“الوطن ليس شرطاً أن يكون أرضًا كبيرة، فقد يكون مساحة صغيرة جدًا حدودها كتفين.”
ظلت تلك الجملة لغسان كنفاني عالقة برأسي طوال رحلتي وأنا أحلق فوق أراضي واسعة، لا أستطيع أن أجزم إلى من أو أين تنتمي، هل كانت خاضعة لإقطاعيِ كبير أم أممها عبد الناصر، فأعطاها لأسرة فقيرة؟ أيمتلكها فرد واحد؟ مجموعة؟ دولة؟ ما هي الحدود السياسية التي تقسمها؟ لماذا أستطيع أن أرى تخطيطًا فريداً مثل كراسة رسم بداخلها تقسيم دقيق لمساحات الأراضي المختلفة وطرق التعامل معها، كما لو كانت قد خطتها أيدي عليا قررت أين يبدأ وإلى أي حد يستمر كل لون في الامتداد؟
لا أدري كم سنة غبت عن الديار.
أنا طائر بسيط، أرى جيدًا بعيناي ورغم ذلك لم يثقوا في منظوري الطبيعي فأضافوا لي أعين تستطيع الرؤية، المراقبة، التقصي، التحليل والتسجيل. لا اعرف ما الذي يسعى الإنسان لتسجيله من زاوية رؤيتي، فهي زاوية بعيدة عن منظور وحدود رؤيته، لماذا يريد أن يرى ما لم يسمح له به؟ يدور هذا السؤال بذهني طوال رحلاتي من والى نفس الأماكن كل عام، كان يترآى في بداية الأمر أنها رحلات شيقة… التنقل المستمر في نظر البعض يقلل من رتابة الحياة ويبعث في النفس شعوراً أعجز عن وصفه. فالتنقل بالنسبة لي هو شئ ممل جداً لا ادري لماذا، ربما لاني اسافر من وإلى نفس الأماكن منذ ولدت إلى أن أفارق هذا البعد من الحياة ، فالطيور لا تموت ولكنها تحلق بعيداً، ذاهبةً إلى بعد آخر لم أدركه بعد، والذين ادركوه لم يرجعوا إلى بعدنا الحالي ليخبرونا عنه. رغم تركيزي الدائم في المشاهد التي أمر فوقها من أراضيِ زراعية لبيوت اسمنتية لأنهار وقنوات مياه إلا أنني لا أقدر على حساب الأيام، ف الأيام في قاموسي هي تعاقب الليل والنهار بشكل روتيني، يخلو من الإبداع. طالما كان هناك إبداع بسيط في تباين الألوان بين الشمس والسماء والمزارع الخضراء، تلك التي كنت أمر عليها كثيرًا واتعجب من مدى ازدهار الألوان وعدم بهتانها رغم الزمن. رغم انني اعتادت عيناي على تغيير الألوان وشحوبها إلى أن تصل إلى الرمادي وتختفي. كم من اراضٍ حلقت فوقها وكانت خضراء، وفي رحلات اخرى انطفئ لونها وشحب، وبمرور الرحلات والشهور والسنين يبدأ اللون الرمادي الخرساني بالظهور وتبدأ البنايات بالنمو متجهة نحوي كما لو كانت تريد أن تحلق معي.
رغم ذلك لماذا تظل بعض الأراضي ذات رونق خاص ولون أخضر مميز تجذب انتباهي من على بعد أميال وأنا معلق بين السماء والأرض؟
لا تحدثني عن الكلوروفيل ودوره في اخضرار الأوراق، كم من نبتة ماتت وانتهى الكلوروفيل من أوراقها ومالت للاصفرار والشحوب والتعب؟ لا تحاورني بالعلم، أنا مجرد طائر أحلق لأرى الأمور من منظور أبعد لم يكن من اختياري، كما لم يكن اختيار الأرض أن يذبل خضارها وتتحول لمساحة من الخرسانة، منظور عين الطائر كما كانوا يعلمونكم في المدارس الفنية خلال محاضرات الرسم الهندسي. أنا ممتن جدًا لاهتمام الإنسان رغم كل الزوايا التي يستطيع أن يتطلع على المشاهد من خلالها، ولكنه يهتم برؤية العالم من منظوري أنا، فقد اخترع الاجهزة التي يسرت له تسجيل ما أراه، ليطلع عليه مرارًا وتكرارًا في أي وقت وأي مكان، ولكني امتلك مالا يمتلكه الإنسان، فأنا اطير واحلق بعيداً، دون أدوات، طائرات أو استعدادات نفسية للرحيل. أهاجر كل عام سعيًا وراء المأوى والغذاء، عشت حياتي احلق بين هنا وهناك، لدي استعداد تلقائي للتحرر من القيود والتحليق دون انتظار. أنا اقوى من انتظار استعداد نفسي للرحيل، ولكن .. احتاج استعداد نفسي للتأقلم على الألوان الخرسانية الجديدة، ألوان حلت محل الكلوروفيل الأخضر الذي طالما ملأني بالحيوية والنشاط. وإذا سُئلت عن مفهوم الوطن مرة أخرى سأجيب كما أجاب غسان على صفية حينما كان راجعًا إلى حيفا، فقال “الوطن هو ألا يحدث ذلك كله.”
هند معاذ
هند معاذ، فنانة بصرية متعددة الوسائط، تعمل بالقاهرة منذ 2016. تخرجت في كلية التربية الفنية عام 2018، ثم التحقت ببرنامج ستديو روزنامة لمدة 6 أشهر. يعتمد شغل معاذ على البحث التاريخي والأنثروبولوجي والفني. عرضت أعمالها في معارض جماعية بمصر بما فيهم روزنامة 6 و7، وموبيليتاتاتي وكايرو 360 في سويسرا، كما عرضت بالنسخة الثامنة من مهرجان القاهرة للڤيديو، وكايروترونيكا بمصر، ومهرجان ماداتاك بمدريد، إسبانيا، ومهرجان تايم لاين بالبرازيل.
طُوِّر هذا النص من خلال فراشات لا تجري نحو الضوء، وهي ورشة عمل حول نقد الأفلام الإبداعية التي عقدت في يوليو 2019 كجزء من مهرجان القاهرة التاسع للفيديو. المزيد من المعلومات حول الورشة هنا.