يقول الزوز إن مصطفى اكتشف نفسه، أو وسامته تحديدًا، في كاليفورنيا. كانوا بعثة من أربعة طلاب أرسلتها هندسة القاهرة في أواخر السبعينات، وكانوا في ذلك الوقت ينكرون الأسطورة المتداولة في مصر عن هوس الخواجات بالشاب الفرعوني الأسمر النحيف، مستغربين فكرة أن تمنحهم بشرتهم الطافحة بسوء التغذية أي إعجاب، ولكنهم فوجئوا بعد أسبوع واحد أن مصطفى، شاعرهم الرومانسي المحبط وأصعبهم حالاً وأكثرهم ترددًا في السفر وأقلهم كلامًا، قد خرج من شرنقته وانطلق في هذه البلاد الواسعة، وظلوا يراقبونه في دهشة وهو محاط بكل هؤلاء النساء اللاتي يدخلهن بسهولة بعد ابتسامة في مدخل الجامعة، أو حوار قصير بلغته الإنجليزية الضعيفة بعد إحدى المحاضرات، أو في بار قريب، أو في حفل يحكي لهم عنه حين يعود لسريره بينهم ليلة كل أسبوع، ليلة أطلقوا عليها استراحة المحارب. يؤكد الزوز أن في هذه الأيام تغير مظهره، لم يكن معه ما يكفي ليشتري ملابس جديدة، ولكن:
. أول مرة نعرف ان السكس بيطلَّع عضلات.
يحكي عن المرة التي عاد فيها مصطفى إليهم وقد بدا عليه الإنهاك، فأدركوا أنهم حسدوه أكثر مما ينبغي، واستجابوا لرغبته الحازمة في أن يخلد فورًا إلى النوم. كان الزوز يعاني من أرق ورغبة في العودة من السفر، فصحا في وسط الليلة ليجد نور الغرفة مضاءً ومصطفى يجلس على السرير بين كومة من الأوراق، منهمكًا في الكتابة، وهنا عرف أنه سيبقى ضيفهم لأيام مقبلة.
. طلعت بشرتنا دي مش سوء تغذية، طلعت محن.
يصف الزوز وجه مصطفى في هذه الليلة بأنه انطفأ، ولم تعد لديه حكايات للتسلية. هي حكاية واحدة، حكاية أنجيلا، التي يقول الزوز عنها:
. أمك، نزّلته خمسة كيلو في أسبوع.
أكد الزوز أنه أول من نبهه إليها، بعد رؤيته لها سارحة في صديقه في أثناء المحاضرة، وربما لم يلتفت إليها مصطفى إلا بعد شهر أو أكثر منشغلاً بما كان في يده، حتى أتت في يوم إليه غير عابئة بأصدقائه من حوله ودعته أمامهم إلى العشاء، وفي الليلة نفسها كان قد طلب يدها للزواج بعد أن وجد نفسه أمام فتاة كاثوليكية جميلة ومتفوقة، اكتشف صلاحيتها لأن يدعوها إلى بيت أمه في كفر الزيات، لا تشرب الخمر ولا تسلم إلا باليد، فرضت عليها المعيشة مع أهلها أن ترفض إكمال السهرة بالذهاب إلى السينما، تُعجب بقلقه عليها وتتحاشى السلام على رجال آخرين في وجوده، حتى إنها حين أعدت له العشاء في بيت العائلة اكتشف أنهم كلهم يحبون البط. بعد تمام سنة، كانت البعثة تعود إلى القاهرة ومصطفى يتزوج مقررًا البقاء في أمريكا، والعمل في ورشة للسيارات انتظارًا للحصول على الجنسية. خطة دامت ستة أشهر وانتهت بعد استقبالهما لنبأ حمل أنجيلا وترجيح الدكاترة أن المولودة أنثى.
. أبوك كان بيقول لي هو انا هاستنى لما افتح الباب لعيل بشخة داخل للبت؟ ولو نطقت تجيب لي البوليس؟
وافقت أنجيلا على طلبه أن تعيش في مصر.
