1
وعود الأدرينالين
أغمض أبي عينيه.. لم يتحمل الرجل الذي احتفل بعيد ميلاده الثمانين بعدها بأيام، النظر إلى الفجيعة. بحث عن مكان آخر لا يقابل فيه الهزيمة من روسيا، كما قابلها عدة مرات من قبل.
لم يهتم أبي بردود فعل أربعة أجيال كانت تشاهد الهزيمة معه. لكل منها نصيب من تاريخ صعود الأدرينالين عند جماهير ليست كلها من عشاق كرة القدم. لكن من بينها جيلي؛ الذي ورث الميلودراما الوطنية في الملاعب، وجيل ابنتي الذي بدأ “الورطة العاطفية” مع مباريات كأس الأمم في القاهرة 2006، وجيل أصغر ما يزال يتلمس طريق الأدرينالين الجماعي.
قبلها بأربع سنوات تقريبًا، وبعد الهزيمة الكبرى من غانا ، بستة أهداف أخرجتنا من تصفيات 2014، تذكر أبي نكسة يونيو –كما أسمى كهنة البروباجندا الناصرية الهزيمة العسكرية 1967- “هي هي.. أسمع الآن صوت أحمد سعيد وهو يتحدث عن الطائرات الإسرائيلية التي تتساقط كالذباب والناموس.. لقد رأينا أحلامنا فعلاً، وتنافسنا بالفعل على كتابة طلبات نقل إلى فروع المصلحة (مصلحة الضرائب) في تل أبيب“.
كان أبي منفعلاً على الرغم من سنوات عمره؛ فالكرة عنده، ومعها أم كلثوم، هي المتع التي تربطه بالحياة، وهي حزمة المشاعر والانفعالات الباقية له ليشعر بوجوده، والأحلام بالنسبة له ارتبطت بمغادرة موقعه؛ فهو ابن جيل ارتبطت حركته بمسافة يقطعها مع الواقع/الموقع.
سافر من قريته، التابعة لمدينة زفتى (موقع حدث إعلان الجمهورية الشهير في ثورة 1919) إلى الإسكندرية ليدرس التجارة في الجامعة، ومنها سافر إلى القاهرة ثم إلى المحلة في طريق صعوده اجتماعيًّا مع موجة الستينيات الصاعدة بالتحول الاقتصادي، وتغيير مجرى النيل، وإلقاء إسرائيل في البحر، كل هذا مصحوب بوعود “دولة التحرر الوطني” وبالانتقال من دولة زراعية إلى صناعية، ومن عالم ثالث إلى دولة عظمى؛ وهي الوعود التي ظلت باقية كندوب في ذاكرة جماعية تبحث عن هذه الانتقالات في مسارح أخرى؛ أهمها كرة القدم، والبعض ينتظرها في نوابغ نوبل طبعًا.
أبي مقيم الآن في أحلامه؛ يستعيد أم كلثوم، ويخاف من ذكرى النكسة، ويعتبرها مقياس المرارة الذي يطفو على ذاكرته كلما اقتربت هزيمة أو شعور بالخديعة.
2
سفينة نوح
يغني محمد نوح في مكبر الصوت وسط استاد ناصر الدولي بالقاهرة، والجماهير المحتشدة في المدرجات تهتف خلفه “مدد..مدد..مدد…شدي حيلك يا بلد!” بكائية حماسية ظهرت بعد هزيمة يونيو 1967.
يستوعب الملعب فوق طاقته، الجماهير في كل سنتيمتر بما في ذلك أعمدة الأضواء الكاشفة، والفريق التونسي متوتر، فهذه التصفيات المؤهلة لكأس العالم في الأرجنتين 1978. سيتقدم الفائز خطوات لتمثيل أفريقيا (كان للقارة كلها ممثل واحد، قبل أن يرتفع العدد إلى فريقين، ثم إلى خمسة). كما أنها منافسة عربية– عربية بما في ذلك من تشاحن الأطراف مع المركز المصري، أو الروح المتوسطية المسيطرة على كل لقاءات الفرق المصرية بنظيراتها في شمال أفريقيا.
المباراة معقدة وحماسية وهادرة. تأتي في لحظة سياسية مشبعة بدراما عنيفة؛ فقبل أيام من المباراة سافر السادات إلي القدس محدثًا صدمة ومثيرًا رد فعل عدواني حول “القضية المركزية“. والمبادرة كما سمَّى السادات زيارته كانت مثل تدريب قاسي على مغادرة “أصل الأشياء“.
