كيف ومتى تحول ``الفردوس المفقود`` إلي ``أرض التحرش``؟ ليس هذا كل ما ننتظر الإجابة عنه عندما نتناول موقع وحكاية ``وسط البلد`` بين الحكاية الكبرى للقاهرة وللدولة وللناس.. في هذه المنطقة تقاطعت أحلام الأسرة العلوية بأن تكون ``مصر قطعة من أوربا`` ورغبة الجموع الشابة التي خرجت في ثورة يناير 2011 وهي ترغب في أن يكون وسط البلد ``أرضًا حرة`` يلتقي عندها الجميع ولا يضع رايته عليها أحد. الحكاية متشابكة، وليس من السهل اختصارها، وهذا ما أثار حماستنا لهذه المقالة المهمة والمتعمقة والمسافرة رأسيًّا وأفقيًّا في وسط البلد، التي تتصارع عندها أحلام على طرفي نقيض، وهو ما يمنحها، على الرغم من كل شيء، ``سحر العاصمة``، ويجعلها مكانًا للتفاعلات والصراعات وألاعيب رأس المال الاستعراضية وللسلطة، وكذلك للحشود الساعية إلى الظهور في هذا الجزء من القاهرة الذي يمثِّل مسرحًا شخصيًّا لسكانها المهمَّشين، ومَعْرِضًا لحنين السكان الذي يبحثون في المدينة المنهكة عن ``سر للتفاخر``.. لوسي ريزوفا قامت برحلتها الكبيرة في تاريخ وسط البلد المعاصر، ومعها أدوات البحث الأكاديمي، لم تبخل عليها بمشاعر وتجارب وحساسية ``الغوص`` في الحياة اليومية للقاهرة. .لوسي ليست زائرة عابرة للقاهرة، بل تعتبرها إحدى المدن التي تخصها، وهو ما يجعل لمقالتها مذاقًا يضاف إلي أهمية وقوة الموقع الذي تنظر منه إلى مكان وناس ولحظة تغَيَّر فيها وجه التاريخ.. ولا يزال الصراع مستمرًا. بدأت لوسي بحثها كجزء من مدرسة وسط القاهرة الصيفية، وهو مشروع تديره الجامعة الألمانية في القاهرة و DAAD في يونيو 2013.. هكذا بدأت تفكر في وسط المدينة بطريقة أكثر منهجية. وتطوّرت الفكرة عبر مناقشة مفهومَين الأول لفوكو عن الانتباذ والثاني الوقوف على العتبة. وربما يبدو مصطلح “ الإنتباذ “ ثقيلاً ، إلا أنه الوحيد من حيث الدقة في وصف “ الأماكن التي تنمو في عزلة أو خارج نطاق الهيمنة السائدة “ وهذا حال وسط البلد. قسمت لوسي دراستها المهمة إلى ستة أقسام أولها ``هل وسط البلد مكان منبوذ``، وثانيها ``عاصمة بوهيميَّة`` والثالث عن دخول (شارع) هدى شعراوي، وتمشية الطبقة العاملة الشابة.. ``انصهار كيميائي``، أما في القسم الأخير فسنجدها تطرح تساؤلاً حول مستقبل هذا المكان المنبوذ. والآن بعد سبع سنوات من يناير 2011 ننشر ترجمة هذه الدراسة الأكاديمية المهمة، لنتأمل كل هذه التغييرات التي مرَّت على هذه المدينة. صار الأمر مثل الحركة داخل قلب مدينة لا يرحب بالسائرين فيه، أو تمشية في أرض العدو
هل وسط البلد مكان منبوذ؟
1
تعني وسط القاهرة بالنسبة لغالبية المصريين من أبناء الطبقة المتوسطة المكان القذر والخطير، المرتبط بالفوضى والتلوث. فهم يتغنّون بمجدها القديم، لكنهم نادرًا ما يذهبون إلى هناك. تنم مباني وسط البلد الإيطالية الأنيقة، التي كانت من قبل قلب مدينة كولونيالية، عن بريق خابٍ لمنطقة تجارية مركزية شهدت أوقاتًا أفضل. يتجنب سائقو سيارات الأجرة في كثير من الأحيان أخذك إلى هناك، تحسبًا للاختناقات المرورية رغم الشوارع الواسعة المصممة على نمط أشبه بالشبكة. مشيًا على الأقدام، يمكن للمرء بالكاد أن يسلك طريقًا بين الباعة الجائلين الذين يدفعون المارة للنزول إلى الطريق.
لا تزال وسط البلد منطقةً تجاريةً نوعًا ما، ولكن لنوعية مختلفة من الزبائن، رغم تخلى سكانها، من النخبة الأجنبية والمصرية على حد سواء، عنها منذ فترة طويلة في موجات متتالية من التحضر بعيدًا عن المركز. تحافظ سينمات أفلام الدرجة الثانية المتهالكة على شعبيتها من خلال تقديم مقاعد رخيصة في مواجهة منافسة السينمات الراقية في العديد من مراكز التسوق الجديدة في القاهرة في الضواحي القريبة، وتصطف على الأرصفة الواسعة محلات الملابس منخفضة السعر، إن لم تكن الأرخص، ذات الفترينات المبهرجة، حيث تأتي عائلات الطبقة المتوسطة الدنيا لشراء أفضل العروض.
شوارع وسط البلد كذلك، نقاط جذب للذكور من الشباب ذوي الدخول المنخفضة الذين يأتون إلى هنا في المساء للتمشية والتسكع. مؤخرًا، انتشرت الدراجات البخارية الصينية الرخيصة بين هذه المجموعات، مضيفةً طبقة من الجرائم الصغيرة، التي يرتكبها خاطفو الـمَحَافظ، إلى جانب خطر التحرش الجنسي الذي ارتبطت به وسط البلد بعد حلول الظلام بشكل متزايد خلال العقدين الماضيين.
2
غير أن هذا ليس كل شيء بالنسبة لوسط مدينة القاهرة. فمجد وسط البلد الصَدِئ يجذب جمهورها الخاص. اليوم هي معروفة بأنها بؤرة ثورة 25 يناير في مصر (المشار إليه فيما بعد الثورة)، والمكان المفضل لاجتماع النشطاء وساحة لرسومات الجرافيتي المذهلة. وهذه ليست بالظاهرة الجديدة. فتاريخ وسط البلد مركزًا للبوهيميَّة القاهرية والمعارضة السياسية ممتد لعقود قديمة. العديد من مطاعمها وباراتها ومقاهيها، مثل النادي اليوناني، ومقهى ريش، وأستوريل، والجريون، وأوديون، والحرية، والبستان، والندوة الثقافية وسوق الحميدية، وغيرها، تمثل المؤسسات الثقافية الفاعلة، التي رعتها أجيال من أدباء قاهريين وفنانين وناشطين. المساحات الفنية تتكاثر، وكذلك المهرجانات الثقافية كبيرة وصغيرة، إلا أن جمهورها لا يتداخل دائمًا. ليس هناك ثمة مشهد ثقافي واحد في وسط المدينة، تمامًا كما أن المقاهي والبارات لا تمثل ثقافة واحدة للمعارضة، بل الكثير من الثقافات. عندما يتعلق الأمر بوسط القاهرة، فالكل أكبر بكثير من مجموع أجزائها.
3
في الآونة الأخيرة – بشكل أفضل قبل الثورة – كانت وسط البلد نقطة تمركز للمطالب الملموسة، والمدعومة بتشريعات الدولة ورأس المال الخاص. خطط الإحلال الطبقي العمراني gentrification جارية، تقودها بشكل ملحوظ شركة الإسماعيلية للعقارات، تماشيًا مع استراتيجيات الإحلال الطبقي العمراني على مستوى العالم، كان التجديد العمراني لشركة الإسماعيلية يهدف إلى استغلال الحس الفني الخاص لوسط البلد. والشركة هي المحرك الرئيسي وراء بعض من المساحات الثقافية المهمة والأحداث التي تقع حاليًا في وسط البلد. في خطوة موازية، كانت مؤسسات الحكومة المصرية تفكر مليًّا في إعادة تأهيل الأجزاء الأساسية لوسط البلد ثقافيًّا (انظر الروابط الخريطة أدناه)، رغم أن هذه الجهود لا تزال إلى الآن تجميلية إلى حد كبير. هذا الاهتمام المكتشف حديثًا بوسط القاهرة، محسوس ليس فقط في تثمينها من خلال القانون أو رأس المال، ولكن أيضًا في موجة الحنين العامة، النابعة من عملية أوسع لإعادة الصياغة النيوليبرالية لتاريخ مصر الحديث.
الحنين يمثل خروجًا جذريًّا من النماذج السابقة لمرحلة ما بعد الاستقلال من تصوّر تاريخي وطني لم يكن فيه مكان لوسط البلد – الموقع والتجسيد للقوة الكولونيالية والامتيازات. في هذه السردية القديمة، كان تأسيس حي الخديو إسماعيل فعلاً عنيفًا من السلطة، وفرضًا لرؤية نخبوية كولونيالية على البلاد المغلوبة على أمرها، لما يجب أن تكون عليه القاهرة “الحديثة”، وبالتبعية، المجتمع المصري الحديث. وقفت المباني الإيطالية المثيرة للإعجاب، التي تضم بنوكًا وشركات أجنبية، شواهد صامتة للهيمنة الأجنبية على الاقتصاد المصري ونهب موارده. في إعادة الصياغة الجديدة لتاريخ مصر الحديث، الشوارع نفسها، من ناحية أخرى، تمثل “الفردوس المفقود” والمثال لحداثة مصر التي كانت قائمة ذات مرة؛ والأيام الذهبية التي راح ثراؤها وتحرريتها السياسية وأُمَمِيَّتها تحت وطأة الثقل المُركَّب من القومية الاستبدادية وضيق الأفق الديني. الحنين العام لوسط البلد والاهتمام المتزايد بالمنطقة من جانب كل من الحكومة ورأس المال ينبغي أن يكون مفهومًا في إطار أوسع من الليبرالية الجديدة، وكذلك فيما يتعلق بالطيران الحضري المتزامن للطبقات المتوسطة المصرية وما فوقها إلى المدن الصحراوية المبنية حديثًا والمجتمعات ذات البوابات. في هذا المنطق المكاني، تظهر وسط القاهرة كالنصب التذكاري -متحف في الهواء الطلق – لماضي مصر الكولونيالي المجيد.
4
بوضوح، تبدو وسط القاهرة باعتبارها دلالة محملة بالكثير؛ مكان به العديد من المعاني المتبارية، وموقع للمطالب المتعددة: الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. اكتسبت هذه المعاني المتنازع عليها بالفعل صدى جديدًا مع ثورة 25 يناير والعملية الثورية المستمرة لفترة طويلة. ففي الوقت الذي ربما كانت فيه البؤرة هي ميدان التحرير، كانت المنطقة المحيطة كلها – خصوصًا الحافة الجنوبية من وسط البلد حول ميدان باب اللوق والشوارع المؤدية إلى وزارة الداخلية- موقعًا حاسمًا للاحتجاجات والمعارك مع الشرطة. هنا، وقعت المعارك الحضرية، التي كان أهمها معركة شارع محمد محمود في نوفمبر 2011. هذه اللحظة المميزة، التي يراها البعض بطولةً والبعض الآخر تخريبًا، لهي مثال آخر على كيف تحدث المطالب المتناحرة حول النظام الاجتماعي من تلقاء نفسها على مساحة من المكان العام. يستمر هذا الصراع، على الرغم من أن قوى التغيير الثوري هي الآن في موقف دفاعي. في شتاء 2014/2015، كشفت حلقات “التطهير” المتعددة لوسط البلد من العناصر غير المرغوب فيها محاولات النظام الجديد لفرض نظامه الخاص. استهدفت هذه الإجراءات تركيبتين سكانيتين هما الأكثر ارتباطًا، من المنظور المعياري، بــ”تلويث” وسط القاهرة: الباعة الجائلين والنشطاء الثوريين. تضمنت “حملة التنظيف” إغلاق المقاهي التي أصبحت على مدى السنوات القليلة الماضية معروفة بأنها الأرض الصاخبة للنشطاء والشباب الثوري – على الرغم من أنها خدمت زبائن بالفعل أكبر بكثير من الشباب القادم من كافة أنحاء القاهرة للتمشية في وسط البلد. شملت هذه الحملة الإغلاق الشائن لـ”مقهى الملحدين” (سيرد عنه الكثير فيما يلي)، والإعلان الفخور عن عدد من المبادرات الرامية إلى القضاء على “الإلحاد” في مصر. جميع هذه الأعمال “التنظيفية” إنما تهدف إلى استئصال المكان منعدم الهيمنة الذي يسهل النفاذ إليه اجتماعيًّا لوسط البلد، ووقوفه الأساسي على عتبة الشعور وخاصية الانتباذ وهما موضوع هذا المقال.
