بعد كل هذه السنوات يبدو الأمر دمويًّا وأكثر قسوة؛ حين وجد راعي غنم في أحراش عرمون في جبل لبنان جثة ملقاة بهندام رجل لا يخفى كونه من كبار البلد. لم يقل أحد من رواة الواقعة هل كان الراعي يعرف اسم وشخصية سليم اللوزي أشهر صحفي لبناني في تلك السنوات الساخنة بين السبعينات والثمانينات من القرن الماضي؛ والذي شغل الدنيا كلها بعد اختفاء ثمانية أيام،هل كان الراعي يبلغ في اليوم التاسع عن وجود ميت في طريقه اليومي يخشى أن ينهشه الذئاب..؟ كان الجميع يعلم من خطف الصحفي الأشهر في العالم العربي ؛ لكنها معلومات تقال في الجلسات الخاصة و على ألسنة من يربطون بين تحول لبنان إلى ” مستعمرة سورية” وبين الرغبة في صمت الجميع حتى المؤيدين للعروبة ولنظام حافظ نفسه…؟ هذا المزيج بين المعرفة والصمت طال الراعي نفسه، فقد وُجد، هو أيضًا، وبعد أقل من ١٠ أيام مقتولاً، ومن بعده صبي شاهد لحظة العثور على جثمان الرجل الأنيق! الرواية مرعبة، ولا تزال حتى الآن، بعد ٤٢ سنة كاملين.. حفلة قتل تحمل ماركة مسجلة بإسم حزب البعث تاريخ القمع العربي.
قائد فرقة القتل سأل الصحفي سليم اللوزي في بداية حفل التعذيب: بأي يد كنت تكتب مقالات تهاجم سيدك؟ كان يقصد الرئيس حافظ الأسد، وقبل أن يحدد المقتول اليد التي يكتب بها، حاول استخدام المنطق و العقل ويستجمع فصاحته الشجاعة، ليخبرهم أنه على موعد مع الرئيس حافظ بعد أيام حسبما علم من الوسطاء، وأن هذه ليست المرة الأولى التي يلقى فيه سيدهم، لكنهم لم يكملوا سماع تمتمته المتعبة؛ واختاروا اليد اليمنى ليضعوها في حوض من حامض كبريتيك ساحن (ماء النار كما يسمى في اللغة الشعبية المصرية).. ذلك الحوض الشهير في طقوس البعث التي قرأنا عنها بعد ذلك كثيرًا. رأى سليم اللوزي ذوبان لحمه، وبعدها رأى عضوه الذكري يلقى في نفس الحوض.. طقوس تحمل إشارات رمزية مفعمة بالإخصاء والتصوير من أشهر أنظمة الذكرة العربية المتوحشة!
وسليم اللوزي صحفي بمواصفات تلك المرحلة الممتدة منذ صعود طبقة جنرالات التحرر للسلطة في البلاد العربية المركزية.. وهو كذلك تربية الصحافة المصرية قبل وصول الضباط للحكم. عمل أولاً في “روز اليوسف” حتى غادرها وغادر مصر مجبرًا في إطار حملة “الأسلحة الفاسدة” أحد أهم الحملات الصحفية التي وجهها الضباط الذين كانوا في المرحلة السرية وعبر علاقتهم مع إحسان عبد القدوس صاحب ورئيس تحرير روز اليوسف آنذاك.. كانت الحملة تالية لهزيمة أو نكبة ١٩٤٨، وقد أظهرت التحقيقات بعد ذلك عدم وجود أسلحة فاسدة، لكن سليم اللوزي لم يقطع علاقته بالصحافة المصرية، وعمل مراسلاً لمجلتي المصور والكواكب في بيروت، وتنقل في الصحف اللبنانية حتى اشترى ترخيص مجلة الحوادث من مغامر طرابلسي عام١٩٥٦، وهو العام الذي قابل فيه محمد نجيب للمرة الأولى، وكان أول صحفي عربي يقابله، وقيل للجنرال العجوز الطيب إن “سليم واحد مننا”! فقد كان صديقاً لأحد الضباط الذين فازوا بحكم مصر وبدأوا عهدا جديداً، للعروبة والهوى القومي مكان أساسي.
سليم اللوزي، ابن الشمال الطرابلسي؛ ماهر في نسج شبكة علاقات في أماكن صنع القرار، وخطوط اتصال دائمة مع صُنَّاع القرار، وحين يمزج المعلومات القادمة من شبكاته مع العواطف الهادرة التي ميَّزت لغة صحافة تلك الأيام، فإنه قادر على أن يكون على رأس إمبراطورية صحفية كما وصفها بنفسه، ويختار بين وجوده على رأس الحوادث، وبين عرض إلياس سركيس رئيس لبنان له برئاسة الحكومة اللبنانية قبل حفلة الانتقام منه بسنوات قليلة.. إمبراطور صحفي في زمن نتلقى حكاياته الآن بمزيد من الدهشة والرعب، وكأنه ليس مقدمة لما نعيشه من “جحيم” تعودنا عليه بعدما تأكد لنا أن هذه أقدارنا.. مع أن شخصية مثل سليم تنقلت من التماهي مع الحلم القومي/العروبي، ثم صدمتها هزيمة ١٩٦٧، وبدا كما يقول الرواة ثائرًا على القمع وأنظمته الحاكمة، ثم عاش حاملاً كرة اللهب يتنقل بين مطابخ الحكم والسياسة في بيروت، حين كانت عاصمة تتصارع عليها كل مخابرات العالم، وهرب منها بعد تفجير مقر المجلة وتهديده بالقتل، فقد كان معارضًا للاحتلال السوري لمدينته تحت راية الجامعة العربية. والصحافة كانت مغامرة حتى بالنسبة للشطار والمهرة، والحاكم يصنع الجحيم من حوله، لينتقم ويستمتع بالذل في عيون المتيمين بالدق على الطبول. وسليم مثل غيره من الصحفيين عاشوا “جزءًا من السلطة” لكنهم دفعوا ثمن الاقتراب حين أخذتهم جسارتهم بعيدًا؛ وحين أوقف كمين المخابرات السورية سيارته وهو في الطريق إلى المطار عائداً إلي منفاه اللندني؛ بعد ساعات قضاها في لبنان ليتلقى العزاء في أمه بموافقة “المكتب الثاني” أقوى أجهزة القمع في نظام الأسد، وربما تخيَّل هذه الموافقة ؛بداية علاقة جديدة.. كما تخيَّل أن خروج محمد نجيب أو “الباشا” كما كان يناديه في الحوار هو بداية عهد ديموقراطي يصحح مسار الثورة. والتعلق بوعود السلطة صانعة الجحيم انتهى في الأولى بحوار زار فيه الصحفي مقر المنفى المنزلي الذي أقام به أول رئيس لمصر الجمهورية لأكثر من ١٦ عامًا تحت الإقامة جبرية..
