في يوليو 1926 كان عدد الصحف التي حصلت على تراخيص بالعمل نحو 280 صحيفة، وكانت هدى شعراوي أمام تحدٍ أخلاقي، كداعية لتحرر النساء، عندما رفض ابنها (علي بك شعراوي) الاعتراف بنسب طفلته من المغنية المعروفة وقتها؛ فاطمة سري، على الرغم من خطاب نشرت مجلة “الحاوي” صورته يؤكد الزواج، بينما قادت مجلة “المسرح” (التي سيكون لها دور مهم في حكايتنا القادمة) حملة ضدها بمنطق: كيف ترفضين نسب الطفلة وأنت سبب تبرج وتهتك وتحرر مئات النساء؟ وقتها كان هناك أكثر من 10 آلاف فدان مزروعة بنبات القنب، والأفيون مخدر شعبي، بينما الحملة في أوجها ضد الكوكايين، وموسى مراد يلقى حامض الكبريتيك على الشيخ مصطفى المراغي رئيس المحكمة الشرعية العليا بسبب ميراث السكاكيني، وراهب اسمه دوسيموني يقتحم غرفة الراهب جاكومو ويطلق عليه الرصاص، بينما تصدر المحكمة حكمها على تنظيم شيوعي يضم مصريين وأجانب وشيوخًا ويهودًا ومسيحيين…
القصص لا تنتهي عن 1926؛ الذي بدا أنه مركز لحظات ما بعد انهيار الخلافة… كيف عاشت القاهرة هذه اللحظات التي يبدو لي أحيانًا أننا ما نزال محشورين داخلها، ومع الزمن اعتبرنا هذا الحشر انتقالاً في حد ذاته؟ موضوع كبير ويستحق دراسة وتأمل ونحن نقترب من مرور 100 عام على هذا “الحشر المهول”….هذا طبعا قبل الظهور الكابي لتنظيمات منتظري الخلافة…المهم اليوم اخترنا هذه الحكاية التي فيها من كل شيء، صعود الطبقات الجديدة بفنونها، وصدمتها مع مراكز السلطة القديمة، الخوف من الضياع بعد 500 سنة خلافة، الفضيحة باعتبارها بديلاً لفوار الصراع الثقافي.. لنقرأ ونتسلى ونتأمل..
الحكاية
أبطال هذه الحكاية ملك ورئيس جمهورية وممثل؛
الملك هو أحمد فؤاد، أمير مفلس أصبح بصفقة مع الحماية البريطانية أول ملك على مصر في أكتوبر 1917، ومن يومها ذاق طعم السلطة وتحول حلمه من اصطياد المال بأي وسيلة إلى صنع أسرة ملكية تتوارث الحكم، بل إنه بدأ يحلم بالخلافة الإسلامية.
والرئيس هو مصطفى كمال أتاتورك، ضابط أرسل الجسد الميت للخلافة العثمانية إلى القبر، وحرر تركيا من الاستعمار، وأصبح بطلاً مثاليًّا لشباب رأى فيه تجسيد حلم الخروج من نفق الرجل العثماني المريض.
أما الممثل فلم يكن سوى يوسف وهبي، ابن الذوات الذي أصبح مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ فن التمثيل كما وصفته الصحافة وهي تحكي حكاية تمرده على بيت أبيه عبد الله باشا وهبي مهندس الري، واحترافه التمثيل الذي كان وقتها مهنة محتقرة اجتماعيًّا.
1
شبح راسبوتين في الخبر
بدأت الحكاية كما تقول تفاصيل خبر نشرته مجلة المسرح، في باب على مسرح الفن، بعددها الصادر يوم 26 مايو 1926 تحت عنوان في النهاية، يقول الخبر “أظن أن القراء عرفوا من العدد الماضي أن شركة سينماتوغرافية حضرت إلى مصر، وأنها تحاول أن تتفق مع بعض الفرق المصرية لتمثل لها بعض الروايات. واليوم نقدم للقراء البيان التالي: اتفق مدير إدارة الفرقة وداد عرفي بك مع نجيب أفندي الريحاني على أن يمثل له حلقة من حياة جحا. واتفق مع يوسف وهبي على أن ينتقل مع بعض أفراد فرقته إلى باريس حيث يمثل للشركة رواية “النبي محمد”! ويشترك نجيب أفندي الريحاني في تمثيل هذه الرواية فيقوم بتمثيل دور “معاذ”! وقد أخذ يوسف وهبي يستعد لإخراج دوره وصنع لنفسه صورًا فوتوغرافية للشكل الذي ابتدعه لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وهي صورة لا تختلف عن صورة راسبوتين التي صنعها يوسف، في كثير أو قليل.
