسرحيات: “يرما” لوركا، و “يس وبهيَّة” “لنجيب سرور”، “حسن ونعيمة” “لشوقي عبد الحكيم”، وفي 1968 استقال من إدارة مسرح “الجيب” وعُيِّن مديرًا للمسرح القومي في مايو 1969، وحتى 9 أبريل 1970.
في ذلك اليوم بدأت سلسلة من الوقائع الكاشفة عن تناقضات وصراعات السلطة والمثقفين في ظل أجواء تفسخ وتحلل السلطة التي عمقتها هزيمة يونيو المدوية، الملمح الأول الصارخ يطلعني على بعض جوانبه ثروت عكاشة في مذكراته، بداية من صراعه كوزير للثقافة مع وزير الداخلية شعراوي جمعة، الذي يشغل في الوقت نفسه، ويا للمفارقة المدهشة، موقعًا قياديًّا في التنظيم السياسي العلني الوحيد، وفي التنظيم السري، الوحيد أيضًا، الذي أنشأته السلطة، وهو “طليعة الاشتراكيين“، يذكر عكاشة تفاصيل ما أطلق عليه واقعة استقالات المخرجين الأربعة “حين عَيَّنت نفرًا من الفنانين في مناصب قيادية بهيئة المسرح مضى شعراوي جمعة يعترض بأنى احتضنت الشيوعيين ذوي الميول المتطرفة، ومن الغريب أنه كان في الوقت نفسه على صلة وثيقة بهم، ومنهم من كان مشاركًا معه في التنظيم الطليعي، وحين قدم إلى بعضهم استقالاتهم احتجاجًا على إلغائي الانتداب المؤقت للمرحوم عبد المنعم الصاوي من رئاسة هيئة المسرح بعد أن لم يعد أهلًا لثقتي به، ولتجاوزه ما رسمناه معًا من سياسات، وقبلت الاستقالات تلك على الفور، وأحللت غيرهم في مواقعهم في اليوم ذاته، إذا بهذا الوزير يسعى إلىَّ بنفسه في ساعة متأخرة من ليلة ممطرة، يناشدني مُلحًّا أن أعدل عن قبول استقالات هؤلاء الفنانين مما جعلني في حيرة شديدة من أمره: أهو عليهم أم معهم؟ وإذا لم أستجب إليه أولًا، ظل يُلحُّ عليَّ، ويقترح حلًّا وسطًا رآه في أن يتقدموا إليَّ باعتذار مكتوب لعل هذا يرضيني. ولما كنت أحترمهم فنانين وأحبهم أشخاصًا وكنت حريصًا على الانتفاع بهم على الرغم مما حدث، فقد قبلت هذا الحل الأخير، وأعدتهم إلى هيئة المسرح، لا إلى مناصبهم القيادية الأولى التي كانوا يتولونها، بل ليعملوا بها مخرجين وفنانين فحسب“.
ثم ينشر عكاشة في مذكراته نص الاستقالة التي قدمها إليه المخرجون الأربعة: كرم لطفي مطاوع المخرج ومدير المسرح القومي، ومحمد جلال أمين الشرقاوي المخرج ومدير مسرح الحكيم، وأحمد عبد الحليم عامر المخرج ومدير مسرح الجيب، وسعد عبد الرحمن أردش المخرج ومدير قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية. في النص يمكن أن نلاحظ طبيعة “الخطاب” الذي كانت تجري في ظله الحياة الثقافية والفنية في ذلك الوقت، وبعد الديباجة المعتادة “إن هذه التغييرات غير المبررة موضوعيًّا، أدت بالجهاز المسرحي الرسمي– على أهميته الجذرية في تثقيف الجماهير وتوعيتها، وفي صيانة الجبهة الداخلية، وبوجه خاص في الظروف العصيبة التي تجتازها بلادنا– إلى تفتت يجعله عاجزًا عن ممارسة وظيفته الجماهيرية والوطنية والقومية“.
