“أنا وحدي جامعة عربية…” كرَّر عادل إمام الجملة في أكثر من حوار، كان أحيانًا يمنحها مسحة سياسية بقوله “أنا قومي عربي… آه أنا قومي عربي“، يقولها أحيانًا في لحظة خفوت وانهيار الأيدلوجية القومية، وأحيانًا نوعًا من التفاخر بتحفة أصيلة في ظل انتشار “الفالصو“… فهو ابن زمن يدافع عن استمراره الدائم، باعتباره “أصل الخميرة ” التي بدأت تتكون في مخابز الحكم والسياسة منذ وصول الضباط الشباب للحكم باستبعاد عائلة مالكة وحقها التاريخي، وبطولاتها العسكرية في إجبار الأتراك على منح مصر استقلالها التدريجي عن الولاية العثمانية.
“الخميرة الوطنية” منذ وصول الضباط في 1952 هي الصعود من أسفل، والنجاح في عبور حواجز الوصول إلى منطقة تحت الأضواء، هذه هي القصة المضمونة في أي عمل درامي، وسر النجاح لأي نجم يتعدى نجاحه الحدود المؤقتة. وهو أحد أسرارها، فهو ابن المهاجرين الريفيين إلى عطفة في منطقة عتيقة هي الحلمية؛ الأب حمل معه تقاليده الريفية؛ يقول عادل إمام متفاخرًا “كان أبي مثل آباء نجيب محفوظ، وأمي مثل أمهات نجيب محفوظ…” يقصد طبعًا صرامة أبوة السيد أحمد عبد الجواد والأمومة الطيبة للست أمينة“. ويضيف “الأب لم يكن يبتسم، لكنه كان خفيف الظل والروح” وحسب رواية ابنه الذي أصبح نجم النجوم؛ لم يكن يهتم إلا بالتعليم والدين، هنا أضيف التعليم من عامل متحرك في المجتمع إلى عامل ثابت. وهنا قوة عادل إمام في التشابه مع قطاعات واسعة منذ أن حلت الجمهورية محل الملكية؛ تغيَّر مسار الصعود الاجتماعي، وتغيَّر المسيطرون عليه.
عادل إمام محظوظ لأن صعوده كان في فترات التسليم والتسلم، دخل إلى عالم الفن وهم يبحثون عن وجوه من الزمن الصاعد، ثم انتقل إلى النجومية مع سيطرة مزاج النقد العنيف تجاه هذا الزمن الصاعد نفسه، والتقط عادل الفرصة في الحالتين، فهو يشبه طالبًا متحمسًا لقوانين وسياسات وأفكار عبد الناصر، ثم أصبح داعية أيديولوجيًّا للحزمة الناصرية، ثم بدأ ينتقد الهزيمة بالتهكم والمسخرة، كما حدث أولًا في “مدرسة المشاغبين” وبعدها في “شاهد ما شافش حاجة” التي حطمت الأرقام القياسية باستمرارها 8 سنوات متواصلة على المسرح. ومع أن كلتا المسرحيتين لم ينتشرا عبر التليفزيون إلا بعد سنوات من “التخمير” على المسرح، والمنع من العرض العام، إلا أنهما يمثلان أعمدة رئيسية في النقد الهزلي للأبوية الناصرية. ارتبط بعادل إمام وتماهى معه إلى درجة أنه لم يعد مع نهاية السبعينيات معروفًا من يشبه الآخر: عادل إمام أم جمهوره… والمقصود هنا الجيل الذي لم يكن يريد أن يدفع ثمن هزائم عبد الناصر، وكانت كوميديا مقلقة ومفيدة للسادات، في آن، فالسادات كان يريد هدم عبد الناصر ليقف على أطلاله، بينما لو استمرت الكوميديا ستبيع الأطلال مع الروبابيكيا… وهذا ما جعلهم يسمحون بالمسرحيات بعد تهذيبها التليفزيوني؛ فلها حدود، وفي نهايتها مصالحة؛ إذ نرى الآباء الجبارون شعوبهم، وقبل إغلاق الستار يوزعون الحنان من جديد.