كان الحوار فرصة لهذه الصورة التي أوقفتني أمامها كثيرًا؛ إذ هي المرة الأولى التي أرى فيها الرئيس الأول دون بدلة عسكرية أو على سرير المرض كما انتشرت صورته في الصحافة المصرية نكاية في العهد الناصري؛ فنحن الجيل الذي أخفوا عنه قصة محمد نجيب كأنها لم تكن، واكتشفنا حكايته رغم أنه على قيد الحياة.. والإخفاء صنعة الحاكم، يصنع حاجزًا زمنيًّا يغيب فيه المغضوب عليهم وراء الشمس.. ونندهش كلما رأينا تفصيلة تدل على حياتهم.. لم أعرف؛ مثل كل جيلي بوجود نجيب إلا بعد أن اقتربت من نهاية المدرسة الإعدادية، ولم أر صورته ببدلة كاملة وأناقة الاستقبال الرسمي والغليون، ووجهه الذي طالته علامات الزمن إلا عندما وجدت نسخة الحوادث ضمن مجلات في أرشيف مدينة؛ واستوقفتني الصورة وتاريخها؛ كانت قبل عدة أيام من انتصار السادات في حرب العبور ١٩٧٣، وتحوَّل التصحيح إلى جحيم جديد أخفي فيه جزءًا كبيرًا من التاريخ في متاهة الآلام الكبرى.
مارست فرقة القتل حفلتها الانتقامية على سليم اللوزي؛ قطعوا لسانه رمز الكلام، وتفننوا في سماع آهات عذابه بحشو أقلام الحبر في أحشائه من الخلف؛ لم يقتلوه برصاصة مزَّقت خده الأيمن، بل تركوه يرى عذابه بكل الإشارات الرمزية على ذاكرتهم المتوحشة التي لا تتوقف رسائلها مع مرور الزمن. والحوار الذي نعيد نشره اليوم بين ضحيتين لأنظمة تصنع الجحيم الأرضي؛ أحدهما صحفي والآخر رئيس!
وائل عبد الفتاح
الأقواس هي النص الكامل لحوار محمد نجيب أول رئيس جمهورية لمصر مع الصحفي اللبناني سليم اللوزي، في العدد رقم ٨٧٣ من مجلة الحوادث، الصادرة في الجمعة ٣ أغسطس ١٩٧٣، وتصدرت الصورة غلاف المجلة بعنوان: بعد ١٨ عامًا من الصمت.. محمد نجيب يتحدث إلى سليم اللوزي: هذه قصتي مع الثورة.
(القوس الأول: مقدمة سليم اللوزي أغسطس ١٩٧٣)
في مثل هذه الأيام، قبل واحد وعشرين عامًا، التقينا في مكتبه بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة بمنشية البكري. كنت أول صحفي عربي يجري حديثًا مع اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة. كانت حركة 23 يوليو قد نجحت في تحقيق أهدافها الأولى، وهي الاستيلاء على السلطة، وحمل الملك على التنازل عن عرش، والبدء في حملة تطهير للعناصر الفاسدة في الدولة.. وانتقلت إلى المرحلة الأصعب، وهي تشكيل الحكومة، ومفاوضة الأحزاب، ومناورات رجالات السياسة وانقساماتهم. وكانت كل الأضواء مسلطة عليه، وكان يبدو كأب لمجموعة من الشباب يصغرونه سنًا بعشرين عامًا على الأقل، وبأربع رتب عسكرية. وكان وجهه الجماهيري يعطيه مكانة خاصة بين رجال الثورة، الذين كانوا حريصين على البقاء في الظل اكتفاء بشخصيته الشعبية، وحبه لمداعبة الأطفال، ولهجته المألوفة على الآذان في مصر والسودان.
وفي الأسبوع الماضي، وعندما كانت السيارة تنطلق بي إلى (عزبة المرج) خارج القاهرة، حيث كنت على موعد مع أول رئيس لجمهورية مصر العربية، ورحت أسترجع شريط الذكريات.. ما أقصر الزمن، وما أعمق التغييرات التي يحدثها، عندما توجهت إليه في اللقاء الأول، وكان يعج بالحركة والنشاط؛ السيارات يحيط بمبنى القيادة على بعد نصف كيلو متر. سيارات الحرس والجماهير والزوار والصحافيين الذين أتوا من مختلف أنحاء العالم، السياسيين الذين استدعوا للمشاورة، والذين جاءوا على أمل التعلق بعربة الثورة. ولحسن الحظ، كان بعض الضباط الأحرار في انتظاري، وكانوا يعلمون أنني أُبعدت من مصر قبل الثورة بسبب صلتي بهم. وهم الذين سهلوا لي المقابلة، وميزوني على كل الصحفيين، وحملوني حملاً إلى مكتب الرئيس حيث كان في انتظاري الصديق القديم اليوزباشي إسماعيل فريد، وقدموني إليه قائلين: سليم اللوزي واحد مننا!
