في المدينة ذات الشوارع الكبيرة المستقيمة والأضواء الباردة واللافتات الإعلانية الضخمة، وسط وقع أقدام وطنين كلام ساكنيها، لكل منا طرقه الخاصة في استكشاف مواقع الطمأنينة داخلها، ونهجه في الاتصال اليومي المباشر بعالمها، سواء بغمس أنفسنا فيها، أو الاكتفاء بالمشاهدة من وراء زجاج السيارات أو البيوت. بعضنا مجبر على تبني أنماط محددة وتفادي أخرى. ربما يكون التسكع أكثر الطرق حميمية في الاتصال بفضاءات المدينة وشوارعها. بذلك يجد المتسكع نفسه منغمسًا في اتصال وجهًا لوجه مع المدينة، مانحًا لها تجربته لتتشكل وفق ما تقدمه له عوالمها.
طور فالتر بينيامين في أوائل القرن التاسع عشر، من فكرة شخصية الـ“فلانير“/ المتسكع لتقديم أطروحات عن عمران باريس ما بعد الهوسمانية 1 ، بعدما كانت الشخصية جزءًا من كتابات الشاعر الفرنسي شارل بودلير، الذي عرف الفلانير بأنه “الجنتل مان المتجول في شوارع المدينة“، والروائية والشاعرة فيرجينيا وولف التي وصفت فعل التسكع بأنه “مطاردة للشوارع“، والكاتب إدجار آلان بو الذي استخدمه مكونًا أساسيًّا لبطل قصته القصيرة “رجل في الزحام“؛ ذلك الرجل المراقب لزحام الشوارع من نافذة المقهى. في آخر عقدين، أعُيد استخدام مفهوم الفلانير في الأبحاث والدراسات العمرانية لنقد وطرح أفكار تخص العمران المديني المعاصر. من أبرز تلك الأطروحات، استخدام مفهوم التسكع أو الفلانيري في النظر الى الفروقات الجندرية في النفاذ إلى المدينة وفضاءاتها العامة، مع وضعها في نسق تحليلي للعدالة المكانية 2 ، ففعل التسكع في حد ذاته كاشف لكل التناقضات التي تعامل بها المدينة سكانها، وتَكُون علاقتهم الذاتية بمحيطهم العمراني.
كيف يختبر الفلانير المدينة؟
تاركًا مسافة بينه وبين الأشياء، يتأمل الفلانير المدينة بعين فاحصة مدققة في جماليات الحياة المدينية وأنشطتها، وعلى الرغم من وقوفه مشاهدًا، لكنه فاعل في إنتاج المشهد اليومي الاجتماعي. هو مزيج من المحقق اليقظ والبرجوازي المتأنق والمستهلك المحدق في المعروضات. يتصفح المدينة ككتاب، واجدًا الجمال فيما اعتاد الناس على رؤيته كطقس يومي. فملاحظته للشوارع والفضاءات العامة أصبحت مصدره الأولي للمعرفة المتراكمة عن طريق التقاط قصاصات الأحاديث وتجميع مخزون بصري. خطواته المتمهملة تمكنه من فصل نفسه عن الحركة السريعة لشوارع المدينة، ولكن في ذات الوقت مازال جزء من كونها مفعمة بالحياة. أو كما فسر الأكاديمي والمؤرخ الأدبي ريتشارد بارتون، في كتابه “الفلانير ومدينته“، هذا الأمر قائلًا: “يقف مترفعًا في المدينة، على الرغم من ظهوره في هيئة المنصهر فيها، هو يئوِّل كل جزء من مكوناتها المنفصلة، بتراتبية تتيح له تكوين إدراك للكل كنظام معقد من الدلالات“. إضافة إلى الجزء المادي العمراني للمدينة، تشكل الروائح والأصوات والحكايات غير المكتملة التي تتطرق إلى أذنه جزءًا من المعطيات التي تنتظم كأوعية ينفذ من خلالها العالم المديني المحيط إلى وعيه. كما أن المشي ليس وسيلته الوحيدة، ولكن الفلانير يمكن أن يكون راكبًا للأوتوبيس أو الدراجة.
