تتحدثون عن ميكانيزمات لحرب البقاء.
عنوان جميل لحكاياتنا المفعمة بالحس المأساوي عن الصحافة في مصر؛ حيث الموت حاضر بقوة بجوار حياة برائحة برطمانات مخللات فارغة قديمة
وهذا ليس مجرد مجاز؛ إن ترجمت العقليات التي تتكلم عن المشهد اليوم إلى روائح، ستكون الرائحة التي حدثتك عنها هي التجسيد المعبر عن القدرات الرهيبة على الاختصار، والنظر إلى الزمن باعتباره أقدار الآلهة ، وليس مجرد “مسطرة” من اختراعنا، نرى بها علاقتنا بدوران الكواكب وحسابات الحركة الدائبة لأجسامنا في الفراغ الكبير..
هل نتحرك؟
هل كان يمكن أن يكون هناك مصير آخر للصحافة في بقعتنا الملعونة غير ما آلت إليه؟
ليس هذا سؤالي ولا سؤال جلستكم في هذا النهار…تسألون كيف نخوض حرب البقاء؟
هناك مفتاح مهم للنظرإلى هذه المعضلة، ما الذي سيبقى؟
السلطويون في عالمنا؛ آلهة و أقدار و نجوم شباك بالمعنى السينمائي، ويرتبط البقاء عادة بهم، وبالحزمة المعقدة التى أوصلتهم إلى أماكنهم…
في بلادنا يبحثون عن صحفي أوحد ليرث “إقطاعية الصحافة“، إن من يبحثون عن نجم أوحد ليس نظام الحكم فقط، لكنه تكوين عقلي يجعلنا كلما اقتربنا من الخاتمة، نتكاتف جميعا لإعادتها إلى الوضع الوسطي الذي يليق بكل “المديوكر” السعداء في بلادنا كما لو كانوا في جنتهم، فهي أرض ميعادهم.. وهم الذي فصلوا كل مجال عام، وحتى الإعلام، على مقاسهم.
يرى الناس في صحافة النظام اطمئنانهم إلى وجودهم، المتلاشي أساسًا، ويوجد فقط الدولة معبد المديوكر الراسخ. والكهنة هم الوسطاء بين سكان المعبد والمؤمنين الصالحين المتعلقين بستائر المعبد؛ والصحف والقنوات هي ستائر المعبد.
الصورة واضحة الآن..هذا تاريخنا مع الإعلام منذ صعود الضباط إلى الحكم..معبد و كهنة وستائر؛ وسطاء هدفهم الترويض والتنفيس؛ الصحف هي رسائل الحكم في “توعية” الناس و توحيد زمنهم ليناسب السردية الكبرى للسلطة…هل نريد بقاء هذا الإعلام، و نبكي لأن سكان المعبد قرروا، وهم يشعرون بالرعب، أن يحكموا سيطرتهم عليها؟
الشد والجذب السياسي،وموضات الديمقراطية والحريات…عابرة، مخيفة ، تنتمي إلى الغريب و الغامض والخطر المحدق، لكنها بقدرة قادر تحولت إلى مجرد ثياب، كان لا بد أن يرتديها الجنرالات بعد خفوت موضة الملابس العسكرية..وارتدينا جميعًا حكامًا وسكانًا البدلة الديمقراطية فوق البدلة العسكرية التي كان يظهر من تحتها ملامح العباءة الفخمة المهلهلة لدولة الخلافة، كل هذا والصحافة تلعب دور مندوبي المبيعات والمقصدار .. وفي هذه الحركة بين الأزياء كانت تحدث ثقوب في القماش الأصلي.
من ناحية السلطة كان لا بد من أجل استكمال الجو المناسب، بأن تكون هناك حديقة خلفية تصلح للزائرين الأجانب و الحفلات التنكرية، وتثبيت الإنتماء إلى “الموضة“…وأىضاً لاستيعاب الطاقات المتمردة على “المسار العام“. ومن ناحية الناس كان لابد من “الديمقراطية” على طريقة “المظهر الحضاري” وعلب الورد المجهزة لتزين المشهد الرث.
قبل يناير 2011 أراد سكان المعبد توسيع أسواره ليستوعب الحديقة…وكسرت الطاقات القادمة من خارج الترويض السياج، وتحطمت الهندسة التي كان أقصى حدود الصحافة هي اللعب في الحديقة، وشرح ما يحدث في الغرف المغلقة.
المرعب أن هذا الوضع هو أقصى الأماني اليوم بعد أن علت أسوار المعبد؛ وتحول كل ما خارجها إلى سجن كبير. وهذا ما يجعلنا نشبه تلك الرائحة التي حدثتك عنها …هل تذكرها؟