وفعلاً رحب بي محمد نجيب وأعطاني حديثًا تناقلته وكالات الأنباء. ولا أقول ذلك فخرًا، فكل ما كان يقوله محمد نجيب -وقتها- كانت تتناقله وكالات الأنباء؛ إذ كان هو الناطق بلسان أضخم حدث وقع في المنطقة.
واقتربت السيارة من عزبة المرج. وقفزت زينب الوكيل من شريط الذكريات. وهي التي جعلت اسم (المرج) يشق طريقه إلى الصفحات الأولى من الصحف، عندما اشترت قطعة أرض في تلك البلدة كانت مجهولة إلا بشهرتها في (البلح). وأطلق المعارضون لزوجها النحاس باشا علي قطعة الأرض لقب (العزبة)، وسمت البيت الذي بنته هناك بالقصر. وشغلت مصر سنوات عديدة بسؤال عقلية زعيم الوفد: من أين لك هذا؟ حتى جاءت الثورة فصادرت العزبة والقصر. وعندما حُددت إقامة الرئيس السابق محمد نجيب في 14 نوفمبر 1954، وضع في قصر زينب الوكيل في (عزبة المرج).
قال مرافقي وهو يشير: هذا هو البيت الذي سكن فيه محمد نجيب.
قلت: ولكن أين العزبة؟
قال: هذه الأرض التي نجتازها!
تلفت حولي، فلم أجد إلا بقايا أشجار زحف إليها البوص والشوك. وكانت اهتزازات السيارة تؤكد أن الأرض لم يشقها محراث منذ عدة سنوات. وكان هو هناك عند الباب في انتظاري. وهو بعينه، لم تغير فيه السنون إلا زيادة في اللون الأبيض. ابتسامته، قامته المشدودة، حركاته العسكرية، الغليون التاريخي، كل السمات التي اشتهر بها، لا تزال كما كانت. لكن هذه المرة، خيم الصمت ثقيلاً على لقائنا.ولم يشأ أن يتركني في الحرج، وأنا أفتش عن عبارة أبدأ بها لقائي من رجل خارج التاريخ، فبادرني: أنا لسه شايل صورتك معايا!
قلت: وأنا أيضًا يا باشا!
(لقب باشا كان يعطى للعسكريين عند وصولهم إلى رتبة اللواء، ولذلك يفضله العسكريون على أي لقب آخر). ودخلنا البيت، فصعقت. لا أريد أن أطيل الوصف، بل اختصره بكلمة “كنت كمن يدخل خرابة آوت إليها أسرة اللاجئين”. وتلفت حولي، فرأيت ثياب الباشا معلقة على حبل في غرفة نومه، التي هي مكتبه، والصالون الذي يستقبل فيه. قلت: سمعت يا باشا أن الرئيس أنور السادات عرض عليك الانتقال إلى مسكن مناسب.
قال: كم بقي من العمر؟ لقد تعودت على هذا المكان. حتى الناموس لم يعد يؤثر على جلدي. ولولا زوجتي لما استعملت (الناموسية). حياة الميدان التي قضيت فيها شبابي، عودتنا تحمل كل شيء.. الرئيس لم يقصر. منحني جوازًا دبلوماسيَّا وأعاد لي مرتبي، وأهم من ذلك.. اللمسات الإنسانية. عندما مات ابني قبل سنوات مُنعت من استقبال جثته، وأما عندما ماتت زوجتي في عهد السادات، فقد شيعت كزوجة رئيس جمهورية سابق.
القوس الثاني: أنا والعصابة
- متي رُفعت عنك الإقامة الجبرية؟
بعد تولي الرئيس السادات، أمر بإطلاق حريتي. ولكن العصابة التي كانت تكيد له (سامي شرف، وشعراوي جمعة، وعلي صبري) لم تنفذ أمر الرئيس. وبعد حوالي شهرين عرف الرئيس أنني لا زلت مقيد الحرية، فأصدر أمرًا برفع الحراسة عني خلال ساعة واحدة. وفوجئت بالمقدم نبيل من مباحث العامة يتصل بي، ويطلبني تلفونيًّا ويهنئني بالإفراج. وجاء دوري لأطلب استمرار الحراسة، لأني أعيش في منطقة معزولة، ويسهُل فيها الاعتداء، وعندما حاولت استمهال ضباط الحراسة حتى تعين لي حراسة خاصة من قبل البوليس أو حرس الوزارات، كان الجواب “إن الأوامر لديهم توجب مغادرة مسكني خلال ساعة واحدة” ولكنهم وعدوني بإبلاغ الأمر للمسؤولين، بشأن حاجتي إلى حراسة. ولم تمض ساعة، حتى كانوا قد حملوا أمتعتهم ومعداتهم، وتحركت بهم اللوريات بعد رفقة دامت ثمانية عشر عامًا. وضحك: وحمدت الله مفضلاً مخاطر المجهول على معاشرة المعلوم! وبعد يومين عينوا لي حرسًا بسيطًا من البوليس قسم “المطرية”.