إذًا ففي عرف يوسف وهبي، يكون نبينا محمد رسول الله، وحامل علم الدين الإسلامي، وناشر كلمته، يشبه تمامًا راسبوتين الجاسوس الدنيء والدجال وزئر النساء..”. لم ينته الخبر بعد لكن لا بد من الإشارة إلى أنني سمعت للمرة الأولى بحكاية فيلم “النبي محمد” في إطار المعركة التي دارت حول فيلم يوسف شاهين “المهاجر” عام 1994، وقد استدعى اتهام شاهين بأنه قدم شخصية النبي يوسف حكاية فيلم يوسف وهبي التي وردت تفاصيلها بعد ذلك في كتاب محمود قاسم “الدين في السينما المصرية” وكتاب محمد صلاح الدين “العقيدة في السينما المصرية”، ومؤخرًا صدرت وثائق المعركة حول فيلم النبي محمد في كتاب الناقد السينمائي سمير فريد “تاريخ الرقابة على السينما في مصر” باعتبارها أولى معارك الرقابة على السينما في مصر”.
2
الخبر كما رواه يوسف وهبي
أولى هذه الوثائق حكاية الفيلم من وجهة نظر يوسف وهبي كما وردت في مذكراته التي صدرت في حياته (عام 1976 بعنوان “عشت ألف عام” ويقول فيها “في أثناء الموسم (يقصد موسم 1926) زارني بمسرح رمسيس الأستاذ الأديب التركي وداد عرفي، وقدم لي سيدًا يدعى الدكتور كروس، وأفهمني أنه شخصية لها وزنها، وأنه رسول عاهل تركيا الرئيس أتاتورك ومستشاره الخاص، وجنسيته ألمانية، وطلب مني أن أحدد موعدًا معه لأمر هام جدًا، علمت في اللقاء أن د. كروس يمثل مؤسسة سينمائية ألمانية مشهورة، وقد نال موافقة رئيس الجمهورية التركية على إنتاج فيلم إسلامي ضخم كدعاية مشرفة للدين الإسلامي الحنيف وعظمته وسمو تعاليمه، تشارك في نفقاته الحكومة التركية باسم “محمد رسول الله”، وقد أعد السيناريو، وصرحت بتصويره لجنة من كبار علماء الإسلام في أستنبول، ويظهر في الفيلم النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وتصور مناظره الخارجية في صحراء السعودية، واقترح أن أرسم شخصية النبي”.
هل كان أتاتورك هو منتج الفيلم كما نفهم من الدعاية الصحفية؟! سؤال مهم ليست هناك إجابة محددة عنه، وإن كانت المعلومات تقول إن وداد عرفي شخصية مثيرة في تلك الفترة، وهو كاتب ومخرج وممثل، تردد اسمه في أعمال سينمائية كثيرة، خصوصًا تلك التي شهدت الدفعة الأولى لنجومية بطلات السينما من آسيا إلى ماري كويني مرورًا بفاطمة رشدي وبهيجة حافظ، والغريب أن عرفي لم يكمل أغلب هذه الأفلام، وكان يتركها لغيره من مخرجين أو ممثلين، وهو ما جعله يوصف بالمغامر، وهو في مشروع الفيلم يستخدم اسم أتاتورك ربما ليحتمي بسلطة الرئيس الذي تتبعه مصر اسميًّا، وبنجومية المحرر التاريخي لتركيا وبطل التحديث في العالم الإسلامي، ليتخذ شرعية ثقافية في الوقت نفسه. يحكي يوسف وهبي في مذكراته بعد مرور أكثر من خمسين عامًا على المعركة التي تفجرت بسبب طريقة صياغة الخبر في مجلة “المسرح” بطريقة اصطياد الأخطاء ولي الحقائق، فكاتب الخبر تصور أن يوسف وهبي سيرسم شخصية النبي على طريقته في رسم شخصية الراهب الروسي راسبوتين، وهو مجرد تصور الكاتب والمجلة التي يبدو أنها كانت في خصومة مع يوسف وهبي، وهذا ما جعلها تتعامل مع تصورها على أنه حقيقة، وبدأت تحرض المجتمع على يوسف وهبي. يقول كاتب الخبر يقول “أنا لم أكن رجلاً دينيًّا، ولا درست بتعمق قواعد الدين الإسلامي، وأوصاف الرسول، إلا أنني – وكل إنسان معي– يستطيع الحكم بأن النبي محمد يختلف كثيرًا عن راسبوتين – وأن يوسف وهبي، ذا المزاج الجنوني والحركات التشنجية والعيون الشهوانية والذي يلوح الابتذال والاستهتار في منظره العام، لا يصلح مطلقاً لتمثيل هذا الدور الذي يحتاج إلى وقار الرسل وجلال الأنبياء وهيبة الصلاح ورزانة التقوى! تبدو الخصومة الموجهة إلى شخص يوسف وهبي في السطور السابقة، أما التحريض فيأتي فيما يلي من الخبر، ثم هناك الناحية الدينية؛ ما رأي علماء الدين الأجلاء في هذا العمل؟! إلى فضيلة مولانا الشيخ المفتي الأجل نرفع هذا السؤال؛ هل يسمح الدين لشخص ما أن يتعدى إلى مقام النبوة الإسلامية فيعبث بها ويقدمها للعالم أجمع في صورة شوهاء؟! وما مبلغ علم يوسف وهبي بالدين وأخلاق النبي عليه السلام وصفاته حتى يقدم على إبراز شخصيته؟! ألا يعد هذا “تهزيئًا” مؤلمًا، ثم هو إهانة جارحة لكل المسلمين؟! ليس من شأني أن أجيب عن هذا، وإنما أنا أنبه علماء الدين الأجلاء إلى موضع الخطر من هذا العمل، وعليهم أن يقوموا بواجبهم، ويوقفوا هذا العمل الخطر. الفيلم وإنتاج شركة ألمانية وفكرته عرضت على يوسف وهبي عن طريق مغامر تركي قال إنه مندوب أتاتورك محرر تركيا، وفي اعتقادي أن من يقدم على تهزئ مقام النبوة يعد خارجًا على الدين الإسلامي مارقًا عن السنة النبوية مروقًا تامًا.