في هذه الأجواء لم تكن مباراة مصر وتونس مجرد مباراة. كانت موعدًا مع ترميم الشظايا. وفرصة لـ“كرنفال” وطني بعيد عن الحرب والسياسة. ولم يكن مناسبًا لتلك المهام أكثر من صوت وحالة محمد نوح بحنجرة يتقاسمها شرخ طبيعي حنون وطاقات منفلتة بحماس متفجر . قادرة على تحويل المباراة إلى طقس من طقوس القبائل البدائية. وهذا ما أثار رعب التوانسة، الذين رفضوا اللعب ما دام نوح في الملعب، واستقر القرار على أن يغني نوح دون مكبرات صوت في مدرجات الدرجة الثالثة. وبينما كان رئيس الوزراء ممدوح سالم يجلس على رأس وفد رفيع المستوى، تحولت المدرجات إلي مولد شعبي، وجمهور الثالثة هم كورس محمد نوح الذين مزجوا البكائية بالنشيد ذي الطابع الحربي.
انتصر الفريق المصري بثلاثة أهداف مقابل هدفين، بين الأهداف المصرية واحد لا يُنسى لأسطورة كرة القدم محمود الخطيب. وكانت لحظة حاسمة في علاقة الجماهير بالكرة في مصر، لم تعد الهستيريا الوطنية مجرد خط خافت في سيمفونية تشجيع اللعبة الشعبية الأولى؛ أصبحت الإيقاع الرئيسي الذي تلتئم حوله مشاعر الهوس باللاعب والفريق و “الفانلة“، وتواصل الامتزاج إلى أن انتقل شكل التشجيع الكروي إلى مجال الاحتجاج السياسي والاجتماعي.
لم ترث كرة القدم فقط ملامح العقل الجمعي حول “حروب عسكرية” كما في “مدد!”، لكنها أصبحت نواة هذا العقل الجمعي، والحمض النووي في مخابئ عاطفية تنفتح فجأة في الأحداث الكبيرة، والهتاف في مباراة تونس التي أقيمت في نوفمبر 1977 لم يكن كرويًّا تمامًا. كان جزءًا من اكتشاف السادات لنداء حشد يخص عالمه المختلف عن سلفه عبد الناصر. تم الاكتشاف تم في معرض القاهرة الدولي التالي السابق على حرب أكتوبر 1977، وكان صوت محمد نوح المشروخ والمتحمس (معًا)، في طلب المدد للبلد، يسري حاملاً لا وعي ملحمي عن طلب العون والمدد من قوى عليا، ستكافئ الشعب الذي كلما مات له شهيد هناك ألف غيره سيولدون.
ما علاقة كرة القدم وعالمها الثري بالمنافسة والبطولة، بطلب المدد المرتبط بإعادة إنتاج الشهداء؟ تم التغيير في سنة بدا السادات فيها قريبًا من استكمال عالمه المنفصل، فهو بطل الحرب (وملحمة نوح تذكر الناس بإيقاع الحشد تحت مظلة الحرب) وفي العام نفسه (1977) وفي تزامن مع مباراة العودة مع تونس سيبدأ مشواره بطلاً للسلام. كانت المباراة تلملم ركام الوطنية “الناصرية” ذات الطابع الحربي وأحاطت بالملعب إعلانات شركات القطاع العام (والمؤمم)؛ من مصر للبترول وعصائر شركة إدفينا ومنسوجات تريدكو الصياد.
لحظة انتقالية اتفقت الإدارة السياسية للسادات على إطالتها، وأعلنت الدولة عن “سفينة المشجعين” وهي عبَّارة تبرعت بها الأكاديمية البحرية إلى تونس، بسعر رمزي (500 جنيه مصري شاملة السفر والإقامة الكاملة لمدة أسبوع)، وسافر 700 مشجع، لكن “سفينة نوح” عادت بخيبة الهزيمة الثقيلة (4/1) وضياع حلم التأهل لكأس العالم.
3
ميراث الميلودراما
لكن أبي ليس وحده الذي يستحضر النكسة بعد الهزيمة/العار/الفضيحة، إلى آخر الأسماء الجاهزة لتلخيص العلاقة الميلودرامية لأجيال متعاقبة من المصريين مع كرة القدم، فاستحضار النكسة كاشف عن عقلية حربية في التعامل مع الرياضة، وربما نتيجة نزعة كامنة منذ لحظة تأسيس الكرة المصرية مع دخول الإنجليز سنة 1882. وارتباط تاريخ الكرة والعسكرة، لم يبدأ مع تحرك الضباط الأحرار سنة 1952 لإسقاط حكم أسرة محمد علي. كان وزير الحربية الأخير في الملكية، حيدر باشا، يرأس اتحاد الكرة ونادي الزمالك معًا، وبعد سنوات من استقرار الضباط على مقاعدهم، احتل عبد الحكيم عامر المواقع الثلاث نفسها؛ الجيش والكرة والزمالك، لكن هوسه باللعبة هو تجلٍ لهوس أكبر بالذات، وما تحبه هذه الذات المتطرفة.