- هل التقيت بالرئيس السادات؟
لم ألتق به حتى الآن، وإن كنت قد سارعت بالإبراق إليه في 15 مايو (1971) مؤيدًا ما اتخذه من إجراءات، رأيت فيها تأكيدًا لحق الشعب في الحياة الحرة الكريمة، وفي إرساء قواعد الديمقراطية الصحيحة..
وفي هذه الأثناء، أخرج إسكندر أيوب المدير الإداري لمؤسسة “الحوادث” عقد نشر مذكرات اللواء محمد نجيب التي أصر على أن ينشرها في “الحوادث” ورفض جميع العروض التي حملها عدد من الأصدقاء إليه، لأنه “على حد تعبيره” يلمس فيها رائحة الصدق. وأشار اللواء إلى ركن في غرفة تكدست فيها مجموعة من أعداد “الحوادث” وقال “ما من عدد يفوتني.. وإذا غاب من عدد من السوق قبل أن أحصل عليه، كلفت أحد الأصدقاء بإحضاره لي من بيروت”!
وسألني: هل قرأتم المذكرات؟
وقلت: بالطبع يا باشا ولذلك جئت إليك لأستوضح بعض النقاط.
- مثل ماذا؟
أول سؤال يخطر في البال، أن السياسيين يفضلون دائمًا نشر مذكراتهم بعد الوفاة.. فلماذا حرصت على نشر مذكراتك في حياتك؟ وهل تصدر هذه المذكرات لمجرد تصحيح التاريخ، أم تعبيرًا عن الطموح للعب دور سياسي؟
لقد تجاوزت السبعين من العمر، ولم يعد هناك مظنة في أن أطمع في أدوار. ولكني كنت طرفًا في أحداث لا تعنيني وحدي، بل تعني مصر والأمة العربية كلها. وكثيرون تصدوا لكتابة أحداث تلك الفترة. بعضهم لم ينصف الحقيقة، ولا كان بوسعه أن يفعل.. فهل كان من الطبيعي أن أمتنع أنا عن تسجيل ما أعتقد أنه الحقيقة؟ أما لماذا أكتب الآن، فلقد بقيت 18 عامًا مقيد الحرية، لا أستطيع إبداء رأي، فضلاً عن إعلانه. لذلك، عندما ردت إلى حريتي، رأيت أن أسجل الأحداث التي عاصرتها خلال السنتين والأربعة أشهر، عندما قمنا بحركة 23 يوليو، وتوليت فيها المسؤولية… فأنا لا أبدي رأيًا في عهد غير عهدي، ولا أتعرض لواقعة لم أشهدها. إنها مجرد ملاحظات لشاهد عيان.. وهل يمكن أن تكشف حقائق التاريخ إلا من خلال رواية شهود عيان؟
- ولكن هذه ليست المرة الأولى يا باشا؟ هناك كتاب نشر باسمك باللغة الإنجليزية عنوانه “قدر مصر” قيل إنه من تأليف “ليه وايت”. وقد راجعناه مع مذكراتك، فوجدنا فيه بعض الاختلافات في وقائع معينة.
هذا الكتاب لم يكن من مذكراتي، ولم يعرض على قبل نشرة، وأنا غير مسؤول عن أي اختلافات. والذي ورد في مذكراتي التي ستنشرونها هو الحقيقة. أما هذا الكتاب، فقصته أن مستر ليه وايت كان قد التقى بي أثناء رئاستي، فأمليت عليه في أكثر من جلسة، بعض أحداث ذلك الحين، في حدود التي يسمح لي بها في منصبي الرسمي وقتها. وقد طُبع الكتاب وأنا معتقل.
ورد في المذكرات التي ستنشرها، أنك اعتقلت أثناء العدوان الثلاثي على مصر.. ويقال إنه كانت هناك نية لإبعادك عن القاهرة كي لا يتمكن الإنجليز من تشكيل حكومة برئاستك، كما كانت الصحف الغربية تلوِّح دائمًا بأنك البديل عن حكم الرئيس عبد الناصر.. فهل جرى اتصال معك بهذا الشأن، وهل كنت على استعداد لتشكيل حكومة في ظل انقلاب يدبره الغرب؟
كيف يمكن أن يحدث مثل هذا الاتصال، وقد كنت معتقلاً تحت حراسة من 200 عسكري و4 ضباط، ولا يسمح لي باستقبال زائر إلا بحضور ضابط يبقى معنا حتى انتهاء الزيارة؟ وهل يعقل أن أستعين بأجنبي على أبناء وطني، وأنا الذي قضيت عمري في تحرير هذا الوطن من الاحتلال البريطاني؟ وإنني أفضل الموت على قبول رئاسة حكومة في ظل احتلال أجنبي، أو بالتواطؤ مع أجنبي. ولكن الاستعمار يسعى دائمًا إلى زرع مثل هذه الشكوك ليمزق الصف الوطني..
وسكت لحظة ثم استطرد: لقد حاول الأمريكيون فعلاً أن يتصلوا بي.. حدث ذلك مرتين، ولكن كان ذلك وأنا رئيس للجمهورية وليس تحت الإقامة الجبرية. لقد اتصل بي أحمد عبود باشا في المرة الأولى. والمرة الثانية المرحوم سعيد الكردي رئيس الأركان السعودي سابقًا. وقد أبلغني كل منهما أن المخابرات الأمريكية لديها معلومات بأن عبد الناصر يسعى إلى عزلي، وأن الحكومة الأمريكية مستعدة لتأييدي بكل الوسائل من المخابرات وأموال ونفوذ. وقد استأت من هذه الأحاديث لدرجة أني هددت عبود باشا باعتقاله إذا عاود الحديث معي في هذا الموضوع. ورغم صداقتي مع سعيد الكردي، الذي عمل تحت قيادتي في حملة فلسطين عام 1948، فقد لُمته على مفاتحتي بهذا الموضوع، وقلت له “هل ترضى أنت يا سعيد أن أستعين بالأجنبي لأبقى في الحكم؟” وقد عرفت بعد ذلك أنها لعبة أمريكية، وأن كلامًا مشابهًا قيل لغيري.. كنت معتقلاً قبل عدوان 1956، والذي حدث عندما وقع العدوان أنني نقلت من المرج إلى طما في صعيد مصر بمديرية سوهاج حيث بقيت 59 يومًا.
