ما تزال بيروت تلملم جراحها؛ صوت كنس الزجاج المتهشم يلاحقك حتى حين تصمت المدينة، وتفسح ما يكفي من وقت لكي يتفقدها الشهداء ليلًا، فيختلط بأصوات الذاكرة القريبة؛ معزوفة موسيقية هنا، قرقعة كؤوس هناك، وبينهما أطراف الحديث والضحكات.
غريبة هي بيروت… لم تكن هكذا حتى في أحلك سنوات حربها الأهلية، وكل ما تلاها من حروب صغيرة وكبيرة وتفجيرات وثورات وأزمات وتسويات.
هواؤها اليوم مرٌّ وحامض، يعبق بما بقي في سمائها من بقايا نترات الأمونيا المنبعث من شُحنة الموت الكيميائية، وما تختزنه أرضها من شعور موحش تتزاوج فيه الصدمة والإحباط والغضب… والخوف من الحاضر قبل المستقبل.
ليس من السهل أن تخرج بيروت من صدمتها. مشهد ما بعد الكارثة أكبر من أن يستوعبه العقل والقلب. عبارة “الحمد للّه على السلامة”. تسمعها على كل لسان وتقرأها منقوشة على غبار الدمار الذي اكتست به السيارات، حتى باتت القاسم المشترك بين شعب فرقته أزمات السلم والحرب ووحدته المأساة… ولو حتى حين.
على امتداد منطقتي الجميزة ومار مخايل، شمَّر شبان وشابات عن سواعدهم. وضعوا الكمامات على وجوههم، وحملوا المكانس لرفع التراب والغبار عن مدينتهم. هؤلاء الذين طالما كان البعض ينظر إليهم باعتبارهم فئة اجتماعية مرفهة، هم اليوم في الصف الأول، والوحيد، في رفع أنقاض المدينة، في ظل غياب تام لـ«الدولة الفاشلة» التي غابت أجهزتها عن المكان، فيما عدا بعض رجال أمن اقتصر عملهم على تنظيم روتيني للسير… وبين التدقيق في أوراق الإقامة لعمال وعاملات آسيويين وأفارقة!
عند “طلعة العكاوي” الفاصلة بين الجميزة ومار مخايل، والمؤدية الى أحياء الأشرفية التي لحقها ما لحق أحياء بيروت من دمار، هوت لافتة مطعم “هانوي”. الاسم ليس غريبًا في الخطاب السياسي في لبنان. قبل عقدين كان البلد يتأرجح بين “خيار هونغ كونغ” المرتبط بالنيوليبرالية الحريرية، وبين “خيار هانوي” المرتبط بـ “المقاومة” الحزب اللهية.
سقط “خيار هونج كونج” يوم اغتيل رفيق الحريري، أو قبل ذلك ببضع سنوات، وبالأمس تهاوى “خيار هانوي”، بعدما عبدت منظومة الفساد الطريق لخيار آخر… “خيار هيروشيما!”.
تتجاوز “هيروشيما” في مفاعيلها الموت والدمار، مؤذنة بمرحلة جديدة يقف لبنان اليوم عند منعطفها الذي يوازي في مخاطره منعطف عام 1975.
ما بعد كارثة المرفأ لن يكون كما قبلها. تلك بديهية لا يستطيع أحدٌ أن يجادل فيها. ولكن السحاب البرتقالي (للمفارقة فإن لونه هو لون شعار العهد العوني) الذي انبعث من انفجار شحنة الموت لا يزال يحجب الرؤية عن سيناريوهات المستقبل القريب، الذي بات يُقاس بمهل زمنية قد لا تتجاوز شهرًا منحها إيمانويل ماكرون للقوى السياسية حتى تحسم خيارها، أو ثلاثة يحتاجها دونالد ترامب ليحسم أمر بقائه في البيت الأبيض من عدمه.
حتى الآن لم يكشف أحد عن كل أوراقه. في الداخل، محاولات فاشلة لامتصاص الغضب، إن بوعود فضفاضة من رأس العهد المشؤوم بالتحقيق الجدي وعدم الإفلات من العقاب، أو بمناورات سياسية معلوكة كتلك التي خاضها يائسًا رئيس الحكومة أمس، حين تحدث عن خيار الانتخابات المبكرة، أو بمحاولات خطابية لاستيعاب الارتدادات السياسية للزلزال، كما فعل أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله.