. بس طلعت حامل فيك انت يا بيه. روح بقى اضربه، كان زمانك خاربها هناك بدل ما انت قاعد كده وسطنا.
فهمت أن ولادتي لم تجلب الحظ السعيد. ففي الوقت الذي فشل فيه مصطفى في العودة إلى السلك الأكاديمي بهندسة القاهرة، ورفض محاولات أصدقائه في إدماجه في أي مهنة في التجارة كما كان متاحًا في ذلك الوقت، كانت أنجيلا تتعلم العربية وتضرب صحوبية مع أمه التي كانت تتباهى بها أمام كل فرد في كفر الزيات، “الخواجاية أم شعر أصفر“، التي جلبها مصطفى من بلاد الغرب كي تربيني. ومع إصراره الشديد على عدم استخدام دولار واحد من الأموال التي منحتها عائلة أنجيلا لبداية حياتها في مصر، لجأت أنجيلا إلى الأم فصنعتا له مكيدة محترمة، أخبرته أنجيلا أنها ستستخدم الأموال لمشروع تخطط له، مصنع صغير لإنتاج العبوات، وأخبرته أمه أنها غاضبة جدًّا من هذا القرار، “هو خلاص مافيش دم عندها؟ هتقعد ترضّع انت وللا إيه يعني؟“، فقبل أن يشارك زوجته في إدارة المشروع، وتقاعدت أنجيلا بعدها بشهرين لتتفرغ لمشروع اكتشاف مواهبي، الذي أزعجني التفكير فيه والزوز يختم حكايته عن مصطفى:
. ما شفتش انت ستك؟ الله يرحمها، كانت لو نوت على حاجة، والله لو محمد علي كلاي، هتجيبه بالقاضية.
لم يفق مصطفى والزوز يحكي، وفي عصر اليوم التالي كان الزوز نائمًا حين قرر مصطفى فجأة أن نعود إلى القاهرة. في الطريق قال إنه سعيد بصيدنا الثمين الذي حفظناه مع الثلج في شنطة السيارة، واقترح أن نمر على البيت لنضعه في الفريزر ثم نذهب بعدها إلى مباراة الأهلي وغزل المحلة في الإستاد. كانت لدي أسئلة، ولكني لم أشأ أن أخدش مزاجه الرائق وغناءه المعتاد، فانشغلت بالقيادة وبإخراج بعض الجنيهات المعدنية من جيبي كي أدفعها لكارتة الطريق.
ربما قضيت في هذا ثانيتين أو ثلاثًا، رفعت رأسي بعدها على صوت ارتطام السيارة بشيء حاد لم ألحق أن أراه، قلت لعله طائر أو حجر نُسي بعد إصلاحات الطريق، وأكملت طريقي محتفظًا بالجنيهات المعدنية في يدي، ولكن مصطفى لم يكمل الغناء وظل ينظر إليَّ بعين متفحصة حتى نفد صبره وانفجر فيّ:
. ارجع نتطمن ع الراجل يا عرص!
حين عدنا، كان الرجل العجوز مستسلمًا لنا تمامًا ونحن نحمله إلى داخل السيارة، وكان بالفعل في خفة طائر. وأنا أثبت وضعه على الكنبة كان مصطفى يفصل أكياس الثلج عن صيدنا ليضعها على أماكن كدماته، أتذكره، كان به بعض الكسور أيضًا. طمأنه مصطفى وأمرني أن نذهب إلى أقرب مستشفى، وحين تحركت بالسيارة نطق الرجل أخيرًا:
. ربنا يوقف لكو في كل خطوة ولاد الحلال ويديكو على قد نيتكو. ابن الكلب خبطني وجري. تخيلوا؟!
نظرت إلى مصطفى فوجدته يجاهد لكتم ضحكته، إلا أن عينيه كانتا تبرقان رغم ظلام الطريق، قال للرجل:
. الناس لبعضيها يا حاج.
