باتت البداية الفعلية لظهور الفيديو آرت في مصر أمرًا غاية في الحيرة والتعقيد، فليست هناك ردود قاطعة، فقد تحولت الأجوبة التي حصلت عليها عن ذلك التاريخ إلى أمر أشبه بالشائعات!
حينما تطلعت إلى إنتاج هذا الكتاب لم أكن مولعًا فقط بسرد قصة قد تبدو مثيرة لي عن تاريخ مجهول، اعتقدت حينها أنه لا أحد غيري ملمّ بشتاته، لكن دافعي الأكبر هو محاولتي لفهم موقعي كفنان لجأ إلى الفيديو كوسيط مرن لم أدرسْه، ولم يدرسه الكثيرون مثلي من الفنانين والفنانات ممن يستخدمونه في مصر وأصبح ذلك الوسيط جزءًا من ممارستنا الفنية. بالإضافة إلى دوافع أخرى، نتجت عن تقاطعات اهتمامي بالبحث والكشف والاستقصاء عن تاريخ الفن خارج سياق أطروحاته الرسمية، وخصوصًا من موقع فنان لا يعزل تلك الدوافع عن ممارسته الفنية، أو بصورة أخرى؛ رغبة مني في السعي وراء إمكان سرد روايات مجهولة عن تاريخ غير رسمي اكتشفت أنه محاصر بسلطة الرواية الرسمية والمؤسسية لتاريخ الفن. ذلك التاريخ المجهول والمفقود الذي جمعت عنه شذرات ووثائق من دوسلدورف وبرشلونة وزيورخ وجنيف والقاهرة بداية من عام 2015.
إذن، وبتبسيطٍ مُخِلٍّ، كيف وجد العشرات من الفنانين على مدار هذا التاريخ -الذي قادني البحث والتحقيق إلى بدايته عام 1990- ومن بينهم فنانون يستخدمون ذلك الوسيط استطاعوا أن يصلوا إلى مكانة في المشهد الفني المعاصر (المحلي والدولي) وفي الوقت ذاته لا توجد قاعدة عامة حتى الآن توفر للفنانين المحليين الحد الأدنى من المعرفة بهذا الوسيط؟ وأعني بالقاعدة العامة (وجود مناهج أكاديمية متخصصة لتدريس نظريات هذا الفن وتاريخه في كليات الفنون في مصر، والأرشيفات المتخصصة لهذا الفن المتاحة للعامة، واقتناء المتاحف القومية لأعمال فن الفيديو باعتباره إحدى لغات الفن المعاصر)، بالإضافة إلى البحث عن سبل استدامة هذا الفن وفنانيه، في حين أنه لا تتوافر له حظوظ السينما من حيث آليات إنتاجها، أو كما اللوحة والتمثال في علاقتهما بسوق الفن المحلي؟
وسيط غير محكوم بالسلطة
في عام 1990 أخرج وجيه جورج فيديو بعنوان “خدامك الملك”، وهو بورتريه لشخص مُسِنٍّ يُدعى وليم إسحق عبد الملك، وفي وقت مستقطع من حياته، أو بالأحرى حياته كما رآها وتصورها وجيه نفسه، استخدم وجيه كاميرا فيديو صغيرة (JVC Compact VHS) ليصور بضع ساعات في أيام متعاقبة في أثناء حياته اليومية العادية داخل شقته وأحيانًا خارجها.
شاهدتُ الفيديو أولاً في القاهرة، قبل أن تسنح لي الفرصة لأقابل وجيه في زيوريخ وأناقشه. ترك الفيديو لديَّ العديد من الانطباعات في أثناء وبعد مشاهدته، فقد بدا لي في أول الأمر فيلمًا تسجيليًّا وصالحًا للعرض على قنوات التليفزيون، عن سيرة شخص ما مجهول لي، ولكن ظل هناك شيء يعارض ذلك الانطباع وهو أن هذا “الفيلم” لديه شيء ما يمنعه من العرض على شاشة التليفزيون، ما زلت أفكر فيه ولا أعرفه!
فمَن ذلك الشخص الذي يعتز برسم البورتريهات الزيتية ويعلقها على جميع الجدران قدر الإمكان، وله فلسفة شِعرية شديدة الخصوصية في ممارسته للفن، فقد قال في مديحه للبورتريه إنه يحب رسم الناس، وأعطى مثالاً ورد في الفيديو أنه عندما يرسم بورتريه معينًا لباليرينا بسبب أثر الموسيقى فيها وهي ترقص، هنا الموسيقى تكشف عن جسد جديد ذي حركة جديدة. وهذا السلوك الناتج هو ما يهتم به.