يعرف عادل إمام الحدود، لا ينفلت لأبعد منها، يدافع فقط عن مكانه عند الجمهور الذي يسميه أحيانًا “الشعب” في اختلاط واضح بين الجمهور أمام شباك التذاكر، والشعب كمفهوم سياسي يرى الديمقراطية هي حكم الكتلة المهمشة.
بدا عادل إمام في ظهوره الأول، وبمخالفته لكل المواصفات، يشبه غالبية “الشعب” أو من يسمونهم في الاستبداد المصري تحببًا “البسطاء“، (نقلًا عن تعبيرات قديمة في التاريخ الفرنسي)؛ وهو تعبير غامض ذو رنة تعاطف متعالية، ومع الاستخدام بدا وكأنه يقال من أجل تكريس “الوضع السلبي“، وكأنه ميزة في حد ذاته… عادل إمام زعيم البسطاء والغلابة، وكأن هذا يكفي لتقبل البساطة والغُلب. ما الميزة في أن يكون هناك طبقات قليلة /
بسيطة/غلبانة، وأن يكون لها زعيم أو ممثل أو متحدث يفهمونه، ويحبونه؟ هذا الزعيم على الأغلب صاعد من بينهم، لكنه الآن في مكانته فقط لأنه يتحدث باسمهم دون أن يفرض المنطق أسئلته؛ فماذا لو غادر البسطاء ببساطتهم وفارق الغلابة غُلبهم، ماذا سيصنع زعيمهم؟ ويمكن أن نقول إن الدولة في مصر هي صنيعة رحلة الصعود هذه… ذات مرة سمعته يتكلم في برنامج تليفزيوني عن اختيار الأمم المتحدة له سفيرًا للنوايا الحسنة، وتكريمه باعتباره داعمًا لمشروعات لصالح الأطفال والفقراء؛ لم ينس يومها أن يذكِّر المذيع بالجائزة الدولية التي كرمته لأنه معادٍ للديكتاتورية وحكم الفرد الواحد؛ كان الحوار في 2010 تقريبًا، وفيه دافع عادل إمام بحماسة عن فكرة تولي جمال مبارك رئاسة مصر، من منطلق الواقعية البراجماتيه التي يستخدمها قطعان تمجيد الحاكم الفرد وعبَّاده. هذه واحدة من مميزات التجربة المصرية في التاريخ المعاصر، إذ تتجاور الشعارات على شكل صفوف؛ لا يلغى أحدها الآخر، بينما الواقع للغالب.
عادل ابن هذه الخصوصية التي ولدتها طبيعة الحكم، الذي يأمر بطلاء واجهة الدولة مع كل حاكم ومزاجه والشعار والمعسكر الذي يختاره، لكل لون مشجعون وجوقة وبروباجندا، يتغيرون، ولا يبقى متنقلًا وعابرًا منهم إلا الأذكى؛ القادر على قراءة وفهم والتقاط الموجة الصاعدة… وكما سنرى في حالة ذكاء عادل إمام ليس من الضروري أن تكون في طليعة المستفيدين، أو المهرولين إلى المكاسب السريعة، بل أحيانًا يبدو الانتظار نوعًا من الحكمة، والحذر هو ترقب كيف يصنع القادمون إلى السلطة خميرتهم… لكل سلطة خميرة، تحفظها في مخابزها… تضيف إلى أصلها كما يفعلون في المخابز الكبرى؛ ولهذا عندما أراد نجيب ساويرس ترميم “القوة الناعمة” في مهرجان الجونة، كانت تلك في الغالب محاولة لعب أدوار لا تلعبها مجموعات السيطرة الجديدة في الدولة؛ كان نجيب ما يزال مشغولًا بتركيب قديم وناصع للدولة، وهو تركيب مُعقَّد يأكل التركيبة السابقة لكنه لا يهضمها، ويعيد إنتاجها دون هضم… هكذا وُلدت بعد غياب عبد الناصر أجنحة تدافع عن نسخة نظيفة/غير فاسدة/تلعب أدوارها