هذه هي الضربة الافتتاحية في معركة انفجرت في وجه يوسف وهبي الذي كان قد وافق على القيام بدور النبي، بل ووقَّع عقد التمثيل في السفارة الألمانية بعشرة آلاف جنيه. والمدهش أن المعركة اتخذت المسار الذي رسمه تحريض مجلة المسرح، واختصرت القصف الموجه إلى يوسف وهبي على افتراض كاتب الخبر بأنه يعتمد تقديم النبي محمد على هيئة راسبوتين.
3
دور القارىء في المسرحية
كتب القارئ عبد الباقي سرور في الأهرام بعد خمسة أيام فقط من خبر مجلة المسرح (أي في 21 مايو 1926) مقالاً عنيفًا تحت عنوان كيف يصورون النبي محمد، يبدأ من النقطة نفسها، ويطالب الحكومة أن تبادر فتمنع يوسف وهبي من السفر لتمثيل تلك الرواية في بلاد يرى أهلها في الإسلام وفي النبي عليه الصلاة والسلام آراء ومعتقدات تخالف العقيدة الإسلامية، فتمثيل رواية النبي في باريس بلاد اللهو والخلاعة والاستهزاء بالأديان، مما يثير مطاعن جديدة في نفوس أداء الملة ويستدعي التشهير بالنبي، وخصوصًا إذا صور بصورة (راسبوتين) ذلك الجاسوس الشهواني، وصاحب الحيل النسائية والفتن الشيطانية، فإن مثل هذا التصوير يعد تشهيرًا بالنبي وتحقيرًا لشأنه، واستهزاءً بدينه، وإساءة لمعتنقي دعوته وحطًّا من كرامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإساءة لسمعة الديانة الإسلامية. وهو يعيد تحريض الحكومة المصرية “وإن كان لا سلطان لها على مكان التمثيل ولا على الشركة فإن لها أن تمنع يوسف وهبي من السفر، وأن تحاسبه على تصويره النبي بتلك الصورة البشعة، المنافية لكل احترام وإجلال، فإنها لو تساهلت مع يوسف وهبي في تمثيل تلك الرواية فسيتلوها لا محالة تمثيل روايات أبشع وأفظع”، وقد نشر الأهرام مع المقال تعقيبًا قال فيه “يحق للأستاذ أن يحتاط للأمر قبل وقوعه، ولكنه لا يجوز الشك والارتياب بوطني مسلم شرقي، فيوسف وهبي بك وأمثاله لا يقدمون على عمل يمس كرامة نبيهم وكرامتهم، بل هم إذا فعلوا شيئًا إنما يفعلون لرفع هذه الكرامة”. وكما نقرأ في الوثائق المنشورة في كتاب سمير فريد، ففي اليوم التالي رد يوسف وهبي في الأهرام بتوضيح قال فيه “اطلعت في عدد الأمس على مقال كتبه مسلم غيور، وبه يشكو لولاة الأمور ما قرأه في مجلة المسرح عن عزمي على تمثيل رواية النبي محمد بشكل وهيئة لا تليق بكرامة النبوة، ولا تتفق مع عظمة الدين، وقد ذكر حضرته أنني صورت شخصية النبي كشخصية الراهب الدنيء راسبوتين، وهذا الخبر كاذب وحقيقة لا أصل لها إلا التشويه والطعن من مجلة أخذت على عاتقها تقبيح كل حسن والنيل من كرامة كل عامل على خدمة وطنه”. نلاحظ هنا الخلط بين مفهوم الدين والوطن، ونلاحظ أيضاً أن يوسف وهبي رد على هجوم المجلة بهجوم مضاد، معتمدًا على سمعتها في الوسط الفني. المهم أنه في بقية التوضيح يقدم يوسف وهبي مبرر موافقته على مشروع الفيلم، قائلاً “إنني إذا كنت قد رضيت أن ألعب هذا الدور في (السينما) فليس إلا لرفعة شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وتصويره أمام العالم الغربي بشكله اللائق به وحقيقته النبيلة، وليس الغرض من هذا الفيلم سوى الدعوة والإرشاد للدين الإسلامي، أما الصورة التي وضعتها لهذا الدور فهي صورة أعتقد أنها على الأقل تنبئ عن جلال محمد وطهارته وحسن صفاته، وليثق سيدي الغيور أنني أول من يعمل على رفعة شأن ديننا الحنيف، ولكن رجائي إليه ألا يصغي لأقوال الإفك وترهات قوم عرفوا بالخديعة والملق”.