5
الانتباذ، وهو مفهوم اقترحه ميشيل فوكو واستفاض في شرحه علماء الدراسات الحضرية والجغرافيا البشرية، ويصف المساحات التي تعمل بطرق منعدمة الهيمنة. ومكان منتبذ هو مكان “في الوسط “، مساحة للآخر، جسديًّا وعقليًّا في وقت واحد. له العديد من الطبقات المتبارية في المعنى، ويمكن فهمها فقط فيما يتعلق بغيرها من الأماكن الأخرى خارجها، إلى جانب المساحات المعيارية والأدوار الاجتماعية كما هي موجودة في مكان آخر. أنا أستخدم مفهوم الانتباذ بالتبادل مع مفهوم الوقوف على العتبة، وهو مكان في الوسط (أو زمن، أو سلوك) كما عرّفه علماء الأنثربولوجي. يشترك الانتباذ مع الوقوف على العتبة في بعض الخصائص المعينة: النفاذ الاجتماعي، والحدود المرنة بين الطبقات والنوع، والصفات الاحتفالية أو الكرنفالية. تظهر هذه الخصائص للبعض على أنها خطر وتلوث أو “مسألة خارج المكان”، وخصوصًا عندما يُنظر إليها من الخارج، بينما تستحضر إلى البعض الآخر المزيد من مشاعر الحرية والتحرر من الأدوار الاجتماعية المعيارية. أزعم أن وسط القاهرة واقفة على العتبة، أو مكان منتبذ بامتياز.
وهي حيز حضري غير متجانس، ومكان كل فرد فيه شخص غريب عابر. هذا النفاذ الاجتماعي يدعو إلى أشكال غير متسلطة وفي المقابل فإنه يتأسس بواسطتها، وهي أيضا مكان بالغ الأهمية – أولًا لغيابها وثانيًا لحضورها، بالنسبة إلى التصوّر الوطني المصري، وبالتالي فهي موقع للمطالب المتناحرة حول النظام الاجتماعي، التي تمتد إلى ما وراء حدودها المكانية.
6
في هذا المقال، لست مهتمة بمجرد الاقتراح بأن وسط القاهرة يجب أن تفهم على أنها انتباذ عمراني، لكن بدلاً عن ذلك، من خلال رؤية كيف يُنتج ويُعاد إنتاج مثل هذا المكان المنتبذ (أو الحدي) على الأرض، بعيدًا عن استثمار رأس المال والتشريعات الحكومية، سأركز على الجماهير المتنوعة التي تستخدم هذا المكان، وكيف أن ممارساتها المكانية (طرقها في المطالبة والممارسة المدينة) تؤسس لوسط القاهرة كمكان منتبذ – ممارسات، بدورها، يتنازع عليها البعض الآخر، بدورهم، على أنها غير مرغوبة لأنها لا سلطوية. وتشمل هذه المجموعات: الأجيال اللاحقة للبوهيميين الفنيين في القاهرة، من السبعينيات وحتى بدايات الألفية الثالثة، والشباب الثوري المتجول في وحول شارع هدى شعراوي، والذكور الشباب، مفتولي العضلات، الذكوريين، محدودي الدخل، الذين يأتون إلى وسط البلد ليحدقون بدهشة ويتسكعون.
7
أنا مهتمة بالتساوي بما يمكن للتاريخ وكذلك الوقت أن يضيف إلى مفهوم الانتباذ الحضري (أو الوقوف على العتبة)، بطريقتين على الأقل. أولًا: انتباذ وسط البلد هو أيضًا مُنتج تاريخي – جعلته الموروثات التاريخية بالذات أكثر بروزًا، وهو ما تفسره العوامل الاجتماعية بشكل مختلف. التصورات المتصارعة صارت محل نقاش متزايد وخاصة في لحظات تاريخية بعينها: خلال التحول النيوليبرالي، أو في وقت الثورة. ثانيًا: الانتباذ (أو الوقوف على العتبة) لديه بعد زماني: يحدث السلوك الحدي (أو يصبح أكثر بروزًا، وحتى مُعدٍ) في أوقات معينة: أكثر هذه الأوقات التقليدية في هذا الشأن هي في الليل، لكن الأشكال الأخرى المؤقتة تلعب دورًا هنا: في مناسبات الأعياد والاحتفالات الدينية أو أيام المعارك الثورية. كلاهما، بدوره، ممكنان ومتحمسان ومتضخمان، في مناطق حضرية معينة. العلاقة بين الزمن الحدي والمكان الحدي هي أمر حاسم بالنسبة للطرق التي تطالبها وتمارسها الجماهير الثلاثة المذكورة هنا لهذا الموقع الحضري المحدد.
8
الكثير كتبه المؤرخون الحضريون والمعماريون عن التاريخ المبكر لحي الإسماعيلية – قلب وسط البلد الاستعماري. ولقد تخيلها، في ستينيات القرن التاسع عشر، الخديو إسماعيل على أرض بكر تقريبًا غرب المدينة التي كانت موجودة وقتها،، وتمر بتغيرات سريعة هي الأخرى. كانت رؤية الخديو هي تحويل مصر إلى “جزء من أوروبا”، كنموذج رائع لما حققته مصر من تقدم على طريق الحضارة، ولقد استلهم ذلك من زيارته إلى باريس التي وضع تصاميمها البارون هاوسمان. من خلال عملية معقدة من سياسات التمثيل والتخطيط الحضري، جاءت هذه المدينة الجديدة لتمثل القاهرة “الحديثة”، قبالة خصمها اللدود، المدينة القديمة، التي كانت تمثل قاهرة “القرون الوسطى” أو القاهرة “الإسلامية”، مع كل ما يرتبط بها من تخلف وركود روَّج لهما التصور الاستعماري.
وفي الآونة الأخيرة، كان نموذج “المدينة المزدوجة” هذا لتاريخ القاهرة الحضري أمرًا استشكاليًّا. فقد وصف المؤرخون السياسات التقنية المتحققة ذاتية للحداثة، بأنها استراتيجيات الدولة للتحديث الحضري الموجهة بشكل غير متكافئ نحو أحياء النخبة الجديدة منتجة بذلك جزءًا من المدينة على أنه “حديث”. بينما ركز آخرون على دور المصريين الذين سبق قمعهم في هذه العملية، سواء كانوا ممولين أو سكانًا أو مستهلكين.
9
خلال النصف الأول من القرن العشرين، أصبحت هذه المدينة الجديدة – التي سميت الإسماعيلية خلفًا لمؤسسها – والمناطق المحيطة بها من التوفيقية والأزبكية قلبًا للمدينة الاستعمارية. هنا حيث عاشت النخبة، الوطنية والأجنبية، وحيث كانت تقع الشركات التجارية والخدمية والمؤسسات الحديثة. كانت منطقة لمنشآت التسوق والترفيه الراقية. بينما، وبطرق حصرية كثيرة، كانت وسط البلد متغايرة وقائمة على جذب الجماهير من أنحاء المدينة كافة، حتى ولو مؤقتًا.
كان المصريون من متوسطي الدخل يتوافدون إلى هناك لينالوا نصيبهم من الملذات التي تقدمها. كانت محال وسط البلد الكبرى تلبي بالتساوي متطلبات الأجانب، والأسر متوسطة الدخل التي صنفتها بطريقة مختلفة على أنهم زبائن “تقليديون” جاءوا إلى هنا من أجل تسوقهم الموسمي. الملاهي ودور السينما على طول شارع عماد الدين، منطقة الترفيه الرئيسية في المدينة، لبت متطلبات مجموعة متنوعة من الجماهير، بمن في ذلك شباب المحافظات الذي يزور بيوت الدعارة الموجودة على أطرافها، وبالطبع كثير من الشباب متوسطي الحال، الطلبة الأفندية من هنا وهناك، جاءوا هنا لمجرد التمشية ومشاهدة الفترينات ومعاينة أفيشات الفيلم القادم.
10
بينما دارت المناقشات التاريخية عن العصر الذهبي لوسط مدينة القاهرة في الفترة الاستعمارية حول فضح نموذج المدينة المزدوجة و “الكتابة عن المصريين مرة أخرى”، إذا جاز التعبير (سواء من خلال الاستثمار، والسكن، والأشكال المتنوعة للاستهلاك المحتمل)، قلما لفت الانتباه تاريخ وسط البلد بعد نهاية العصر الذهبي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين. من المعروف أن وسط القاهرة شهدت “تراجعًا” ثابتًا طوال هذه الفترة، وزادت كثافته في السبعينيات. وتدريجيًّا هُجِرت كموقع لمساكن الطبقة المتوسطة العليا، والأعمال التجارية والتسوق والترفيه، واتخذت هيئتها الرثة التي هي عليها اليوم. المتفق عليه، في الخطاب العام في حقبة مبارك المنصرمة، أن هذا التراجع والهجران يرجع إلى طرد عبد الناصر للأقليات الأجنبية من مصر بعد حرب السويس عام 1956، وسياساته التأميمية في الستينيات. وهذا التفسير خاطئ من الناحية التاريخية، ويعكس بدلاً عن ذلك عددًا من الأجندات – حنين النيوليبرالي لمصر ما قبل 1952، وشملت تقريعًا عامًا لسنوات ما بعد الاستقلال. فقد غادرت الأقليات الأجنبية مصر تدريجيًّا قبل وقت طويل من تولي ناصر للسلطة لأسباب مختلفة، بما في ذلك الانخفاض السكاني وتقلص الفرص خلال الأزمة الاقتصادية العالمية في ثلاثينيات القرن العشرين، وعوامل الـ”سحب” الاقتصادي الدولي وجذبها للسكان (خصوصًا الانتقال النسبي لمجتمعات غير المصريين) إلى أجزاء أخرى من العالم، وتمصير قوانين عام 1947 (قبل ناصر) التي أثرت على فرص عمل الجنسيات الأجنبية، واشتراك مجتمعات معينة أو حكوماتها الوطنية في حروب ضد مصر. وعلى رغم العديد من الأسباب المنفصلة وراء انخفاض عدد الأجانب في مصر، تظل الحقيقة أن رحيلهم أَثَّرَ على وسط القاهرة أكثر من أي جزء آخر من المدينة، وذلك بالنظر إلى تركز النخب الأجنبية في هذا المنطقة.
11
السردية النيوليبرالية بأن ناصر هو مصدر كل بلاء، وبشكل خاص أكثر كون ناصر المسئول الأوحد عن تراجع وسط البلد، تستبعد إلى حد كبير استيلاء النخب المصرية على هذه المنطقة في الفترة بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن العشرين. كما كان عدد السكان الأجانب في مصر يتناقص، كان المصريون من الطبقة المتوسطة العليا، وخصوصًا المهنيين المقتدرين – الذين كانوا جزءًا من وسط البلد، وإن كانوا أقلية في البداية، يستولون تدريجيًّا على هذا الحيز الحضري الراقي خلال العقود الوسطى من القرن، وتزايدت حصتهم سواء في السكن والعمل. ففي الوقت الذي عاش فيه الكثير من النخبة المصرية في وسط البلد، وعاش آخرون في الزمالك وجاردن سيتي، أو الأحياء اليانعة الدقي ومصر الجديدة، إلا أن مكاتبهم وعياداتهم، ناهيك بحياتهم الاجتماعية، وترفيههم وتسوقهم، كثيرًا ما كان يتم في وسط البلد. إلى جانب طبقة التكنوقراط التي تدرجت طبقيًّا في سنوات ما بعد 1952، وكللت تلك الهيمنة الاجتماعية والسياسية بالانتقال إلى أحياء النخبة، بما في ذلك وسط البلد.
12
كان تمصير وسط البلد هذا سكانيًّا، كما كان رمزيًّا. بحلول أواخر الأربعينيات، خصصت شوارع وسط البلد الكبرى بالكامل وأُعيدت صياغتها في الثقافة الشعبية المصرية كموقع للحداثة المصرية العالية. هنا، عجائب معمارية مثل عمارة الإيموبيليا (اكتملت في عام 1940، وتعد ناطحة سحاب مصر المبتكرة معماريًّا وقتها) كانت ترمز إلى القومية في أواخر الحقبة الكولونيالية واعتزاز ما بعد الاستعمار والتفاؤل، بتمويل من الرأسمالي المصري عبود باشا وتصميم مهندسين معماريين إيطاليين، كانت الإيموبيليا مسكنًا لنجوم مصر من السينمائيين الكبار وبالضرورة مقار لصناعة الترفيه. وظهرت بشكل روتيني كخلفية في الأفلام والإعلانات في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين لتستحضر إلى الأذهان صور من البريق الحضري والحداثة الوطنية.
وفي الوقت الذي كانت تبدو فيه جذابة في الصور بشكل غير عادي، كانت الإيموبيليا واحدة فقط من بين العديد من البنايات الحداثية الجريئة التي أقامها مهندسون مصريون خلال هذين العقدين. هذا الجزء من تاريخ وسط البلد – باعتبارها موقع للحداثة المصرية الوطنية العليا- أقل بروز اليوم في الذاكرة العامة من وسط البلد في الحقبة الاستعمارية.
تظل معروفة لبضعة هواة، رغم أنها بدأت تكتسب في الآونة الأخيرة بعض الاهتمام الأكاديمي المستحق.