ويذكر عكاشة واقعة أخرى متصلة بتلك الأجواء ومتعلقة بمسرحية “المخططين“، تأليف يوسف إدريس وكانت ضمن خطة مسرح الحكيم، ويقوم على إخراجها جلال الشرقاوي، فينشر نص رسالة سعيد خطاب رئيس هيئة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية في 1996، تعقيبًا على ما أثاره الشرقاوي من نقد لمذكرات عكاشة “انتشرت شائعات حول عدم عرض المسرحية… وقد أبلغتموني سيادتكم بأن الرئيس الراحل المرحوم جمال عبد الناصر من جانبه لا يرى ما يبرر المنع، ولكن حرصه على عدم إغضاب الجهاز السياسي “ممثلًا في الاتحاد الاشتراكي” فإنه يرى عدم عرضها استجابة لرغبة الاتحاد الاشتراكي“. من المدهش جدًّا أن نعرف أن عبد الناصر كان يخشى في ربيع 1970، قبل وفاته ببضعة أشهر “إغضاب الجهاز السياسي” والمدهش أكثر أن الزعيم الذي أطلق صيحة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” يتحكم ويحكم في عرض مسرحي، أما الأكثر إدهاشًا فهو استشهاد ثروت عكاشة بمقولة برتولد بريشت “الفوز العظيم ألا تمكِّن الطاغية من القضاء عليك… لتبقى بعده“.
تخطيط ثانٍ لصورة بهيَّة
هناك شك حدسي في أن محسنة توفيق لم تكن تحب كثيرًا “قيد” صورة “بهيَّة“، أو شقيقتها الصغرى “أنيسة” في ليالي الحلمية، وما استجابتها لهذه “الأيقونات النخبوية” المخلوعة عليها إلا– في أغلب الظن– مواكبة لمشاعر وسياقات أخرى؛ سياسية واجتماعية وجماهيرية، خارجة عن الفن، وربما مضادة له. “بهيَّة” محسنة توفيق، هي بهيَّة شاهين ونجم وإمام وسرور ومطاوع. لعقدين كاملين راوغت “بهيَّة” محسنة توفيق، عبر دروب شتى. غير دروب بهيَّة اللواء صالح حرب، ومن تبع خطوه من “الأصليين“. لكن هناك بهيَّة ثالثة سابقة على “بهيَّة” سرور بأربع سنوات.
هذه الـ“بهيَّة” التي جسدتها لبنى عبد العزيز ويحمل الفيلم؛ الذي عرض سنة 1960، اسمها، صياغة فريدة قد تصلح مقاربتها تمهيدًا للحديث عن صور أعمق مدى لبهيَّة. والفيلم قصة حامد عبد العزيز، وسيناريو وحوار يوسف السباعي، وإنتاج أفلام رمسيس نجيب، وإخراج رمسيس نجيب. وبه علامات فارقة كثيرة في حياة صانعيه، وفي خبايا السينما المصرية التي توجهها في أحيان كثيرة نوازع غير فنية واضحة. فهنا، أولًا، عزيمة رمسيس نجيب اللاهبة والراغبة في جعل لبنى نجمة متوجة، فهو لا ينتج لها فقط– هذا الفيلم وغيره الكثير، أهمها في جماهيرية لبنى “الوسادة الخالية” “1957” – بل يخرجه أيضًا، ويحشد له خلطة ظنها مضمونة؛ يوسف السباعي، ورشدي أباظة، لكن الفيلم لا يصل إلى هدفه، وتسقطه الذاكرة بسهولة. وهنا، ثانيًا، خلل نزع المعنى العام للحضور “الذكوري” وتحميل “بهيَّة” بطاقة غير متوازنة، إذ يظهر ياسين في ظلها باهتًا ضعيفًا. في الأغنية الشعبية هناك حضور الغياب، ياسين وقد قُتل، وبهيَّة موكولة بتخليد ذكراه، والبحث عن قتلته والاقتصاص منهم، هنا بهيَّة هي القائدة، صاحبة التصميم والإرادة في الثأر لأبيها، وفي تحريض ياسين. مع سرور تبدو العلاقة بين الاثنين: ياسين وبهيَّة علاقة تكامل تتجاوز مفهوم الذكورة والأنوثة إلى معانٍ أبعد، في “بهيَّة” لبنى هناك أنوثة مفارقة، متجاوزة للواقع، وذكورة خجولة مترددة.