لصالح الدولة. معركة هذا الجناح مع تنانين الانفتاح، وصرخاتها باكية على زمن ضائع. بتجريده من التفاصيل، وظل هذا الجناح نشطًا حتى دخل في تركيبة مع التنانين ليشكلوا كيانًا لدولة مبارك؛ التي ورثت السادات وانفتاحه، لكنها تخمَّرت مع مبارك، بإنتاج طبقة حكم جديدة، وخرج منها جناح الحنين ذاته، لكن بتركيبة وأشخاص مختلفين يروجون للحنين إلى لحظة ذهبية ماتت، وفيها “خلاصة مصر الأصيلة“، وهكذا حتى وصلنا في لحظة السيسي إلى من يتصور ألا خلاص لمصر إلا باستعادة الكنز، والكنز هو مصر، وليس هناك سبيل لهذه الاستعادة إلا إعادة ترميم القوة الناعمة… وطبعًا عادل إمام “زعيم القوة الناعمة” وأيقونتها، وحافظ أسرارها، وهو كاهنها الأوحد، يجلس على القمة المدببة وحده، مثل زعيم أبدي لا مكان لغيره في علاقة السلطة الشائكة في السياسة والفن. لن تجد مبررًا فنيًّا لاستحواذ عادل إمام على “الزعامة” في مجال ليس فيه زعامة، ولا مستبد فردي، لكنه اللا وعي الذي يجعل المجالات في الديكتاتوريات المصرية الفريدة تستنسخ نفسها في مجالات بعيدة عن الاستبداد، لكنها أميل إلى فكرة الهوس باختيار أمير للشعراء في زمن السلاطين.. كان عادل إمام ذكيًّا ومسيطرًا على شبكته الممتدة؛ من شبَّاك التذاكر إلى قصور الحكم وبيوت السلطة والمال، متمتعًا بذكاء يجعله في كلمته إمام جمهور مهرجان الجونة الأول من النجوم يرسل هذه الملاحظة النيرة “الناس عندما ثاروا في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية حطموا تماثيل المستبدين، لم يحطموا تماثيل الأدباء والفنانين” عادل إمام يشبه/يجسد مفهوم “القوة الناعمة” كما يتردد على الألسنة، كتعويذة خالية من المعنى، يلتقي عندها الليبراليين والوسطيين والناصريين/الدولتيين والمعارضين في حديقة الدولة الخلفية/الفنانين وخيوط اتصالهم مع أجهزة الدولة… الجميع يتحدث بأسي غامق عن “غياب القوة الناعمة” وكيف أنها “الحل” لنهوض “دور مصر “، هكذا دون تفكير، أو إعادة نظر في مستوى فهم المصطلح الذي قدمه جوزيف ناي، في روشتة إنقاذ السياسة الدولية للولايات المتحدة. نظريًّا القوة الناعمة هي اعتراف من الدولة “بالمفهوم الليبرالي” بالمجتمع وقوته، وهي اختراع الليبراليين، لمنافسة اليسار على الحشد والتعبئة لجماهيرهم، وتعتمد على تكوين قاعدة لجاذبية الدولة، تضاف إلى قدراتها الشاسعة في الإكراه والإخضاع، وهذه الجاذبية تعتمد على “أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق، ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباعه.. واقعيًّا تحولت “القوة الناعمة” إلى طريقة في “البروباجندا” لا تبدو فيها وكأنها بروباجندا للتأثير على الرأي العام، أو خلق جمهور متجانس مع “قوته” الناعم منها والصلب… وغالبًا يحب المصريين القوة الناعمة لأنها سلاح الغزو دون تكلفة السلاح. وللغزو سحر عند المهووسين بالدور المصري المجروح في نرجسيته على إمبراطورية لم تقم قط…