13
لم تستمر هذه السيطرة المصرية على وسط البلد طويلاً خلال السنوات الوسطى من القرن العشرين. فخلال سبعينيات القرن العشرين، بدأ المصريون من أبناء الطبقة الوسطى الميسورة والطبقة المتوسطة العليا يفضلون المناطق الجديدة المحيطة بالمركز، مثل المهندسين والعجوزة، وفي وقت لاحق قليلاً، منذ الثمانينيات، مدينة نصر، بالإضافة إلى الضواحي القديمة المتمددة للدقي والجيزة ومصر الجديدة. كانت هذه الأنماط من إعادة تشكيل المدن مرتبطة بارتفاع ملكية السيارات والتنمية الشاملة للقاهرة الكبرى. وقد بدأت هذه العملية في سبعينيات القرن العشرين، عندما بدأت سياسات الانفتاح في عهد السادات في إحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية هائلة.
إعادة مصر إلى الكتلة الغربية وبالتالي انفتاح الاقتصاد المصري على الرأس المال الأجنبي جلب معه ازدهار انتقائي إلى جانب اتساع الانقسامات الاجتماعية. ورغم هجرانها كمكان للإقامة راقية، ظلت وسط البلد طوال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين المركز المفضل للتسوق والترفيه. مع إنها لم تعد المكان الوحيد الجيد للتسوق والترفيه، خصوصًا وأن مراكز مماثلة في جميع أنحاء القاهرة نشأت، مثل ميدان الكوربة بمصر الجديدة وشارع جامعة الدول العربية بالمهندسين. لكنها ظلت مكانًا للزيارات الــ”خاصة” والنزهات، وحتى لأولئك الذين تربوا وعاشوا في محيط الأماكن الراقية الأخرى، وبطبيعة الحال فإنها بقيت حتى أكثر من “رائعة” باعتبارها مركزًا لتنزه لأولئك القادمين من الأحياء الأقل حظًا. شملت هذه النزهات “الخاصة” المجيء لشراء الأحذية أو الملابس، في معظم الأحيان يكون المقصد حضور الأفلام. وبينما كانت هناك دور سينما في الأحياء الأخرى، إلا أن وسط البلد بها إلى حد بعيد أكبر تركيز. بعض الأفلام يمكنها أن تكون ممتعة “بشكل صحيح ” فقط في وسط البلد.
يمكن للواحد أن يرى طلبة المدارس الثانوية من الدقي وقد هربوا من الحصص بشكل جماعي لحضور عرض سينمائي جديد هنا. مناسبة مميزة مثل فيلم جديد لجيمس بوند لا بد من حضوره في موقع ممتاز في وسط البلد، كما يجب أن تكون جلية بشكل صحيح بالطقس العام الملائم لاستقلالية الشباب الذكور: وهو التزويغ الجماعي.
14
الازدهار الانتقائي نفسه الذي تسارع مع صعود مراكز حضرية جديدة راقية في المهندسين، وفي مدينة نصر في وقت لاحق، لكنه كان له تأثير آخر على الانطفاء السريع لوسط المدينة. بينما كانت فاترينات عهد الانفتاح تعرض الملابس العصرية الجذابة التي كان يمكن للقلة شرائها، صارت المنطقة موقعًا لسلع السوق السوداء. هنا، أصبح شارع الشواربي (منطقة المشاة التي تربط اثنين من أكبر شوارع وسط البلد، تحت عمارة الإيموبليا مباشرة) مشهورًا في كل المحافظات بسبب سوقه السوداء للملابس ذات الماركات العالمية، والسلع المعمرة، والأدوات الإلكترونية وأفلام الفيديو، وكل ما هو مُهرَّب إما من الخارج أو من المنطقة الحرة المنشأة حديثًا في بورسعيد. هذه السلع، رموز الثقافة الاستهلاكية الناشئة حديثًا التي جعلت كل ما كان مرغوبًا في أن يكون متاحًا بعد عقدين من التقشف المتعلق بالحرب، يمكن شراؤه بأسعار مناسبة هنا. تمثل السوق السوداء لأسواق سبعينيات القرن العشرين منعطفًا حاسمًا في تاريخ انتباذ وسط البلد. لأنه وُجد لتقويض القيم وإرضاء الرغبات المتكونة في أماكن أخرى، فأي سوق سوداء هي بالأساس مكان منتبذ.
عاصمة بُوهيميّة
1
مع تراجع وسط البلد كقلب سكني وتجاري للقاهرة خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، اكتسبت تدريجيًا سمة بوهيميَّة خاصة كموقع رئيسي للثقافة المستقلة، وغالبًا ما ترتبط بالمقاومة السياسية. ظهر عدد من مقاهي وسط البلد والبارات والمطاعم كأماكن شهيرة لتجمع أجيال من الأدباء القاهريين والفنانين والنشطاء السياسيين. ففي حين أنهم لم يعيشوا عمليًّا هناك، لكن معظم الكتاب والمثقفين عملوا في مكان قريب، لأن معظم المؤسسات الثقافية – المسارح ودور النشر والصحف والكتب، الكبيرة والصغيرة، الخاصة أو التي تديرها الدولة – كانت ولا تزال، بدرجة ما، تقع إما في أو بالقرب من وسط البلد. وآخرون جاءوا هنا على أساس منتظم للأنشطة التي لها علاقة بالثقافة، كلهم التقوا، وتمشوا وناقشوا الثقافة والسياسة في العديد من منشآت وسط البلد، التي صارت مؤسسات ثقافية غير رسمية خاصة بهم. أصبحت بوهيمية وسط البلد هذه مؤسسية نوعًا ما من خلال سياقات يتردد فيها بعض الناس عادة على أماكن بعينها في أوقات منتظمة. كان من المتوقع أن “يوجد” هناك، دون شك، كُتّاب معروفون، أو رموز مكافحة النخبة الثقافية الناشئة، وكانت “لهم” جداول منتظمة وأوقات محددة. طوّرت هذه الثقافة الأدبية الحضرية طقوسها الخاصة، مثل ندوات الثلاثاء في أتيليه القاهرة، وهو ساحة عرض فنية دائمة، لتستمر بعدها المناقشات في البارات والمقاهي القريبة. المناقشات التي اتسم بها “جيل السبعينيات”، وبعد ذلك، جيل الثمانينيات والتسعينيات، كانت تعنى فقط بشكل سطحي بالجماليات الأدبية. غير أنها عكست مناقشات أوسع بشأن اتجاه المجتمع المصري ودور المثقفين في ذلك، بالتزامن مع أزمة القومية المصرية، وبصفة أعَمُّ مع انتهاء عهد الاستقلال المتفائل بعد هزيمة 1967. لقد عادت إلى الظهور بقوة في التسعينيات، عندما تشكل جيل التسعينيات وفند، صراحةً أو ضمنيًّا، كلا الخيارين – تَخَلُّف الناصرية وإعادة نسق السادات. ينبغي للمرء ألا يبالغ في تقدير المحتوى الأيديولوجي لهذه المناقشات. في الواقع، كان رفض الأيديولوجية على وجه الخصوص هو ما ميز أي شخص منتم لجيل التسعينيات، تمامًا كما ستشي فيما بعد برنامجية اللا قيادة لثورة 25 يناير. تمضية الوقت مع الآخرين في مكان معين كان دائمًا أكثر أهمية من الأيديولوجية. هنا، كانت تتشكل شِلَل الكُتّاب أو الفنانين، تنحل ويعاد تنظيمها من خلال أشكالهم المشتركة في المؤانسة. كان يمكن التحصل على رأس مال اجتماعي، وكانت المهن والعقود الآجلة تتمّ وتلغى خلال سياقات اجتمعت فيها الناس وأنست في مكان واحد، مع أو دون الآخرين. وأضفى الجلوس في صحبة بعض الناس هالة على المدعوين للانضمام، كما أن التردد على هذا أو ذلك المكان أسس لهرمية ليس فقط في هذا العالم، ولكن على نطاق وطني. اليوم، أُعيد إنتاج هذا الأداء لرأس المال الاجتماعي في المشهد الفني “الجديد” لوسط البلد، حيث أن نطاق هذا الحيز صار عالميًّا.
2
هذه البوهيمية الأدبية لوسط البلد أسست لنفسها في مواجهة المؤسسات الثقافية الرسمية أي المهيمنة. كانت ضد الجيل القديم من الفنانين والأدباء وضد المساحات الرسمية للثقافة، التي ظلت قريبة جدًا من الناحية المادية. ظاهرة للعيان في المناطق الحضرية البارزة – أماكن تجمع معينة في وسط البلد – أدت هذه المعارضة الضمنية إلى ظهور تعبير، “مثلث الرعب”، في الثمانينيات، الذي يرمز للمنطقة الواقعة بين أتيليه القاهرة، وبار الجريون ومقهى البستان. دَلَّ التعبير على خطر الفحص الدقيق أو حتى الرفض، الذي كان من المرجح أن يعرض له المثقفون المتحالفون علنًا مع النظام أنفسهم إذا ما تجاوزوا حدود هذه المساحة غير المهيمن عليها للإنتاج الثقافي المعارض البديل. كانت بوهيمية وسط البلد القائمة منذ أواخر الستينيات وخلال التسعينيات تعمل فقط فيما يتعلق بالمؤسسات الثقافية جدًا التي زعمت أنها تركتها في الخارج. بينما كان خطاب مناهضة النظام، أو بشكل أكثر دقة “مناهضة الجيل الأقدم” دائمًا جزءًا أساسًّا منها. كانت الحدود مع المساحات السلطوية دائمًا مسامية إلى حد ما. لم تكن هذه العوالم موجودة في الفراغ، لكن متداخلة مع بعضها البعض. ففي الوقت الذي كان فيه قلة من مثقفي النظام غير مرحب بهم هنا، بل ومرفوضين حتى بشكل مباشر، كان العديد من الآخرين الذين كانوا جزءًا من صناعة الثقافة الرسمية يخرجون لقضاء الوقت في وسط البلد، جنبًا إلى جنب مع صغار الفنانين الواعدين والكُتّاب الوافدين الجدد، استكمالاً للعادات القديمة، ومقابلة أصدقائهم وأقرانهم أو البقاء على اتصال مع الجديد النابض بالحياة. الجديد كان، بدوره، يندمج اجتماعيًّا في الهياكل المؤسسية للعالم المهني للإنتاج الثقافي.
3
يختلف المكان المُنتبَذ عن مجرد مكان حضري غير متجانس. خلال عصرها الذهبي في النصف الأول من القرن العشرين، كانت وسط البلد مكانًا غير متجانس، مؤسسًا لسحر العاصمة. هذا السحر اعتمد ليس فقط على الإقامة الحصرية والتسوق والترفيه بالطلب، لكن بنفس القدر على قدرتها على اجتذاب واستيعاب الجماهير إلى أبعد من النخب طالما أنها يمكن أن تدفع أو تلعب اللعبة. دائمًا ما كانت وسط البلد لديها أيضا صفات غير متجانسة: ودائمًا ما تجد المتعة غير المشروعة على أطرافها. ومع ذلك، خلال السبعينيات والثمانينيات، كان هذا السحر السائد قد ذهب، تجاوزه تشويق السوق السوداء والبارات غير المشروعة أو مناهضة المؤسسة (العالم البوهيمي)؛ وكليهما بلا هيمنة. بوهيميا وسط المدينة في الربع الأخير من القرن العشرين انبَنَت بالتأكيد على الهالة السابقة والبنية التحتية من العصر الذهبي للمنطقة: اجتماعها لعقود طويلة على أسباب المرح والترفيه، والقرب من المؤسسات الثقافية، وكذلك تركيزها الفريد من نوعه للقاهرة من البارات والمطاعم المرخصة لتقديم المشروبات الكحولية. من السبعينيات وما بعدها، ما عاد المجيء إلى وسط البلد للمتعة والترفيه يضفي على الواحد منزلة رفيعة لا شك فيها في نظر المجتمع المعياري، بل جعله بالأحرى شخصًا مشتبه فيه اجتماعيًا – فقط لأن خاصية اللا مشروع أو ” الاشتباه ” سعى إليها البعض بدأب عنصرًا من عناصر رأس المال الاجتماعي في ثقافات فرعية معينة. لذا في وقت ما خلال السبعينيات والثمانينيات، أصبحت وسط القاهرة “انتباذية مهيمنة”، إذا جاز التعبير. ويستند هذا “التحوّل الانتباذي المهيمن” أي صعود وسط كمكان منتبذ من الدرجة الأولى، على انهيارها كموقع للسلطة والامتيازات. لم يعد المكان الذي يتردد عليه النخب، أصبح الآن المكان الذي ادعته وأدت فيه الأجيال اللاحقة من البوهيميين، والسوق السوداء (حل محلها في نهاية المطاف الواجهات المتناقصة لمحالها التجارية)، والمراهقون القادمون لمشاهدة الأفلام والتسكع.
4
في أواخر التسعينيات ظهر مشهد فني عابر للحدود الوطنية في وسط المدينة، متصل بالأوساط الفنية العالمية. بدأ هذا الاتجاه الجديد مع افتتاح حفنة من المعارض الخاصة الجديدة، التي كسرت احتكار المساحات الفنية المملوكة للدولة، غير أنه ظل معتمدًا على أذواق النخبة المصرية. سرعان ما طغى معرض التاون هاوس على هذه المعارض، وهو مكان للفن الراقي افتتح في عام 1998 في مبنى قديم وسط ورش تصليح السيارات، والجراجات. عمل التاون هاوس باعتباره مؤسسة غير ربحية بدعم من المنح الأجنبية، التي سمحت له بالتغلب على الاعتماد على الأذواق المحلية وتوجيه نفسه، بدلاً عن ذلك، إلى اتجاهات وأسواق فنية عالمية. موقع وسط البلد لهذا المشهد الفني الجديد يمكن أيضًا أن يقرأ باعتباره خطوة لمناهضة المؤسسة نوع ما، التي أكدت رحيلها من المعارض الفنية التجارية بالزمالك وكذلك من مؤسسات الفن التابعة للدولة المصرية.