مَن ذلك الشخص نفسه الذي يقتني في منزله نسخة للتمثال الشهير للقرود الثلاثة “لا أرى لا أسمع لا أتكلم” ولماذا؟ ولماذا أيضًا -وفقًا للفيديو- يأتي إلى منزله هؤلاء الأشخاص للقائه والنقاش معه في أمور سياسية تخص الحال المحلي والإقليمي، وفي وقت آخر يُعاونونه في إعداد وطهو الطعام؟ وما هذا الكم من ساعات الحائط وكاميرات الفوتوغرافية القديمة المتناثرة في أرجاء منزله؟
عندما قابلت وجيه، أخبرني أن ذلك الشخص فنانٌ تشكيلي ومناضل يساري قضى نحو عشرة أعوام مسجونًا في معتقل الواحات في الخمسينيات فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بسبب مواقفه السياسية؛ إذ كان مشاركًا في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو).
لم يتحمس وجيه وقتها لعمل فيلم عنه فقط بسبب تاريخه كسياسي أو كفنان له تجربته الفنية طويلة الأمد أو حتى بسبب الصداقة التي كانت تربطهما، بل شخصية الملك ذاته التي جمعت بين تلك الصفات وأكثر! لم يفصل وجيه بين الملك وشقته التي عكست أسئلتي الكثيرة، فقد وصفها وجيه في لقائاتنا بأنها تركيب فني سمعي وبصري ضخم إضافة إلى موقعها بالقرب من ميدان التحرير الذي ارتبط بدائرة تحركات الملك اليومية.
سألت نفسي عن ذلك الوقت من التسعينيات، هل كان أمرًا طبيعيًّا أن فنانًا تشكيليًّا ما قد قدمه البث التليفزيوني محليًّا أو تسللت إليه الكاميرا لتصنع عنه فيلمًا ما قبل “خدامك الملك”؟ أو بطريقة مباشرة ما هو الفنان النموذجي/ المعايير النموذجية للفنان التي يحددها البث التليفزيوني للمشاهدين؟ أو بالأحرى لماذا اختار وجيه تحديدًا هذه اللغة في صناعة هذا الفيديو؟
في الحقيقة أنه في عام 2014 عندما شاهدت على موقع يوتيوب الفيلم التسجيلي “آفاق” الذي أخرجه شادي عبد السلام بإنتاج من مركز الفيلم التجريبي بوزارة الثقافة عام 1972، كنت سعيدًا لأنني وقتها تخيلت أن ذلك الفيلم بالنسبة إليَّ بمثابة الوثيقة السمعية والمرئية التي ستسمح لي بتكوين صورة من نوع خاص عن تاريخ المشهد الفني محليًّا من وجهة نظر رسمية، ذلك الفيلم الذي قدم فيه عبد السلام بعض الفنانين الفاعلين في المشهد الفني ذلك الوقت كـ (حسن سليمان، وحامد ندا، وعز الدين نجيب، ومحمد نبيل، وعبد الوهاب مرسي، وآدم حنين)، ولكن يظل في سياق أعم وأكثر شمولية يخص صورة الثقافة عند شادي عبد السلام في مصر ذلك الوقت، يحمل لغة دعائية مبطنة داخل السياق العام للفيلم تخص توجه وسياسة جهة الإنتاج.
بحثتُ أولاً في محرك البحث جوجل باللغتين العربية والإنجليزية عن ذلك الفنان التشكيلي وليم إسحق عبد الملك، فلم أجد عنه شيئًا يخص تاريخه المهني كفنان، فاتجهت مباشرة إلى صفحة السيرة الذاتية التابعة للموقع الإلكتروني الرسمي لقطاع الفنون التشكيلية التابع لوزارة الثقافة المصرية التي اعتدت أن ألجأ إليها أنا وغيري من المهتمين عندما أبحث عن فنان وطني، فلم أجد الملك!
أدركت في أثناء محاولات بحثية عدة ولقاءات مع فنانين عدة من الذين عاصروا الملك أن هناك صعوبة بالغة في إيجاد وثيقة أخرى تُشير إليه أو إلى إنتاجه الفني، وكأن هناك تعمدًا لتجاهل سيرته.
بعدها عدت لمشاهدة “خدامك الملك” مرة أخرى للتفكير في سبب اقتناص وجيه فرصة تصوير لقطة عارضة على شاشة التليفزيون، تلك اللقطة كانت لشخص لديه مظهر يبدو متحدثًا رسميًّا باسم جهة ما حكومية، يظهر كضيف في برنامج قائلاً:
“في جميع هذه المجالات، فإن هذا الملك التعيس لم يأخذ حقه في حياته أو…”.
