لقاء مثير.. هذا ما يمكن أن نصف به النص الذي كتبه ألبير قصيري عن أم كلثوم (سواء كان سيناريو/سيرة…). لقاء بين النشاط والكسل. السيريالي وصوت السلطة.الهامش ومركز المركز. الشهرة والاستغناء. المعزول ومعبودة الجماهير.
لكن هذه ليست كل الإثارة؛ هناك شي يخص اللحظة الراهنة، لحظة بدأت تقريبًا بعد 25 يناير 2011، وما تزال مستمرة. لحظة تدمير القشرة الغليظة التي غلَّفت كل أشكال الحياة في مصر خلال أكثر من 70 سنة.
تشكلت تلك القشرة مع رغبة دفينة في تشكيل ما أسميه “الانسجام المصري”؛ والانسجام الذي أقصده هنا هو الرغبة في تهيئة كل العناصر ولو متنافرة لتحقق نوع التجانس يحقق سعادة متخيلة.. إنها الرغبة في صنع سبيكة بالانصهار تحت درجات حرارة رهيبة. وهي ما يمكن أن نسميه “استبداد ما بعد الاستعمار” بما فيه من قهر وقمع وهدير ماكينات صنع المتشابهين من البشر العاديين.
تلك النظرة بدأت مع بزوغ الروح القومية مطلع القرن العشرين، ورواج موديل الدولة القومية، وهو ما أسفر عن ظهور الأفندية ونزعات الاستقلال التي تقودها البرجوازية المصرية الصاعدة بقيادة سعد زغلول، الزعيم بمواصفات عصره، ورمز حركة الأفندية الناعمة، التي تسلمتها شريحة الضباط منهم وقدمت نسخة خشنة في صناعة سبيكة تلغي الاختلافات وتوحد قياس “الوطنية”..
“الانسجام” نسخة عبد الناصر من “أيديولوجيا وسطية” تجمع بين المستأنسين من أطراف اليمين واليسار في “فلك واحد” يحركه توازنات ومزاج النظام، هذه النسخة تعزز سلطوية الزعيم/الأب ومن ينوب عنه في الصحيفة وقسم الشرطة والبيت والمدرسة شركات السينما وإنتاج الموسيقى.. وطبعًا في “التليفزيون”. واجهة الانسجام وأداته في تكريس “الوسط مركزًا للهوية المصرية، ولحام الطبقات ومسطرة الوعي والفضيلة والوجود الاجتماعي.
الوسط لا يثير شيئًا. يوقف الحركة في منتصف المسافة.. يوقف التفاعل بعيدًا عن الركود وقبل التغيير.. شيء بين كل شيء. يضمن الأمان والركود (يسمونه: استقرار) ويضمن طبعًا السيطرة للمقيم وحده في الأعالي. فهو الحكم النهائي في لحظة الخلاف. يحسم الأمور ويعدل الميزان. والأمثلة لا تعد ولا تحصى من الحقبة الناصرية على خلافات/أو سمِّها معارك وحروب قامت وحسمها عبد الناصر نفسه لا أحد غيره..
فيلم “شيء من الخوف” خافت الرقابة من تمريره حتى قال عبد الناصر “لا شيء يخيفنا”. ورواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” صُعِّدت إلى عبد الناصر شخصيًّا، ويبدو أنه رأى تعليق وضعها فترك تقرير الشيخ محمد الغزالي (عضو الاتحاد الاشتراكي) بجوار حيل محمد حسنين هيكل لكي تبقى الرواية في وضع بين المنع والسماح. الوجود الكامل والحذف. وهكذا، حتى أم كلثوم؛ إذ تقول الأسطورة إن لقاء “السحاب” بينها وبين عبد الوهاب تم بطلب من عبد الناصر شخصيًّا لتبدأ نسخة جديدة من أم كلثوم؛ بعد ابتلاعها بالكامل في مشروع عبد الوهاب؛ أهم مشروع موسيقي جسد توصيات مؤتمر الموسيقى العربية (1932).. وأصبح معيار الموسيقى المصرية كما تقول كتالوج الهوية؛ وهي معايير تضع الفن في منطقة غائمة توضع عليها علامة تميز
“الانسجام” سلطة لصانعه. وهذا ما جعل الفكرة تستمر بعد رحيل عبد الناصر لكن بعد تغييرات ارتبطت بخليفته (السادات) الذي سار بالوسط إلى منطقة متطرفة بعد إعلان دولة “العلم والإيمان”، وهي صيغة رفعت من معايير المحافظة في “الانسجام” وأدخلت عناصر ريفية أكثر (رب العائلة) ومنحت سلطة للفضيلة والأخلاق لإخلال التوازن بين اليمين واليسار.