وطمأنه أكثر بتأكيده ألا يقلق من أمر تكاليف المستشفى، وانتظرني حتى ناولت عامل الكارتة الجنيهات وانخرط في نومه راسمًا على وجهه ابتسامة رائقة، ليتركني أستمع إلى الرجل الذي كان كلما زادت ألفاظه حنوًّا في دعائه لنا، زادت قسوته في الدعاء علينا.
أمام المستشفى كان المُسعفون يثبتون الرجل على النقّالة بينما أوقظ مصطفى.
. اصحى يا مصطفى، وللا عايز نقّالة انت كمان؟
ولكنه لا يرد. أفكر في تركه لنومه ثم أتذكر أنني بحاجة إلى محفظته كي ندفع للمستشفى، فأهزه قليلاً بيدي، ثم أهزه أكثر، ثم ينقطع الصوت، بين ملاحظة المُسعف وجريهم إليه، وفتح الدكتور لباب السيارة وحمل مصطفى على النقالة، وانتظاري أمام غرف الطوارئ، حتى يعود من جديد على صوت الطبيب، البقاء لله!
لم أفهم ولم أُصدم، تركت الدكتور وصعدت السلالم التي كانت تقول اللافتة إنها تصل بي إلى قسم العظام، وهناك وجدت العجوز وهم يضعون قدمه في الجبس، وفور أن لمحني عاد إلى وصلة الدعاء، كان وقع صوته عليَّ منفرًا، ووجدتني راغبًا لسبب ما في أن يموت الآن أمام عيني، إلا أنني لم أكن لأنتظره، فكنت قررت العودة إلى قسم الطوارئ كي أضع حدًّا لهذه المهزلة، وقلت لجسد مصطفى الممدد على السرير، غاضبًا من تماديه في اللعب، ومن ابتسامته المستفزة:
. فيه إيه يا عم انت؟ ما تبطل الخرا ده؟
لم يكن أمامي إلا أن أكلمه حتى أثنيه عن المواصلة في هذه اللعبة المرعبة، حتى تنفرج ضحكته المكتومة فُتحرك جسده رغمًا عنه.
. يا مصطفى، أبو تريكة جاب جون فشيخ لازم تشوفه!
. يا مصطفى، لو ما قمتش دلوقتي هوري العيال في المصنع صورك وانت بتطرطر في الصحرا! طب لو ما قمتش دلوقتي والله لا اقوم احضنك غصب عنك!
ولكن إصراره على تجاهلي جعلني أحضنه في محاولة أخيرة لاستفزازه. لم أترك فيه شبرًا واحدًا حُرًّا خارج كتفيّ، إلا يده، وقعت من يدي، فخرج مني صوتي كأني أسمعه للمرة الأولى:
. فيه إيه يا بابا؟ ما كفاية!
ثم تركته ليفكر مع نفسه وبحثت عن الحمام، ذرفت بعض الدموع فيه، دموع غريبة كنت أجهل مصدرها، حتى إنني ذقتها لأتأكد من ملوحتها. خارج الحمام سمعت أصواتًا عالية دلتني إلى مكان الاستراحة. الأهلي يُحرز هدفًا في غزل المحلة، أي لعبة تستحق أن يفوتك هدف مثل هذا يا مصطفى؟ جلست لمشاهدة المباراة حتى آخرها، وحين انتهت مواعيد الزيارات، افترض أمن المستشفى أن العجوز قريب لنا فتركوه وحده معي في الاستراحة، فمنحني حضنه عندما لاحظ رجفتي من برودة التكييف، لم أطلب منه أن يتوقف عن الدعاء، بعد قليل نام، فأغلقت عيني لدقائق ثم انفتحت مني فجأة وبي شك في أن العجوز هو الزوز الذي تركناه وحده في الجونة قبل ساعات، ولكن العجوز كان أنحف من أن يمتد الشك لأكثر من ثوانٍ، وشعرت أن من المنطقي الاتصال بالزوز وإخباره بما حدث، ولكني خشيت أن أكون بهذا أؤكد إشاعة موت مصطفى بنفسي، فنمت“.
*الفصل رقم 17