يوسف وهبي في هذا التوضيح يشير إلى وجهة نظره في الصورة التي نشرتها الصحف للمكياج الذي اختاره لتأدية دور النبي محمد، وهو يراه على عكس المجلة يعبر عن نظرة جليلة للنبي، هنا بدأت المعركة تتخذ شكلاً مختلفًا، خصوصًا بعد رسالة مفتوحة وجهها يوسف وهبي عبر الأهرام في 24 مايو إلى حضرات السادة العلماء وجميع الشعب الإسلامي، يحكي فيها حكاية الفيلم، ويطالب برأي أصحاب الفضيلة العلماء وأولي الأمر في البلاد “هل أقوم بهذا الدور أم أرفضه؟! مع إحاطتكم علمًا أنني إذا رفضت فسيقوم بهذا الدور ممثل أجنبي وشركة أجنبية لا يهمها من أمر ديننا شيئًا، وإذا تذرعتم بالقول إن أمثال هذه الشرائط ممكن منعها من الدخول إلى البلاد الإسلامية فلا أظنكم تستطيعون منعها في البلاد الأجنبية، وهذه تكون الطامة، أن ندع القوم يعبثون بنا ويمسخون حقيقتنا أم نكون نحن أول من يمثل عظمة ديننا الحنيف ونبرهن للعالم الأوروبي أنا أرقى دين، وأن محمدًا زعيم المرسلين” ويؤكد يوسف وهبي في نهاية الرسالة “أما كوني رسمت صورة لهذا الدور تشبه الراهب راسبوتين فهذا كذب مشين من قوم يكرهونني، ويحقدون عليَّ دون سبب ولا داع غير كوني شابًا قد نجحت في عملي، وأكبر دليل على سقوطهم أنهم ادعوا رؤية هذه الصور وشبهوها براسبوتين، وها أنا على أتم عدة أن أُري الصورة لمن يريد أن يراها، كما أنني أرفض لعب الدور عن طيب خاطر حتى لو كنت سأجني من ورائه الأرباح الطائلة، إذا رأى السادة العلماء هذا الرأي، وليعلم إخواني المصريون أن شعاري ديني قبل كل شيء”. وهنا كان لا بد للسلطة أن تتدخل.
4
وهنا ظهر الوحش يدافع عن نفسه
أول حركة من السلطة ضد الفيلم قامت بها مشيخة الأزهر؛ التي نشرت بيانًا في الأهرام يوم 27 مايو قالت فيه “جاء بجريدة المسرح أن حضرة يوسف وهبي بك صاحب مسرح رمسيس اتفق مع شركة أجنبية على تمثيل رواية في باريس مشخصًا فيها النبي صلى الله عليه وسلم بصورة الراهب راسبوتين الروسي، فاهتمت المشيخة بالأمر، وخاطبت وزارة الداخلية في الحيلولة بين حضرة يوسف بك وبين ما يريد، ولو اقتضى الحال منعه من السفر حفظًا لكرامة النبي ومقامه الجليل الشأن، وقد لقينا من أولى الشأن الذين تحادثنا معهم في هذا الموضوع الاهتمام العظيم المناسب لأهمية الموضوع المتحدث بشأنه كما طالبنا أن نخاطب حكومة باريس بواسطة ممثل مصر هناك في منع تمثيل هذه الرواية، ونعرف من الوثائق أن أجهزة البوليس استدعت يوسف وهبي وحققت معه بناء على طلب الأزهر الذي لم يكن له سلطة فعلية بل معنوية، وجاء في رد الداخلية الذي وصل المشيخة بتاريخ 24 مايو ويحمل رقم 1010 جوابًا على كتاب فضيلتكم المؤرخ 18 مايو (أي في اليوم التالي لخبر مجلة المسرح) الحاضر بخصوص تمثيل رواية سيدنا محمد تفيد بأنه قد استحضرنا يوسف وهبي بك وطلبنا العدول عن تمثيل هذه الرواية فقبل، وسيعلن عن عدوله هذا في الجرائد، وستتخذ الحكومة الإجراءات اللازمة لمنع إخراج الرواية نفسها”.