كل المناورات لم تعد تجدي نفعًا، فالمنعطف الذي دخله لبنان اليوم يؤرخ لمرحلة جديدة، خياراتها السياسية ممتدة على مروحة واسعة عكسها إيمانويل ماكرون، بأسلوبه الفرنسي الخبيث والماكر، حين لوَّح بالعصا والجزرة لمن التقاهم في قصر الصنوبر (وهو بالمناسبة مكان إعلان ولادة لبنان الكبير قبل مئة عام): إما “تغيير النظام”، وفي الحالة اللبنانية يمكن أن يحدث ذلك ضمن سيناريوهات أدناها الفوضى وأقصاها الحرب الأهلية، وبين “عقد سياسي جديدة” أو بمعنى آخر نسخة محدّثة من التسويات السياسية، تحت شعار الإصلاحات، وبرعاية دولية تتصدرها فرنسا، التي ربما تكون الدولة الغربية الوحيدة التي حافظت على علاقات مباشرة مع “حزب الله”. ثنائية “تغيير النظام” و”العقد السياسي الجديد” تختزن ما يمكن اعتباره إعلانًا بأن النظام الذي عرفه اللبنانيون منذ اتفاق الطائف بات منتهي الصلاحية، فقد ظل يُحتضر لسنوات، قبل أن يدخل في حالة الموت السريري في لحظة 17 تشرين الأول/أكتوبر، التي كشفت عن هشاشة مكوِّنه الرئيسي؛ القطاع المصرفي.
وظيفة نظام الطائف انتهت منذ فترة طويلة، فكما أن حرب العام 1975، كانت بمثابة اللحظة التاريخية لتفكك نظام “الميثاق الوطني” المكرّس لتسوية ما بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1943، بعدما تقاطعت كل تناقضات الحل السلمي الممهد لكامب ديفيد عند تعقيدات الصراعات اللبنانية، جاء اتفاق الطائف ليكرّس وظيفة جديدة للنظام اللبناني في مرحلة التسويات الإقليمية الشاملة، التي انطلقت بمؤتمر مدريد.
قبل 28 عامًا، اهتز النظام المصرفي اللبناني. كان ذلك مقدمة لدخول لبنان مرحلة حريرية، التي لا يمكن القفز فوق حقيقة أن وظيفتها كانت تتمثل في تهيئة البلاد لمرحلة السلام (مؤتمر مدريد)، والتي تلاشت بتعثر عملية التسوية بين إسرائيل وسوريا برحيل الرئيس حافظ الأسد، وانتهت عمليًّا باغتيال رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير عام 2005، وفي لحظة إقليمية مفصلية (مرحلة الغزو الأميركي للعراق)، ما شكَّل حينها مرحلة انتقالية، انتقل فيها لبنان من مرحلة الـ”باكس سيريانا” (السلام السوري)، إلى ميدان لصراع مباشر بين الولايات المتحدة وإيران، افتتحت بحرب تموز/يوليو عام 2006.
كانت تلك أولى مؤشرات احتضار نظام الطائف، وكان لا بد أن تُتلى ورقة نعيه رسميًّا، لولا أن الظرف الإقليمي (ثورات الربيع العربي وما تلاها) تطلبت وضعه على أجهزة التنفس الاصطناعي، سياسيًّا واقتصاديًّا، حتى بات جثة حية قوامها تسيرها دولة “الزومبيز” التي عاشت طول السنوات الماضية على عملية القتل البطيء لشعبها.
أما وأن القتل البطيء قد تحوَّل إلى قتل جماعي، وبسلاح دمار شامل قوامه 2750 طنًّا من نترات الأمونيوم، لم يقتصر دمارها على الحجر والبشر، بل أطلقت رصاصة اللارحمة على نظام غير مأسوف عليه.
وإذا كان النظام القائم قد انتهى، فالسؤال هو في طبعة النظام الجديد. هل سيكون ترميمًا على شاكلة إعادة إعمار وسط بيروت بعد الحرب الأهلية؟ أم سيكون بناءً جديدًا على أنقاض “بيروتشيما”.
الاحتمالان ممكنان، والخيار اليوم هو بين ثنائية “تغيير النظام” و”العقد السياسي الجديد” التي حملها ماكرون، وعلى أساسها انفجر الجمر المدفون تحت رماد صدمة ما بعد الكارثة، سواء في فوضى الشارع، التي تبدت في اشتعال ساحات الثورة مجددًا، أو في فوضى السياسة، التي تبدَّت في بداية عمليات القفز الوزاري والنيابي من سفينة دولة “الزومبيز”.
قد يكون لبنان اليوم أمام نسخة جديدة من أحداث صيف عام 1840، حين أفضت التناقضات الخارجية المتشابكة مع العاميات الشعبية نهاية حقبة الإمارة الشهابية، فاتحة الباب أمام مرحلة دموية طويلة أفضت القائمقاميتين، ومن ثم المتصرفية… الفارق اليوم، هو أن القائمقاميتين ستكون قائمقاميات، والمتصرفية ستصبح متصرفيات، وبين هذه أو يمكن افتراض أن المرحلة الانتقالية ستفجر الكثير شلالات من الدم.
هل هذا قدر محكوم؟ لا يمكن حسم ذلك… ولكن الأكيد أن الإجابة لن تكون في لبنان!
*ينشر الإتفاق مع الموقع الصديق بوسطجي
**صورة الغلاف :وسام متى – بيروت