بالنسبة لمدمني “الروشتات” عادل إمام “معجزة“، تستمر دون مقوماتها، معتمدًا على ذكاء الإقامة الطويلة على “عرش” الشباك، وقدراته على الاستمرار على الرغم من استهلاك الموهبة وقدراتها على أدوار متعددة، وإصراره على الحضور بطلًا مطلقًا، متحديًّا الزمن، نافيًا كل ما هو غريب عن “أبهة” القوة والزعامة… القوة الناعمة تعيد ترسيخ اُسلوب الحكم الذي يتصور نفسه أبديًّا “خالدًا على الكرسي… مُطلقًا… مسنودًا بالدعم الإلهي” من محاولة ضرب أية معايير ترتبط بالنسبية/الوقتية/ الزائلة، فيتم التحكم في سوق النجومية مثلًا لتكون تعبيرًا عن “ركود الزمن” فيستمر عادل إمام في الإنتاج على الرغم من التردي والركاكة والرداءة لأنه رمز تثبيت الزمن، وعدم قبول الحركة إلا في هامش صغير، أو حديقة خلفية تلهو فيها الأشبال التي ستولد ميتة حول الزعيم المنتهى فنيًّا، والمستمر بتقديس المجال له، وهذا يلائم تمامًا تحويل الفن إلى “سبوبة وتقليب عيش” ليسيطر الرديء، وتتجمد الفاعلية عند تكرار النمط السائد، ويكون الإنجاز كل الإنجاز في الدخول الى عالم الركود “الجميل“، والحصول على نصيب من “السبوبة“…
منذ فترة طويلة ترك عادل إمام “اللعب” ليصبح زعيمًا ملهمًا ومُبشرًا بالفن والأبهة والجمال؛ يتعمَّد عنده شباب النجوم في طريقهم لدخول “المنظومة” محاطين بأغنيات “تحيا مصر” وعادات وتقاليد سبوبة الفن الكبرى، ويبارك احتفال ترميم القوة الناعمة، في رعاية طبقات تهوى النسخ المصرية من كل ما هو أجنبي، وتشعر بالخيلاء من مجرد ضبط “الأداء“، ولو كان فارغًا من سواه…
بركات عادل إمام تذكِّر بعهده القديم، في كوميديا بطلها قادم من الهامش ليفسد الحفلات، ويُضحك جمهوره الواسع على المتأنقين المنفوخين في بدلات وخلف قصات شعر، عادل في زعامته واحد من الحفل، بل هو بركة الحفل، الذي يقترب من أصحابه ويشعر بالود العائلي تجاههم، حتى إنه نادى ولديه محمد ورامي ليصعدا ويسلِّما على عمهما نجيب “ساويرس” لم يعد لدى عادل إمام الا قدرات شاحبة على إطلاق القفشات، ومنح البركة لعملية بحجم ترميم القوة الناعمة، أما في الفن فهو أسير التكرار الأبدي، لا يريد أن ينزاح، ولا يقدر على التجريب أو الدهشة، أو تقبل الفقد والخسارة. القوة الناعمة، وبمفاهيم أصحابها خانت نفسها، وتحوَّلت إلى “نسخة” من القوة المتوحشة في الحكم والسيطرة، هدفها ترويض الجمهور والسوق، والانقضاض على مواقع الهامش لتشعر بخطر ابتعادها عن “المركز” والتيار الأساسي والديناصورات المتحكمة في صناعة السينما، تحكم أوصلها إلى الانهيار تقريبًا، انهيار هو سبب حالة الرثاء التي تتحدث بها “جحافل” القوة الناعمة عن نفسها..
الفقرة الأخيرة في هذه القطعة، كانت صيغتها الأولى فجزء من مقال ضمن سلسلتنا عن أول نسخة من مهرجان الجونة السينمائي.