السلطة تحتاج من يخبرها، وهذا هو المخبر؛ عين وأذن تشكلان جزءًا كبيرًا في منظومة مكونة من عين وأذن كبيرتين، تسمع وترى “السلطة“. المخبر قديم، ذو أصول مرصودة في تاريخ مصر القديمة. كما أن التاريخ الإسلامي حافل بسلالات من البصاصين، والاسم مرتبط بأداة ومهمة أن يكون عيناً تراقب الرعايا نيابة عن الدولة. المخبرين جزء من عملية أكبر في توسيع مجال السلطان والهيمنة. وفي تجسيد السلطة عندما يغيب وجودها المادي، وبهذا الحضور يضمن الولاء لساكن القصر، عبر تكوين شبكات وخلايا تساعده في عملية التلصص ذات المغزى الوطني.
قصتنا مع المخبرين طويلة، فهم البنية التحتية التي تخدم صاحب السلطة، ما داموا منتمين إلى الكود السري للطبقة الحاكمة. هذا الكود لا يفهمه سوى كهنة ومتخصصون، وعبر الزمن تحول إلى “حامض نووي” متخيل يتوارثه المقيمون في السراديب العميقة.تنام الشبكات وتصحو، بمزيج من الآليات المكررة والحساسية تجاه الأحداث والمستجدات، ولهذا تحوَّل المخبر الكلاسيكي في ذهن الناس إلى فقرة كوميدية، وفي المقابل هناك محاولات لتخصيب سلالات جديدة.
في هذا المجال سمعنا وصفًا طائرًا حائرًا لشخص ما في علاقته بأجهزة الأمن..القريبون منه يرتابون في أمره، هل “يعمل مع الأجهزة“؟ التهمة قديمة؛ حين تحوم التأويلات لكل من تتوثق علاقته بأجهزة الأمن بتنوعاتها وتبايناتها في المهام والأداء ونوع العلاقات. تظهر هذه الشخصيات منذ اختراع “القلم السياسي“، الذي أصبح أمن الدولة، ثم الأمن الوطني الآن. تطورت طبيعة العلاقات إلى مستوى جديد عند اختراع جهاز المخابرات في الخمسينيات على يد زكريا محي الدين؛ كانت تعاليم محي الدين مستوحاة، حسبما سمعنا، من تجربة أجهزة الأنظمة النازية والفاشية، في استخدام الجمهور للتحكم في الجمهور من أسفل، وكان أول استخدام لها بشكل ناجح محليًّا في 1954 عندما حدثت أزمة الديمقراطية الشهيرة بين محمد نجيب والضباط الأصغر رتبة بقيادة عبد الناصر.. هكذا يلعب مندوب التأثير في هذه المنطقة من ملعب الأجهزة لتكون منطقة تأثيره على الشارع. ولا يزالون يقسمون العالم ذهنيًّا بين الشارع والقصر، أو السلطة والشعب أو بين الحاكم والرعية. ثنائيات قديمة تسمح بفرضيات قديمة بأن مندوبًا سيكون مؤثرًا.علينا ألا نفترض تصورًا واحدًا لكل من نحتار في شأنه أن نعتبره “أمن” أو “أمنجي“، كاتب تقارير أو مخبر، موزع وشايات أو مخترق تنظيمات ومجموعات. في بعض الأحيان يصل المُتعامِل مع الأجهزة، مثلاً، إلى أعلى سلالم هذه التنظيمات ويتولى مواقع قيادية. كما أن الأجهزة ربما تفضل شخصًا لا يؤيد النظام، لتستخدمه عنصرًا يفتت أي تكتل مضاد لقرارات السلطة.وسنرى ألا أحد بعيد عن المراقبة في النظام، الكل قد يصلح للاستخدام. إن تأمّلنا كتاب الدكتور حمادة حسني “عبد الناصر والتنظيم الطليعي 1963-1971″ سنكتشف أن كل الأعضاء العضويين في الحكم تتم مراقبتهم من كل الأجهزة، التي في الحكم. كلهم يكتبون تقارير، بمن في ذلك أسماء لها رّنة في عالم المعارضة السياسية.من هذه السلالة ولد “مندوب التأثير” في منطقته الجديدة وسائل “السوشيال ميديا“، وليس الشارع. ليس شرطا أن يكون عازفًا فعالاً في جوقة التطبيل، بل أحيانًا يكون مطلوبًا منه أن يكون صاحب لمسة مشاكسة أو نبرة متمردة علي النظام، لكنه لحظة الجد يعرف كيف يصطاد جملة عابرة من عبارات التوجيه، التي يصرفها العقل النشط للجهاز.. هكذا يظن، الجهاز ومندوبه، أن العبارة ستمر، وتترسخ كأنها “رشاش” سيغرق 28 مليونًا يتعاملون مع “السوشيال ميديا” برسائل تعيد صياغة الرأي العام.