أبيقورية محسنة في ``حادثة شرف``
إصرار محسنة توفيق على أولوية السينما بالنسبة لها حد منهجي في التفكير على مسيرتها الفنية، فهي ترتب مفضلاتها: السينما، المسرح، الإذاعة، التلفزيون، وتجعل لفيلم “حادثة شرف” أهمية كبرى في مسيرتها، وإذ تعاود القول “بعد مشاهدتي لدوري في فيلم “حادثة شرف” بكيت بشدة، وقلت يا ليتني قبلت كل دور صغير عُرض على لأنه كان سيثبت أنني ممثلة سينما جيدة للغاية“، تنبهنا إلى أهمية النظر بدقة إلى العقد الفاصل بين بدايتها المسرحية في “مأساة جميلة” لفرقة المسرح القومي 1961، تأليف عبد الرحمن الشرقاوي، وإخراج حمدي غيث، وبين “حادثة شرف” 1971، فهي تخبرنا أن دورها في الفيلم “صغير“، لكنها راضية عنه، وعن الصدى الذي صنعه، ففي “مأساة جميلة” لعبت دورًا صغيرًا؛ شخصية اسمها جميلة، غير جميلة بوحيرد التي أدته عايدة عبدالجواد، التي ظلت وفية للمسرح ولم تذهب كثيرًا بعيدًا عنه.
هل تشير لنا محسنة في حديثها عن الاستمتاع والسعادة بـ“الدور الصغير” إلى “ثقافة وخبرة السنوات العشر“، هل تُلمِّح إلى إدراكها لنصائح ودروس قسطنطين ستانسلافسكي “1863- 1938”، المخرج والممثل المسرحي الروسي الأشهر، وكتابه الرئيسي “إعداد الممثل“، ورده المشهور على احتجاج أحد الممثلين على دور صغير أسند إليه “لا توجد أدوار صغيرة، بل يوجد ممثلون صغار“، أم تشير إلى مقولته “كن أنت نفسك في كل دور تؤديه، ولكن كن مختلفًا في كل مرة. فما دامت بيئتك مختلفة، وقصة حياتك مختلفة، فإن ذهنيتك هي الأخرى يجب أن تختلف، وكذلك سلوكك وإحساسك بالقيم“، أم إلى نصيحته الحاسمة” لا تحبوا أنفسكم في الفن، بل أحبوا الفن في أنفسكم“، أم أنها نادمة على السنوات العشر من رفض “الأدوار الصغيرة“؟ هل في “حادثة شرف” أي إشارة إلى ترجيح إجابة على أخرى؟
الدور فعلًا صغير، وأداء محسنة الجيد لا يصنع الكثير ليرتفع بالفيلم بالمجمل عن المكانة التي وُضع فيها الفيلم بالنسبة للجمهور ولذاكرة السينما، وبالنسبة للمشاركين فيه، أيضًا، ربما باستثناء محسنة توفيق. فأي شعور أبيقوري عميق يتملكها وهي تتحدث هكذا عن هذا الفيلم، الذي هو بلا شك “خيبة أمل كبرى” بالنسبة لكاتب القصة يوسف إدريس، مقارنة بالنجاح المذهل والمدوي لفيلم “الحرام” 1965 عن روايته التي تحمل العنوان نفسه، وهو بلا شك أيضًا “خيبة أمل” لنجمته زبيدة ثروت، التي ربما كان نجاح “الحرام” سببًا في دخولها هذه المغامرة التي لم تكن مستعدة لها، فنجاح “الحرام” كان سحرًا أقنع النجمات الجميلات بالمغامرة ودخول عالم الفلاحين البائس، وهو نجاح عزز من سحره نجاح “الزوجة الثانية” 1967، إذ أفلتت سعاد حسني من “الاختبار” بنجاح كبير، فالمشاهد كان ولا شك يرغب في المقارنة بين أداء سعاد لدور الفلاحة في “حسن ونعيمة” 1959 وأدائها في “الزوجة الثانية“. ليس بعيدًا إذن أن تكون زبيدة قد دخلت إلى “حادثة شرف” وفي ذهنها هذين الفيلمين والبطلتين، وربما لذلك حاول مصطفى محرم “صاحب المعالجة السينمائية؛ كما كُتب في عناوين الفيلم، في إشارة إلى السيناريو، وربما بعض أجزاء من الحوار، الذي كتبه يوسف إدريس نفسه” والمخرج شفيق شامية، تقديم الفيلم بمشهد يزيل الالتباس عن “شبح جفاف الحرام الحسِّي، فيرى المشاهدون زبيدة ثروت “تؤدي شخصية تدعى بنات” في اللقطات الأولى من الفيلم تسبح في ترعة القرية، ويند عنها ثوب شفاف مجسم على جسدها البض.