تظهر تلك المادة في منتصف زمن الفيلم ليقطعها مشهد آخر للملك وهو جالس أمام التليفزيون ينظر إليه بابتسامة.
أدركت لوهلة أن وجيه استخدم معايير عدة مألوفة تدل على أن “خدامك الملك” قد يبدو فيلمًا أو فيديو تسجيليًّا بالمعنى التليفزيوني للكلمة، ويستعير من التليفزيون الرسمي لقطات لمواد تشتبك مع شخصية الملك بطرق مباشرة وأحيانًا غير مباشرة. ولكن الأمر في مجمله وبصورة استعارية أشار لي إلى الرأي السابق لهانزبيتر آمان (في فصل الفيديو كوسيط (جديد/ دخيل) على مشهدين) عن وسيط الفيديو عمومًا عندما ذهب في الثمانينيات بكاميرته إلى اللاجئين في سويسرا قائلاً لي:
“أردتُ أن أعطيهم صوتًا!”.
جعلني ذلك الأمر أيضًا أتأمل في إمكانات تكوين الطبقات الاجتماعية، وتحديدًا وبصورة مجردة وليست معيارية، فهل تحتاج الطبقة -كي تصبح طبقة- إلى وسيطٍ يقدمها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يحتاج ذلك الوسيط إلى خصائص تجعله مرنًا وسائلاً؟
ورقة من دفتر ملاحظات تحتوي على لوحات قصصية storyboard
لفيديو خدامك الملك، وجيه جورج، 1990. (من أرشيف وجيه جورج).
معضلة الوسيط
ربما كانت هناك أسباب غَامِضة أو ضمنية، جعلت الفيديو كوسيط جديد، غير مرحَّبٍ به في مشهد «الفن التشكيلي»، بل ووضعته في موقع المنبوذ.
أو هكذا بدت الصورة أكثر وضوحاً حينما قال لي فنان مشهور في حقبة التسعينيات:
«فين القيمة الفنية في إن فنان يُنتج فيديو كعمل فني مستقل بذاته بمجرد إنه يضغط ضغطة على زرار الكاميرا أو أي شخص تاني ينوب عنه بفعل ذلك؟!».
إذن، كان من المثير أنه عندما ظهر الفيديو داخل المشهد الفني المحلي قد قدمته «ورشة الفيديو» كتخصص فني قائم بذاته، وليس مجرد وسيط.
كانت تلك هي الصيغة وقتها، أو على الأقل كما أرشدتني الشواهد البحثية، أضف إلى هذا رأي الناقد السينمائي سمير فريد عندما سمى الفيديو في عنوان مقالته السابق ذكرها (صفحة 46) بـ «الفن الثامن» أي كتخصص فني قائم بذاته أيضًا، وذلك ما أثار لديَّ استفهامًا عن حقيقة أسباب تجاهل الفيديو في المسابقات والفاعليات الثقافية محليًّا في حين أنه أتى مُوائِمًا من حيث المبدأ لتلك الهيكلية التي تُقسِّم الفن إلى تخصصات، ولا يتشابه مع الفن المعاصر من حيث «الشكل.. Form» كونه عابرًا أو متعديًا على التخصصات
فعلى صعيد تاريخ دراسة الفن، كان المفهوم السائد حتى ذلك الوقت من التسعينيات يعتمد بشكل كبير على الممارسات الفنية القائمة على المهارات والموهبة في فروع وتخصصات الفن التقليدية (الرسم والتصوير والحفر والنحت والخزف والنسيج والطباعة والأشغال الفنية… إلخ)، تلك الفروع – التي هي وسائط بالأساس – تمت منهجتها تاريخيًّا كوعاء للمواهب الشابة وطموح، نتجت عنه تأويلات لا نهائية، جعلت من الوسيط – كلغة فنية – مفتاحًا لتنظيم وتنميط الأفكار في أثناء عملية الإنتاج الفني.
وبمنطق السياق العام للمشهد الفني المحلي في التسعينيات أين يكمن الاختلاف؟
فقد أتت «ورشة الفيديو» كمنهجية أدعى للاحتفاء بالفيديو كـ (فرع/ تخصص/ وسيط) جديد مستقل بذاته لا يتعارض مع التصنيفات الأخرى في المشهد الفني، والعكس صحيح، ومن ثَم، من المنطقي أيضًا ووفقًا لذلك السرد أنه بالفعل تم عرض نتائج الورشة الأولى في معرض مستقل يحمل اسم الفيديو في مجمع الفنون بالزمالك «الوجه الآخر لفن الفيديو»، ولكن، ليس منطقيا أن أجد لاحقًا مدير المجمع – في ذلك الوقت – يهاجم الفنانين منتجي الفيديو ويصفهم في إحدى مقالاته (المذكورة سابقًا) بـ «التوابع لتجربة الغرب» لمجرد استخدامهم الفيديو كوسيط لأعمالهم الفنية.