هذه هي الحركة المعلنة من السلطة، لكن هناك حركات أخرى أعلن عنها يوسف وهبي في المذكرات “بعث إليَّ الملك فؤاد تحذيرًا قاسيًا، مهددًا إياي بالنفي، وحرماني من الجنسية المصرية”. وكانت النتيجة بيانًا من الرجل الغامض وداد عرفي في الأهرام يوم 28 مايو يعلن فيه “لا شك أن وضع رواية كهذه داخل برنامج أعمالنا، ولكنه حتى الآن مجرد مشروع، ومن الجلي قبل وضع رواية كهذه أني بصفتي مؤلفًا ومسلمًا أطلب رأي حضرات علماء الدين، وهذه الاستشارة تعد بالطبع واجبًا محتمًا عليَّ، لذلك أرجو أن تعلنوا باسمي بأنه لا يوجد حتى الآن قرار بات في هذا الصدد، وكونوا على ثقة تامة بأن أعمال شركة ماركوس التي تتناول مشروعات تمثيلية كثيرة في بلاد مصر الجميلة لن يكون فيها أي عمل يمس دين الأمة”. بعد هذا البيان بيومين بيومين نشر يوسف وهبي بيانًا آخر في الأهرام يقول فيه “بناء على قرار أصحاب الفضيلة العلماء، واحترامًا لرأيهم السديد، أعلن أنني عدلت عن تمثيل الدور وسأخطر الشركة بعزمي هذا” (في مذكراته قال يوسف وهبي إن الشركة أنتجت الفيلم “وقام بالدور ممثل يهودي”). وبدا أن العاصفة التي فجرتها طريقة صياغة الخبر قلبت الدنيا على رأس يوسف وهبي الذي حوصر بتهديدات السلطة، وبشتائم المتعصبين، الذين لم يتوقفوا عند فكرة تمثيل النبي على الشاشة فقط، بل تجاوزوا هذا إلى فن التمثيل، حتى إنه بعد اعتذار يوسف وهبي لم تتوقف المقالات، ومن بينها مقال كتبه مدرس بالقسم العالي في الأزهر تحت عنوان “الحضرة النبوية والتمثيل” احتقر فيه فن التمثيل باعتبار هدفه الوحيد هو المال، وطالب بإصدار مرسوم ملكي يمنع تصوير الأنبياء –كل الأنبياء– على الشاشة، بالإضافة إلى منع الكتب التي تتعلق بالدين إلا بعد عرضها على اللجنة العلمية التي تكونت في الأزهر. كانت هذه الرغبة العارمة في الرقابة رد فعل من المؤسسة التقليدية على تحجيم دورها الفعلي في تشكيل ثقافة المجتمع. المدهش أن يوسف وهبي، في رده على الرسالة القاسية للمدرس الأزهري، أعطاه درسًا في النظرة الجديدة للممثل ومكانته السامية في المجتمعات المتحضرة، قبل أن يفجعه من معلومة نراها اليوم جديدة تمامًا، إذ قال له “أما تحذيرك من تفشي فكرة تمثيل الأنبياء فقد جاءت متأخرة بكل أسف، فقد مثلوا عيسى وموسى ويوسف ودانيال، بل ومثَّلوا الخالق تعالى تمثيلاً ما في مصر نفسها على مسرح الأستاذ الشيخ سلامة حجازي في رواية تليماك”.
5
...قبل أن تكمل الحكاية
حكاية فيلم النبي محمد لم تكن سوى واحدة من حكايات التعثر في الحداثة ، السلطة الدينية القديمة تدافع عن مواقعها، تداعب الجرح النرجسي ، الذي تتراكم حوله البكتيريا و القيح، لكنه يغذى مشاعر المظلومية ، ويوقظ عصاب “الخصوصية” و ” الهوية ” ، فيبدو الدفاع عن سلطة الماضي كأنه ” مقاومة ذاتية” ، أو ” جهاد ثقافي” ، كما تقدمه سلطات تدافع عن سيطرتها المطلقة و هيمنتها على عقول الرعايا ، الأزهر كان رأس الحربة ، والملك الحالم بوراثة الخلافة المنهارة ، يدعم صورته كراعي الدين الذي يعيش غربيته ، لكنه في نفس الوقت مدعوم من سلطة ” التحديث” ، فينتظر دائما خطاباً أو شكوى من قاريء/رجل عادي/مواطن صغير ليبدو تدخله تنفيذا لمطالب الشعب.الرجل الصغير يظهر في كل المعارك المفصلية برسالة إلي الصحيفة كما رأينا في قصة الفيلم ، أو برقية من طالب أزهري كما حدث مع الشعر الجاهلي، وبعدها بسنوات تتكرر هذه الدائرة التي تمنح للسلطة مبررات الدفاع عن ” سلطة الماضي ” ، وغربة الأخلاق و الدين ، فالهجوم بدأ علي نجيب محفوظ و أولاد حارتنا من رسالة قاريء و حبس الأديب أحمد ناجي في 2016 كان بعد شكوى من قاريء عادي إرتفعت ضربات قلبه بعد زن قرأ عبارات خادشة للحياء في رواية ” إستخدام الحياة” .