هذا طبعًا اختصار مخل لتاريخ طويل يحتاج إلى تفكيك رهيب لنفهم ديناميك إلغاء التعدد والتنوع تحت لافتات نبيلة، لكننا نتوقف هنا أمام تسلل روح “الكل في واحد” باعتبارها المعجزة التي تنتظرها مصر لتبعث من جديد.عرفها جمال عبد الناصر في رواية توفيق الحكيم “عودة الروح” التي افتتح صفحاتها بأبيات من نشيد الموتى تقول :
عندما يصير الزمن إلى خلود
سوف نراك من جديد
لأنك صائر إلى هناك
حيث الكل في واحد
…
وكيف يتشكل هذا الكل في واحد؟
هذه قصتنا منذ أن لعبت الفكرة في دماغ ناصر، وأراد أن يكون ترجمة للرغبة في بعث الأمة من جديد بعد ظهور بطل/زعيم لصانع معجزة مثل الأهرام، وكان توفيق الحكيم يراها كما كتب بعد ذلك في الأهرام (1965): “أن يجعل من شعبنا الزراعي شعبًا صناعيًّا..”.
وربما ظهرت كلمة “الشعب” في الرواية قبل أن تنتشر في الخطابات السياسية المصرية وتحل محل كلمة الأمة لتصف المصريين…مشهد الافتتاح يصف لحظة دخول طبيب يذهب للكشف على عائلة كاملة مصابة بالحمى الإسبانيولية (الإنفلونزا الإسبانية التي ضربت مصر ضمن بقية العالم في 1917)… فوجئ الطبيب بأن كل العائلة تجمعت في قاعة واحدة اصطفت فيها خمسة أسرة “عيار بوصة وربع” أحدهما بجانب الآخر، وخزانة واحدة.. الطبيب سأل مندهشًا “أعنبر أم ثكنة؟”.
وكان الرد على دهشته من تركهم لكل غرف البيت والحشر في غرفة واحدة هو:”مبسوطين كده”.
توفيق الحكيم كتب الرواية في باريس سنة 1927 ونشرها سنة 1933 أي قبل ثلاث سنوات من اتفاقية 1936 التي كانت أول خطوة في استقلال مصر برعاية حزب الوفد (مصطفى النحاس)؛ حزب الأفندية الذين تشكلت معهم ثقافة ووعي جديد في مصر، ومنهم ظهر جمهور أم كلثوم التي غنت للمرة الأولى في القاهرة سنة 1936 (السنة نفسها) على كازينو ومسرح البوسفور الذي كان المفضل لألبير قصيري في الفرجة على سكان القاهرة وتلاطم أمواج الغرباء القادمين إليها.
ماذا حدث بينما تتسلل روح “الكل في واحد” لتطغى مع وصول الضباط وزعيمهم المتيم بالفكرة؟
تصميم الغلاف والصور: محمد جمعة
1
بين مدينتين
غادر ألبير قصيري القاهرة، بعدما أصبحت مدينة لتسلية المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.
تقريبًا في لحظة تجاوزت فيها أم كلثوم كل المغنيات الأسطوريات اللاتي سبقنها، ولم تحظ واحدة منهن بالوجود في زمن الحفظ والتسجيل المرئي والسمعي بالميكرفون (إمكانية اتساع دائرة المستمعين) والإذاعة ( أن تتخطي صوتك جغرافيا الجسد) والسينما (الخلود في شريط عابر للزمن) والتليفزيون (في كل بيت)… بمعنى ما: أم كلثوم تقاطعت مع إمكانية الخلود اللانهائي.
غادر ألبير قصيري والقاهرة في النزع الأخير من مرحلتها الملكية، التي تعلقت بأوهام إنقاد النازي الألماني للعرش في مواجهة الإنجليز.. كانت الدولة الحديثة في مرحلة تجديد طغاتها.. وتبحث عن صورة جديدة لألوهيتها.. فالدولة هي الله بالنسبة لرعايا عالقين في منطقة بين الإنسانية البدائية.. وبين إنسانية ما بعد الدولة الحديثة.. بين الفرد في القطيع البائس.. وبين الفرد الموصوف في الدساتير والقوانين.. هذا هو العالم المدهش الذي اختار ألبير التلميذ المتمرد على المدارس، أن يكون كاتبه.. نعم، كاتبه لا راويه.. فهو كاتب اختار موقعًا ليرى ويراكم مشاهد وعلاقات ومشاعر تصنع له حكمة وفلسفة. ألبير الذي كان ينسج قصصًا من الأفلام الفرنسية والإنجليزية التي يترجمها لأمه (نادية) التي لم تعرف القراءة يومًا ما، ثم كتب في السابعة عشر من عمره ديوان شعر اسمه “اللسعات”؛ طبع منه عدة نسخ لم يظهر منها حتى الآن نسخة كاملة، وإن كان من اطلع عليه لاحظ سيطرة روح بودلير الغاضبة والمتمردة، ولم يذكر ألبير من ديوانه سوى سطر يقول فيه “وحيدًا وحيدًا كجثة جميلة، في يومها الأول بالقبر».. روح تعي لعنتها منذ الخطوات الأولى.