- لو قُدر لك أن تستمر في حكم مصر، ونجحت في إعادة الأحزاب، كما تقول في مذكراتك أنك حاولت ذاك عام 1954 ألا يعني ذلك تصفية الثورة؟ وهل كانت الثورة لعزل الملك فقط، أم لتغيير النظام السياسي بكامله؟ ولماذا وقَّعت قرار حل الأحزاب، وأنت كما تقول تؤمن بالنظام الحزبي؟
أنا لا أومن بالنظام الحزبي، بل كنت مؤمنًا بالنظام الدستوري وحرية الشعب. وقد قامت الثورة لإعادة الحياة الدستورية على أسس قويمة، لأن الشعب هو صاحب الحق الأول في تقرير نوع الحكم الذي يرضاه. ولكن أردنا تطهير الأحزاب من الذين أساءوا إلى الحرية والدستور والوطن، في مواقف كثيرة قبل الثورة. وكنت أعتقد أنه بعد الإصلاح الزراعي، والقضاء على سيطرة رأس المال والاقطاع، سيصبح الفلاحون والعمال أحرارًا في الإدلاء بأصواتهم، دون التأثر بالإقطاعيين أو الرأسماليين وغيرهم. فلما أصرت الأحزاب، وماطلت في تطهير نفسها، ولجأوا إلى القضاء، تمسكًا منها بهؤلاء الأفراد الفاسدين، اضطررت إلى توقيع قرار حل الأحزاب في فبراير 1953، على أمل أن تعود الأحزاب مرة أخرى بعد تطهيرها، وبعد أن تحرر المواطن من سيطرة رأس المال والإقطاع والاستعمار. وفي عام 1954 تبدل موقف الأحزاب، عندما أدركت أن الدكتاتورية العسكرية ستكون البديل فيما لو استمرت على ما كانت عليه.. فحاولت أن تتلاءم مع أهداف الثورة، ووضعت برامج جديدة، وأبعدت العناصر التي أساءت إلى الوطن. وأنا من جهتي رأيت أن من مصلحة الثورة إبعادها عن مزالق الحكم العسكري، لذلك فضلت أو على الأصح تمسكت بعودة الحياة البرلمانية، بعد إبعاد غير المرغوب فيهم. وكان من رأيي تشكيل لجنة من بعض القانونيين والاقتصاديين: فريد أنطون، وعبد الجليل العمري، وعبد الرزاق لسنهوري أو سليمان حافظ لا أذكر، وغيرهم، لوضع نظام تقوم على أساسه جمعية تأسيسية تضع الدستور الجديد. وكان هذا المشروع ينص على تطهير الأحزاب، وإبعاد العناصر الفاسدة التي عطلت الحياة الدستورية، أو أساءت للوطن، أو كانت موالية للاستعمار. وعندما عُرض المشروع على مجلس الثورة، وافق عليه 7 من 12، ولكن بعد مناقشات طويلة، قالوا “إذا كان لا بد من عودة الأحزاب، فليس من حقنا أن نكون أوصياء عليها.. ويجب أن تعود بدون شروط، أما المضي في خط الثورة، وإلغاء الأحزاب”. واقترحوا الإفراج عن المعتقلين السياسيين: النحاس والهضيبي وأحمد حسين وعبد القادر عودة. وقلت لهم “أنا موافق على الإفراج، وموافق على عودة الأحزاب”. لقد قبلت ذلك، لأنه بدا لي أنه أفضل من حكم العسكري.
القوس الثالث: دور المخابرات الأمريكية
هل يمكن، على ضوء ما تعرضت له، أن تصدر حكمًا موضوعيًّا على إيجابيات الثورة؟
أشهد الله أن ما تعرضت له شخصيًّا خلال فترة اعتقالي لم يترك في نفسي أي حقد تجاه أي إنسان، فالحقد ليس من طبعي. وكل إنسان حر في آرائه السياسية. والخلاف في الاجتهادات مشروع. ولن يكون اعتقالي سببًا في أن أنكر إيجابيات الثورة.. إيجابياتها كثيرة؛ منها قانون الإصلاح الزراعي الذي أعاد ملكية الأرض للفلاحين، وقضى على تسلط الإقطاعيين. وكذلك إقامة السد العالي الذي تقرر تنفيذه أيامي. وتأميم القناة، وهي رغبة كانت تراود كل المواطنين في مصر. وأذكر أننا كنا ننظم محاضرات في نادي الضباط في أول الثورة، ندرس فيها كيف نستولي على القناة سليمة ونمنع تخريبها. وقد أبرقت للرئيس عبد الناصر أكثر من مرة مهنئًا عندما كان يتخذ قرارات لمصلحة الوطن.. أبرقت له عام 1956 عندما أمم القناة. وأبرقت له عندما قامت الوحدة مع سوريا. وأبرقت له عندما وقع عدوان 1967، وقلت له: إني أضع نفسي تحت تصرفكم، ومستعد لأن أقوم بأي عمل للدفاع عن البلد كفرد من أفراد الشعب. وفي كل المناسبات الوطنية، كنت أرسل له مؤيدًا ومتناسيًّا كل الأذى الذي كان عليَّ.
