هذا المقال هو أحد المداخل المرحة للثورة الوطنية الكبرى 1919 ، المرحة للغاية.. يكتب محمد عبد القدوس عن التظاهرة الوحيدة التي شارك بها في حياته التي امتدت لما يزيد عن ثمانين عامًا.. محمد عبد القدوس (1888-
1969) الممثل والعازف ومغني المنولوجات، الذي تخرج في المهندسخانة، وكانت نشأته في بيئة محافظة لأب أزهري يمنع بناته من الخروج للبلكونات، لكنه خرج عن كل المألوف، وتزوج من نجمة عصرها التي خرجت عن المألوف كذلك فاطمة اليوسف المعروفة باسم روز اليوسف، فقاطعه والده تمامًا لزواجه من مشخصاتية، فترك البيت وعمل هو أيضًا مشخصاتيًّا.
هنا، قرر المشخصاتية “أسوة بجميع الطوائف” من الشعب الثائر القيام بتظاهرة في استقبال سعد باشا ورفاقه العائدين من المنفى، في البداية كانت التظاهرة وكأنها كذلك؛ هيا نلبس ملابس تناسب الحدث، ونتجه إلى المحطة لاستقبال الزعماء، لكن المشهد انقلب غمًّا، وهاجم الإنجليز الجموع، وانطلقت النيران، وهرب فرعون، أو من كان يرتدي زي فرعون.. لقد كانوا هناك، يحاولون الخروج من الهامش إلى المتن، معرضين لما تعرض له كل من اختارهم التاريخ معبرًا عن ثورته.
في المقال الذي نُشر في مجلة “الاستوديو” 10 سبتمبر 1947، يمكننا أن نرى ونفكر في علاقة الناس بالزعماء؟ وماذا يحدث عندما تقرب الثورة المسافات؟ أو كيف تؤثر المسافة في صناعة القداسة ؟ ولماذا تحتاج الجماهير إلى لمس أبطالها في لحظة النشوة والغضب؟
بقلم الفنان محمد عبد القدوس
كان ذلك أيام الثورة الوطنية الكبرى عام 1919 أيام كنت أعمل بفرقة جورج أبيض فقد قامت الأمة كلها بجميع طوائفها وطبقاتها بمظاهرة كبرى لاستقبال سعد باشا وأصحابه من زعماء البلاد بمناسبة عودتهم من المنفى، واتفقت أنا والمرحوم الأستاذ عبد الرحمن رشدي على القيام بمظاهرة يشترك فيها الممثلون أسوة بجميع الطوائف، وقررنا أن نخرج بملابس التمثيل ولكنه اقترح أن نرتدي ملابس عربية، أما أنا فقد اقترحت الملابس الفرعونية وارتدت الفرقة كلها الملابس العربية ما عدا واحد ارتدى الملابس الفرعونية وهو أنا.
ثم قامت المظاهرة من شارع عماد الدين متجهة إلى المحطة، وبدأت بيني وبين الأستاذ عبد الرحمن رشدي منافسة على من يمشي في المقدمة، شيخ العرب، أم فرعون؟
وأخيرًا اتفقنا على أن يمشي الاثنان جنبًا إلى جنب، وصلنا المحطة حيث كان الزحام هناك لا يوصف، فقد كنت لا تجد فيها موضعًا لقدم.
وكان معنا وقتئذ الصديق حسين بك رمزي أستاذ علم النفس بالجامعة المصرية في ذاك الوقت، فحلا له في هذا الموقف أن يجرب إحدى نظريات علم النفس على هذه الجماهير فصاح فيهم وهو يشير نحوي وأنا أرتدي ملابس فرعونية، قائلاً
–هذا هو حمد الباسل باشا!
فعلا الصياح والهتاف بحياة حمد الباسل، والتف الناس حولي وضايقوني مضايقة شديدة فاضررت للهرب، وانفصلت عن فرقتي واتجهت عائدًا إلى شارع عماد الدين، وهناك لجأت إلى مقهى يقع أمام مسرح الأستاذ علي الكسار وقتئذ هربًا من مضايقة الجماهير ولكنهم اندفعوا نحوي كالسيل الجارف، وعلا صياحهم بالهتاف والتهليل، حتى اضطر صاحب المقهي إلى أن يقفل الأبواب ويدعوني لمبارحة المكان خوفًا على مقهاه من التحطيم.
فخرجت وهم يتبعونني حتى وصلت إلى تياترو الكورسال – الذي كان موقعه في مكان محلات عدس الآن– وهناك وقفت وأخذت أخطب فيهم بوصفي حمد الباسل باشا – وما باليد حيلة-!! ثم دعوتهم للانصراف على أن يكون لقاؤنا في المساء في بيت الأمة، ولكن لا حياة لمن تنادي، فقد كان تعلقهم بي لا يمكن وصفه؟ فهربت منهم مرة أخرى محتميًا بمسرح الأستاذ جورج أبيض– الذي كان وقتئذ خلف محلات شملا– ولكنهم اقتفوا أثري متجمهرين أمام المسرح وهناك أنقذني الخدم منهم وقادوني إلى الداخل، محاولين تفريق الجموع الحاسدة بلا جدوى.
فاقترحت أن ينتدبوا اثنين منهم لمقابلتي بالنيابة عنهم، كان الأول يرتدي عمامة، والثاني يرتدي بالطو، وأخذ كل منهمها يتحدث بالنيابة عن زملائه معبرًا عن إعجابه وولائه لرجل مجاهد عظيم مثلي، ثم تحدثا عن متاعب الشعب المصري وتفانيه وتضحيته بالنفس والنفيس عند أي إشارة منا.
فما كان مني إلا أن شكرتهما وأثنيت على حماستهما ووعدهما بالمقابلة في المساء لقد كانت هذه هي المظاهرة الوحيدة التي اشتركت فيها في حياتي.
ولقد نجوت يومها من الموت بأعجوبة، فلو لم أنفصل عن فرقتي، لأسير في اتجاه أخر، لمت شهيدًا برصاص ذلك الإنجليزي، الذي كان يرمي المصريين من شرفة فندق شبرد، ولأمكنه أن يتباهى على الأجيال بأنه قتل فرعون مصر.. ولكن فرعون بفضل الله ما زال حيا يرزق!!