غادر ألبير قصيري القاهرة بعد أن نشر شحنته العنيفة الأولى “بشر نسيهم الله”.. تلك الشحنة التي وصفت بالثورية والانحياز الخام لبروليتاريا محشورة في مدينة تبحث عن اكتمال حداثتها.. عن التئام “المدينتين” الحديثة والقديمة.
في هذه الشروخ بين المدينتين تعيش شخصيات الكتب الأولى لألبير قصيري وبين الشروخ نفسها أقامت أم كلثوم جسرها التاريخي لتكون “إلهة مصر” كما سمى ألبير مسودته (سيناريو/سيرة) عن المطربة الأسطورية.
ومنذ أن هاجرت عائلة قصيري من مدينة قصير القريبة من حمص في سوريا، ومكانها وحياتها في حدود علاقة صغار ملاك الأراضي بمدينة في مدار الذبذبات العالية لمدن تفك علاقاتها بالسلطة العثمانية، وتراوغ سلطة الاحتلال الأجنبي؛ الأب (سليم) يقرأ الصحف، بينما يهتم بتعليم أولاده مع الحفاظ على علاقة متواصلة بكنيسة الروم الأرثوذكس، بجوار البيت القائم في منطقة الضاهر، مغناطيس المهاجرين الشوام الذين ساهموا في تحديث مصر كما تقول السرديات المعروفة.
ألبير كان الأصغر في وسط عائلة مهتمة بالتعليم، وانتقل من الأسلوب المحافظ لمدرسة الفرير، إلى أسلوب أكثر تحررًا في ليسيه الحرية.. لكن المهم بالنسبة له هدايا الأشقاء الأكبر المولعين بالروايات، بلزاك ودستويفسكي وغيرهم، وبالنسبة لمن رفض أن يكمل في مسار الأشقاء ويحصل على شهادة الثانوية، كان عالم الثقافة والفن الاختيار الأفضل، التسكع بمعناه الباريسي في القرن التاسع عشر هو المصير الذي انتقل معه من القاهرة لباريس.
المتسكع الأبدي اكتشف المدن من خلال تمشيات يومية، وعندما تدقق في لقطات الفيديو له في باريس أو القاهرة، ستذهلك ملامحه اللامبالية بالزحام، كأنه يسير في ممرات شفافة. يخبط المارة جسده المنتبه تمامًا في ملابس أنيقة غريبة عن العصر، لكنه ليس هنا، على الرغم من أنه هنا تمامًا.
التسكع لم يكن بحثًا عن شيء محدد.. لكنه عمل دؤوب في اكتشاف المدينة.. منها عرف أن تلك المدينة الأوربية التي بناها الخديو إسماعيل، ومع أنها جوهرة متلألئة، فإنها تصيبه بالضجر، وتصيب الناس بالخبل.. بينما هناك في المدينة القديمة وكما قال بيير جازيو؛ أصبح المقهى “مكان ينأى عن الجنون المدمر الذي يكتنف العالم وعن الخداع الكوني.. إنه المركز الحقيقي، مركز العلاقات الإنسانية حيث “تبدو الجموع مفعمة بسعادة حكيمة لا يمكن لأي عذاب أو قهر أن يطفئانها” (مقال نشر في مطبوعات احتفال المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة بالذكري العاشرة لغياب ألبير قصيري 2018).
العالم مُقسم بين الخداع والسخرية، وكذلك بين الأوغاد والناس، هذه رؤية فنان يعتبر نفسه كما قال بيير جازيو في لقاء قصير سنة 1989 “أكثر ثورية من خلال كتاباته، مقارنة بشخص مثل هنري كورييل الزعيم الشيوعي ومؤسس حركة حدتو يريد أن يكون رئيس حزب، فمـا فائـدة حـزب يتكـون مـن حفنـة مـن الأفـراد المثقفين الذين يكلمون أنفسهم، ولا يعرفـون حتـى اللغـة التـي يتكلمهـا الشـعب؟”.
لم يعمل ألبير في السياسة، لكنه وضع على قائمة “المخربين” بعد توقيعه على بيان “يحيا الفن المنحط” الذي أصدره الفنانين المصريين تضامنًا مع الفنانين الألمان ضد هتلر، كما أنه في رحلته الأولى سافر إلى أمريكا سنة 1942 هربًا من “جحيم القاهرة”.. عمل رئيس جرسونات على سفينة متجهة إلى نيويورك عن طريق كيب تاون، وألقي البوليس السري الأمريكي القبض عليه بعد تشككهم في أنه جاسوس، فتوسَّط لورانس داريل صاحب “رباعية الإسكندرية” شارحًا لهم “أوكد لكم أن ألبير ليس جاسوسًا.. لأنه يستغرق كل وقته في مطاردة النساء”!
ماذا في ملامح هذا الشاب الوديع يثير غريزة البوليس السياسي؟!
ربما طاقة الغضب والسخط والتمرد الساكنة تحت الوجه الصخري الذي تشكل عبر السنوات، وبدا في كل أحواله كأنه رسالة من عالم اختفى تحت الركام منذ زمن…ومازالت طاقتها تنبض بإيقاعها الخاص.