- مايلز كوبلند في كتابه عن عبد الناصر، المعروف باسم “لعبة الأمم” يزعم أن كرميت روزفلت (رجل المخابرات الأمريكية) اتصل بعلي صبري قبيل الثورة… ما معلوماتك عن هذا الموضوع؟ ومتى كان أول اتصال لكم بالأمريكيين؟
أنا لا أعلم بوجود اتصال من هذا النوع قبل الثورة. وإذا كان صحيحًا ما يقوله مايلز كوبلند فهذا لا علم لي به. علي صبري قبل الثورة لم يكن له حق الاتصال بأحد. فضلاً عن اتصال خطر مثل الاتصال بالأمريكيين. علي صبري لم يكن من الضباط الأحرار الأساسيين، ولكنه التحق بالثورة ليلة العملية. ليلتها عرفنا أن علي صبري على صلة بالملحق العسكري الأمريكي، وذلك بحكم وظيفته، إذ كان على صبري ضابط مخابرات الطيران، فكلفناه بإبلاغ صديقة الملحق العسكري الأمريكي أن حركتنا ليست ضد الأجانب، وإنها ستحافظ على أرواحهم وأملاكهم، وأنها حركة داخلية.
- كافري (السفير الأمريكي يومها)؟
رأيته أول مرة على ميناء سراي رأس التين بعد وداع الملك فاروق.
وبعد ذلك؟أول اتصال مع كافري كان في بيت عبد المنعم أمين (أحد الضباط الأحرار) وفي حفلة عشاء حضرها كرميت روزفلت، ولم أكن أعرفه. كما حضرها أمريكيان آخران لا أتذكر اسميهما. وحضرها من الجانب المصري جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وزكريا محيي الدين وعبد اللطيف البغدادي.
- وهيكل؟ يقول مايلز كوبلند إن الأستاذ هيكل كان واسطة التعارف في منزل عبد المنعم أمين.
أبدًا، هيكل لم يكن معنا. أنا الذي عرفت هيكل إلى عبد الناصر يوم 18 يوليو، أي قبيل قيام الحركة بخمسة أيام. كنا نعيش أزمة ناي الضباط. واستدعاني وزير الداخلية محمد هشام باشا زوج ابنة حسين سري باشا رئيس الوزراء، فتوجهت إلى بيته، حيث سألني عن سبب التذمر. وهذه الواقعة أشرت إليها في المذكرات. وكان هيكل يومها مخبرًا (صحفيًّا) في مجلة (آخر ساعة)، وجاء يسألني ما دار في المقابلة. وبالصدفة جاء عندي البكباشي محمد جلال ندا. وبالصدفة جاء عبد الناصر. فأخبره جلال ندا أنه رفع قضية ضد الحكومة بسبب إقفالها نادي الضباط، وأنه دفع رسوم الدعوى. فأجابه عبد الناصر “لماذا تدفع وحدك الرسوم؟ نحن جميعا متكفلين بها”. ومد يده في جيبه، ليخرج محفظته، فقال له البكباشي ندا “الحكاية لا تستحق. كل الرسوم لم تجاوز الجنيه”. ويبدو أن هيكل بحاسته الصحفية أدرك أن عبد الناصر هو أحد الشخصيات الهامة بين الضباط. وكنت أعلم حب هيكل للتعرف بالضباط، فلما طلب مني أن أعرفه بعبد الناصر، قدمته إليه. وكان ذلك أول لقاء بينهما!
- ومتى عرفت أنت هيكل؟
عرفته أيام حملة فلسطين، بعد معركة أشدود. ولما عدنا من فلسطين، كنت أتصل به في “أخبار اليوم”.
- إذن كانت معرفتك بهيكل ترجع إلى عام 1948، وصلته بك تسمح بتردده على بيتك، والاتصال به في أخبار اليوم فلماذا رفضت بعد أن أصبحت في مركز الرئاسة، أن تقابله؟
نعم، رفضت مقابلته 4 مرات، لأن المخابرات المصرية قدمت لي تقريرًا عنه جاء فيه أنه متصل بالأمريكيين، وأنه كان يتقاضى مرتبًا شهريًّا من عبود باشا.
- وهل صدقت ما جاء في التقرير؟
بصرف النظر، لم أكن أحب أن أحيط نفسي بشبهة.
- يقول هيكل إن الرئيس جمال عبد الناصر ائتمنه على كتابة التاريخ… هل تعتقد أنه كفء لمثل هذه المهمة؟
لا أعتقد.
وسكت اللواء محمد نجيب لحظات، أشعل خلالها غليونه، ثم التفت إليَّ وقال مبتسمًا: هل تعتقد أنت؟
وضحكنا معًا..