الحكايات مستمرة، ومنهكة، بل إنها تثبت أن التاريخ لا يتحرك إلى الأمام، لكنه يغرق في المستنقع ،حتى أننا و نحن نروى حكاية فيلم النبي محمد مضطرون للنظر بعين الرضا إلى الماضي الذي لم يقتل فيه يوسف وهبي لأنه فكر في تمثيل شخصية النبي محمد على الشاشة، بل حدث حوار حاول التوفيق بين المثال الغربي الذي قبل على مضض فكرة تقديم المسيح في الأفلام، وبين العقلية الشرقية الرافضة لتجسيد الشخصيات ذات الطبيعة المقدسة في الإسلام (وهو حوار اشترك فيه متعصبون من الأزهر وكتاب مسرح مثل بديع خيري الذي رفض الفيلم لأننا لسنا الغرب، ولا يمكن تقديم الحوار بين فاوست والشيطان كما تخيله الشاعر الألماني جوته).
وهل يزيح الحكي بعضاً من الثقل؟ هل تروق الحكاية للهواة من ” التنويرين الجدد ” الباحثين في الماضى عن أسلحة تقاوم الماضي؟…الحكاية مازالت مستمرة
6
والآن نفتح العدسة لنرى جانباً من الخلفيات
شهد عام 1926 وحده مناقشات مجلس النواب المصري حول الطابع الديني لنظام الأوقاف، ومطالبة عدة نواب بإلغائه نهائيًّا، كما تقدم النواب باقتراح بإلغاء منصب المفتي، كما أدى القرار الجريء الذي اتخذه مجلسا النواب والشيوخ بجعل مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة المعلمين الأولية ودار العلوم تابعة لوزارة المعارف العمومية بدلاً عن تبعيتها السابقة لشيخ الأزهر، إلى خروج الأزاهرة في تظاهرات صاخبة تنادي بسقوط البرلمان، كما تخلى طلاب دار العلوم عن زيهم التقليدي وعن العمامة ليرتدوا بدلاً عنها الزي الأوربي و”الطربوش” .
هذا غير المعركتين الكبيرتين (الإسلام وأصول الحكم) و(الشعر الجاهلي) وكلاهما دار حول (كتاب)؛ أي في منطقة التصادم في ثقافتنا التي تمنح قدسية للكتابة ولا تعطي شرعية سوي للكتب التي تعيد إنتاج القيم المتوارثة. بداية من العنوان فقط يتصادم الكتابان مع سور عظيم من المحرمات؛ الأول مع الغطاء الديني الذي يحمي به السلطان نفسه ليحول معارضته إلى خروج عن الدين – كانت فكرة الخلافة تتهاوى تحت الضربات القوية لثورة أتاتورك في تركيا (1924). والزعيم التركي نفسه أصبح بطلاً مثاليًّا لشباب رأى فيه تجسيدًا لحلم إفاقة العثماني المريض هذا قبل أن نكتشف بعد ربع قرن أن رجل الأحلام لم يكن سوي ديكتاتور بديل!
الكتاب الثاني يرتكب خطأ التفكير وتطبيق منهج الشك في أفكار مستقرة إلى حد الإيمان؛ فهو عن الشعر، معجزة العرب وكتابهم “المقدس” والكتاب يعتبر الإعلان القوي عن تأثير الجامعة الوطنية بأفكارها الحديثة، ودورها في منافسة المؤسسات التقليدية للتعليم والتفكير وأشهرها الأزهر. وتبدو التفاصيل الدقيقة للمعركتين دالة في رسم صورة المناخ الثقافي والسياسي في ذاك العام الساخن.
7
وتأمل جيداً طريقة عمل الوجبة الملكية
كما هو معروف أثارها كتاب علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” (1925) والثانية كانت في “الشعر الجاهلي” (1926)، وهما معركتان أصبحتا قضيتي “رأي عام” بعد ضجة من الأزاهرة ممثلي الثقافة التقليدية، خصوصًا وأن كلا من طه حسين وعلي عبد الرازق يصح وصفه بـ “أزهري سابق”، وهو ما يعلن من البداية عن تمرد على الحدود التي ضاقت برمز المؤسسات القديمة! لكن الضجة كان يحركها من الأساس نظام حكم الملك فؤاد؛ الذي جعله الاحتلال الإنجليزي يحلم بالخلافة الإسلامية التي شهدت فراغًا لأول مرة بعد 1000 عام؛ حين ألغت ثورة كمال أتاتورك “الخلافة العثمانية” في عام 1924.
أثار كتاب علي عبد الرازق الملك فؤاد لأنه ينفي مبدأ وجود الخلافة في تاريخ الإسلام، بينما الملك يقيم مؤتمرًا إسلاميًّا عالميًّا للخلافة، ويصدر مجلة، ويكوِّن خلايا شعبية في الريف المصري لتنظيم هذه الدعوة، بل ويلغي دستور 1923 الذي أنتجته ثورة 1919، وينقض على أغلبية الوفد في برلمان 1925 ليشكل حكومة ائتلافية (من حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين) برئاسة زيور باشا.
