” ..كنت أريد التعرف على وطنية اخرى”
بهذه العبارة شرح النجم الأمريكي “جوزيف جودون ليفيت” لماذا لعب شخصية “إدوارد سنودون” في فيلم “أوليفر ستون” الذي قدم أول مرة في مهرجان تورنتو وعرض بالأمس في مهرجان الجونة.
“إدوارد سنودن” ملعون فى عقول عشاق المنظومات المغلقة (من الوطن إلى العائلة والشركة) بسبب نشره ملفات لوكالة الأمن القومي الأمريكي، تفضح عمليات تجسس منظمة في سريتها وشمولها على تليفونات وحسابات شخصية بالإنترنت في كل مكان بالعالم، أصبح “سنودن” رمزاً للخروج عن (المنظومة) ولعنة عليهاوالقطعان الدائرة في ملكوتها.
هل الفضيحة في “سنودن” الذي خان “مكان عمله” وفضح التجسس أم في التجسس نفسه؟ سؤال مربك للباحثين عن الاطمئنان تحت عناوين الوطنية والأخلاق وغيرها من مكسبات القوة والسيطرة للمنظومات المهيمنة على العالم.
من شدة الارتباك ، تردد “أوليفر ستون” نفسه، وهو محترف اللعب في هامش الغضب على “المنظومة “الأمريكية ومنذ كتابته لسيناريو “قطار منتصف الليل” وحتى فيلمه عن ١١ سبتمبر مرورًا بأفلام “ولد في الرابع من يوليو” و”وُلدوا لُيقتلوا”، يُعتبر أشهر من قدم أفلامًا في هجاء – أو نقد حسب الوصف الأكثر اتزانًا- ماتفعله الشعارات الكبرى من تغطية على العنف والقسوة، وربما كانت نبرة الهجاء نفسها هي سر شهرة “أوليفر ستون” ومكمن وقوفه عند مستوى يشبه إلى حد كبيرموقع “جون كينيدي” (وهو مخرج سيرته السينمائية) في “المنظومة الأمريكية”. ارتفاع نبرة “أوليفر ستون” على البناء أوقع فيلم “سنودن” تدريجيًا في فخ “الشكل البوليسي”، ربما ليثير التعاطف مع البطل الحقيقي للقصة والذي هرب غالبًا إلى روسيا، والتقى به “جوردن ليفيت” ممثله على الشاشة، في رحلة اكتشافه للوطنية الأخرى التي قال أنه حاول اظهارها في الفيلم مواجها “وطنية تكون فيها مخلصًا لبلدك بغض النظر عن أي شيء. فلا تسأل أي أسئلة”.
هذا هو الجحيم السري الذي تكلم عنه “أوليفر ستون” واصفًا فيلمه، وهو أيضًا المتاهة التي يدخلها الفرد كما صوره “كافكا” مثل فأر صغير لا يري أن حياته كلها أسيرة ما تبنيه “المنظومة” من أفكار وتصورات لا تسمح بطرح الأسئلة والنقد، وتصب اللعنة على كل من يخرج عنها.
“أوليفر ستون” تمنى أن يصدر عفو من “أوباما” عن “سنودن” بعد الفيلم، ولم يحدث، وردًا على الهجوم المضاد على “سنودن” – خائن/ هارب/ مجرم – كان رد ممثله “جوردن ليفت”: سيعود إذا ضمن محاكمة عادلة.
هكذا تسير”المنظومة” إلى هلاكها بعد أن تصنع من جبروتها جحيمًا، تدافع عنه باعتباره مع طول الألفة والنجاح والاحتكار هو حقيقتها المطلقة /الوحيدة.