- ورد في مذكراتك أنك لم تكن راغبًا في تصعيد الموقف مع إسرائيل، لذلك لم ترد إسرائيل في جدول أعمال الثورة الأول. وبزعم كوبلند أن هذا كان من ضمن الاتفاق الأمريكي مع الثورة.. فعلي أي أساس استبعدتم إسرائيل؟
أولاً لم تستبعد، ولكنها أُجلت. وقد شرحت ذلك في المذكرات. كان رأيي أنه لا يمكن أن يعبر الجيش المصري القناة وهي محتلة من قبل الجيش البريطاني، لأن ذلك سيجعل مؤخرة الجيش المصري مهددة في أي وقت. وثانيًا لأننا كنا نفرض حصارًا على إسرائيل بموجب قرار من جامعة الدول العربية. وكانت إسرائيل تعاني من هذا الحصار، وتسعى إلى إزالته بالتحرش بالعرب. ثالثًا، لم نكن قد تسلحنا ولا بنينا جيشًا قادرًا على المواجهة. رابعًا، الحرب مع إسرائيل قد تؤدي إلى حرب دولية. وفي اعتقادي أنه لا يمكن خوض حرب ناجحة ضد إسرائيل إلا بعد أن تتحد الجيوش العربية تحت قيادة واحدة، وبعد أن يتم تحرير أرض مصر من جيوش الاحتلال، والنهوض بشعبها لبناء دولة قوية تستطيع أن تقيم وحدة في المنطقة. فإذا تم ذلك، فإنه كفيل بوضع إسرائيل في حجمها الطبيعي، وستجد نفسها غير قادرة على البقاء إلا إذا اعترفت بحقوق الفلسطينيين.
- وماذا عن رواية كوبلند؟
غير صحيحة. كوبلند لم يكن يكتب تاريخًا، فالتاريخ لا يكتبه عملاء المخابرات الأمريكية.
- كل الروايات مجمعة على أن الرئيس عبد الناصر كان الزعيم الفعلي لحركة الضباط الأحرار. وأن دورك اقتصر على إعطاء الثورة وجهًا محبوبًا في الجيش.. وقلت أنت في المذكرات “إن عبد الحكيم عامر هو الذي اكتشفك عرف عبد الناصر بك قائلاً “لقد عثرت في اللواء محمد نجيب علي كنز عظيم”، فمتى اتصلت بتنظيم الضباط الأحرار؟ وماذا كان دورك الفعلي قبل 23 يوليو؟
أنا لا أحب أن أدعي لنفسي أنني أنشأت حركة الضباط الأحرار،مع أني كنت على اتصال بالحركة منذ أيام حرب فلسطين عن طريق عبد الحكيم عامر الذي كان ضابط أركان حرب أحد اللواءين اللذين كنت أقودهما في فلسطين. وقد طلبت منه، هو وجمال عبد الناصر، أن يعملا في السر على إنشاء خلايا الضباط الأحرار، بحكم أنهما شابان، أما أنا فكنت القائد الثاني للقوات المصرية في فلسطين. ولم يكن من المعقول أن أتصل بصغار الضباط وأؤلف منهم الخلايا، لأن ذلك كان سيثير الشبهات. وأنا كنت أعرف معظم الضباط الأحرار شخصيًّا.
- كانوا في التنظيم قبلك، ومتى بدأ التنظيم؟
حتى أثناء حرب فلسطين، كانت المناقشات تدور بين صفوف الضباط حول الفساد في الجيش والبلد. ومع الوقت تألفت الخلايا.. وعلى العموم، أنا لا يهمني أن أقول (عملت الضباط الأحرار). في كل الحركات السياسية تتحدد مراكز الرجال بحجم الأدوار التي يقومون بها في المرحلة المعينة٠ وقد انفجرت الثورة المصرية بعد معركة نادي الضباط، عندما تحدينا الملك علانية. وكنت أنا قائد هذه المعركة ضد مرشحي السراي.. فهل كنت من البلاهة بحيث انضم إلى مجموعة من الشباب لا أعرفهم لقيادة معركة ضد الملك؟ وهل كان يمكنهم أن يثقوا بي لمجرد أنني محبوب في الجيش؟ لقد فزت في الانتخابات بتسعين في المائة من أصوت ضباط الجيش؛ بينما لم يكن عدد الضباط الأحرار يزيد عن مائة ضابط.
صدقت.. لكل مرحلة رجالها. ولعل التاريخ يصبح أقل إيلاما لو تقبل الرجال ذلك… ولكن المعروف أن لكل حركة ثورية أفكار ومبادئ سياسية معينة، ومذكراتك لا تكشف عن برنامج وأضح.
لقد حرصت في (كلمتي للتاريخ) -عنوان المذكرات- على الكشف عن فترة من تاريخ بلادي، ولكن الذي لا شك فيه أنه عند قيام الثورة، كان لنا فكرنا ومبادؤنا التي لخصناها في النقاط الستة الشهيرة.
- هل تسمح لي يا باشا، أن أقول لك بصراحة إن الذي سيقرأ مذكراتك سيخرج بانطباع أنك تهدف إلى النيل بها من الرئيس عبد الناصر…
هذا انطباع خاطئ، فلم يخطر في بالي أن أسيء لا لعبد الناصر ولا لغيره. لقد كتبت وقائع ما حدث فعلاً، وبالذات الوقائع التي عشتها أنا. لم أكتب عن عهد عبد الناصر حتى يقال إنني أريد تشويه وقائع هذا العهد. بل كتبت عن عهدي أنا، لأن كثيرين كتبوا. وأنا وحدي الذي لم أتكلم من قبل. وكما قلت لك فالتاريخ ليس حقيقة واحدة بل مجموعة حقائق.. ولا وجهة نظر واحدة؛ بل وجهات نظر متعددة؛ وأنا لا أخلط بين الوقائع والانفعالات الشخصية، وأومن أن الخلافات السياسية يجب ألا تفسد العاطفة الإنسانية. فعندما علمت أن جمال سالم يحتضر، وهو أكثر من أساؤوا إليَّ، وأنه يطلب رؤيتي لأسامحه، زرته. ولم يصدق عينيه عندما رآني، وبكى ثلاث مرات وهو يقول (سامحني يا نجيب.. أنت مش إنسان أنت ملاك).