أما كتاب طه حسين فكان الهجوم عليه طريق النظام الملكي، من أجل إثبات أنه (متدين) وأنه (حامي الإسلام)، خصوصًا بعد إرسال عدد كبير من رجال الأزهر برقيات إلى الملك فؤاد تطالبه بإبعاد طه حسين عن الجامعة ومصادرة الكتاب، بل إن شيخ الجامع الأزهر نفسه تقدم وفدًا من الأزاهرة إلى قصر عابدين للاحتجاج على الكتاب..
أفرزت المعركة حول كل كتاب انقسامًا داخل النخبة السياسية (ما يزال مستمرًا حتى اليوم).
الشيخ علي عبد الرازق يختم كتابة قائلاً “وتلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين وأضلوهم عن الهدى، وعملوا عليهم وجوه الحق، وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين أيضًا استبدوا بهم وأدلوهم وحرموا عليهم النظر في علوم السياسية، وباسم الدين أيضًا خدعوهم وضيقوا عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعًا!”.
الشيخ الشاب، الذي لم يكتف بأداء الوظيفة المدرجة في المحكمة الشرعية بالمنصورة، كان يشير إلى استخدام الدين غطاءً لمنع العقول من التفكير وهو ينفي وجود سند شرعي للخلافة في النصوص الإسلامية.
” اجتهاد مشروع” كما كان علي عبد الرازق يظن، ولكنة أقلق الملك وأذنابه “لأن الكتاب فيه حملة هائلة على الملوك” وفيه تحطيم شامل “لحلم الخلافة البراق” وقد أقلق رجال الدين الذين رأوا في هذا المنطق ما يزعزع سلطاتهم، ويعطل منافعهم في الاتجار بالدين، ويكشف عن حقيقة هذه العمائم الضخمة التي لا ترتفع إلا لتستر وراءها الظلم والاستبداد. وهناك أيضًا الرجعيون بتفكيرهم والذين يتملكون مشاعر الجماهير ولو بمجاراة الجهل والظلم!
هؤلاء هم خصوم عبد الرازق كما وصفهم أحمد بهاء الدين في “أيام لها تاريخ” الذين حاولوا الرد بقوة على اجتهادات الشيخ ليس على أنها رأي يضاف إلى حصيلة (الفكر الإسلامي) بل باعتبارها شطحات تحيد عما استقروا على معرفته.
أشهر هذه الردود كانت للشيخ أحمد الخضر حسين؛ شيخ الأزهر السابق، والذي أصدر كتابًا عنونه “نقض الإسلام وأصول الحكم”، وصدَّره بإهداء إلى “خزانة حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر الأعظم” ورجاه بأن “يتفضل عليه بالقبول، والله يحرص على ملكة المجيد، ويثبت دولته على العز والتأييد”. وهو إهداء له دلالة إذا ما وضعناه في مقابلة مع تصدير الشيخ علي عبد الرازق لكتابة بقوله “أشهد ألا إله إلا الله، لا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحدًا سواه “.
وهكذا كان لا بد أن تبدأ وقائع محاكمة علي عبد الرازق بإيحاء ملكي إلى هيئة كبار العلماء بالأزهر بأن تستدعي الشيخ علي عبد الرازق لتحاكمه وفقَا للمادة 101 – من القانون رقم 10 لسنه 1911 والذي وضعة الخديو عباس حلمي الثاني، ضمن قوانين أخرى تكميمية إثر النشاطات الفكرية والوطنية التي لوحظ تناميها في زمنه.
تلا ذلك اجتماع هيئة كبار العلماء في 12 أغسطس 1925 برئاسة الإمام الأكبر محمد أبو الفضل، شيخ الجامع الأزهر، وحضور 24 عضوًا أخر، وكذلك (المتهم) الشيخ علي عبد الرازق؛ الذي دفع شكليًّا أول الأمر بعدم اختصاص الهيئة الموقرة بالنظر في قضيته، ولكن الهيئة رفضت هذا الدفع الفرعي وحكمت عليه بما نصه (حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع 24 عضوًا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق، أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الشرعية ومؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم”.
فور إقرار الحكم والحيثيات أبرق شيخ الأزهر إلى القصر الملكي ما نصه “صاحب السعادة كبير الأمناء بالنيابة بالإسكندرية، أرجو أن ترفعوا إلى السدة العلية الملكية عني وعن هيئة كبار العلماء فروض الشكر وواجبات الحمد والثناء على أن حفظ الدين في عقد جلالة مولانا الملك من عبث العابثين وإلحاد الملحدين، وحفظ كرامة العلم والعلماء، وأننا جميعًا نبتهل إلى الله، ونضرع إليه أن يديم جلالة مولانا الملك مؤيدًا للدين ورافعًا لشأن الإسلام والمسلمين، وأن يحرس بعينه عناية حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فاروق ولي عهد الدولة المصرية؛ إنه سميع مجيب..”
8
ودلالة صعود أم كلثوم القمة وحدها...