وفي الوقت الذي حرر فيه جزئيًّا الفنانين المصريين وخصوصًا الأصغر سنًا من حدود مؤسسات الدولة والفساد والمحسوبية في عالم الفن الرسمي، فضلاً عن توفير منفذ للمواهب الجديدة. أدخل التاون هاوس أيضًا مجموعة جديدة كليًّا من التسلسل الهرمي للاستثناء. اليوم، تاون هاوس لا يزال يسعى إلى أن يكون مكانًا على المستوى الدولي ووسيطًا للفن الإقليمي والعالمي، إلا أن جيلاً جديدًا من الفنانين تحاشاه إلى حد كبير – جيل عالمي بالكامل ويرفض الوساطة من أجل الوصول إلى العالمية.
5
الأهم لحجتي، أن الضجيج المحيط بمعرض التاون هاوس خلال أوائل الألفية الجديدة كان مسئولاً عن استحضار نوع جديد من الحشود إلى وسط البلد: جمهور صغير، ونخبوي، وعَولَمي، نشأ في مناطق راقية أخرى من القاهرة. هذا المشهد الفني الجديد من أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة استغل البنية التحتية المُنتبَذة لوسط البلد: باراتها الكثيرة، ومقاهيها، ومطاعمها، وصدأها المتأكل، ومجدها التليد، وشعور علامتها التجارية كــ “منطقة حرة” مستمدة من نفاذها الاجتماعي المميِز لها. لقد اكتشف هذا الحشد من الشباب المُعولَم وسط البلد لأول مرة. معرض التاون هاوس والمهرجانات الثقافية اللاحقة (أول مهرجانين بعنوان النطاق عامي 2000/2001، عدة جولات من فوتو كايرو، وثلاثة مهرجانات من الــD-CAF بين عامي 2012 و 2015) جعلت من وسط البلد مكانًا منتعشًا مرة أخرى. من الجدير بالذكر أن هذا اكتشاف الجمهور الجديد لوسط البلد في ذروة التحول النيوليبرالي، مع كل ما يعنيه ذلك التثمين المتزايد لمركز القاهرة الكولونيالي المذكور أعلاه.
6
كل من هذه الدوائر ممثل بشكل مستقل رغم التداخل العرضي للجماهير، وقد مكنتها صفات وسط البلد الانتباذية في التأسيس لنفسها. تنوع المشاهد الثقافية لوسط البلد التي فيه الكل أكبر من مجموع أجزائه، واضح، على سبيل المثال، في تيارات مختلفة جدًا ممثلة من قبل اثنين من المهرجانات الكبرى في سنوات ما بعد الثورة. مهرجان الـــD-CAF و الفن ميدان، لبت متطلبات أو جذبت، جماهير مختلفة إلى حد كبير، تمامًا كما أن أهدافها وجمهورها – مختلفون مكانيًّا، إن جاز التعبير. فالــD-CAF يهدف لوضع القاهرة على الخريطة العالمية عن طريق جلب فنانين من جميع أنحاء العالم، وعلى وجه التحديد تشجيع التعاون الفني مع الفنانين المحليين. أما الفن-الميدان (الذي عقد في وقت واحد في مدن إقليمية أخرى في جميع أنحاء مصر) فيسعى لنشر الإنتاج الثقافي الذي غرسته الثورة في أعماق البلاد.
7
من وجهة نظر واحدة، هذه الجغرافيا الثقافية لوسط البلد التي يقضي فيها أجيال مختلفة من الفنانين والأدباء والناشطين أوقاتهم في أماكن مختلفة، في كثير من الأحيان تفصلهم عدة أمتار فقط، يعكس الصراع البارز – نادرًا ما يكون صريحًا – حول ملكية المقاومة السياسية، أو في الواقع، “الثقافة”. مقاهٍ معينة ترتبط بشلة أو بأخرى، لكن هذا لن يُعرف فقط إلا المُنضَمّ للشلة – المجموعة الداخلية. بالنسبة إلى أي شخص آخر، وتظل هذه الدوائر غير مرئية إلى حد كبير. ومن بين هؤلاء الذين تعتبر هذه الجغرافية واضحة لهم، فإن تفسير ما تعنيه هذه التجمعات قد يختلف كليًّا. الواقع، أن هـذه الشلل المختلفة المُنضِمّ إليها الأفراد قد تظل غير مرئية لبعضها البعض. بالتالي فإنه ليس من المستغرب أن تجهل الجماهير الشابة التي تأتي إلى وسط البلد لحضور عرض أو لتمضية بعض الوقت الإرث الطويل لبوهيميَّة وسط البلد وأبطالها وعجائبها. لكن هكذا بالضبط يصنع انتباذ وسط البلد.
8
هذا المشهد الثقافي الجديد لوسط البلد يعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها البوهيمية السابقة من الستينيات إلى التسعينيات. قليل من الشخصيات الرئيسية ومريديها أو في الواقع، عدد قليل من المستثمرين الذين لديهم حصص في عملية الإحلال العمراني على استعداد للعيش فعليًّا هناك. وسط البلد هي موقع الحج الثقافي: يأتي الناس لتمشية، وبعد ذلك ينصرفون. وهذا ينطبق بالتساوي على الفنانين المستقلين والأدباء من الجيل الأكبر سنًا، كذلك الحال بالنسبة لنشطاء شباب الثورة. وهو ينطبق أيضًا على محبي الفن من الصفوة الذين يأتون لحضور معارض التاون هاوس، ومن ثم تناول وجبة العشاء في النادي اليوناني أو استوريل، وتستهلك قليلاً من إثارة وسط البلد المنحلة وتؤسس لسمعتها كأحد مرتادي وسط البلد بين أقرانهم. بالنسبة للبعض، تمضية الوقت ولا سيما البارات والمقاهي يحدد انتمائهم إلى ثقافة فرعية حضرية، تكون بالنسبة لها هالة وسط البلد البالية هي السر، هالة بها بالفعل حيلة نيوليبرالية. يأتي آخرون هنا للتمتع بحرية نسبية واستقلالية توفرها لهم ميزة النفاذ الاجتماعي الخاصة بها. بالنسبة للآخرين، من طائفة اجتماعية مختلفة جدًا، فإن وسط البلد لا تزال محتفظة بارتباطها بالأجواء الاحتفالية الراقية، لذا هم يأتون إلى هنا لتمضية الوقت والتمشية والنظر إلى واجهات المحلات وإلى النساء. دائمًا ما كان وسط البلد مكانًا غير متجانس مبني على جذب مختلف الجماهير من جميع أنحاء المدينة، مؤقتًا، وفي لحظات معينة فقط. يشجع هذا المكان المنعدم الهيمنة أيضًا على أداء المرح في الأدوار الاجتماعية – أنها تعمل بمثابة خشبة المسرح. ولا يعني النفاذ الاجتماعي غياب القواعد، بل إن مكان الارتجال هذا له قواعده (أو نصوصه أو رموزه) الخاصة بهم.
9
كما هو الحال في أي حالة حدية، فإن وسط البلد لها محتالوها الذين يصطادون الغرباء لخداعهم: الخِرَتِيَّة (المفرد :خِرَتي). في حين أن الجميع، من الناحية الفنية، غريب في مكان حدي. في السياق المصري الغرباء هم الأجانب بشكل خاص. والخرتية يسعون للاستفادة منهم من خلال تقديم مجموعة من الخدمات، وإدراج أنفسهم كوسطاء وحلقات وصل في كافة الأنواع المختلفة. قد يكونوا رجالاً أو نساءً، من مختلف الخلفيات الاجتماعية، ويعملون بمبدأ الربح. غالبًا ما يتم تأطير الخدمات التي يقدموها من خلال الصداقة أو المحاباة، وليس كعمل تجاري. والطريقة الأكثر شيوعًا لوصف الخرتي أنه شخص هدفه النهائي هو في الزواج من أجنبي من أجل الحصول على تأشيرة دخول. لكنهم يقدمون مجموعة متنوعة من الخدمات بدءًا من العثور على شقة أو سيارة مستأجرة، إلى المخدرات والجنس. الأماكن المفضلة لديهم لتمضية الوقت في وسط البلد هي مقهى ريش والبستان والحرية.
10
الخِرَتِيَّة كانوا ظاهرة الثمانينيات، وتأثير الانفتاح وما صاحبه من نمو سريع في السياحة والشعور المفاجئ بالانفتاح على العالم الخارجي بعد سنوات من الحرمان والإغلاق النسبي في البلاد بسبب الحروب. اليوم، صاروا نوعًا من الأساطير الحضرية لوسط البلد، على الرغم من أن بعض الناس لا يزالون يزعمون وجودهم في مقهى الحرية كالسماسرة، الذين يترددون هناك. لكن الصنف الاجتماعي للمحتال، كشكل من أشكال السلوك، التي أنشأها الوقوف على العتبة، أي وقوف وسط البلد على العتبة، قد يشجع هذا السلوك المحتال، بل في المقابل يؤكده. من الممكن أن بعض الناس خلاف ذلك “محترمون” لكنهم قد يتصرفون كخِرَتِيَّة إذا أتيحت الفرصة لذلك، وعلى الأرجح، فإنهم يوصفون بأنهم خرتية من قبل الآخرين. لقد شهدت هذه العملية عندما اشتبك اثنين من معارفي بعنف على حقهم في استخدام استوديو معقول السعر ورائع في باب اللوق، وهو شيء مطلوب بشدة بين جماهير وسط البلد الأصغر سنًا لأنه من الصعب العثور عليه. كان كلاهما له وضع اجتماعي مماثل، ويتحركان في الدوائر الاجتماعية المتداخلة لوسط البلد، لكن عندما تحولا إلى خصمين بسبب استخدام الاستوديو، وحاول أحدهما تشويه سمعة الآخر بالقول إنه “خِرَتي”. وهذا يعني أنه يثير الشكوك حوله كشخص يتربح من الفرص المتاحة. قد ينطبق هذا التربح المماثل في بعض الأحيان عندما تتزوج إحدى شخصيات وسط البلد من أجنبية، خصوصًا إذا كان الزواج يؤدي إلى شكل من أشكال الكسب. لقد ألمح صديق “وسط البد تشجع المُتطفِلين، وعلى الواحد أن يكون حذرًا. يمكنك عادة الثقة في واحد فقط من بين عشرة أشخاص هنا “. المغزى أن هناك سلوك معين قد يفهم على أنه استغلال، ويمكن أن تكون نفسية المحتال سمة في شخصية بعض الناس، وهذا يقع في وسط المدينة.
في هدى شعرواي
1
قد تكون الحلقة الأخيرة من التخلي عن وسط البلد من قبل نبلاء القاهرة حدثت في عام 2008، عندما انتقل الحرم الجامعي الرئيسي لجامعة الأمريكية بالقاهرة (AUC) من خيلاء مكانه المجاور لميدان التحرير إلى واحدة من الضواحي الجديدة في الصحراء. عكست هذه الخطوة، في جزء منها، عدم الارتياح المتزايد من قبل الطلاب المُتعرِضين لفوضى حركة المرور، وتلوث قلب المدينة.
الزحام هنا لا يعني مجرد المرور البدني على حد سواء للمشاة والسيارات، بل التلوث البشري نوعًا ما. كل يوم يأتي خليط غير متجانس من الناس إلى وسط البلد لأغراض متنوعة: إجراء المهمات عند المكاتب الحكومية، ومزاولة الأعمال التجارية في مكاتبها (المنخفضة إلى المتوسطة) أو للتسوق أو تمضية الساعات من الوقت. باستثناء بعض محبي الفن العالمي الذين نوقشوا أعلاه، فإن أيا من مستخدمي وسط البلد هؤلاء ينتمي إلى النخبة.
2
أي منطقة تشكل حقًا وسط المدينة؟ من بين مرتادي وسط البلد وأولئك الذين لديهم حصص بالمنطقة، هناك نوعان من التعريفات المكانية المتداخلة. واحد هو التعريف الذي تبناه المؤرخون المعماريون ومهنيو التراث والمستثمرون، بالنسبة لهم، وسط البلد تعني المنطقة الإسماعيلية التاريخية، والشوارع الكبرى التي يحددها ميدان التحرير في الغرب، وشارع 26 يوليو في الشمال، و ميدان العتبة، الأزبكية سابقًا، إلى الشرق. بالنسبة للمؤرخين، تعرف هذه النواة المركزية بالقاهرة الخديوية. أحيانًا تُضاف لها المناطق المجاورة على الفور التوفيقية، الأزبكية، والفجالة، لأن عشرات المباني التراثية الكولونيالية القيمة تقع هنا.