وهنا توقف الباشا عن الكلام، ثم قال: بلاش قصة ملاك. مش حلوة. خلوا سيد مرعي الذي كان حاضرًا يروي هذه القصة. واستطرد: السياسة قد تجعل الأخ يختلف مع أخيه، كما حدث بين أحمد ماهر وعلي ماهر، ولكن هذا لا يمنع أنهما شقيقان.
- متى رأيت الرئيس جمال عبد الناصر آخر مرة؟
يوم 14 نوفمبر 1954 في بيته. وبعد ساعة واحدة، كنت قد اعتقلت ووضعت في الإقامة الجبرية في (المرج). ولم يزرني بعد ذلك أحد، إلا حسين الشافعي بعد تولي الرئيس السادات الحكم.
القوس الرابع: جمهورية برلمانية لمدة ٨ شهور فقط
- ما نوع الجمهورية التي كنت رئيسًا لها؟ هل كانت أقرب إلى النظام الرئاسي أم البرلماني؟ بمعنى هل كانت السلطة لك أم لعبد الناصر رئيس الوزراء؟
كانت الجمهورية رئاسية حتى أزمة مارس 1954، لما عدت بعد استقالتي بثلاثة أيام، اتفقنا على أن تكون جمهورية برلمانية،أى السلطة لرئيس الوزراء… واستمر هذا ثمانية شهور من مارس حتى نوفمبر 1954.
- قلت في المذكرات إن نوري السعيد عرض عليك مشروع اتحادات إقليمية، وقال لك إنه من الأفضل أن تتحد مصر وليبيا والسودان، مقابل وحدة العراق والأردن وسوريا.. لماذا رفضت هذا المشروع؟
أنا من المؤمنين إيمانا قويَّا بالوحدة العربية. وإذا كنت قد رفضت مشروع نوري السعيد، فلأنني أؤمن أن الوحدة يجب أن تأتي وليدة قناعة الجماهير، وبناءً على طلبها، لا مفروضة من أعلى. فضلاً عن أن علاقات نوري السعيد بالبريطانيين لم تكن خافية على أحد.
- طلبت في نهاية مذكراتك أن تدفن في السودان؛ فهل ضقت ذرعًا بمصر إلى هذا الحد؟
لست أدري كيف يُفهم من رغبتي في أن أدفن في السودان أنه ضيق بمصر.. مصر هي وطني، ولا يخطر في بالي، ولو للحظة واحدة، لمحة ضَيق بها.. فما أساءت مصر إلى قط. ولكني أؤمن بأن مصر والسودان بلد واحد وشعب واحد. أريد أن أدفن في السودان، لأنه جزء من وطني، ولدت فيه، ونشأت بين ربوعه، وبين أهله الطيبين، وليكون ذلك تكريسًا للمعنى الخالد لوحدة وادي النيل.
- ما رأيك في الذي حققه الرئيس السادات من إنجازات حتى الآن؟ هل هي عودة لمبادئ 23 يوليو؟
كنت أتمنى أن أقول رأيي في الرئيس السادات دون أن أكون تحت تأثير المبادرات الكريمة التي اتخذها نحوي.. ولكن اختصر لك رأيي في السادات، رفيق النضال، وأحد الذين ألهبوا روح التضحية في نفوس الضباط الأحرار. أن أبرز صفات الرئيس السادات أنه غير متسلط، وأنه يعرف أن الثورة لم تقم إلا لإسعاد الشعب المصري، وأن كل قانون أو تشريع أو قرار يجب أن يستهدف هذه الغاية. فإذا لم تحقق التجربة خير الشعب، توجب إعادة النظر فيها والسادات ورث تركة ثقيلة، وهو يعيش الآن فترة تصحيح كاملة، ليعيد الثورة إلى ينابيعها الأصلية. والعودة عن التجارب الخاطئة فضيلة.. صفة أخرى أعرفها عن الرئيس السادات، هي إيمانه بالحرية والحوار. قد يخالفك الرأي ولكنه يؤمن بحقك في أن تقول رأيك. وما أحوجنا في هذه الأيام، وبعد تجربة قاسية كهزيمة يونيو، أن تفتح النوافذ لكل رأي، وكل وجهة نظر…
ومرة أخرى، أشعل الباشا غليونه، ثم قفزت فوق شفتيه ابتسامته المشهورة، وقال: هل تعرف أن والد أنور السادات كان صديقي وجاري في الخرطوم بحري عام 1918 و19 و20. كان يعمل في القسم الطبي بالجيش المصري في السودان. وكنا نصلي جماعة، الصبح والمغرب والعشاء. أما الظهر والعصر، فكانت المواعيد تختلف بيننا. واستمرت صداقتنا حتى توفاه الله.
- لمَّحت في مذكراتك الى أن ابنك قتل في حادث غامض في ألمانيا… هل تتهم أحدًا؟
غابت الابتسامة.. ووقف اللواء محمد نجيب، وفتح الباب، فتدفقت أكثر من عشرين قطة، وبضعة كلاب. وأحسست انني اخطأت بالسؤال. وأشار محمد نجيب إليَّ “كلبة” وقال:
- هل تصدق، أنني التقطت لهذه الكلبة صورة وهي ترضع قطة؟ وبدأ يعرض عليَّ مجموعة الصور التي يحتفظ بها. ثم أشار بيده إلى ما يشبه اللوحة التذكارية معلقة على جدار الغرفة، وراح يقرأ لي منها أسماء وأنواع وتواريخ ميلاد ووفاة الكلاب التي عاشت معه في عزبة المرج خلال الثمانية عشر عامًا.
وعند الباب ودعني وهو يقول: هل ستنشر هذا الحديث؟ وأجبت: طبعًا.. ولكن المهم أن تقرأه أنت.