بعد يوم طويل من المحاضرات المتلاحقة، فيوم الاثنين مجمع فيه جميع محاضرات النظري بالمعهد العالي للباليه، أنا الآن في طريقي إلى مرسم فارس؛ أحد أصدقائي المقربين. اعتدت الذهاب إلى هذا المرسم الذي يتدرب به فارس وزملاؤه بكلية الفنون الجميلة، الذين أصبحوا أصدقائي مع الوقت.
ستستغرق الرحلة قرابة الساعة من الجيزة إلى مصر القديمة، وبالتحديد منطقة الفسطاط المليئة بالمراسم والبازارات. ركبت المترو في رحلتي، التحمت أجساد راكبي المترو، لا سيما في ساعة الذروة، ارتهنت صورة كتلة البشر المتحركة مع مداخل المترو ومخارجه، بحديث صديقي فارس عن الفيلم الذي سنشاهده في المرسم. حدثني فارس منذ يومين عن الفيلم وأذكر أنه يحمل اسم “كتلة/ Mass”، أعرف أن كلمة “Mass” يمكن ترجمتها ككتلة أو قداس، فالحركة الجماعية كالطقس المقدس، مجموعة من البشر يتحركون في اتجاه واحد وينتشرون في الأرض، كما هو حال النمل المجتمع لتأدية مهمة بعينها، ومن ثم ينطلق كل منهم في طريقه لاستكمال مهمته المنوط به تنفيذها.
لم أشعر بالرحلة خلال تفكيري، من درب إلى درب، ومن زقاق إلى زقاق، وجدت نفسي داخل المرسم في قلب القاهرة القديمة، لم ينتظروني، فقد شغلوا الفيلم. وصلت مع بدايته وشعرت بالانتصار، أسرني وهج اللقطة الافتتاحية للفيلم، بصيص نور يحاول أن يجد لنفسه المجال للظهور من بين أوراق الصحف الملتصقة، ويد بشرية تحاول لمس الضوء في نعومة.
من شخص إلى مجموعة هذا ما يفسر الكتلة، مجموعة من الأشخاص يتحركون كالسرب المتجمهر، خلال العشر دقائق، مدة الفيلم، تباينت الحركات فتارة يصبحون كتلة متماسكة وتارة أخرى متصارعة، عكست التآلف والتوحش بين البشر وبعضهم، ذكرني هذا برقصات موريس بيجار، كم أحب هذا الرجل ورقصاته؛ امتازت رقصات بيجار بحيوية الرقص وروح الصوفية وهو ما منحها حركة سلسة تشابهت مع أشكال الرقص المعاصر التي قدمت في الفيلم وعكست الحركات داخل الفيلم التركيز على الكتلة وثقلها وتأثيراتها، ففي لحظة تصبح في خفة الريشة وأخرى كالحمل الثقيل.
مع انتهاء الفيلم أشعل فارس، مقبس النور، يا له من نور كثيف! دار النقاش سريعًا بين الحاضرين للعرض، تحدث أحدهم عن التجريد في الفيلم، وكيف استغل المخرج فو لو مكونات بسيطة للتعبير عن أفكار متباينة بهذا الشكل، فموقع التصوير المقارب لجراچ كبير خالٍ تملؤه الحركات الراقصة، كما لو كان قاعة مسرحية تعطي الممثلين رحابة للتعبير عن تكويناتهم الجسدية.
التفت لوجود دكتور حازم أحد أساتذة فارس في الكلية الذي التقط خط الحديث، قائلًا “هناك توظيف جيد للجسد ولغته من خلال حركات مزجت بين الرقص المعاصر والتعبير الحر، تزامنت مع إيقاعات الفيلم المتسارعة، كما عكست ملامح المؤديين حالات شعورية متباينة، فهذه التعبيرات يمكن أن نراها في الشارع أو الحرب أو جلسة عائلية أو حتى في المترو”.
المترو، إنها فرصتي للحديث، قاطعت دكتور حازم وأنا في ذيل القاعة الدائرية وأردت التعبير عن أفكاري بطريقة منمقة على غير عادتي وقلت “عبر المخرج عن الأزمات التي يعيشها الإنسان بأسلوب ما بعد حداثي، وجعل حركة الجسد والتكوينات الجسدية اللغة التي يتم التواصل بها مع المشاهد، ولم يغفل الوعي الجمعي لنا كبشر واقعين تحت التأثيرات والانفعالات نفسها”.
غمزني فارس باسمًا ثم قال “ما جذبني للفيلم هو حركة الكاميرا السلسة والتعبير الطبيعي من خلال استخدام ضوء النهار الطبيعي، ما منح الصورة ديناميكية مدروسة، فأغلب الفيلم متحرك، من خلال حركة الكاميرا وحركة الممثلين، مع هذا هناك لحظات بها ثبات يدعو للتأمل، وأظن أن هذا هو ما يريده صانع الفيلم”.
دعم رأي دكتور حازم ما قاله فارس وقال “أكثر ما أعجبني في هذا الفيلم هو الشوت الواحد الذي استخدمه المخرج، فالعشر دقائق لقطة واحدة طويلة متباينة المشاعر والمواقف، وهو ما يضيف إلى الفيلم قيمة جمالية أخرى، إلى جوار الموسيقى ذات الإيقاعات المتحركة التي أضفت على الفيلم ديناميكية توازنت مع حركة المؤديين”.
خرج أحدهم بسؤال تفكرنا فيه جميعًا، إذ قال “هؤلاء البشر كانوا معًا ويتحركون ككتلة واحدة في كل تصرف حتى وإن كانوا يحملون العداء أو التوحش تجاه بعضهم، فهل تكون الجماعة نقمة أحيانًا؟!”، غلب الصمت القاعة، وتذكرت حديث دكتور شوقي بالمعهد اليوم حينما كان يحدثنا عن علم النفس الإبداعي، وقال “إن الفنان يتحرك بناءً على ما يحمل من مخزون ومعرفة مسبقة، حتى وإن كانت قابلة للتغيير مع الوقت، لكنه ينطلق مما تلقاه ممن حوله وما حوله، لهذا يعتبر الفرد جزءًا من الجماعة ويعبر عنها حتى وإن اختلف معها”.
شغلني التفكير في هذه العلاقة المتبادلة ما بين الفرد والجماعة، فالكتلة الحركية في الفيلم نابعة من الأفكار المتقاربة للجماعة نفسها، ولم أنتبه إلى دعوة فارس الحضور لمشاهدة المعرض المُقام بالمرسم، وهي رسومات رسمها هو وزملائه من وحي الفيلم الذي شاهدناه، لكني لملمت فكري وانطلقت مع الآخرين لنقارب بين الفيلم والرسومات التي غطت جدران المرسم كما هو الحال مع أوراق الصحف التي حاول بصيص النور اختراقها.
أمنية عادل
أمنية عادل، ناقدة سينمائية
طُوِّر هذا النص من خلال فراشات لا تجري نحو الضوء، وهي ورشة عمل حول نقد الأفلام الإبداعية التي عقدت في يوليو 2019 كجزء من مهرجان القاهرة التاسع للفيديو. المزيد من المعلومات حول الورشة هنا.