3
التعريف الثاني لوسط البلد تعريف اجتماعي. من هذا المنظور، فإن إسماعيلية الحقبة الكولونيالية تبدو هامشية، مع بعض شوارعها المهجورة فعليًّا بعد حلول الظلام، وغيرها من الشوارع كونها المركز الحضري للتسكع، عند الشباب الذكور ذوي الدخل المنخفض والباعة الجائلين. “المشهد الاجتماعي” لوسط البلد يبدأ جنوب حدود الإسماعيلية. ففي حين أن منطقة المشاة في البورصة، المعروفة بمقاهيها الكثيرة المفتوحة في الهواء الطلق، تقع على طول الحدود الجنوبية لوسط البلد الخديوية، إلا أن ثمة مراكز اجتماعية أخرى تقع خارجها: يقع جاليري التاون هاوس في معروف، وهي المنطقة التي تشمل سكن الطبقة الوسطى المُتدَنية وعدد من أزقة الطبقة العاملة ذات الجراجات وورش تصليح السيارات، تختبئ وراء صف من بنايات الفترة الذهبية. تتركز غالبية المقاهي ذات الإحساس البديل على بعد مسافة قليلة من القاهرة الخديوية: في باب اللوق، وعلى طول ميدان باب اللوق أو الفلكي، وفي شارع هدى شعراوي.
4
بشكل حاسم، ليس لدى وسط البلد سكانًا متجانسين يخصونها. رغم جمال مباني الحقبة الكولونيالية مضرب الأمثال ورحابتها، إلا أن العديد من الشقق مغلقة وغير مستخدمة.
إلى حد كبير بفعل قوانين الإيجار الصادرة في عهد عبد الناصر، تحولت العديد من الشقق إلى مكاتب وورش عمل أو مخازن منذ عقود. السكان الفعليون لوسط البلد واقعون في عدد من المجموعات المنفصلة، جزئيًّا بحسب التعريف الجغرافي للمنطقة. في القلب الكولونيالي، وتشمل هذه المجموعات: مجموعة متناقصة من القدامى أو ذريتهم (عادة بدلاً عن ذلك كبار السن)، والأجانب المقيمين محليًّا، وجميعهم من الشباب الذين يعيشون مؤقتًا في القاهرة لبضع سنوات، وحفنة من المثقفين المصريين أو الفنانين الذين يستأجرون هنا وغالبًا ما يكون لهم منزل للعائلة في مكان آخر. أطراف وسط البلد الكولونيالية كباب اللوق أو شارع معروف أكثر كثافة سكانية بسكانها من الطبقة المتوسطة المنخفضة الحال التي يمثل فشلها في الخروج خارج منطقتها انخفاضًا اجتماعيًّا. إلى هؤلاء يجب أن يضاف الكتلة السكانية الكبيرة ومعظمهم من الذكور من العمال وأصحاب الأعمال الصغيرة الذين لا يعيشون بالفعل في وسط البلد، لكن يشكلون غالبية الكثافة الاجتماعية طول النهار وغالبًا لجزء كبير من الليل. هذه الفئات الخمس من سكان وسط البلد لا تتفاعل فيما بينها. يتجاوزون بعضهم بعض كالسفن في الليل، ولا يشكلون مجتمعًا محليًّا. إنه الملمح المكسور لسكانها المحليين الذي يبرز طابع وسط البلد كتجمع غير متجانس للغرباء العابرين، وعلامتها التجارية الشعور بأنها مكان لا يخص أحد، لكنه متاح للجميع، وهو ما قد يُفسر على أنه حالة من الفوضى والتلوث البشري من قبل البعض، لكن أيضا يؤوي احتمالات للاستقلالية لآخرين.
5
“هذه الشوارع القليلة، وهذا المربع هنا، هذا ما حصلنا عليه من الثورة، وهذا هو ما تبقى منها” أخبرتني بذلك إحدى الصديقات في صيف عام 2014، لمّا بدأ النظام العسكري الجديد في تشديد قبضته على الحياة العامة و بدا أن الثورة هُزمت تقريبًا.
كانت تشير إلى المنطقة المحيطة بشارع هدى شعراوي، واثنين من الشوارع الصغيرة، الفلكي ومظلوم. هذا المربع الذي اصطف فيه عدد من المقاهي، وأغلبها معروف بأنها الأماكن المفضلة للشباب الثوري الذي شارك بنشاط في الكثير من أحداث الثورة. أعرب تعليقها عن شعور الحرية الكامن والملموس في هذا المربع، شعور ليس مجرد نتاج للديموغرافية الغالب على رعاتها الشباب والثورية، بل نوع من السلوكيات الأدائية التي أصبحت مهيمنة هنا بشكل مؤقت. هذا مكان مريح للغاية، يتردد إليه الشباب والشابات على المقاهي الرخيصة أو ببساطة يمضون أوقاتهم في أركان الشوارع. هنا، الحاجة الحاضرة للمرأة في كل مكان أن تكون دائمًا في حراسة لدرجة أنها صارت طبيعة ثانية لها في الأماكن العامة في القاهرة غائبة بشكل فعلي. لقد كان التحرش مستحيلاً أو مستهجنًا في هذا المربع في السنوات الثلاث الأولى بعد الثورة. كان من الممكن تدخين “جوينت” في الشارع مع الحد الأدنى من حرية التصرف. وتمضية الوقت على زاوية الشارع وتدخين “جوينتات”، يحدث، بالطبع، في كل مكان في القاهرة، لكن مقتصر على الذكور بشدة. كل حي غني أو فقير له زواياه الخاصة حيث كتلة من الشباب الذكور المحليين ويدخنون “الجوينتات” بعد حلول الظلام. مثل هذه الأماكن والممارسات ضرورية للرجولة الأدائية وتعمل كمَرتَع – أماكن رسمتها علامات اجتماعية نظامية. من الممكن أن تكون مصنوعة وتأسيسية بدورها لمفاهيم ذكورية قائمة على “ملكية” أدائية لبقعة معينة لقضاء الوقت فيها. في شارع هدى شعراوي، هذا المَرتَع المحلي ليس تأسيسيًا للذكورية، بل للهوية الاجتماعية (والسياسية) التي تعمل سياستها من خلال إدماج كلا الجنسين، من الناحية المثالية، ومن خلال النكران الطبقي. هذا كان، ولا يزال جزئيًّا، ببساطة مَرتَع المعسكر الثوري، حيث كانت أشكال السلوك الاجتماعي المحافظ أو المقيد غائبة فعليًا أو معطلة بشكل فَعًّال.
6
الانتباذ الثوري لمربع هدى شعراوي له تاريخ. على مدى عقود، كانت المقاهي سوق الحميدية والندوة الثقافية تحظى بشعبية كبيرة بين أوساط معينة من الأدباء القاهريين، مثل جمهور المسرح المستقل. ويقع كلا المقهيين على زاوية باب اللوق، بالقرب من مقهى الحرية الأسطوري: مقهى رث للخمور شهير بتقديم البيرة، وبالنسبة لكثير من الغرباء – من النخب المصرية من الأماكن أخرى وسياح على حد سواء- فإنه يمثل “بالفعل” وسط البلد، ومما لا يثير الدهشة، أن الحرية قد تكون هي أيضًا موقعًا مميزًا للمُحتالين. إلا أنه خلال الثورة، انتقل مركز الثقل الاجتماعي بعيدًا عن ميدان باب اللوق نحو الشوارع الصغيرة خلفه. شارع هدى شعراوي، شارع عريض نسبيًا يضم المباني نيو- بندقية الجميلة. كان في السابق منطقة هادئة وعادية تصطف بها ورش تصليح السيارات على جانب، ومحال أنتيكات مبالغ فيها على الجانب الآخر. على مدى عقود، كان بمثابة مكان مؤقت لوقوف سيارات الذين يقومون بمهام في المكاتب المجاورة طيلة النهار وللتسوق أو تناول الطعام ليلًا.
هذا الاستخدام المؤقت كساحة انتظار للسيارات أعطى خاصية اللا مكان. تغير طابعها أثناء وبعد الثورة. كان البقاء في ميدان التحرير خلال الاعتصامات في كثير من الأحيان مسألة ضاغطة جدًا، فالأمر كان يستلزم اليقظة وخصوصًا في الليل، عندما كانت الهجمات محتملة. كان التحرير أيضا ممتلئ بالناس، وبالتالي أو بمعنى ما، “عام جدًا”. في كثير من الأحيان كانت الناس تأخذ استراحة من احتلال التحرير لاسترخاء في شارع هدى شعراوي القريب، الذي كان مهجورًا كما كان آمنًا نسبيًا. البعض جاء هنا للف “جوينت” وتدخينه سرًا مع الأصدقاء، والبعض الآخر لأخذ غفوة سريعة في سيارتهم قبل الرجوع إلى التحرير. صعود الانتباذ الثوري لهدى شعراوي خلال٢٠١١- ٢٠١٣ تميز عن، وإن كان قد أخلي له الطريق، النوع السابق لموقف السيارات اللا مكاني المنتبذ، وبالتالي ارتبط تمامًا بالوظيفة الثورية لميدان التحرير. كان التحرير خلال الاعتصامات الرئيسية مساحة حدية و”كميونة” تعطلت فيها الحدود الاجتماعية الطبيعية من طبقة ونوع وعقيدة مؤقتًا، وخلق مجتمع طوباوية من المنضمين. هذه المناهضة للبنية أصبحت أيضًا، بشكل مؤقت، قاعدة طوباوية جديدة، ومجتمع بديل. فإذا صار التحرير، مؤقتًا، قاعدة جديدة، فإن شارع هدى شعراوي هو الخاصرة الحدية لهذه الجمهورية العظيمة الطوباوية في التحرير أو بعبارة أخرى، أصبح الانتباذ الصغير الخاص بالتحرير. بعد أن انتهى عهد الاعتصامات الرئيسية في التحرير، أصبح شارع هدى شعراوي محاولة لتكريس يوتوبيا التحرير ومحاولة كانت جذرية ولا تنسى كما كانت معيبة ومنكوبة.
7
تنامى دور شارع هدى شعراوي كامتداد ليوتوبيا التحرير خلال عامي 2012 و 2013. مقاه صغيرة، وحتى مكتبات بدأت تتشكل حيث كانت ورش تصليح السيارات. لقد تتبعت المقاهي حرفيًّا أين أسست الحشود الثورية مَرتَعها. تحوَّل شارع هدى شعراوي من منطقة عديمة المكان وميتة اجتماعيًّا إلى وجهة ترفيهية مرتبطة بقوة مع الجماهير الثورية وعملت جيدًا بشكل مكاني: أدرج نفسه بين اثنين من المناطق القديمة المعروفة بمقاهيها: ساحة باب اللوق جنوبًا، المرتبطة بالبوهيميات القديمة، ومنطقة البورصة الأحدث نسبيًّا، شمالاً. في أَوْجُه خلال عامي 2012 و 2013، شمل هذا العمق الثوري مناطق واسعة من وسط البلد. باستخدام المقياس القديم، يمكن للمرء أن يتكلم هنا عن “مثلث رعب” جديد يمثل معارضة حكم المجلس العسكري: مثلث محدد بميدان التحرير في الغرب، والبورصة في الشمال والشرق وشارع محمد محمود جنوبًا.
8
كان شارع هدى شعراوي بؤرة الحكم الذاتي الجذري داخل هذا المنطقة الثورية الواسعة.
في شارع هدى شعراوي نفسه، اكتسب ركنُ معين سمعةً سيئة، عند التقاطع مع شارع الفلكي حيث يقف مهملاً بشكل جزئي مبنى كبير من القرن التاسع عشر. هذا هو موقع ما أُطلق عليه “مقهى المُلحِدين” وأُغلق في عام 2014 مع الدعاية الكثيرة في وسائل الإعلام، في ضربة أخرى لبقايا الاستقلالية الثورية. هذا لم يكن مقهى: وإنما كان فكرة (التي هي الاستقلالية الراديكالية) وممارسة هذه الاستقلالية والذي تجلى في مكان مادي، زاوية شارع. مقهى حقيقي، عدد من هذه المنشآت ظهرت هنا بين عامي 2012/ 2014، كان محاولة لإضفاء الطابع المؤسسي على هذا الاستقلالية لتصبح منشأة ملموسة، وهو جهد ظل إلى حد كبير في غير محله بالنسبة لأولئك الذين شاركوا في هذه الممارسة. سوء سمعة هذه الزاوية بالذات له جذوره أيام ما كان شارع هدى شعراوي يعمل مكانًا لراحة متظاهري التحرير. عندما انتهت الأيام الصعبة لاعتصامات التحرير، استمر الناس في التجمع عند هذه الزاوية، كانت تُعزف الموسيقى، وكان الشباب والشابات يمضون وقتهم فيه ويدخنون الجوينتات، وبناءً عليه سرعان ما غطت رسوم الجرافيتي الجدران. جاء إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الاستقلالية الثورية في منشأة فعلية خلال خريف عام 2012 – العصر الذهبي لحرية وإبداع ما بعد الثورة، وأخلى لها الطريق افتقار حكومة جماعة الإخوان المسلمين للسيطرة ولأن الشرطة، هزمت وأذلت في الثورة، وكانت لا تزال ضعيفة وغير مستعدة للتعاون مع الحكومة.. هكذا افتتح مكان فوضوي، عشوائي في جزء مهجور من المبنى، وعُرف باسم “ركن G’z” (“مقهى المُلحِدين” فيما بعد) وشَغَلَه شبان بضفائر. “نحن استأجرناه”، يقول عبده، الذي كان جزءًا من هذه المجموعة منذ البداية، ويضيف “لكننا لم ندفع الإيجار”، ثم يغمز بعينه. التخلف عن دفع الإيجار كان فعلاً سياسيًّا تمامًا ويتفق مع شعورهم بالنصر. كان نوعًا من الفوضوية الإيجابية التي اعتبرت الهياكل القديمة الفاسدة من حيث المبدأ. “صاحب العقار أرسل لنا الشرطة عدة مرات، لكنها كانت ضعيفة جدًا. لقد طردناهم بعيدًا. كانت كلعبة القط والفأر “، يتذكر، عاكسًا ترتيب المعارك الثورية (والاشتباكات الأولى مع قوات الأمن) عندما كانوا هم الطريدة وكانت الشرطة مطارديهم. يكمل عبده: “كانت هذه أرض حرة وكانت الشرطة تخشانا وقتها [يقصد مؤسسي ركن الــ G’z الأصليين والجماهير.] وفي النهاية صاروا يمشون بجوارنا ويتجاوزونا ويفحصوا البطاقات الشخصية للناس الذين لا يعرفونهم لدرجة أن البعض ظن أننا فعلاً نعمل لحسابهم!