فكما أكدت الكاتبة وأستاذة التاريخ ماري جلاك، في ورقتها البحثية المعنونة “الفلانير والجمالية: الاستحواذ على الثقافة الحضرية في باريس منتصف القرن التاسع عشر“، أن الفلانير أصبح رمزًا عامًا للتجربة الحضرية والحداثة الثقافية، ولكنه بشكل ما خارج سياق الثقافة الاستهلاكية. فالفارق بينه وبين المستهلك هو نمط استخدام الفضاءات العامة، كمكان للاستكشاف والاختبار من على بُعد، فهو لا يُستغرق في الأنشطة الحضرية ولا الاستهلاك، بل تشكل له كل مواد ومفردات وأنشطة الاستهلاك عرض بانورامي للحياة المدينية الحديثة، واضعًا نفسه جزء من هذه العرض. هذه هي طريقته في اختبار المدينة، أن يشاهِد ويُشاهَد.
كيف تتيح المدينة للنساء اختبار فضاءاتها؟
هل تسمح لنا المدينة بكتابة “طريقتها” بدلاً من “طريقته” في الجملة السابقة؟ هذا السؤال هو أصل الأطروحات التي تستخدم مفهوم التسكع كامتياز جندري في رؤية علاقة النساء بمحيطهن العمراني والمديني. فبشكل من الاستيلاء على تجربتهن الحضرية، حُرمت النساء من تبني أنماط مغايرة من استخدامات الفضاءات العامة، وبدلًا عن ذلك وضعن حصريًّا في موقع المستهلك، وخصصت لهن الحداثة المدينية فراغات التسوق والمتاجر متعددة الأقسام.
الفلانير يغمره الإحساس بالراحة كونه موجودًا في الشوارع والفضاءات العامة، فمكون أساسي من شخصيته هو حرية المشاركة في حياة الشارع. لا قلق ولا خوف ولا حسابات معقدة لتصرفاته؛ تحديقات متأملة، وحركات ارتجالية، وأحاديث ملتقطة مع غرباء. هذا النوع من المشاركة امتياز جندري للرجال في الشوارع بنسب ودرجات مختلفة عن النساء. يساهم هذا التصور في فهم أعمق لصميم خطاب المنظر الفرنسي هنري لوفيفر عن “الحق في المدينة“، فالقدرة على التفاعل بهذا العمق مع الحياة المدينية، دون إبداء أسباب لوجودنا في الشوارع، هو بشكل ما، ما يشكل انتماءنا لها. كيف يمكن للنسخة المؤنثة من الفلانير اختبار محيطها العمراني بهذا الشكل، دون أن تكون تجربة لسماع أوصاف جسدها وربما لمسه، فوجودها في الشارع يستلزم إعطاء مبررات كافية، لتتجنب الوصم كعاهرة، فعاملات الجنس فقط هن من يقفن في الشوارع بلا هدف أو يتجولن بخطوات متمهلة!
المدينة نفسها لا تعطي للنساء هذا الحق في التجول الآمن، حتى على سياق أصغر في الجدول اليومي، كركوب المواصلات العامة، أو انتظار صديق على أحد المقاعد، أو المشي لمسافات قصيرة. كل هذه الأفعال تؤديها النساء على عجل، متجنبات الظهور كمن يقف أو يمشي أو يجلس بلا هدف، مرتديات سماعات الأذن أو متحدثات في الهاتف لاستكمال تأدية دور المنشغل. فحتى هذه الأفعال الصغيرة المجتزئة تخدم فكرة التسكع وفهم الامتيازات الجندرية في استمتاع الرجال بمنظور أوسع للمدينة، ونفاذ أسهل لفضاءتها، ومن ثم تكوين انتماءات وعلاقات أكثر ثراء مع الشوارع والفضاءات العامة.