2
رحلة الفردوس
حياة ألبير قصيري تبدو أقوى نصوصه. أو هي التي تمنح النصوص قوة تجعلها تتجاوز حتى الترجمات الرديئة والمتواضعة لأعماله إلى العربية؛ بعض من روح “الداندي” الذي يحتفظ بداخله وفي جسده والطاقة المصاحبة لسيرته بشيء قديم تمامًا. يميزه ويجعله في منطقة وحده. كأنه تحول إلى نص أو عمل فني عابر للزمن على الرغم من تمثيله الكامل لزمنه الخاص.
في هذه العلاقة شيء أكبر من الكسل الذي يوصف به ألبير قصيري عادة.. فهو خلال سنوات عزلته الاختيارية في غرفة فندق باريسي لم يكن كسولًا أو ممتنعًا عن العمل، بل كان يعمل (الكتابة عمل..)، ويخرج كل يوم بكامل أناقته (العابرة للموضة…أي لتجسيد الزمن في الأزياء)، ويجلس على المقهى نفسه، ويرتاد المطعم نفسه؛ ليتابع الناس والشوارع والأجساد والوجوه (المتغير)، أي أنه جمع بين التكرار المطلق والتغير الدائم في جلسة متابع متأمل لا يجرفه الزمن الجديد، لكنه لا ينفصل عنه.
ألبير في جلسته وملابسه المعنية بتفاصيل الأناقة (ألوان زاهية وكرافتات كلاسيكية وفولار حرير معتنى بطياته المنمقة) يمثل لحظة باريس الأربعينيات والخمسينيات، فردوس المثقفين، وأرض الملذات الموعودة لرجل انتظر نهاية الحرب العالمية الثانية ليحجز تذكرة على متن السفينة مارسيليا، آملاً في استعادة متع ولذات الزيارة الأولى لباريس.
في السفر النهائي من القاهرة كان يحركه إحساس بأن الكاتب بالفرنسية لا يمكنه الحياة بعيدًا عن فرنسا. وهو ما تأكد في رحلة أمريكا من موقعه ككاتب بعد مقال هنري ميلر في مجلة ACCENT
النيويوركية وتوصيته بنشر أعماله بالإنجليزية بعد أن رأى فيها “ما من كاتب حي كتب بهذا الشكل الآسر، وبهذا الشكل العنيد، حياة أولئك البشر الذين يشكلون ذلك الحشد السحيق المنطوي على نفسه.. بالنسبة إليّ، يشكل الكتاب مفاجأة كاملة. إنه الأول من هذا النوع الذي أقرأه منذ أعمال كبار الكتّاب الروس الذين عرفناهم في الماضي“.
هناك لم يذهب بحثًا عن عمل أو جنسية، ولكن عن فراغ (للتفكير) وملاهٍ (تستوعب به الولع الكبير بالنساء ليس أكثر.. لا خمر؛ فهو لا يحبه، ولا يحب مزاجه، ولا مزاج الحشيش الذي دخنه مرات قليله في الثلث الذي عاشه في مصر).. كذلك لم يستمر طويلاً زواجه من الممثلة الفرنسية مونيك شوميت Monique Chaumette؛ فقد كانت حرب ألبير قصيري مع الوقت.. من أجل أن تحرير الوقت اللازم للتفكير، هكذا قال عندما سأل عدة مرات عن اختياره أن يكون الفندقي الدائم. هو في إقامته الباريسية الأولى الطويلة أقام في استوديو بمنطقة الفنانين مونمارتر، لكنه اكتشف أنه يذهب يوميًّا لحي سان جيرمان دي باري.. ليتجول ويسهر، فقرر بعدها أن يوفر الوقت ويقيم في منطقته المفضلة، وفي فندق، كي لا يفكر حتى في مسائل صغيرة بحجم تصليح حنفية، المثل الذي طالما ضربه ليؤكد أنه لم يكن يريد شيئًا يعطله عن التفكير.
التفكير بالتعبير السوريالي هو رحلة التخلص من العقل الواعي، ليراكم مشاهدات وخيرات وأحاسيس تمكنه من الكتابة والتعبير عن أفكاره من “النقطة العليا” التي أشار إليها أندريه بريتون، ويمكن فهمها باعتبارها نقطة يتساوى فيها الوعي واللاوعي.. الواقع والخيال.
ألبير لا يحكى في رواياته؛ الحكايات كما قال في حوار ألييت أرميل، من أجل أن يقول ما يفكر به، ولهذا تقوده الحكايات الساخرة للمصريين إلى فهم العالم، وتفكيك سودوايته، هكذا على سبيل المثال رأى الشمس في روايته منزل الموت الأكيد؛ أو المحقق كما ترجم بشير السباعي اسمها في كتالوج الاحتفال الفرنسي (2018).. ومعها تلك الفقرة “شمس مبهرٌة غمرت الأرض. كان الهواء عذبًا ودافئًا، لا يكاد المرء يشعر به. كل ذلك كان جميًلا بالفعـل، بلى، ناحيـة المدينـة الأوروبيـة، وبالأخـص علـى الضفـة الأخـرى للنهر، حيث اصطفـت الفيَّلات الباذخـة والحدائق المزدانـة بالزهـور. أما في الأحياء الشـعبية، فقـد اتخـذت الشـمُس الرائعـة مظهـر القاتـل. وفـي الأشـعة المائلـة، كانت البيـوت الخراب وكأنهـا مَّلطخـٌة بالدم“.