“كانت متعة”، يضيف “إنه العام الذي فشخنا فيه المجلس العسكري، هل تذكرين؟”
9
ما اعتبره البعض تجسيدًا شديدًا للاستقلالية الراديكالية “أرضًا حرة” وامتدادًا، واستمرارًا ليوتوبيا التحرير، رآه آخرون مثل تلوث وخطر.
زوال ركن الــ G’z الأصلي لا يزال يكتنفه الغموض. جاءت أصوات تشكو من المجاميع الهائجة المحتشدة في شارع هدى شعراوي من اتجاهين على الأقل: من حفنة من السكان القدامى للبناية الموجودة على الشارع وأصحاب الأعمال القريبة، رغم أنه من الصعب تصور أن لهم تأثير في إغلاقه، وأيضًا من البوهيمية القديمة لوسط البلد، ومثقفين في منتصف العمر الذين بدا لهم أن هذا الامتداد من الاستقلالية الشابة خارج عن الحدود وخرجوا كرجال شرطة “نظافة” منتبذهم الخاص بوسط البلد. “نوع خطأ من الناس يقضي وقته هناك،” غالبًا ما كانت تقول الناس ذلك. “المشكلة” تبدو أنها لم تكن مجرد محاربي التحرير القدامى من شباب الطبقة الوسطى مُدخِّني الجوينتات بشراهة وعازفي الموسيقى الصاخبة، لكن لأن هذا المكان بدأ في جذب أنواع أخرى من قدامى المحاربين الثوريين – شباب الطبقة العاملة تحوّل لركوب الدراجات البخارية، الذين كانوا يتعاملون على نحو مختلف مع وسط البلد والثورة، كما هو مبين أدناه. عبده لا ينكر الأمر: “لقد كانت” أرضًا حرة.. فلم نطرد أي شخص”.
شباب الطبقة العاملة
1
ومع ذلك، فإن القصة أعلاه ليست هي كل شيء عن وسط البلد. جماهير مختلفة جدًا تدعي بالتساوي أن هذا الحيز الحضري ملكًا لهم. إنهم الشباب الذكور من ذوي الدخل المنخفض الذين يأتون إلى وسط البلد لحضور فيلم في سينماتها العديدة أو فقط لتمضية الوقت، وللنزهة والتسكع.
جاءوا من هنا وهناك، بعضهم يأتي غالبية الوقت، وأكثرهم نادرًا، في مناسبات خاصة مثل ليلة عطلة نهاية الأسبوع أو عطلة عيد الفطر، متأنقين، مهندمين، وغالبًا ما يضعون تسريحات شعر منمقة تحتوي على كثير من جيل الشعر.
مثل جون ترافولتا في فيلم حمى ليلة السبت، يمشون بتبختر على طول شوارع وسط البلد بطريقة أقرب للرقص، ويتفحصون واجهات المحال التجارية ذات الملابس العصرية. يتفحصون النساء، وقد ينطوي الأمر على مغازلات لفظية وتعليقات طقوسية على مظهر المرأة.
قد تؤدي مثل هذه اللحظات أحيانا إلى تصعيد عنيف، خاصة إذا كانت أعراف الرجولة الأدائية محدودة الدخل، لا تعرفها ولا تؤيدها ولا تتسامح معها النساء المتحدث عنهن. إلا أن الغالب الأعم في الأمر هو التأنق والاستعراض، بالنظر وبأن يكونوا محل النظر، أمام آخرين داخل وبين شِلَل الشباب، ويشمل ذلك الوقوف كثيرًا لالتقاط صور بالهواتف المحمولة. تسكع الذكور الشباب لا يقتصر على وسط البلد، لكنه يمثل السبب الرئيسي الذي من أجله ارتبطت هذه المنطقة على نحو شائع بالخطر والتلوث البشري، وتحديدًا بالعنف المُتصل بالنوع الجنسي. كما وصف أحد المراقبين مؤخرًا، فإن وسط البلد هي “أرض التحرش”.
2
في الثقافة العامة وسياسات الدولة على حد سواء، بُني تسكع الشباب الذكور الخالي من العمل باستمرار على أنه “آخر داخلي”، ووحش اجتماعي، يجسد خطرًا على النظام المعياري الاجتماعي والحداثة الوطنية، وأخلاقية الطبقة المتوسطة. سلوى إسماعيل وباتريك هايني، ناقشا، من بين أمور أخرى، كيف أن الآخر الداخلي الرئيسي في الثمانينيات كان الإسلامي، وهي سياسات تطورت منذ ذلك الحين لتشمل الذكر الفقير العاطل من العمل، سواء كان منظمًا دينيًّا أم لا. هذا التجريم الشامل لرجال الطبقة العاملة مُجسد أيضًا في المواد القانونية والممارسات البوليسية، من خلال الاشتباه والتحري الذي يستهدف تحديدًا الشباب ذوي الدخل المنخفض، الذي يلتقط ويبحث عن متعة، ويتعرض للإهانة والاضطهاد الدوري. لذا ينظر للشاب الذكر من دون عمل في ثقافة الطبقة الوسطى المصرية السائدة إما أنه إسلامي أو مجرم صغير مدمن للمخدرات، ويسكن منطقة حضرية معينة، العشوائيات أو الأحياء غير الرسمية التي تُجرم إجمالاً. “تمدد” تسكع الشباب الذكور من أماكنـ”هم” – حيث تتضمن عاداتهم المكانية الخاصة طقوسًا للتمشية في أحياء متجانسة، وغالبا راقية، ومؤخرا، انتشار الدراجات الصينية البخارية الرخيصة من أجل القيادة بسرعة جنونية – ينظر إليه على أنه خطير وملوث، ويشجع على الحط من قدر المدينة الداخلية ككل، ويعزز هروب المصريين ميسوري الحال إلى مدن جديدة في الصحراء (مثل نقل الجامعة الأمريكية). يمكن للواحد أن يشير أيضًا إلى الموضة المتنامية بين نساء الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة العليا في تلقي دورات للدفاع عن النفس، التي يغذيها ضرورة حماية أنفسهن من الذكور محدودي الدخل، الوحش الاجتماعي الذي يتربص في الشوارع. زادت وتيرة الخوف من البلطجية عند الجميع خلال الثورة 2011، لكن الثورة غيّرت هذا الاقتصاد التمثيلي بأن جعلت ممكنًا وجذابًا أيضًا، وقابل للتسويق تصور الشاب العاطل عن العمل من أماكن حضرية مهمشة – مع دراجته البخارية – كبطل محتمل.
3
تمضية الوقت في الشارع، في زوايا معينة (المَرتَع الذي ناقشناه من قبل)، هو مفتاح لأداء ذكورية الشباب محدودي الدخل. في حياتهم اليومية، يظل الشبان تابعين لذكور كبار. يطيعون آباءهم ويظلون محترمين لهم. هذه التبعية المتوازنة مع طقوس تؤكد الرجولة بشكل محتمل. تحقق الرجال استقلالية أكبر مع التقدم في السن، عندما يموت آباؤهم، ويكونون آباءً بدورهم. سيتظاهرون أيضًا بالجدية والمسؤولية التي تأتي معها. بالتالي أن تكون شابًا فإن ذلك ينطوي على نوع من “المساومة الأبوية”: شباب ليس مستقلاً تمامًا، لكنه يمكنه تحقيق درجة أكبر بكثير من الاستقلالية الراديكالية المحتملة، في أوقات وأماكن محددة، من خلال الطقوس البدائية لــ “الأولاد الأشرار” بعيدًا عن البيت.
4
الممارسات الترفيهية، مثل التمشية، والتريض، وقيادة الدراجات بسرعة جنونية، أو المغازلات الطقسية، تمثل لحظات من تحقق الاستقلالية العارضة، المستنبطة من حيث النوع الاجتماعي على أنها الرجولة الكاملة. الزمان والمكان حاسمان. يصبح هذا أكثر فعالية بعيدًا عن المنزل، وبالتالي بعيدًا عن الرقابة الاجتماعية، وهذا النوع من التسلسل الهرمي المعياري الذي يديم القهر. هذه الأنماط الشكلية والمقسمة إقليميًّا للاندماج الاجتماعي محدود الدخل تنبني حول شلل الأصدقاء، وتشمل سيناريوهاتهم الخاصة، ولغتهم، وقوانين الشرف. كل حي لديه مثل هذه المَرَاتِع، ولكن بعض المناطق هي الأكثر شيوعًا أو أكثر إنتاجًا اجتماعيًّا من الآخرين. بالمثل، ثمة لحظات معينة هي أكثر أهمية من غيرها، وتتطلب طقوسًا أكثر تفصيلًا. هذه الأوقات (الحدية) قد تكون ليلة أو في كثير من الأحيان ليالي عطلة نهاية الأسبوع أو في الواقع في الأعياد الدينية مثل العيدين التي تشبه الكرنفالات، وعادة ما تمتاز بميلها إلى (أو “يُحتفل بها بشكل صحيح “مع) السلوك المتجاوز.
5
في مثل هذه المناسبات، الاهتمام بالمظهر هو مفتاح السر. أن تبدو رائعًا، يتم من خلال نظام معين لارتداء الملابس وتسريحة الشعر، يعمل على إدراج الشاب في تسلسل هرمي من الروعة أو “البرنسة” أي أن يكتسب اللقب الشقي “برنس” بين أقرانه. هناك اقتصاد معين للملابس: وفي كثير من الأحيان يذهب المرتب كله لشراء ملابس أنيقة على الموضة. هذا الاهتمام المفرط بالمظهر له سبب آخر ينبع من الوعي المفرط بأنه يُحكم عليهم باستمرار ويصنفون من قبل الآخرين بمجرد خروجهم خارج شوارعهم وأحيائهم، بشكل مستمر على اعتبار أنهم نظيفون أم لا، محترمون أم لا، ومن ثم التعامل معهم وفقًا لذلك. وهذا لا يشمل الغرباء فقط، لكن الأهم من ذلك الدولة، التي تتجسد في الشرطة.
6
الأماكن الحضرية المختلفة مهمة بشكل متباين لبناء ذكورية ملتوية الطبقة وذلك لتكافؤها الممكن. بالنسبة للشبان محدودي الدخل، تلاحظ سلوى إسماعيل “أن الحيز الحضري يصنف على الخريطة وفق شروط المناطق الآمنة نسبيًّا والخطرة نسبيًّا”. غير أن هذه الجغرافيا يتم تخريبها في أوقات وأماكن محددة. هناك حاجة إلى فهم ارتباطي للحيز الحضري. هناك عدد من الأماكن غير المتجانسة للتسلية مشبعة بالخاصية الحدية في جميع أنحاء القاهرة. فعلى الجانب الغربي، شارع جامعة الدول العربية في حي المهندسين الراقي وهو المكان المفضل “الخاص” لتمضية الوقت بالنسبة لشباب بولاق الدكرور، أحد أكبر الأحياء غير الرسمية في القاهرة، والمتاخم للمهندسين، لكنه معزول عنها عن طريق سكة حديد مع عدد قليل من الكباري. لكن العديد من شبان منطقة بولاق يمضون وقتهم أيضًا في وسط البلد، والعديد منهم قد شارك في معركة شارع محمد محمود (انظر أدناه). على الجانب الشرقي، يأتي شباب منشية ناصر والكتلة المحيطة بها من الأحياء غير الرسمية للتمشية أو لقيادة دراجاتهم البخارية في شوارع وبعض مراكز مدينة نصر التجارية.
7
وسط البلد هي مكان القاهرة المُنتبَذ بامتياز، نظرًا لبنيتها التحتية المُنتبَذة، التي تعني في هذا السياق أو من هذا المنظور الطبقي البارات والمؤسسات الثقافية وهذا ليس أقل من تاريخها الذي يقدر تقريبًا بقرن من الزمن من السينمات ومراكز التسوق والتنزه.