وهذا من زاوية ما يمكنه الإفادة في الجدل الدائر حول ماقاله أحمد الفيشاوي في ليلة الافتتاح، عندما وصف شاشة العرض بكلمة من خارج كتالوج اللغة المألوفة في مثل هذه المحافل والاستعراضات، رغم أنها شائعة ومستخدمة في الحوارات اليومية على أوسع نطاق بما أنها تنتمي إلى قاموس الإحتجاج الذي يكاد يسيطر على لغات التواصل في كل المجا
لماذا أثارت كلمة “خرا” كل هذا الجدل؟ هل لعدم ألفتها؟ أم لأنها مثل إطلاق ريح في صالون برجوازي؟ هي فعل ثوري كما كان غلاة المزاج اليساري يتصورون؟ هل أفسدت الكلمة “الحفل المشرف” أم جرحت الأبهة والهيبة واكتمال الأوصاف في حفل الإفتتاح؟
أم أن المهرجان ومن خلفه الشركة / والعائلة /وصورة مصر لم يتحمل نقدًا لتجهيزات العرض في مهرجان سينمائي؟
الشاشة وكما تابعنا عليها مثلًا فيلم “موسيقى الصمت” وعروض أخرى ليست مؤهلة لعروض كبيرة في السينما، ربما تكون صالحة لعروض تسلية المصطافين المصيفيين، لكن تعرضها للهواء يجعلها تهتز اهتزازات تؤثر على الصورة، وكان يمكن من قبيل الروح الرحبة أن تتعامل إدارة المهرجان على أن كلمة الفيشاوي الصغير، دعابة أو حماقة تلفت نظرهم إلى خطأ، بدلًا من هبّةا الدفاع والإتهام التي أجبرت مخرج الفيلم علي إصدار بيان يتبرأ فيه من ممثله، حفاظًا على ما يتخيل أنه صورته النقية أمام الجمهورومنظومته، فشارك في إدانة الممثل، ووضعه في إطار”الملعون الذي لا يدافع عنه أحد”، وبالطبع لم يتحمل أحمد الفيشاوي”الخروج ” عن المنظومة المسيطرة على المجال واعتذر مؤكدًا على أن “كل شيء على شاشة الجونة”
هل أصبحت الشاشة مناسبة للعرض وتوقف اهتزازها مع الهواء بعد الإعتذار؟
كان يمكن التعامل مع المهرجان الأول على أنه “تجربة” تحب الفن والمغامرة وتحتمل وقوع الفيشاوي الصغير في منزلق “فرويدي” يكشف عن جموحه ليس فقط عندما صعد في غير توقيته علي المسرح ولا في اختيار أوصاف للشاشة من خارج “اللغة المقبولة”، وذلك بدلًا من تعبير المهرجان عن “منظومة مغلقة” لا تحتمل انفلاتات الفنانين وحماقاتهم، خاصة وأنها تكيل الإعجاب لكل مايمثله الفن من فضاء حرية وإنسانية، وليس في تعبير الفن عن بروباجندا الهيام في منظومة أكبر
لا ننسى أن ننعش ذاكرة عشاق “المنظومات المغلقة”بما تسمح به السينما من “خروج” و”صدمة” لعل من بينها الصوت الشهير الذي أطلقه يوسف شاهين في فيلم “إسكندرية كمان و كمان”، والوصف المستخدم لهذا الصوت في اللغة اليومية: “شخرة” تصدر
.”وهذه ليست الوحيدة في أفلام يوسف شاهين هناك “شخرة” أسبق للفنان “الخلوق” عزت العلايلي في فيلم “الاختيار”هذه ليست الوحيدة في أفلام يوسف شاهين هناك “شخرة” أسبق للفنان “الخلوق” عزت العلايلي في فيلم “الاختيار
هل هناك أخلاق أخرى؟
أخلاق غير التي تحتفي وتهلل ويرعبها النقد والأسئلة، وتثور على اللفظ لتنسى الأزمة /الكارثة /الجريمة التي كانت سببًا في اصداره؟
“الجونة” مبادرة مهمة، لأنها أهلية خارج نطاق الإرادة الحكومية ، وستزداد أهميتها إذا حافظت على روح مختلفة ، سرعان ما ستتبخر إذا ضجرت ” المنظومة ” وأظهرت أنيابها ، لكونها تشعر بالتهديد من أي ملاحظة أوعقبة في طريق محاولة ترميمها لنفسها، او دعايتها لكل هذا القديم الذي تريد استعادته.
.الشاشة بالفعل مزعجة لنوع من عشاق السينما، حتى أنها لم تجعلنا نستمتع بالعذاب الممنهج في فيلم “موسيقي الصمت” فالفيلم الممل كأنه ويكيبيديا مصورة، لم يحرمنا من صوت وموسيقي “بوتشيلي” المحببة إلى النفس، لا تدافعوا عن أخطاء تقوي منظومتكم لكنها ستجعلكم تدورون في نفس المتاهة: الجبروت الذى يختفي الفن منه تدريجيًا