تحولت الرواية سنة 1969 إلى فيلم من إنتاج المؤسسة المملوكة للحكومة؛ تحت اسم “الناس اللي جوه“؛ كتب السيناريو يوسف فرنسيس والحوار نعمان عاشور وأخرجه جلال الشرقاوي، وكان خليطًا من رومانتيكية الإرشاد للخلاص والواقعية الرمزية التي انتشرت في السينما بعد هزيمة يونيو 67، والبيت فيها رمز للوطن/البلد/مصر، والشرخ الذي أخذ يتسع بعد انشغال الناس بغرائزها، في مواجهة “البيه” مالك البيت، وغريزته في مزيد من الامتلاك، وينتهي الفيلم ببشرى تفاؤل مع تكاتف السكان لترميم الشرخ.
3
إلى جبال الآلهة
في الوقت نفسه الذي تشكَّل فيه ألبير قصيري كاتبًا بعيدًا عن رومانتيكية المنبوذين في ديوان تخلص منه؛ أو عن حكاياته الأولي المستوحاة من أفلام السينما.. كانت أم كلثوم تعبر الحواجز الأخيرة بينها وبين وضعها الأسطوري/لتسكن في جبال الآلهة المصرية. زاحمت الآلهة لتصبح بعد قليل فريدة عصرها والعصور التالية؛ دليل الانسجام المصري؛ في طبعتيه الناعمة والخشنة.
كانت صورة أم كلثوم في تلك الفترة “فلاحة” نجحت في اقتناص فرصة الصعود إلى عرش الغناء، لتصبح بديلة سلطانة الطرب.. والحرب بينهما وصلت إلى حدود الخوف من القتل. ولم يكن القتل بعيدًا عن صراع المطربات على العرش.. ولم يكن غريبًا على سبيل المثال أن تنتشر في تلك الفترة شائعة أن أم كلثوم هي التي دبرت حادثة موت اسمهان.. بل إن منيرة المهدية أوقعت صحفيًّا في غرامها لكي يجند مجلته لهدم سمعة وسيرة أم كلثوم..
في فيلم “صوت المرأة”(إخراج مصطفى الحسناوي) مقطع من حوار تليفزيوني ، فيه تقول منيرة “أم كلثوم كانت تعمل ليلة واحدة في الجمعة.. لكن أنا كنت كل ليلة على المسرح”.. وتحكي أم كلثوم عن زيارتها لمنيرة في عوامتها “سمعت من القصبجي (محمد) أنها مريضة، فطلبت منه أن يصحبني لزيارتها، وهناك حصل منها موقف طريف، فقد قدمت لي كازوزة، أي مشروب مياه غازية.. على سبيل الضيافة.. وقبل أن أشرب سبقتني وتناولت منه جرعة وهي تقول لي علشان تشربي وتطمني..”. منيرة في حوار لها بمجلة “الكواكب” روت الواقعة من وجهة نظر أخرى، وهي أن “أم كلثوم تركت الزجاجة التي أمامها وشربت من الزجاجة التي امام القصبجي.. وتضايقت أنا من هذا التصرف. وأردت أن أبرهن لها أن الدار امان.. فأخذت الزجاجة من أمامها وشربت منها”.
