في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
في نهاية فيلم “الغول“، وحيد حامد وسمير سيف، 1982، رفع عادل إمام الساطور… هو عادل عيسى، الصعلوك الليلي، والصحفي المشاغب المقلق لمساحات أصحاب النفوذ الجدد، الخاسر الكلاسيكي كما صوَّرته السينما المحترفة، العابر من انسجام الستينيات وأحلام الطبقة الوسطى بالصعود الهادئ إلى مواقعها في “تحالف الشعب“، فقدَ حلمه ليكون وكيلًا للنيابة، وكما يحدث في الروايات الواقعية ذات البعد الرمزي يوحي اسمه بالقضية المؤرقة له في حياته، وهذا ما جعل الفيلم يبدأ وينتهي مثبتًا على شعار العدالة الكبير الذي تجري الحياة تحته بكل ما فيها من تعقيد، وانتصارات للنفوذ على القانون. عادل حمل ساطوره ليواجه به فهمي الكاشف، فاهم عصره وقوانينه، المستثمر في نفوذ يحقق له الوجود ويحمي الثروة، الواعي بالقوانين التي تجعله فائزًا في الانفتاح والانغلاق. يخفي عادل سلاحه البدائي في صحيفته (الصحافة لم تلعب أي دور في هذه القضية) وكتاب أندرية مالرو “قدر الإنسان“؛ في إشارة إلى عودة صراع إلى منطقة “الأقدار“؛ التي تصنف الناس سادة وعبيد وأغنياء وفقراء.. ناس من ذهب وناس من طين؛ وكأنها صناعة إرادة مطلقة/إلهية، وليست نتيجة صراع اجتماعي وحرب طبقات ترفض المساواة، وبهذا المعنى كان نمو قصة الحب بين عادل وابنة الكاشف في الغول، تتلامس مع قصة حب أخرى في فيلم يوسف شاهين “صراع في الوادي” حيث السادة يحافظون على قدرتهم في استعباد الناس… عادل إمام دخل في “الغول” عالم جديد عليه، وخطا خطوة أبعد من رجب ورمضان وشعبان، السذج الثلاثة الذين اقتحموا شقوق الطبقات بالمصادفة والفهلوة، وكانت هذه اللحظة بعد عشر سنوات من قنوات “الانفتاح” التي جعلت السادات واحدًا من آلهة الحظ والغنى السريع … ردًا على سنوات الانغلاق وقوانين تأميم الدولة ورسملتها… والفيلم بعد مقتل السادات هو رمز لهذا التحول الذي أورث طابع الشجن على وجه عادل إمام الذي ظهر في الفيلم بتقشف مثقف السبعينيات، وبدلته الجينز على اللحم تقريبًا، وامتصاصه للسيجارة، وملامحه الاكتئابية المتهكمة الغاضبة، في إطار رحلات ليلية في بارات وسط البلد ومع متسكعيها المقيمين بكل هشاشتهم على هامش المجتمع، وبينهم الموسيقي الذي قتله ابن الكاشف وهو يحاول اغتصاب الراقصة؛ الغزال السكندرية التي لا تجد مكانًا تبيت فيه ليلتها في القاهرة… في شوارع وسط البلد الخلفية والمظلمة تحدث جريمة القتل على بعد خطوات من البار، لتستيقظ في عادل عيسى روح قديمة دخلت الفقاعة، محارب العدالة القديم (يبدو أن له تاريخ قديم في العمل السياسي، وأنه واحد من أبناء الحركة الطلابية في 1972). لكنه كان مثل الأبطال والقديسين الذين تحتفظ الناس بأيقوناتهم في ذاكرة جماعية، وعلى الحوائط والجدران وهم يحملون السيوف والسهام يقتلون بها الوحوش الخرافية دفاعًا عن “الغلابة” وعموم الناس. عادل عيسى بطل معاصر صرخ ضد قانون ساكسونيا الذي كان يحكم مقاطعة ألمانية شهيرة بصناعة الفخار، وكان حكامه يكرهون الموسيقيين، ويلغون وجودهم معتبرين أن ظلهم على الأرض هو الموجود، وكان يحكم على قتلة الموسيقي بالبراءة لأن القاتل كان ظلاً يطارد ظل… قانون ساكسونيا كانت عملًا إذاعيًّا استوحاه وحيد حامد في أمثولة سينمائية تلخص القلق الذي عاشه المجتمع المصري وسط هجوم تنانين الثروات السريعة الذين أرادوا إعادة بناء طبقات السادة والعبيد وترميم الهندسة الطبقية، وسط تنهيدات وزفرات وعبرات الحالمين الذين يدافعون عن الغلابة ضد ضعفهم وتواطؤهم مع قاتليهم..