وربما كان الفيلم أيضًا خيبة أمل لشكري سرحان، مقارنة بنتيجة “الزوجة الثانية” ودور أبي العلا، لكن محسنة توفيق ظلت سعيدة بالفيلم، وبدورها الصغير، الذي أرضاها أداؤه، وتلك بحق فضيلة أبيقورية ستجزى عنها نجاحًا بعد “حادثة شرف“، وإن بإيقاع بطيء، وأضواء ليست ساطعة تمامًا.
في هذا العالم هناك ما هو أكثر من جلادين وضحايا
مسرحية “دماء على ملابس السهرة” ليست فقط علامة في مسيرة محسنة توفيق بأدائها المميز لشخصية “ماري بارنيس“، بل تتجاوز كونها مسرحية، كما تتجاوز مكانة كل من شارك فيها، ومكانتها هي نفسها في مسيرتهم، فهي علامة فنية– ثقافية– سياسية– تاريخية، اجتماعية، في الوقت ذاته.
عنوان المسرحية بديلًا عن عنوانها الأصلي “القصة المزدوجة للدكتور بالمي“، للكاتب الإسباني أنطونيو بويرو باييخو “1916- 2000”، الذي تمثل حياته؛ قبل مسرحه وإنتاجه الأدبي والفكري، دلالة ما في سياق تلقي المسرحية والتعامل معها في مسيرة محسنة توفيق، فباييخو كان مناصرًا للجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، واعتقل والده وأُعدِم رميًا بالرصاص 1936، واعتقل هو نفسه 1939، وحكم عليه بالإعدام مع آخرين من رفاقه اليساريين، وبعد بضعة أشهر خففت العقوبة إلى السجن ثلاثين عامًا. بدأ باييخو الكتابة للمسرح 1946، وظل يكتب حتى قبل وفاته بعام واحد، حين نشر “مهمة لقرية مهجورة“.
في تقديم ترجمته للمسرحية يلاحظ صلاح فضل أن باييخو يذهب إلى أبعد من مجرد إدانة أعمال التعذيب السياسي، إنه يقدمها في جذورها التاريخية العميقة، ويدرس أسبابها النفسية، ويستنفد كل ما يمكن أن يقال في الدفاع عنها وتبريرها، ثم تكون النتيجة الرهيبة التي ينتهي إليها أنها بالإضافة إلى كونها تشوهات اجتماعية ونفسية شائنة، فهي لا تقضي فقط على ضحاياها وإنما على جلاديها كذلك“.
لن يكون تجنيًا أن نقدر كيف تلقى الجمهور العرض المسرحي، فمن الواضح جدًّا أن المسرحية فيها إدانة لكل أشكال القمع السياسي، تشمل وتتجاوز عهدي ناصر والسادات، إلى ما هو أشمل، وحالة دانييل بارنيس الذي يعاني حالة العجز الجنسي التي أصابته في الشهور الأخيرة، لم تكن بعيدة عن حالة الاحتجاج “الصامت” والغضب المكتوم الذي أصاب المصريين تلك الأيام، كان المجتمع المصري في أزمة عميقة بالفعل، وليس فقط السلطة هي المأزومة، وهي بالطبع أبعد من أن يرمز لها بالمريض الذي يطلب منه الطبيب “الدكتور بالمي” الكلام عن حياته الخاصة، وعندما لم يستنتج أي شيء، يطلب منه الحديث عن عمله، يسترسل في ما يفسر سبب العجز الجنسي، إذ أن رئيسه “الضابط الكبير المسؤول عن تعذيب المعتقلين” طلب منه ممارسة الجنس مع المعتقلين السياسيين.
وباييخو كما يذكر فضل يتناول كل ذلك من خلال “وسائل درامية بحتة أبعد ما تكون عن الخطابية أو النزعات الأخلاقية الجوفاء، إذ يدير أحداثه في مناخ عائلي حميم ويستخدم حيلة نفسية معقدة، هي عملية الإسقاط التي توقع البطل في مأزق لا منفذ منه عندما يصاب بالعجز الجنسي عقابًا على ما فعله في أحد ضحاياه، يعقب هذا تخلخل شخصي لا يصاب هو به فقط، وإنما تصاب به زوجته كذلك“.