منيرة المهدية كما تقول عن نفسها في الحوار مع أماني ناشد “أنا كل فكري وعلامي من دماغي”، هربت من المدارس النظامية. وأصبحت المصرية المسلمة الأولى التي تقف على خشبة المسرح في حادثة هزت البلد وعروش الرجال وفتحت الطريق أمام خروج المرأة من الحرملك.. بل وأصبح مقهى “نزهة النفوس” التي امتلكته في عزها يسمى بين المصريين “هواء الحرية”. منيرة ربت نفسها، لتصبح “زكية حسن منصور” الطفلة المولودة في قرية مهدية التابعة للإبراهيمية بمحافظة الشرقية عام 1885 المغنية المشهورة التي تنتج لها “بيضا فون” أشهر شركات التسجيل وقتها أسطوانات تقول في مطلعها “الله الله يا أسطى منيرة المهدية”.. وعلى عكس أم كلثوم التي حفرت طريقها برعاية أب مسيطر وعائلة تحولت إلى كورس لها في الحفلات الأولى، مات والد منيرة وهي رضيعة، وربتها شقيقتها الكبرى في بيتها بالإسكندرية مع زوجها الذي كان من الملاك الزراعيين.. منيرة تعلمت المغنى على يد “أسطوات” الطرب في ذاك العصر، ولم تمر بمرحلة حفظ القرآن مثل غيرها من المطربات.. لكنها استطاعت وهي التي لم تتعلم أن تقدم على خشبة المسرح أوبريتات عالمية من كليوباترا (تأليف أحمد شوقي، والتي كانت الظهور الأول للنجم محمد عبد الوهاب) وحتى الجيوكندا وتاييس وغيرها. لكن الظهور الأول لمنيرة على الخشبة كان في دور روميو. رجل.. لأنه لم يكن مسموحًا لبنات العرب المسلمات بالظهور على خشبة المسرح، وكان ذلك متاحًا فقط للشاميات واليهوديات.. وكان ذلك عام 1915، ووقتها أعلن المتزمتون وديناصورات الأفكار البالية الحرب على منيرة، واعتبروها محرضة على الفسق والفجور. لكن منيرة استمرت.. يساندها جمهور مستمتع بالسلطانة.. وتفككت القيود الحديدية بعد هذه الصدمة، وأصبح لمنيرة المهدية السبق، التي لم يصدق أحد أنها تمتلك تلك الطاقة، وهي الفتاة الصغيرة التي لا تمتلك سوى وعيها الفطري، وغريزتها في حب الفن والتقاط الفرص لتكون الأولى دائمًا.. لم تُخلص لشيء أكثر من الفن، على الرغم من أن الدنيا كانت مفتوحة أمامها بأبواب واسعة.. وكما قالت في حوار للتليفزيون “لم أسع أبدًا إلى مال أو رجال.. لم اهتم أبدًا بالمادة.. وخسرت أموالي وصحتي.. لكي أبقى فنانة”، وهذا صحيح إلى حد كبير؛فهي التي كان يملأ سلاطين وملوك العرب من الحجاز إلى تونس حقائبها بالذهب.. وهي التي كان يرتاح في مسرحها رئيس النظار (حسين سري باشا).. حتى إنها اقترحت عليه أن يعقد اجتماعات الحكومة في عوامتها على النيل.. وهي التي تحدت قرار الإنجليز بمنع ذكر اسم سعد زغلول في الأغاني؛ فتحايلت هي وغنَّت للحمام.. وكانت في كل ليلة تتحول صالتها إلى مظاهرة رمزية لزعيم الأمة. ومع لمعان نجمها في الغناء.. وصعود نفوذها السياسي كانت مغامراتها في الحب ليست بعيدة.. ولم يكن المجتمع وقتها محافظًا إلى درجة وضع نجومه في أقفاص وصور مقيدة.. كانت نزوات منيرة معلنة بين الناس.. الجمهور يحب سيرتها كما هي.. ولا فرق عنده بين أغانيها الحسية وشعورها الوطني.. غنت للزبدة البلدي (رموز كانت تهرب بها من الرقابة الإنجليزية) رمزًا لنصرتها للفلاحين، واشترى الأغنياء أسطواناتها.. وفي السياسة كانت تلعب لعبة القصور (أشيع أن واحدًا من أكبر رؤساء الحكومة في مصر شرب الشامبانيا في جزمتها).. ويحكي مصطفي أمين أنه في حفل تنكري ارتدت منيرة ملابس كليوباترا.. وعندما رآها حسين سري باشا (وقتها كان رئيس مجلس الشيوخ) قبَّل يدها وهو يقول “فين أنطونيو؟! أنا لازم أموِّته.. مفيش حد غيري يقرب على منيرة.. أنا لازم أمثِّل دور أنطونيو” في هذه اللحظة دخل الملك فؤاد، وثار “كيف يقبِّل رئيس مجلس الشيوخ يد مطربة علنًا هكذا؟” واستدعى عبد الخالق ثروت (رئيس الوزراء وقتها) وطلب منه أن يبلغ غضبه السامي إلى رئيس مجلس الشيوخ بنفسه. وطلب ثروت باشا من الملك أن يتولى بنفسه توبيخ رئيس مجلس الشيوخ. وأرسل الملك واستدعى حسين رشدي باشا وتحدث معه بعنف.. ورد رشدي باشا بهدوء” ليس هناك مادة في الدستور المصري تمنع رئيس مجلس الشيوخ من أن يقبِّل يد منيرة”! كان الغناء وقت أول صعود أم كلثوم؛ يلعب في منطقة إثارة الحواس.. منيرة تغني “ارخي الستارة اللي في ريحنا.. أحسن جيرانك تجرحنا”، وفي إطار المنافسة غنت أم كلثوم أغنية من هذا اللون “أنا الخلاعة والدلاعة مذهبي..” لكن أحمد رامي وبقية الآباء الروحين من “الأفندية” الذين كانوا مسؤولين عن صناعة صورة أم كلثوم أقنعوها بضرورة حذف الأغنية من الأسطوانات وألَّف رامي كلمات بديلة لتغنى بها على نفس اللحن.. حدث هذا تقريبًا بعد 1926، وإعلان استقلال مصر عن الحماية البريطانية.. كانت هناك وقتها بشائر ثقافة جديدة تتكون وتخرج وتتمرد على الصور القديمة.. لم تعد علوم الدين فقط هي مصدر الثقافة.. بل كانت هناك بدايات عنيفة تروج لأفكار داروين وفرويد على يد سلامة موسى الذي وضع اشتراكيته في معادلة مع العلم لتضاف إلى مكونات وعي جديد يفرز أدباء مثل نجيب محفوظ. كانت ثقافة الأفندية تنتصر وتصبح صوت مصر “الجديدة” بعيدًا عن ثقافة الأتراك والمماليك، وبعيدا أيضًا عن الطبقات الملتفة حول المحتل.