بالنسبةلأبي الجنرال عامر عنصر مشترك في الهزيمة واللعب؛ على الرغم من أن التاريخ يذكر أن محمد نجيب أول رئيس يصاب بلوثة جماهير الملاعب، منذ 27 سبتمبر 1954 حين تجول بسيارته في ملعب كوبري القبة، في افتتاح الموسم الكروي، قبل مباراة بين منتخب من القوات المسلحة ومنتخب أندية القاهرة، انتهت بفوز منتخب القوات المسلحة في أول تجربة له باسمه الجديد (كان اسمه الأقدم منتخب الجيش). يومها ذاق الجنرال نجيب، الذي لم يكن معروفًا بحبه للكرة، طعم الوقوف بين الجماهير العاشقة للكرة. وهي تهتف له، باعتباره “كبير السلطة” ومندوب القصر العالي الذي يشاركها الولع باللعبة. وهو مذاق ظل ينمو مع الجنرال نجيب ليتجول بسيارته أمام المنصة الرئيسية لاستاد المحلة، هذه المرة كانت السيارة مكشوفة، والجنرال واقفًا يحي جماهير تهتف له ولـ “الحركة المباركة“. استمر الولع بالجماهير، وليس باللعبة، في النمو لدى نجيب في مواجهة شباب الضباط ومنافستهم له على الشعبية، وإصرارهم على أن يبقى في الظل، وهو ما جعله يطور أدوات مشاركته في المباريات بالنزول للمرة الأولى إلى أرض الملعب ومصافحة فريقي مباراة ودية بين (الأهلي ومنتخب الأندية). وفي مرة ثانية اصطحب معه 13 عضوًا من مجلس قيادة الثورة، وقرر أن ينزل إلي الملعب وحده ويركل الكرة بقدمه بعد مصافحته لاعبي الفريقين المصري والإيطالي، قبل المباراة المقامة في إطار تصفيات كأس العالم 1954.
عبد الناصر لم يحضر سوى مباراة بين الأهلي والزمالك التي خصصت جزءًا من إيرادها لدعم صفقة تسليح الجيش المصري (أكتوبر 1955) .
الهوس الكبير كان من نصيب عبد الحكيم عامر ؛ هوس باللعب، ومتعة انتصار المقامر بنرجسية مفرطة.ويصل به ذلك إلي تهديد لاعبي المنتخب المصري بالعقاب إذا هزموا من السودان في نهائيات كأسس الأمم الأفريقية (الخرطوم – فبراير 1957) ،رسالة التهديد وصلت إلي معسكر الفريق بجامعة عين شمس، عن طريق علي شفيق مدير مكتب المشير عامر ، وفي الاجتماع كانت النظرات موجهة بشكل خاص إلي عصام بهيج و علاء الحامولي ، كلاهما ضابط في الجيش ولاعب في الزمالك ، وهذه ليست نهاية الحكايات الطويلة عن جنون المشير في تشجيع الزمالك ناشراً الرعب بين المدربين و الحكام واللاعبين و ملاحقاً كشافي المواهب ، وهي مهنة إنقرضت تقريبا مع ظهور مدارس الكرة ، وكان الكشاف يتجول في الشوارع و الحواري و المدن و القرى بحثاً عن مواهب تحت الأضواء ، أشهرهم كان يسمى عبده البقال ، الذي ظل هارباً فترة طويلة لأن المشير غضب من أنه خص الأهلي بلاعب موهوب.
الهوس بالجماهير واللعبة،كان خليطاً من نرجسية تبحث عن الأمجاد ، ورغبة في السيطرة على الجماهير العاشقة للعبة، والتي تعلقت أجيالها المتعاقبة بالانتصار في الملاعب بديلاً عن الإنتصار في الحروب والحياة..أو عن لحظة جماعية ينطلق فيها هرمون الأدرينالين ، محققاً تلك اللذة العابرة وسط كوارث و رعب الوجود في القطعان البشرية.
تاريخنا مع كرة القدم مليء بإنتظارجرعات من الأدرينالين الجماعي.
انتظار لاحقته الميلودراما، وأخواتها مثل الفجيعة والمسخرة.