شوارعها اللطيفة الواسعة وغياب سكانها المحليين الدائمين جعل هذا المساحة عامة وكذلك “منطقة لا تخص أحدًا”. شبه استقلاليتها يقدم عتبة جذابة للأداءت الذكورية وتحقيق الاستقلالية الكاملة لأن كبار الذكور في حياة هؤلاء الشبان غير موجودين، بينما في نفس الوقت هناك جمهور كبير من أقرانهم. ما كنت قد سميته في وقت سابق بمُنتبَذ وسط البلد التسلطي في السبعينيات (بعد التخلي عنها من قبل النخب، وإعادة توجيه المحلات التجارية والمنشآت الترفيهية إلى الجماهير الأقل حظًا، وارتباط المنطقة بالممارسات غير المشروعة أو المعارضة) شهد ارتفاعًا في أهمية الحي كبقعة مفضلة للشباب محدودي الدخل أو الرجال المتدنين اجتماعيًّا للانغماس في السلوك المتجاوز أو الحلم بالقيام بذلك في أثناء التمتع بلحظات من الاستقلالية الشخصية. كما يبين فيلم “الحب فوق هضبة الهرم” المعروض عام 1986. دور سينما وسط البلد على وجه الخصوص هي المكان الرئيسي للمتعة دون حسيب أو رقيب. هنا، جاءت شِلَل الشبان إلى المقاعد الخلفية لمشاهدة أفلام الدرجة الثانية أملاً في لقطة عرضية من التعري (مناظر)، وشرب البيرة وتدخين الجوينتات. بالاستشهاد بوالتر أرمبرست (واصفًا في التسعينيات) “أن الوقوف على عتبة ساحة السينما بين الجمهور والشاشة امتد ليشمل المنطقة برمتها. منطقة المسرح نفسها أصبحت مثل عتبة حيث، ما أن تغلق الأضواء، حتى يمكن الانغماس في سلوك لا تقبله هياكل السلطة الحاكمة على حياة الشباب – الدولة المعاصرة، والوالدان وخصوصًا الآباء أو الإسلاميون الوعظيون”. هذا التمدد لمكان السينما إلى الشوارع، الذي كان دائمًا ما يظهر إلى أقصى نقطة له خصوصًا خلال الأعياد، قد تسارعت وتيرته بسبب إغلاق العديد من المسارح في وقت مبكر من الألفية الجديدة، سواء كانت منشآت الدرجة الثانية الرخيصة، وكذلك منشآت الدرجة الأولى المتهالكة جدًا. عدد سينمات وسط البلد المتناقص يتزامن مع، ويتناسب بشكل عكسي، مع زيادة التحرش في شوارع هذه المنطقة، وخصوصًا خلال الأعياد. فلقد أصبح الشارع نفسه، كما علق أرمبرست، مسرحًا، ومكان عَتَبِيّ للسلوك المتجاوز.
8
“الأعياد في وسط البلد هي مزيج مثالي من الوقت الحدي والمكان الحدي حيث تصبح الأدوار الاجتماعية المعيارية ملقاة جانبًا بشكل مؤقت أو معكوسة، وحيث يمكن تحقيق الاستقلالية الراديكالية. الشباب محدودي الدخل ليسوا وحدهم الذين يتمتعون بها، بل العشاق الرومنتيكون والأسر التي لديها أطفال صغار تأتي هنا أيضا للتنزه، مرتدين ملابسهم التي حصلوا عليها في التخفيضات. وكذلك الحال بالنسبة لشِلَل الشابات المراهقات من محدودات الدخل، على الرغم من أن نسبتهن تقل في وقت لاحق ليلاً وربما أقل بسبب خوفهن من المضايقات، وهذا هو حد الزمني للسيدات المتميزات، تماشيًا مع ضرورة أن يكُنّ في المنزل في ساعة معينة، فهن مجهزات بشكل جيد للتعامل مع المغازلات الطقسية، بل ربما يثرنها في بعض الأحيان. الشباب ذوي الدخل المحدود والرجال المُهندِمون بشكل كبير الذين يحتلون شوارع وسط البلد ليلًا يقعون في ديموغرافية واحد بعينها: فهم أشبال، وهو مصطلح يستخدم لتحديد المراهقين البالغين من العمر 14 إلى 16 عامًا يبلغ عددهم ما يزيد عن العشرين وقد يكونوا أحيانًا جيرانهم ومعارفهم، من هذه الأشبال دائمًا ما يحذرني أصدقائي من الطبقة العاملة سواء كنت في نطاق وسط البلد أو ميدان التحرير، واصفين إياهم بشكل انتقادي بالحمقى الخارجين عن السيطرة، الخطرين لأنهم حريصون بقسوة على تأكيد رجولتهم غير المكتملة، في حين أنهم حتى الآن غير قادرين على إظهار الشرف وهذا هو الجزء الضروري.
9
دون التقليل من خطورة العنف الجنسي في مصر الحضرية، هناك حاجة إلى فهم أكثر دقة ومرتبط بالمحتوى لما يشكل التحرش الجنسي. حوادث روتينية تُوصف بأنها تحرش جنسي تشمل ثلاثة أنواع مختلفة من التصرفات:
1) عنف متعمد له دوافع سياسية بين الجنسين. 2) “التحرش الحقيقي”، وهو مشاركة بدنية أو لفظية مع النساء المستهدف إيذائهن أو استفزازهن، وليس من المتوقع أن تلقى ترحيبا من جانب المرأة. 3) المعاكسة، وهي شكل طقسي للغاية ملتوي الطبقة من المغازلة، وهي مرحب بها وتبادلية بشكل مثالي على حد سواء.
ترتبط هذه التصرفات بوسط القاهرة، وإن لم يكن حصرًا، وبالتالي فإن الأمر يتضمن مناقشة وجيزة. ولقد كُثفت الهجمات على المُحتجات من قبل بلطجية مأجورين خلال العملية الثورية، لكنه كان السلاح الأساسي للنظام قبل فترة طويلة من يناير 2011. التحرش الحقيقي -على عكس المعاكسة- يهدف إلى إلحاق الضرر أو الأذى، ويحدث عادة في الأماكن المزدحمة، في المناطق الحضرية المجهولة المليئة بالغرباء، أو في وسائل النقل العام عندما يتوقع الرجل أنه يمكنه أن يفلت من العقاب. وبالنظر إلى الصعوبة المتأصلة في دراسة الموضوع، فإنه ليس من الممكن دائمًا التمييز بين هذه الفئات، لأن الحدود عندها ضبابية. لكن الحدود ليست ضبابية دائمًا للغاية. ومن المهم الإصرار على الوضوح التحليلي كلما أمكن ذلك، بالنظر إلى الإنتاج الخطابي لـ”التحرش الجنسي” طيلة العقد الماضي. البسبسة، على سبيل المثال، يمكن أن تكون غامضة. فقد تهدف إلى إزعاج المرأة من أجل تأكيد الهيمنة (أي الرجولة) أمام جمهور من أقرانه الذكور أو يمكن أن تصورها معاكسة تحتمل أن تكون موضع ترحاب، خصوصًا إذا لم تُؤدِ بوضوح أمام جمع، وعُبر عنها بصوت لطيف أو بعبارات غزل. كثير من النساء المصريات غير البرجوازيات ماهرات في فك شفرة تكافؤها، واختيار رد الفعل أو التجاهل وفقًا لذلك. إنهن لا يعتبرن أنفسهن ضحايا تحرش، فقد يرحبن به أو في الواقع يحرضن عليه. كما يقول أيمون كريل، المعاكسة هو اعتراف طقسي للغاية بجنسية الأنثى من خلال تأكيد علني على الفحولة، وهو أداء يتشارك فيها كل من الرجال والنساء. ومع ذلك، يمكن للمعاكسة أن تؤدي إلى تصعيد عنيف عندما تكون موجهة إلى الشخص الخطأ، الذين يجهل، أو غير راغب، للتحرك وفقًا لقوانينها.
10
على نحو متزايد، في الخطاب العام والأكاديمي، تصنف المعاكسة دائمًا على أنها “تحرش”. ذلك لأن قوانينها قائمة على مفاهيم طبقة محددة من الأنوثة أو ما يسميه بول عمار “الأنوثة غير المرغوب فيها”. وقد يسيء فهمها ويخافها ويحتقرها السيدات المصريات البرجوازيات والأكاديميون والأجانب على حد سواء، الذين يعتبرون أشكال ورموز الأنوثة المتضمنة في المعاكسة على أنها متخلفة، وفظة، وغير متطورة أو غير نسوية. هذه عملية متشكلة تاريخيًّا، كأي هوية جندرية، يرتبط بها جانبان يجدر ذكرهما هنا. الأول هو أن إنكار المعاكسة باعتبارها شكلاً مشروعًا من أشكال التواصل عبر النوعية يشير إلى اختفاء أي إمكانية لجنسية الأنثى – من كل من الثقافة العامة والخطاب الأكاديمي. النساء معترف بهن من خلال ذواتهم الورعة، أو كبطلات مكافحات كي يكون بقاء الأسر محدودة الدخل ممكنًا أو كضحايا للاضطهاد الذكوري. جزء كبير من قوتهن اجتماعيًّا وتاريخيًّا شكَّل كيانات نسوية، لكنه مع ذلك، يظل غائبًا طالما نرفض التعامل مع كيف يمكن لهن أن يتشكلن ككيانات جنسية وفقًا لشروطهن.
11
ثانيًا: إنكار المعاكسة كممارسة مشروعة يؤسس لذكر الطبقة العاملة على أنه دائمًا بلطجي. الذكورة أُسست بشكل حاسم للغاية حول مفاهيم الشرف، حيازة الشرف، أو على العكس انعدامه، وهو ما يبين نوع الرجل. أما ذكورة الطبقة العاملة (أو ذات الدخل المنخفض) فلقد تأسست حول قطبين، الجدعنة، والبلطجة، وتحددهما امتلاك الشرف من عدمه.
يمكن فهم المعاكسة على أنها سمة الجدع: باعتبارها تأكيدًا طقسيًّا للغاية على الفحولة، على نحو عام ومع ذلك محترم، فهي متفقة مع الأعراف ويُنظر إليها بشكل إيجابي من قبل النساء، إذا كانت باستجابة أو تجاهل، والتجاهل شكل من أشكال الاستجابة. في حين التحرش في الأماكن المزدحمة المقترن غالبًا بالعنف هو جبن، سمة الرجولة منعدمة الشرف. إنكار المعاكسة كشكل من الأشكال التواصل عبر النوعية، الشرعية، الملتوية طبقيًّا، والقائمة اجتماعيًّا بشكل كبير ينفي بالتالي وفي الوقت نفسه أشكالاً معينة من القوة لدى كل من الرجال والنساء، ويتفق مع العملية الجارية لتجريم الكلي لرجال الطبقة العاملة – والأماكن الحضرية التي جاءوا منها- في الثقافة العامة المصرية، كما ذكر في وقت سابق.
إنصهار كيميائي
1
كانت وسط البلد أيضًا مسرحًا، لأشكال أخرى خطرة وهامة من الاستقلالية الراديكالية. أحدها العصر الأسطوري للمكان المُنتبَذ لشارع هدى شعراوي في عامي 2012 و2013، الذي اعتبره كثيرون مزعجًا اجتماعيًّا. الأخرى في لحظات معينة من المعارك الحضرية، خصوصًا معركة محمد محمود في نوفمبر عام 2011. استمرت هذه المعركة لمدة خمسة أيام بلياليهم، ويقال إنه سقط أكثر من 37 قتيلاً والعديد من الجرحى. لقد تطورت بشكل عفوي من الفض الوحشي لاعتصام صغير لأسر مصابي يناير، عندما جاء الكثيرون لمساعدتهم من جميع أنحاء القاهرة. ما تلا ذلك هو تكرار لتخييمة يناير في ميدان التحرير، مع حشود نصبت خيامها واستولت على الميدان لعدة أيام، ثم ظهرت منطقة المعركة المجاورة في شارع محمد محمود، وهو أحد الطرق المؤدية إلى ميدان التحرير.
تقع وزارة الداخلية (مقرها وقتها) على مسافة بضعة شوارع صغيرة إلى الجنوب الشرقي. وإغلاق محمد محمود (بصنع حاجز بشري يقظ، من المتظاهرين الجاهزين للمواجهة) كان يعني في البداية حماية الحشود السلمية في ميدان التحرير من المزيد من غارات الشرطية والعسكرية التي قد تأتي (وقد جاءت بالفعل) من ذلك الاتجاه.
