في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
شكلت لحظة 2003 نقطة تحول كبيرة في مراسيم عاشوراء بالنسبة لشيعة العراق،فبعد أن كانت طقوسهم تجري بسرية وحذر؛طوال فترة حكم صدام، صارت تجري علانية وبطريقة إستعراضية.ولكوني من مواليد نهاية التسعينات لم ألمس هذا التحول لأنني وعيت بعد سقوط صدام وشهدت ربيع الطقوس الشيعية، لكن الحديث عن ممارسة تلك الطقوس ايام حكم الدكتاتور كان طقساً متكرراً في جلساتالأسرة.شرح لنا أابي مراراً كيف كانوا يتجمعون في بيت أحد السادة الأشراف ليلة العاشر من المحرم وبعد آذان المغرب كانوا ينطلقون بمسيرة بسيطة يحملون فيها الشموع. كانت هذه المسيرة البسيطة تشكل فعلاً ثورياً أكثر من كونه طقساً دينياً وعلى إثره كان أبي وأصدقائه يتعرضون لمضايقات كبيرة من بعثيي المنطقة، فإضافة إلى كتابة التقارير، كان البعثيون يبتزون كل من يخرج في هذه المسيرة البسيطة.
هذا التضييق بدأ تقريبا من نهاية السبعينات حتى 2003،فلم يكن من السهل إقامة مجلس عزاء أو موكب حسيني تحت ظل الحكم البعثي.كانت الوشايات أو التقارير تؤدي لإعتقال اصحاب المواكب وخطباء المنابر، كل رادود ( منشد ديني شيعي) أو خطيب أو صاحب مجلس له قصة مع ضباط ذلك النظام، أما سجل الإعتقالات والإعدامات فهو كباقي سجلات نظام صدام… طويل ومليء بالأسماء. بدأ هذا التضييق تحديدا منذ عام(1977) بينما قبل هذا التاريخ كانت تقام هذه المراسيم بحرية،حتى إنه في العام(1968)كانت الإذاعة العراقية تبثُ نصاً كاملاً لمقتل الإمام الحسين، هذا ما ينقله مهتدى الأبيض في كتابه “التدين الشعبي” عن ندى الحاج في مقالها(مراسيم العزاء في العراق، النشأة والآثار والتداعيات). أما بعد العام (1977) فقد مُنعت المجالس والمواكب تماما، وصارت إقامتها مقتصرة على بعض البيوتات وبسرية تامة*.
إذن لمراسيم عاشوراء بعدٌ سياسي كونها تحمل قيماً ثورية،كبتها من قبل نظام البعث كان سبباً في تعزيز مظلومية الشيعة وترسيخاً لمفهوم الضحية المتوارث عندهم. هذا الكبت طوال 30 سنة جعل لدى شيعة العراق تعطشاً لأداء هذه المراسيم حتى جاءتهم لحظة 2003 بالإنعطافة التي جعلتهم يروون عطشهم .
بدأت بعد السقوط مباشرة تنطلق المواكب الحسينية في كل مكان من محافظات الجنوب ربما لا أبالغ لو قلت أنه لم يبق فرداً في تلك المحافظات إلا وشارك في المواكب؛التي كانت تشمل جميع صنوف العزاء ومنها اللطم والتطبير والتشابيه. أما عن التطبير فهناك نكتة شهيرة للاعلامي الأميركي الساخر جون ستيورت تشرح مقدار التحول الحاصل، يقول ستيورت”الشيعة فرحون بإطاحة حاكم كان يمنعهم من شج رؤوسهم بالسكاكين”.
وصل الشيعة إلى الحكم وأصبحت هذه المراسيم تتم تحت رعاية حكومية لأول مرة منذ خمس وعشرين سنة، وهذا الأمر بالضبط يشبه أن يقعد شخصٌ بعد صوم أمام مائدة مليئة بأنواع الطعام. عمدت السلطة الشيعية بالطبع على تجييش هذه الممارسات وإستخدامها كأداة للحشد السياسي، أيضاً ينقل مهتدى الأبيض في كتابه إجتماعية التدين الشعبي عن زهية جويرو في كتابها الإسلام الشعبي”أن السلطة السياسية أو القوى الشيعية التي أسهمت في حكم العراق بعد 2003 تدرك ان هذا الإستعراض الشعبي يعد أهم مصادر قوتها ومسوغات بقائها” لذلك صار لكل مسؤول سياسي موكبه أو مجلسه وبهذه الوسيلة يضمن السياسي أسهل طريقة للحشد. في أحد لقاءاته يذكر السياسي حيدر الملا أن جماعة سألوا عادل عبد المهدي رئيس الوزراء السابق، كيف تحولت من الماوية إلى القومية ثم أخيراً إلى الإسلام السياسي؟ فأجابهم بتصرف”لقد كنت مغفلاً،فقد كنا نقضي شهراً كاملاً من أجل كسب فرد جديد، بينما في الإسلام السياسي والخطاب الطائفي نكسب نصف مليون شخص بخطاب طائفي واحد”…وهذا يفسر كثرة ظهورعبد المهدي في المواكب.
وهذا هو واقع الحال بعد 2003، لذلك أُستخدمت طقوس عاشوراء للتعبئة الطائفية التي تخدم أجندة سياسيي الشيعة. حملت هذه المراسيم خلال الحرب الأهلية خطاباً طائفياً كان له الدور في تأجيج تلك الحرب، يظهر الرواديد (المنشدين) في الكثير من مجالسهم وهم يقرأون لطميات فيها إستهداف لما يعرف بالنواصب وهذه المفردة هي تخريجة تستخدم في الأدبيات الشيعية لتبّرر بأن خطابها ليس بطائفيّ موجهٍ الى السنة بل لناصبي العداء لأهل البيت مهما كان مذهبهم.
إما أدبيات التيار الصدري وأناشيده فهي تحمل استهدافاً صريحاً ومباشراً للمكون السني في العراق ويقابل ذلك أناشيد، ليست بنفس الإنتشار، ل”جيش محمد” وهي ميليشيا سنية واجهت ميليشيات التيار الصدري في الحرب الأهلية 2007. على هذه الوتيرة استمرت المراسيم العاشورائية خلال السبع عشر سنة الماضية، لكن مابعد ثورة تشرين(أكتوبر) ليس كما قبلها، فإن الحكومة التي ترعى المجالس الحسينية لم تحمل من قيم الحسين إلا الإسم، بل إستغلت إسم الحسين للبقاء في سدة الحكم، هذا ما قاله الشعب في ثورة تشرين.