هل كان ذلك نتيجة صراع العديد من الثنائيات مثل: الفن كعمل ذهني (أو مفاهيمي كما هو شائع) والفن المشروط بالمجهود العضلي والأيدي العاملة. أو ثنائية الفن كعمل تشاركي والفنان الفرد. أم ثنائية المؤسسة الرسمية والمؤسسة الأجنبية؟
وسيط سائل
انفجر استخدام كاميرات الفيديو المحمولة في العديد من الاتجاهات في وقت واحد، مباشرة بعد إطلاق شركة سوني للكاميرا بورتباك Portapak عام 1965، فقد صممت للاستخدامات التجارية والصناعية الصغيرة، ولكنها أصدرت بالضبط في خضم الاضطراب السياسي في الستينيات، لقد كانت تلك الكاميرا وسيطًا جديدًا تمامًا بلا تاريخ خاص به، ولكن لديها إمكانات هائلة استخدمت في تنفيذ العديد من جداول الأعمال الثقافية والسياسية والاجتماعية المختلفة لاحقًا، فقد أصبحت تلك الكاميرا وسيلة استطاع من خلالها الفنانون والنشطاء وغيرهم من الأفراد العاديين غير (المتخصصين/ الدارسين) أن يطلقوا عصرًا من الإعلام البديل للبث التليفزيوني، باستخدام تكنولوجيا جديدة منطلقة من نفس الخلفية لصناعة صورة، وهم وحدهم أصحاب القرار فيها، فقد كان أحد الشعارات التي رُوِّج لتلك التكنولوجيا من خلالها هو:
The streets now become the studio!
أصبحت الشوارع الآن هي الاستوديو!
في الوقت ذاته شعر الفنانون الراديكاليون أن نظام الجاليري عالميًّا بدأ في الانغلاق على معارض بعض الفنانين التي كانت أعمالهم قابلة للتسويق في ذلك الوقت، ومن ثَم اعتقدوا أن الفن انحدر إلى مستوى السلعة، فقد ساهم العديد من النقاد وقتها في الحفاظ على نقاء سيرة اللوحة من خلال تركيز الخطاب النقدي على خصائصها الفريدة، مع الإصرار في الوقت نفسه على الفصل التام بين التخصصات الفنية، وكذلك بين الثقافة الشعبية وفن الذوق الرفيع.
هل كانت كاميرا الفيديو ذلك الوقت –كتكنولوجيا جديدة لم تكتشف إمكانات جماليتها بعد- دافعًا للفنانين الراديكاليين في الخروج عن سلطة سوق الفن؟ أو رغبة منهم في حدوث تحول في الممارسة الفنية لتدمير الحتمية الحداثية لتاريخ المنتج الفني القائم على الجاليري، واستبداله بنسخة أخرى أكثر سرعة من الفن ذي الشكل النقي الذي أكدته العملية الفنية أو النقد؟
بالفعل عندما اخترعوا تلك الكاميرا كانت أبسط تكنولوجيا في التعامل بالنسبة إلى الفنانين بل للفرد غير المتخصص أيضًا، فضلاً عن القيود التي كانت تفرضها كاميرا الفيلم 8 ملم التي كانت تحتاج فقط إلى متخصصين للتعامل معها، لكن هنا يستوقفنا شيء مهم وهو أن “بورتباك” كانت تتكون من ثلاثة أجزاء ويُشترط وجودها معًا في أثناء التصوير (كاميرا، ومسجل، وكابل Cable يصل الاثنين ببعض في أثناء التصوير) كل تلك الأجزاء كان يصل وزنها قرابة خمسة عشر كيلو جرامًا، ما يعني أن الكاميرا لها تأثير كبير في استهلاك طاقة حاملها، ذلك ما أجبر أغلب الفنانين مستخدميها في ذلك الوقت للجوء إلى تصوير أعمالهم داخل الاستوديو، فضلاً عن الخروج إلى الأماكن العامة لتجنب تلك المخاطرة بتأثير الوزن.
إعلان شركة سوني sony للكاميرا بورتباك Portapak عام 1967.