انحياز البيئة المبنية ضد النساء
أنماط استخدام البيئة المبنية في حد ذاته في أكثر الأحيان يحول دون تواجد النساء في مساحات المدينة، فالفراغ العمراني ليس مصمتًا ولا محايدًا، بل هو وسيط وفي ذات الوقت منتوج اجتماعي كاشف عن علاقة النمط الذي يستخدم به الفرد الفراغ بموقعه في معادلات القوى. حيث تولد الفراغات امتيازات في كيفية استخدامها، ترجح مجموعات اجتماعية بعينها بينما تقصي الأخرى، والمجموعة المقصاة يمكن أن يرحب بها في سياقات مكانية أخرى. أيضًا الأنماط المختلفة المتبناة من استعمالات الفراغ الواحد تعطي دلالات عن أي مجموعة مسيطرة داخله بقواعدها وفارضة لوجودها.
تكوين مفردات البيئة المبنية من البداية فعل تصميمي منحاز: الطريق ذو الحواجز المعدنية في منتصفه الذي يكلف عبوره المرور في نفق معتم، موقف الأوتوبيس الذي ينزوي حمامه المخصص للسيدات في ركن مهجور، عربة مترو السيدات التي تخصص فقط لمن يصلن منازلهن قبل التاسعة مساءً؛ كل هذه المفردات في مشهد العمران والتنقل تصدر رسائل طاردة للنساء، محددة لهن أي وقت، وأي فراغ مسموح لهن بالوجود فيه. القرارات التي لا تحصى المصاحبة لفكرة المشي والتنقل من اختيار مسارات أطول للمشي لأنها مضاءة بشكل أفضل، وبالطبع يكون عكس اتجاه السيارات لأنها الطريقة الأمثل لمحاولة تفادي لمس أجسادهن، وتقليص الجدول اليومي لكي لا يحتوي على فجوات زمنية تطيل من زمن الانتظار، وإذا اضطررن تكون هنالك خريطة ذهنية لتحديد البقع التي يكون مجال الرؤية فيها مفتوح، وتحديد وقت للتنقل تقل فيه احتمالية التكدس، وألا يكون ليلًا، وتحديد أماكن النزول من المواصلات بدقة، لأنه لا مجال للوجود في أمكنة مجهولة، ففي كل تردد خطر وفي كل توقف خطر. هكذا كل تحرك يومي لهن هو نفاذ مشروط لشوارع المدينة، يصاحبه خطط في كيفية العبور سالمات وطرق النجاة من أكثر قدر ممكن من العراقيل المستمرة في طرقهن.
يقول كايث تيستير في مقدمة كتابه المجمع لمقالات متنوعة عن مفهوم التسكع، واصفًا الحالة الحميمية للفلانير مع الفضاءات العامة بدقة شديدة، كونه “في المنزل وجوديًّا، بينما هو في الشارع فيزيائيًّا“. المدينة لا تعطي النساء الحق في هذه الحميمية مع محيطهن العمراني. المدينة لا تعطي النساء أي نوع من الإشباع في غمس أنفسهن في زحام الشوارع والمواصلات العامة. على العكس، الفكرة نفسها تثير مشاعر الخوف من الانتهاك وتذكر بصدمات التجارب السابقة من التعرض للعنف في المساحات العامة.
تصورات النساء وعلاقتهن بفضاءات وشوارع المدينة العامة طبقة غير مكتملة، وأمكنة مؤقتة يستدعي العبور بين الفضاءات الخاصة، المرور فيها سريعًا. فهن لا يختبرن الشارع إلا كممر، ولا يختبرن محطة الأوتوبيس إلا كمكان للنقل، ولا يختبرن المشي إلا كفعل ميكانيكي، بينما هنالك عالم مديني آخر ومستويات أعقد من العلاقة بشوارع المدينة لا يختبره إلا من تمحنه الامتيازات الجندرية حق وجوده دون خلق مبررات، فقط عندما تحظى النساء بالتجربة نفسها تكون العدالة المكانية.
الصور: عمرو عادل