2
هذه الجغرافيا المحددة سرعان ما تبلورت إلى منطقتَين متميزتين، متباينتين بحسب نوع العمل، وكذلك تركيبتها البشرية المميزة. ميدان التحرير في حد ذاته يمثل، منطقة “محررة” آمنة تمامًا، يتجمع فيها ليلاً ونهارًا في الغالب المحتجون من الطبقة المتوسطة من مجموعات اجتماعية وأعمار مختلفة، بمن في ذلك عائلات، أخذت تنادي بمطالب سياسية. غير أن في جنوب شرق الميدان، تطور شارع محمد محمود وضواحيه إلى ساحة معركة. هنا، كانت التركيبة البشرية غالبيتها من الشباب الذكور المهمش اجتماعيًّا. كثير من الذين شاركوا في القتال فهموه على أنه استكمال للمعركة التي كانت دائرة حول وزارة الداخلية، ووقعت في الأيام الأولى للثورة (28 يناير). ولقد حلت محل معركة محمد محمود (أو استكملت) مرة أخرى في فبراير 2012 عقب مذبحة راح ضحيتها 74 مشجعًا لكرة القدم في بورسعيد، يُعتقد على نطاق واسع أنها قد دُبرت من قبل قوات الأمن باعتبارها ردًا على هزيمتهم في الثورة في وقت سابق.
برز تحالف معين، فريد من نوعه، ومؤقت كذلك، بين حشود الطبقة المتوسطة المطالبة في الميدان وغالبية الشباب محدودي الدخل في شارع محمد محمود. الشباب المجهز للمواجهة في أرض المعركة لحماية الحشود السلمية، ولولاهم لكانت هذه الحشود عرضة لهجمات قوات الأمن. لقد أعطت مطالب الميدان السياسية المنادى بها للمقاتلين من ذوي الدخل المنخفض غطاءً شرعيًّا، دونها لكانوا قد جرفوا بعيدًا وطردوا باعتبارهم بلطجية ومخربين.
3
كانت المعركة على حد سواء طقسية للغاية ومادية بشكل مكثف. تتكون من صفين من المتظاهرين والشرطة في مواجهة بعضهما البعض، تتحول باستمرار بين كرٍ وفرٍ وفي بعض الأحيان تمتد إلى شوارع مجاورة. استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية. وألقى المتظاهرون الحجارة وقنابل المولوتوف. تضمن حشد المقاتلين على الجبهة ناشطين من الطبقة المتوسطة، لكن فقط كأقلية. كان الجزء الأكبر من المقاتلين شباب من محدودي الدخل. هذه التركيبة البشرية الطبقية كانت معروفة للشرطة، التي كررت أساليب الاشتباك نفسها، وانتشرت تجاه هذا العالم من الطبقة العاملة: من خلال القوة البدنية والإهانات الجنسية. استخدمت الشرطة الإيماءات التي تنطوي على الأعضاء التناسلية، وتهدف إلى إذلال رجولة المحتجين. وفي محاولة لإلحاق أذى جسدي مستديم صوبت بنادقها على عيون المتظاهرين، الذين كانت رجولتهم ذات الطبقة المحددة قد استخدمت لفترة طويلة لإذلالهم في نظر الدولة وضباط الشرطة والجيش من الطبقة المتوسطة. لذا، فإن أشكال الحكم الطبقية والنوعية وصيغ الخضوع هي التي شكَّلت طبيعة المعركة.
4
جاء الشباب ذوي الدخل المنخفض هنا للرد على الشرطة والحكومة (مصطلح جامع للدولة والنظام والشرطة)، في فعل مقاومة غريزي واضح على أنه شجاعة ذكورية (جدعنة). الغرض من قتالهم لم يكن “سياسيًّا” بمفهوم الطبقة المتوسطة الواضح والممثل في ميدان التحرير المجاور. لم يكن لديهم مطالب سياسية مثل الديمقراطية أو الحرية، إذ أنهم لا يعتقدون بالضرورة أن أي شيء “إيجابي” من شأنه أن يخرج من هذه المعركة. لقد علمتهم الحياة أن أحدًا لن يمنحهم أي شيء ما لم يأخذوه بأياديهم. كانوا غير عابئين بالخطر لأنهم ما كانوا غرباء عنه. غير أن المعركة قدمت شيء فريدًا من نوعه وجديرًا بالحياة نفسها، استقلالية راديكالية، وسيطرة كاملة على حياة المرء والجسم، وفرصة للانتقام من التبعية الهيكلية من الزمن المعياري. تمثل المعركة وقتًا حديًّا، انعكست فيه الأدوار والعلاقات الاجتماعية المعيارية: لقد كانت الشرطة، والدولة، تتعرضان للضرب هنا. كانت بلطجة الدولة البوليسية (لاستخدامها غير المشروع للقوة في وقت معياري في ظل نظام مبارك) تواجهها الجدعنة، الشجاعة الذكورية المتجلية من خلال الاستخدام المشروع للقوة. سمحت هذه المعركة مؤقتًا للرجال محدودي الدخل الاستعادة التامة لما سمته سلوى إسماعيل بـ “الرجولة الجريحة” وإعادة تشكيل نفسها بالكامل ككيانات مستقلة وبشكل حاسم، كرجال شرفاء.
5
لم يأت الجميع إلى شارع محمد محمود بقصد القتال. في البداية، كان الكثيرون يأتون لمجرد إلقاء نظرة، لرؤية مشهد تتعرض فيه الشرطة للضرب، لكن سرعان ما كانوا ينجرون إلى الأجواء الاحتفالية للمعركة. العديد من متظاهري الطبقة المتوسطة انجروا إليها كذلك، لأن الشعور بالاستقلالية الردايكالية كان مُعديًا. جلبت معركة محمد محمود الجمهورين معًا في احتفال مطلق للوقوف على العتبة في وسط البلد كزمكان من الاستقلالية الردايكالية. بالتأكيد كانت هناك لحظات أخرى من المعارك الثورية ذات طابع مماثل، لكن محمد محمود كانت معركة فريدة من نوعها، ولذا فقد برزت منذ ذلك الحين كأكثر اللحظات الثورية معزة ورمزية في ذكرى أولئك الذين شاركوا فيها. المعركة ما كنت تحدث إلا على النحو الذي حدثت به بسبب موقعها. القرب من التحرير، واتصالها به بوصفها أحد اعتصامات ميدان التحرير، هو ما خلق تحالفها العابر للطبقات والشرعية المتبادل. المنطقة الواقعة جنوب باب اللوق، هي الحي المحيط بوزارة الداخلية، وهي أيضا موقع المكاتب الحكومية والحرم الجامعي المتروك وقتها التابع للجامعة الأمريكية، وهو ما أبرز الجانب المتمثلة في كونها على حد سواء “عامة” فضلاً عن أنها “منطقة لا تخص أحد”، وكذلك الإمكانية السانحة للاستيلاء على هذا المكان ومصادرته.
ماذا عن المستقبل
1
طابع وسط البلد الانتباذي باعتباره مكانًا مجهولاً، يسهل النفاذ إليه اجتماعيًّا واحتفاليًّا، يمكِّن ويشجع على سلوك غير مهيمن، معارض أو متجاوز وهو بدوره مؤسس بها. أن تمشية شاب في وسط البلد تصنف بشكل كبير ضمن فئة معروفة، ومعركة محمد محمود لحظة فريدة من نوعها حيث تجمعت للحظة أماكن وسط البلد المُنتبَذة مع بعضها. هذا لا يحدث عادة؛ فالأماكن الانتباذية لها أوقاتها المعتادة، ووسط القاهرة هي عبارة عن تلك الدوائر المنفصلة من الجماهير التي نادرًا ما تتداخل. لكن ربما كانت هناك لحظات أخرى من الاندماج الكيميائي، قد لُاحظت بالكاد، رغم أن من يتذكرها بشكل واضح قلة قليلة. أحدها ما نعرفها بأنها كانت قمة الاستقلالية الراديكالية لشارع هدى شعراوي في شتاء 2012 – 2013، عندما اختلطت معًا هذه الحشود المتباينة – من شباب ثوري متعلم ينتمي للطبقة الوسطى وشباب الطبقة العاملة الذكوري ممتطي الدراجات البخارية – عند ركن G’z. كان التأثير ناسفًا بالمثل: لا أحد يمكن أن يقول تحديدًا ما كان يجري هناك “حقًا”، غير أن الخليط الاجتماعي الذي لم يسبق له مثيل والسلوك غير المقبول المتجاوز الذي كان ينظر إليه على نحو واسع بأنه خطير اجتماعيًّا. اختفى ركن الــ G’z في صيف 2013، غير أن سلسلة من مقاهي “نظيفة” أنشئت مكانه، في محاولة للاستفادة من شعبية الركن بين رواد التحرير الأصغر سنًا. إحداها كانت كافتيريا اسمها “حكايتنا”، افتتحتها النجمة الثورية بثينة كامل (مذيعة التليفزيون التي انضمت إلى الثورة في وقت مبكر وأصبحت واحدة من وجوهها الإعلامية المعروفة). هذا المقهى “النظيف” كان فشلاً ذريعًا. وظل فارغًا بينما المجموعات كانت تتجمع بالخارج.
2
بعض من مرتادي وسط البلد يعتقدون أنه من المهم أن ننظر إلى رأس المال لفهم الاقتصاد وراء مقاهي وسط البلد – ومن المؤكد أن الكثير من تلك المقاهي يبدو أن أصحابها قد تغيروا، أو حُسنت أماكنها، على مدى الأربع سنوات الماضية. من هذا المنظور، فإن الحملة الحالية لإغلاق العديد من مقاهي وسط البلد، خصوصًا الإغلاق الصادم للعشرات منها في منطقة مشاة البورصة مارس 2015، هو مجرد عرض.
قد يكون من تأثير النزاع داخلي بين مصالح السلطة المختلفة التي لها منفعة في السيطرة على المنطقة أو أن الأمر برمته تكتيكي ببساطة. يحسب البعض أن “التنظيف” الأخير لوسط البلد – وهو إلى حد بعيد الأكثر شمولاً حتى الآن، بما في ذلك وليس فقط إغلاق المقاهي الشعبية منخفضة الميزانية إلى المتوسطة والإزالة الكاملة للباعة الجائلين، وكذلك حظر وقوف السيارات في كل طرق وسط البلد الرئيسية وتبيض واجهات بعينها – وهذا قد يكون المرحلة الأولى في جلب مشاريع تجارية رابحة أو جماهير جديدة تمامًا.
3
تبدو ثقافة مقاهي وسط البلد الممتدة مؤخرًا تبدو أنها أقوى من أي محاولة لخنقها. أنا أكتب، في ربيع عام 2015، البورصة قد تكون مهجورة، لكن ظهرت عشرات المقاهي الجديدة في شوارع مجاورة مثل جواد حسني ومحمود بسيوني وغيرها. هذا الحشد الحالي هو أكثر تنوعًا وشمولاً، وأكبر بكثير، من تلك الحشود السابقة، بوهيميّة محلية من كل المشارب القديمة والجديدة وجمهور الفن العولمي. في حين أن “الأرض الحرة” في هدى شعراوي تضاءلت خلال العام الماضي، فإن أزقة الاستقلالية الثورية لا تزال موجودة – لولا أن ذلك يرجع فقط إلى خاصية انعدام الهيمنة بوسط البلد وهو بالتأكيد ليست مجرد نتاج للثورة، لذا هي أكثر مرونة مما يستطيع أي من أعدائها أن يتخيل. اللواء “عبد العاطي”، المعروف أيضا باسم “كفتة باشا” عانى مؤخرًا من انتباذ وسط البلد على الطريقة الصعبة. ففي ديسمبر عام 2014، فقد صادف أن زار مطعم الحاج شلبي المطعم البلدي الصغير المعروف (أفضل مطعم حمام في المدينة)، ويقع في شارع متفرع من شارع هدى شعراوي قبالة مقهى الندوة الثقافية، أحد أشهر الأماكن التي يقضي فيها الشباب الثوري وقته. ورصدته المجموعات الجالسة في المقهى، وأهانته وطردته من المنطقة بالهتافات الساخرة والصفير. وقع حادث آخر مماثل في وقت لاحق في ربيع عام 2015 في After 8 وهو ملهى ليلي وملتقى الشباب الثوري المعروف، على سبيل المثال، بأنه كان يوفر ملجأً من حظر التجول خلال الأشهر الصعبة بعد مجزرة رابعة، حيث كانوا يظلون قابعين فيه حتى الصباح. لعب الدي جي، الذي جاء للاحتفال بالإفراج عن صديق، أغان لها علاقة بالثورة، ورد عليها الجمهور بشعارات مناهضة للعسكر. وهناك تصادف وجود ضابط في ثياب مدنية، جاء ليشرب، فأشار لهم بــ”البعبوص” وانهال عليهم بالشتائم. لا شك أنه شعر بالقوة بسبب قبضة الجيش النافذة على مقاليد السلطة. غير أن قوته، لم يكن لها قيمة في هذا المكان. واندلعت المعركة، التي انتهت بضرب الضابط ضربًا مُبرحًا. في كلتا الحادثتين (والمرجح أن هناك الكثير غيرها مما لا يذكر) قليلاً ما كان هؤلاء الرجال العسكريون يعرفون أنهم ينتهكون حرمة مثلث الرعب، مكان حيث عدم الهيمنة تفرض نظامها الخاص.
4
على الأرجح أن البنية التحتية لوسط البلد كمكان منتبذ هي الضمان لاستمرار هذه الثقافة، تمامًا كما أن الموروثات التاريخية التي نوقشت أعلاه من المرجح أنها تأكد على أن الصراع على السيطرة على وسط البلد – رمزيتها أو ملكيتها الحقيقية – سيظل مستمرًا في المستقبل المنظور.