هذا المعنى نجده مرات عدة في كل كتابة عن المسرحية النص– العرض“، وقد ذكره الكاتب والناقد فاروق عبد القادر، في بداية مقال له عن مسرحية “الاغتصاب” لسعد الله ونوس، يشير مباشرة إلى ما ذكره ونوس من أنه استند إلى مسرحية باييخو في كتابة مسرحيته، ثم يذكر أنها قدمت على المسرح القومي في القاهرة “1979- 1980” باسم “دماء على ملابس السهرة“، من إخراج نبيل منيب، ولعب أدوارها الأولى عزت العلايلي ومحسنة توفيق وتوفيق الدقن “فأصابت نجاحًا ملحوظًا، كما قدمتها الفرق المسرحية في الجامعات أكتر من مرة“، ويذكر عبدالقادر أن نص “القصة المزدوجة” من أكثر نصوص المسرح المعاصر إحكامًا وصنعة. وإنني أذكر أن المسرح المصري قدم هذا النص كاملًا، محتفظًا بأسماء الأبطال ونصوص كلماتهم، ويلفت إلى أن السمة الرئيسية للدكتور بالمي ذاته، أنه رافض لما يحدث، ومعادٍ له “في نص باييخو يقول الدكتور بوضوح “لا أقبل هذه الأعمال تحت ظل أي نظام“، كما يؤكد لزوجة البطل التي يتعاطف معها “في هذا العالم هناك ما هو أكثر من جلادين وضحايا“، ثم يشدد على “إنها صرخة ضد التعذيب السياسي الذي توقعه نظم الحكم في الدول الفاشية بالمعارضين من رعاياها“.
حامد أبو أحمد يذكر تاريخًا آخر للعرض في كتابه “قراءات في أدب إسبانيا وأمريكا اللاتينية“، وأنها عرضت في موسم 1978- 1979، و “قد لقيت نجاحًا منقطع النظير، مما جعل العرض يستمر لمدة عام كامل، وحققت أعلى نسبة نجاح مسرحي في مصر في ذلك الحين“.
وفي الواقع عُرضت المسرحية موسمين متتاليين، ولاقت نجاحًا في القاهرة بعد عقد كامل من نشرها وتقديمها في إسبانيا، والعديد من دول العالم، ما يجعل هذه الجملة التي يصدِّر بها باييخو المسرحية “تدور أحداث هذه المسرحية في سوريليا وهي بلد بعيد في عصرنا الحاضر“، إشارة نابهة منه إلى أن النظم الفاشية والاستبدادية تنتج الظروف نفسها في كل زمان ومكان، وأن الأحداث الت يقدمها تتجاوز “الرمز” بكثير.
لكل هذا، وخصوصًا لإشارة فاروق عبد القادر إلى أن المسرحية “قدمتها الفرق المسرحية في الجامعات أكتر من مرة“، علينا الانتباه إلى العلامة الفارقة في تلقي المسرحية “نصًّا، وعرضًا“، فاغتيال السادات الذي سيحدث بعد عامين وجه من أوجه تلك الآثار التي تلامسها المسرحية برقة وعذوبة فنية عالية.
لكن نجاح “دماء على ملابس السهرة” كان “لعنة” على المخرج نبيل منيب، فقد تعثر كل مشروع فني شرع فيه، وكأن هناك سلطة أو كائنًا أو ظرفًا ما يمنعه من الاقتراب من خشبة المسرح. وقبل سنوات قليلة نشرت أخبار فنيًّة بعنوان “سميحة أيوب تستعد للأشجار الواقفة“، وفي التفاصيل “تستعد سميحة أيوب خلال أيام لبروفات مسرحية “الأشجار تموت واقفة” للكاتب الإسباني أليخاندرو كاسونا، إخراج نبيل منيب“، ثم تذكر أنها حين كانت مديرة للمسرح القومي أسندت إليه إخراج “دماء على ملابس السهرة“، أما عن مسألة غيابه عن الإخراج لفترة “هذا الغياب يحدث مع عدد من المبدعين، خاصة عندما تتراجع أحوال المسرح حيث يقررون الاحتفاظ بإبداعهم داخلهم“. وفي العام الماضي كُرِّم نبيل منيب، على مسيرته الفنية باعتباره أستاذ التمثيل والإخراج في معهد الفنون المسرحية، وكان مما قاله “تم اختزال المسرح فقط في تقديم أعمال قليلة في كمها، ورديئة في جودتها مقارنة بالكم الكبير الذي كان يتم إنتاجه في الماضي“. بعد المسرحية بسنوات قدمت الإذاعة المصرية المسرحية بعنوانها الأصلي، وأدت سميحة أيوب دور ماري بارنيس.