عادل إمام في نهاية فيلم “الغول”، 1982
شعور البطولة هو ابن شعور آخر بالتعالي وروح الإنقاذ، والرسالة، وكان هذا أول طريق مختصر لعادل إمام تجاه لعب دور النبي المهزوم، والذي بدا أنه رد فعل طبيعي على تحولات السلطة في مصر إلى الموديل الأمريكي بعد سنوات مع الموديل الروسي، والقاتل كان يملك سيارتين، أمريكي وروسي، قتل بالأمريكي وهرب بالروسي، بينما وكيل النيابة يحدثه عن حذاء باتا باعتباره وسيلة مواصلات… كان عادل إمام وقت عرض الفيلم “نجم الشباك” الأول الزاحف إلى قمة منفردة؛ وهو صورة المتفرج عن نفسه، بطله ومرآته. لم يعد الشخص الضعيف الذي يبحث عن فرصة صعود في مجتمع الوحوش، وينجح بالفهلوة والطيبة والنية الحسنة في

عادل إمام ونيللي، فيلم “الغول”
اصطياد فرصته على الرغم من كل القوانين المعاكسة. هو هنا وجه جديد للصراع مع الوحوش، دون أدواته الكوميدية المعروفة، وفي مواجهة مع الظلم والظالم وجهًا لوجه. الوحوش لم تعد مجرد نباتات ضارة في “مجتمع اليوتوبيا“، إنما تحوَّلت إلى غابة تفرض قوانينها، وعلى الضعفاء البحث عن مكان في أقفاص الضحايا أو الدخول إلى حلبة المصارعة… (مع إدراك الخسارة مقدمًا) كانت هذه “بشارة العنف“، هكذا ثارت الصحافة ضد مشهد النهاية في “الغول“، واعتبرته محاكاة (إيجابية) للحظة اغتيال الرئيس السادات، الذي قُتل في مشهد تراجيدي بين جنوده وفي أثناء الاستعراض العسكري السنوي في ذكرى انتصار أكتوبر. القتلة من جماعات الإسلام السياسي أو الأصولية المسلحة، أو غيرها من أوصاف تختصر في وصف واحد: أنهم إرهابيين؛ لا علاقة للفيلم بهذه الجماعات، لكنه التقط ذبذبة في المجتمع؛ ذبذبة حائرة بين رفض القتل وضرورته في مجتمع ظالم، وبين اعتبار القاتل نبيًّا للعدالة ورفضه كقاتل إرهابي ذبذبة حائرة؛ بين الرغبة والقيمة؛ القانون والغريزة.. الرقابة منعت الفيلم لأنه يمثل “تظاهرة سياسية مضادة للنظام القائم في البلاد ومعاداة لنظام الحكم ومؤسساته القضائية، واتهام بعض أجهزة الدولة بالتواطؤ مع الرأسمالية ضد مصالح الشعب، ويشجع بل يدعو إلى الثورة الدموية ضد أصحاب رؤوس الأموال… لم يُعرض الفيلم إلا بعد موافقة استثنائية من وزير الثقافة بعد ضغط من كُتَّاب ونقاد ومثقفين شاهدوه في عرض خاص“؛ وكان عرضه الأول في يونيو 1983، أي بعد أقل من عامين على اغتيال الرئيس السادات. ويروي قصة انتقام صحفي من أحد ديناصورات المال والسلطة، استطاع حماية ابنه من حبل المشنقة في جريمة قتل، ولم يكن، بحسب تتابع الحكاية، أمام الصحفي إلا الساطور لينتقم به من الجبار الذي انتصر على القانون..
الفكرة طبعًا مغرية دراميًّا، لأنها تقوم على انقلاب في الصورة من صعلوك ليلي يريد الاستمتاع بالحياة إلى قاتل بسلاح بدائي، ومن مجرم إلى بطل، ومن قاتل إلى مخلِّص شعبي. تتكرر هذه الدراما منذ أن كان الحرافيش يهللون للفتوّة المنتصر. وعندما يزداد ظلم فتوّة ما وفساده، يشجعون آخر، يتوسّمون فيه العدل والنزاهة؛ “فتونة” عادل إمام فردية؛ جمهورها في صالة العرض، بعد غياب “نظام الفتونة” تمارس قوة مطلقة تفتح بوابات المفسدة المطلقة. جمهور يشعر بالعجز بانعدام القدرة على تغيير الأحوال، ويحلم بــ “الفتوة المنتظر” هدية من السماء. هدية بؤس هي، لكنها بالنسبة إلى العاجزين كل الأمل في توقيف آلة القوى الجبارة عند حدودها.