في كتابه “الفن في حياتنا” يقول فتحي غانم “كان المغني في مصر يثير الناس ويطربهم بشيء اسمه “الهنك والرنك”؛ وهي الميوعة والطراوة في الغناء التي ابتكرها محمد عثمان من أيام الخديو إسماعيل وحفلاته الباذخة؛ إذ كان المغني يقضي عشر ساعات متتالية وهو يتلاعب بصوته مرددًا جملة أو شطرًا من قصيدة، وكانت منيرة المهدية تثير حواس المستمعين ببحة في صوتها فيها طابع جنسي يشبه بحة الأغاني التي يغنيها الأمريكيون اليوم في أغانيهم الراقصة”. أما أم كلثوم فقد “غنت للفلاحين على طبيعتها وسجيتها، غنت بلا قواعد، وبلا هنك أو رنك، وبلا بحة أو تلاعب.. أطلقت صوتها وكأنها تغني لنفسها. وإذا بالفلاحين يطربون لسماعها ويجدون فيها تعبيرًا عن الانطلاق الذي يتمنونه في حياتهم”.
وهنا يجب أن نسجل لأم كلثوم أنها “استحقت منذ ذلك الوقت، التفضيل الذي حباها به الفلاحون على غيرها من الأصوات التي كان يسمعونها، وهذا التفضيل راجع لأمر شخصي في أم كلثوم، وحتى لو هيئت الظروف لأصوات جميلة أخرى أن تبرز، لما كان جمال الصوت وحده كافيًا، إذ خضع هذا الصوت الجميل لقواعد المحترفين في الغناء وتقاليدهم، بل كان لا بد أن ينطلق الصوت الجميل ثائرًا من كل قيد حتى يتجاوب مع حالة المستمعين النفسية، وهذا ما فعلته أم كلثوم وحدها..”
كانت أم كلثوم مغنية موال الفلاحين لها “صوت طبيعي، ينطق الكلمات السليمة بلا عوج ولا التواء، وبعيدًا تمامًا عن الأصوات الجنسية، فضلاً عن خلوه من صنعه التكلف في التلاعب بالصوت وترديد الكلمات بصرف النظر عن معناها”.
ومن الغريب أن تختار هذه الفلاحة المغنية هذه الطريقة في الغناء وتتمسك بها بتأييد من جماهير المستمعين الفقراء، ولا تحاول أن تتعلم طرق الغناء الأخرى السائدة في ذلك العصر، متفقة في ذلك مع الشيخ سيد درويش، وفي الوقت نفسه دون أن تلقاه أو تتعلم على يديه، وهو الموسيقي الذي كفر أيضًا بفن المحترفين، وبدأ ينادي بأن طبيعة المصريين في الغناء أقوى من فنهم.
ولا أريد أن أُتهم بالمبالغة إذا قلت إن ألحان سيد درويش الثائرة على الصنعة القديمة والمتأثرة بالطبيعة والسجية المصرية وكذلك صوت أم كلثوم وطريقتها في الأداء الطبيعي كانا يرمزان إلى رغبة حقيقية كامنة في النفوس للانطلاق والتجرد من القيود السياسية والاقتصادية التي تضغط عليهم.
كان الجمهور الذي يتكون في 1926 هو جمهور جديد لأم كلثوم، وهو غير الجمهور الذي اعتادت بين قرى الفلاحين، وغير الجمهور الذي اعتاد أن يسمع الطرب والغناء في القاهرة، إنه جمهور السوريين والإفرنج، والشباب المثقف من أولاد العيان وأثرياء الزراعيين في الريف؛ وهو في حقيقته جمهور الطبقة الوسطى في المدينة، وهي الطبقة التي بدأت تنمو وتتسع مصالحها في مصر، ونحن نعلم اليوم أن الطبقة الوسطى هي التي زاملت أم كلثوم في صعودها الفني، وهي جمهورها المخلص حتى الآن؛ فمنذ جاءت أم كلثوم إلى القاهرة ابتعدت نهائيًّا عن طبقة الفلاحين الأُجراء إلا في أغانيها ذات المعاني القومية أو الاشتراكية التي تمس مصالح هؤلاء.
9
القاهرة 1926 هي السر
والبداية من الريف والانتهاء بالبرجوازية الصغيرة الصاعدة في العاصمة هو الطريق الذي سار فيه كل أبطال هذا العصر، من طه حسين وعلي عبد الرازق مرورًا بسعد زغلول وحتى أم كلثوم؛ فقد كانت رحلات صعودهم علامات هذا العصر ومؤشره الفكري، في حين ظلت مصانع القيم المتصارعة على هوية مصر بين الشرق القديم والغرب المنتصر، وتعمل بقوة وعنف!
وهكذا فنحن في 1926 والصورة في مصر ببيوتها الخليط من العمارة الفرنسية والإيطالية في وسط العاصمة، بينما تنسحب العمارة العربية الإسلامية إلى الأطراف.
في 1926 واسطة عقد المتغيرات الكبرى في الثلاثينيات والتي بدا المشهد فيها كجماعة تصعد هرمًا وتتصارع إلى قمة درجاته؛ كل منهم يشد الآخرين وجميعهم يصعدون إلى قمة لا يعرفون ماذا فيها!