بهيَّة من ح نحارب إلى اللطم على الخدود
فقد فيلم العصفور جزءًا كبيرًا من معانيه الفنية والثقافية والاجتماعية بتأخر عرضه لنحو عامين، خلالهما وقعت حرب 6 أكتوبر 1973، وبذلك تبدد زخم اللقطات الختامية و “بهيَّة” تصرخ؛ وسط الجماهير، ألمًا، لكن بتصميم وعزيمة “حنحارب، حنحارب“. فقد الفيلم الكثير أيضًا، حين انتهت أحداثه بذلك المشهد المنسوخ من واقع 9 يونيو 1967، وعشرات الآلاف من المصريين يتظاهرون مطالبين الرئيس المهزوم– المستقيل، العودة عن استقالته ليقودهم إلى الحرب، ومن ثم النصر. وقد استدرك يوسف شاهين وجعل من موت عبد الناصر “1970” حجر الزاوية في فيلمه التالي “عودة الابن الضال” 1967.
انطلاقًا من زوايا عدة يمكن المجازفة بالقول إن “العصفور” هو فيلم محسنة توفيق بجدارة واستحقاق وولاء، ليس فقط لهذا الاقتران بينها وبين شخصية “بهيَّة“، اقترانًا يترسخ من مراجعة محورية الشخصية وارتكاز الفيلم عليها بصورة شبه مطلقة، وهذا الالتباس العميق الذي ينشأ مع الكلمات الأولى من الأغنية، التي تتكرر، مرات، بأصوات، وإيقاع، وأحاسيس متنوعة على طول الفيلم.
هذا المقطع الإعلاني سيدخلنا إلى هذا الفضاء:
إذا كنا ما نزال نتذكر حديث “الأدوار الصغيرة” الذي كان تذكر لفيلم عرض قبل عام واحد فقط من شروع محسنة في أداء شخصية “بهيَّة” في “العصفور“، سندرك معنى الفضيلة الأبيقورية، فضيلة الشعور باللذة من المتع التي تحقق إشباعًا روحيًّا ونفسيًّا مرتكزًا على العقل والموقف المتعالي فوق الصراعات حول الحيازة والمكانة. وهي فضيلة لا تمنع مطلقًا من المراجعة النقدية الصارمة، ففي حديث منشور سنة 2003، تقوم بمراجعة صريحة “لم أكن على مستوى المسؤولية في إهمالي للسينما التي كنت أعشقها منذ صغري، وحينما وقفت أمام كاميراتها للمرة الأولى شعرت بأنها في دمي، وبأن أدائي فيها تلقائي وسهل أكثر ما كنت أتخيل… إهمالي للسينما هو الشيء الوحيد وخطأ عمري الذي أندم عليه حتى الآن ولكن من دون مرارة، فما قدمته فيها وإن كان قليلًا كان جميلًا ومتميزًا؛ بخاصة دور “بهيَّة” في “العصفور“.
فيلم “العصفور” هو فيلم محسنة، لأنه قد لا يجد أحد من صناع الفيلم والمشاركين فيه صعوبة في أن يجد نفسه قد تحقق في عمل آخر، أو أن يختار عملًا آخر إذا ما تم تخيره بين أن يحتفظ به أو بفيلم آخر، ربما مثلًا يكون مطروحًا على الممثل علي الشريف هذا السؤال: أيهما تختار أن يبقى في ذاكرة الجمهور: العصفور أم الأرض؟ أو يطرح السؤال على محمود المليجي، وهكذا، لكن المؤكد أن محسنة توفيق لن تختار بديلًا عن “العصفور“، ومعها بلا شك سيقف، وربما بتأهب ويقين أشد، أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، فقد نُقل “وجودهما” الفني من سماعات أجهزة التسجيل إلى شاشات السينما والتليفزيون؛ والقاسم بلا شك هي “بهيَّة” الملتبسة بـ “مصر، الشابة، المعجبانية“.