ثقافة الأفندية كانت جنين الانسجام المصري الذي ولد محافظًا. وسطيًّا. وتزداد هذه النزعة كلما أراد قادتها إثبات الخصوصية الشرقية/الإسلامية/المصرية. وبشَّروا بنهضة توفق بين “الأصالة” و”المعاصرة” أو “التراث” و”الحداثة”، ولم ينتج عن هذه المحاولات الفخمة إلا تلك القشرة الغليظة، بتركيبتها العجيبة، وقوتها الخرافية في التغطية على التنوع المبتور والمقموع، وتحويله إلى كل هذه التشوهات التي فوجئ بها الجميع بعد الخروج الكبير في يناير 2011.
4
أفندية وفتوات
حفلة أم كلثوم الأولى في القاهرة كانت في كازينو ومسرح البوسفور؛ الذي كان ألبير قصيري يعشقه لأنه أكثر حيوية على حد وصف بيير جازيو.. في البوسفور بدأت المرحلة الحاسمة من أسطورة أم كلثوم، وعثر ألبير على منصة للفرجة على مكان إلقاء الغرباء بالمدينة.. ومسرح الدراما اليومية للمتقين من جميع أصناف وطبقات وشرائح سكان هذه المدينة.
الكازينو /المقهى /المسرح من علامات المدينة، بها بدأت في التحول وانتقال العلاقات من التقليدية والمباشرة والخطية، إلى علاقات مركبة ومتعددة ومعقدة، وهذا ما من البوسفور حيويته بالنسبة لألبير الذي كان يشعر أن المدينة الأوروبية /أو الجانب العربي من القاهرة، مثل “قلعة القهر” التي تصيبه بالضجر والملل، بسكانها من الخواجات (الذين يشعرون بسيادتهم وتفوقهم) وشرائح المجتمع التي تقلدهم وتدور في أفلاكهم.
في هوامش تلك القلعة كان ألبير يجد الفضاء الحي، والمسرح الذي التقت فيه أم كلثوم مع بذرة جمهورها الجديد تمامًا.. كان مثالاً على تلك الأماكن التي تشهد ديناميك تشكيل المدينة (بمعناها الحدث). المسرح في الازبكية. قريبًا من الفجالة والضاهر أشهر مواطن المهاجرين الشوام؛ ومن بينها عائلة من صغار ملاك الأراضي قدمت إلى القاهرة في القرن التاسع عشر من بلدة قصير قرب حمص في سوريا.
هذه هي عائلة ألبير الذي خرج إلى الدنيا ولم ير أحدًا منها يعمل.. الأب مثل الجد يعيش على ريع الأرض.. فسَّر ألبير تلك البطالة عن العمل في حوار قديم كأنها تقاليد خاصة بالشرق؛ حيث لا نعمل عندما نحصل على الأموال.. عكس الغرب حيث يدفعهم المال لمزيد من العمل.. وهي ليست تقاليد أو نزوع خاص، لكنه الفارق بين سرعة ماكينات الرأسمالية حسب وصولها إلى البلدان المختلفة.
5
دبيب الهوية
في مسودة روايته “زمن ابن الكلب” التي عثر عليها بعد الرحيل، كتب ألبير قصيري في أول السطور”.. جلس مختار على رصيف مقهى قذر، يبثّ مذياعه صوت المغنية الأسطورية التي تذكّره بأمه مليكة. لم يستطع الإنصات إلى هذا النواح على الحب الضائع، دون أن تترقرق دموعه”.
وغالبًا المغنية الأسطورية هي أم كلثوم. والهجاء المبطن لحضورها يبدو غريبًا مع قراءة السيناريو التي يصفها فيها إلهة مصر، ويروي سيرتها بتطابق شبه كامل مع سيرتها الرسمية، بكل الحفاوة والتبجيل، والإعجاب المتيم، ليس بها فقط بل السردية المستقرة عن الملكية وحركة الضباط في يوليو 1952 وتزامن صعود “الست” مع سيطرة الضباط علي الدولة؛ خصوصًا في زمن المجهود الحربي والحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي.