شيوع الأغنية سابق بالطبع على الفيلم، لكن استخدامها فيه منحها زخمًا تجاوز الكلمات واللحن والغناء الجماعي، هكذا يتبين هذا الزخم من اللقطات الأولى من عناوين الفيلم:
في العناوين علامة دالة على طبيعة التحولات الجذرية التي عاشها المجتمع والفن المصري في تلك الأيام، ولنتذكر أولًا ما أفضت إليه استقالات المخرجين الأربعة، مع عرض “العصفور” أو بعده بقليل، كان ثلاثة منهم، مطاوع، عبد الحليم، أردش، قد تركوا مصر للعمل في العراق والكويت، ضمن مئات، وربما آلاف من الفنانين والمثقفين “الكبار” الذين لم يعد لهم فرصة للعمل المناسب، لذلك تحمل عبارة “أفلام مصر العالمية والأونسيك. الجزائر يقدمان” دلالة تاريخية حازمة ضمن هذا السياق، سياق وجد فيه توفيق صالح نفسه وأسرته عالقين بين سوريا والعراق لنحو عقدين، ووجد صلاح أبو سيف نفسه يتحايل من أجل إخراج فيلم “القادسية” ويتلقى توجيهات فنية من ضباط صغار.
“العصفور” باكورة إنتاج شاهين المشترك؛ مرات مع الجزائر، ومرات مع الفرنسيين، وعشرات المحاولات مع غيرهم، لم تكتمل.
وربما هذا هو المعنى المركب والمعقد من أيقونة “مصر يا اما يا بهيَّة“، فقد أفضت الهزيمة والهجرة إلى تفتيت وتحلل هذه الكثافة الرمزية، التي بدأ الصراخ بها بمواكبة الهزيمة وعقبها مباشرة، و“بهيَّة” في أطوارها الجديدة، سواء أمع نجم– الشيخ إمام، أو مع شاهين، دون ياسين، فهو أما “في القلعة” بحسب صياغة أخرى للثنائي، أو غير مرغوب في ظهوره؛ وهذا مضمر في “العصفور” فلا حاجة للرمز الذكوري الذي مثَّله “ياسين” سرور، في لحظة التداعي الكبرى هذه، أما في واقع منتصف السبعينيات فلربما كان ياسين ينتظر عقد عمل في الخليج، فبعد بضع سنوات ستعيش محسنة توفيق أسوأ لحظة في حياتها؛ إنها لحظة هبوط الطائرة التي كانت يستقلها السادات في مطار بن جورين في تل أبيب؛ 19 نوفمبر 1977، وتظل تتذكر هذه اللحظات، وتظل تعيدها مرات “حتى الآن ما يزال صوت المذيع صبري سلامة يرن في أذني، فقد كنت أصور حينها أحد الأعمال المشتركة في اليونان، وكان يرافقني مجموعة من الممثلين العرب والمصريين؛ ووجدت نفسي أنهار وألطم على وشي من شدة الحزن“.
غدر يوسف شاهين الذي يعاقب عليه حتى اللحظة
تقدر محسنة توفيق عالم يوسف شاهين السينمائي والفرص التي منحها لها لإظهار طاقاتها السينمائية، فبعد أن تحققت بصورة خارجة عن كل توقع في “العصفور” تلك اللحظة المثالية حين يتقدم الإنسان نحو غاية وأمنية كبرى احتشد داخليًّا لها طويلًا فيفرغ في تحققها كل طاقته حتى ليبدو بعدها خاليًا من كل رغبة، ثم يفيق إلى ذلك النهم الذي لا يشبع، نهم التحقق، فيطارد تلك اللحظات السابقة بغير هوادة، هكذا انتظرت تكرار “بهيَّة“، في الانتظار، وبعده، وفي مرات عديدة، تؤكد أن شاهين “وضعها في دور يفوق كثيرًا المرحلة العمرية التي كانت تمر بها“، وأنها كانت في عز شبابها، وكانت جميلة بحق بخلاف ما ظهر على الشاشة“، ويبدو أن ذاكرتها نسيت بعض ما سبق “العصفور“، صحيح أنها تتذكر، بحب “حادثة شرف“، لكنها يبدو وأنها تود إسقاط “الغفران“، الفيلم عرض في صيف 1971، وفيه تؤدي محسنة توفيق دور أم الشخصية الرئيسية التي يلعبها أحمد رمزي، وبعيدًا عن تفاصيل الفيلم، وبما له اتصال بملاحظة “عز شبابى“، فحقيقة أن أحمد رمزي “1930- 2012” أكبر من محسنة بتسع سنوات كاملة، لم تكن خافية على أي مشاهد وقتها، لكن “الغفران“، كان قبل “العصفور“، وكانت محسنة في تلك المرحلة الأبيقورية العميقة “المهم الأداء والتمثيل وليس حجم الدور“، لكن “بهيَّة” تفتح أفقًا لا حدود لها، فذلك لاتحقق الهائل يخلق نهم الاستمرارية ويعمق الشعور بالطاقة الكامنة، ولأن النجاح جاء من بوابة شاهين، فقد تتابعت الخطى مع انقطاعات كانت مفهومة ومبررة، فشاركت مع شاهين التمثيل في “إسكندرية ليه” 1979، وبعد فترة طويلة نسبيًّا شاركت في “الوداع يا بونابرت” 1985. وبين “العصفور” و“إسكندرية ليه” صنع شاهين “عودة الابن الضال” 1967، واستعان فيه بسهير المرشدي، وبعد “إسكندرية ليه” صنع “حدوتة مصرية” 1982. ومع “الوداع يا بونابرت” بدا أن ملامسة “العالمية” ممكنة بالنسبة ليوسف شاهين، الفيلم إنتاج مشترك مع شركات وممثلين وفنيين فرنسيين، وفوق ذلك الموضوع نفسه مشترك بصورة ما.
وفي المراحل النهائية من الفيلم، أعلن شاهين أن يستعد للفيلم الجديد “اليوم السادس” عرض بالفعل في العام التالي 1986، عن رواية للكاتبة والشاعرة الفرنسية أندريه شديد “1920- 2011”، المولودة في القاهرة لأسرة مسيحية من أصل لبناني– سوري، وفي الرواية شخصية نسائية مدهشة جدًّا “صدِّيقة“، قيل الكثير عن الممثلات اللاتي تحدث معهن “شاهين” عن الدور والفيلم، حتى اللحظة التي تكتب فيه هذه الكلمات، وبمثل هذه العناوين “فردوس عبد الحميد: قلت ليوسف شاهين “طظ فيك” بعدما منح دوري لداليدا في اليوم السادس“، ولم تصل محسنة إلى هذا القاموس، لكنها كررت مرات كثيرة الحديث عن امتنانها لشاهين، مع التشديد على أنه لم يكن يوجهها للتمثيل على طريقته الخاصة؛ كما كان يفعل مع عدد من الفنانين، وكان يتركها تقوم بتأدية المشاهد الخاصة بها على طريقتها؛ ثم تتطرق إلى “الجفوة” العميقة التي زرعها “اليوم السادس“، فبعد أن اتفق معها على أداء دور “صدِّيقة“، وحال بين إتمام التعاقد الرسمي سفرها في رحلة فنية، تفاجأت بتعاقده مع داليدا، ولا تتحرَّج من تكرار “شاهين غدر بي، وأضر بالفيلم إلى درجة كبيرة، لأن داليدا لم تتعايش مع الشخصية“، ثم تعيد التذكير “شاهين يخطئ في اختيار الشخصيات النسائية؛ في “الأرض” مثلًا، هل نجوى إبراهيم أنسب ممثلة؟“.
في هذه الظروف التي ظهرت لنا “عصيبة” حيث توترت، وربما تبددت، الثقة المتبادلة بين محسنة ويوسف. بالإضافة إلى منع الرقابة عرض فيلم “الزمار” من إخراج عاطف الطيب، والذي شاركت فيه محسنة ونور الشريف وصلاح السعدني وبوسي، أقدمت على “مغامرة” فنية كبرى، تظهر الآن وبتجميع هذه الخيوط وكأنها نابعة من دوافع غير فنية، فالمخرج ينتمي لمسرح الهواة، والفرقة أغلبها من الهواة، من إنتاج “المسرح المتجول” ربما هو “أفقر مسارح الدولة“، ومسرحية “منين أجيب ناس” المنشورة 1974، التي قد تكون أضعف مسرحيات نجيب سرور، لكن كل هذا لم يمنع محسنة من مساندة تجربة المخرج مراد منير، وحققت المسرحية في عرضها الأول 1985 نجاحًا ملحوظًا، قادها إلى المشاركة في مهرجان بغداد المسرحي في السنة نفسها، والفوز بعدة جوائز فيه؛ من بينها جائزة لمحسنة توفيق.