سار ألبير في النص (سيناريو/سيرة) على الخطوط المكونة للصورة الرسمية لمصر وأم كلثوم، هو نفسه الذي التقطت زينة الحلبي سخريته من أم كلثوم في رواية “العنف والسخرية” وأطلق عليها اسم “أم خلدون” ووصفها بالعجوز السمينة، وشبهها بالمومياء الفرعونية. ويُرد التشبيه الأخير إلى الصور، أو الملصقات، التي تظهر فيها أم كلثوم وخلفها الأهرامات، كما لو أنها واحدة منها “فهي تثبت الهوية الوطنية على أصل حضاري، مثلما تصعدها إلى الأعلى، وتصون المسافة بينهما بقدها وصوتها، مهيئةً إياها لتصبح مكمنًا سلطويًّا، من الملك فاروق حتى أنور السادات”.
في السيناريو أيضًا إشارة إلى مؤتمر الموسيقى سنة 1932.. حيث “يستمع العالم إلى صوت مصر وإلى روحها، وستُتوَّج أم كلثوم ملكةً للمشهد. فهي تجسيد للتجديد في الموسيقى العربية، وهي في الوقت نفسه تجسيد للأغنية المصرية الحقيقية التي أزاحت الأغنية التركية عن عرشها. أم كلثوم تغني بلغة الشعب، ويُصنَع خصيصًا من أجلها بيانو يعزف نغماتٍ شرقية”.
المؤتمر علامة في تأريخ التحولات الموسيقية ما تزال محل خلاف ونقاش حول ما يعنيه مصطلح “موسيقى مصرية” أو عن رغبة أول ملك دستوري؛ فؤاد الأول في ترسيخ “هوية” للبلاد التي يحكمها بعد فصلها عن الإدارة العثمانية وتحولها إلى “ملكية دستورية”.. هوية متخيلة، تفرضها قوة سلطوية ناعمة، لتحديد ما هو مصري.. أو لوضع حجر الأساس في “السبيكة المصرية” ومسار “الانسجام المصري”.. هذه الهوية اختارت لونًا وتونات وإطار أخلاقي مهذب تعتمد فيه الموسيقى والغناء وتستبعد أشكالاً وعالمًا كاملاً من الموسيقى والغناء تحت دبيب الهوية.
ألبير يصف حفل أم كلثوم الذي حضره الملك ورجال البلاط الحاكم؛ بمناسبة المؤتمر كأنه يصف معركة حربية “استمعوا لتوِّهم إلى تحول في تاريخ الأغنية المصرية. ها هي حقبة جديدة تبدأ بأم كلثوم، حيث أصبح بإمكان الشعب أن يفهم كل كلمة من كلمات الأغنية”..
طبعًا كان هناك غناء قديم يفهمه “الشعب”، بل كان الشعب يغني أغاني لم تحصل على تصريح الظهور على المسارح الرسمية إلا بعد تهذيبها وحذف الكلمات والتونات المحرمة.. وهذه قصة أخرى تتعلق بمقاومة أم كلثوم للابتلاع فيما يطلبه جمهورها الجديد، أو في مشروع المؤتمر للموسيقى، وهو ما انتصرت فيه على تعدد السلطانة منيرة، واستفردت به في قمة الأساطير مستبعدة قائمة طويلة من المطربات؛ بمن فيهم فتحية أحمد صاحبة الصوت الأقوى والأكثر تنوعًا، وكانت في الفترات الأولى لصعود أم كلثوم تتفوق عليها في استطلاعات الجمهور، لكنها انهارت سريعا أمام ذكاء أم كلثوم وقدرتها على التقاط روح اللحظة، مع الحفاظ على طاقة لا يلتقطها رادار الوسطية والمحافظة الجديد.
أفلتت أم كلثوم بقدرتها على تحويل الكلمات الرزينة إلى شحنات حسيَّة، وهو ما أشرت إليه في حكاية من حكايات القاهرة عن تحولها إلى “المرأة” أو “الأنثى الكبيرة” بتعريف الألف واللام.. ويدللها الجمهور نفسه “ثومة”؛ وتتراقص هي على المسرح بين الوقار والسلطنة لتثير بالصوت والأداء، قبل الكلمة واللحن مشاعر التجول الحر بين قوة مسيطرة وحس يلهث وراء نشوته.
لم يتوقف السوريالي ألبير قصيري عن الحواس المبتورة في سيرة أم كلثوم، في أغنياتها أو سيرتها. هناك شيء خفي يتم الاقتراب منه إما بالحذر أو بالنميمة التقليدية، عن حسية سيدة الغناء.. هذا الحذر وليد سطوتها؛ فهي صوت السلطة، الذي يهرب منه المتمردون على السلطة، لكنه بعد قليل ينقلها إلى منطقة اللاوعي ويكتشف معها مملته الخاصة.
بدا ألبير قصيري في النص وكأنه في مهمة تستلزم الوعي، لم ينتقد لا صوت السلطة، ولا سردية الدولة القومية عن نفسها، ولا حتى تاريخ صعود تيارات دفن الحسيَّة في مدافن الفضيلة والاكتفاء بممارستها سرًّا كما يليق بالرذيلة.
الوسوم :