في حديقة مقهى “شي بول” عند مدخل شارع الجميزة، الذي غالبًا ما يوصف بقلب بيروت النابض، حتى في أحلك ظروف البلاد، اختلس البعض بعضًا من الوقت المتاح لهم في استراحة يومين من فترة الإقفال التام الذي فرض مجددًا على اللبنانيين، بعد تزايد الإصابات بفيروس كورونا.. صفو المكان عكره خرطوم صهريج طالت مياهه عددًا من الجالسين، كما لو كان فأل شؤم لكارثة ستحل بعد دقائق معدودة.
دوي هائل هزَّ المكان، فيما كانت سحابة من الغبار الكثيف تقترب، والضغط الكبير يلقي البعض أرضًا، كما لو أن ما يجري تجسيد فعلي لمشهد من فيلم “يوم القيامة”.
في ظل الأجواء المتوترة إقليميًّا، والمنعكسة بشكل مباشر على لبنان، اختلطت مشهدية الهلع بصرخات كانت تسمع بين الهاربين “إسرائيل تقصف”! بينما كان عمال المقهى والمتاجر المجاورة يدفعون بالنساء والأطفال من الخارج الى الداخل، تحسبًا لاحتمالات “غارة جوية” مفترضة، أو ربما شيء آخر، أخذًا في الحسبان الكثير من الخبرات التي اكتسبها اللبنانيون من حروبهم وحروب الآخرين على أرضهم.
لكن ما حل أمس في بيروت تخطى مشاهد كل فصول الحرب المعروفة: إنها الكارثة التي لم يتمكن أحد من معرفة ماهيتها، لكأن المدينة الغارقة بهمومها تحولت إلى نسخة جديدة من “هيروشيما”!
وتدريجيًّا بدأ الغبار يتلاشى، كاشفًا عن ملامح ما حل ببيروت. شارع الجميزة ليس نفسه؛ عند مدخله الجنوبي، باب خشبي هوى من بناء قديم، واستقر عند أحد الأسلاك الكهربائية المتدلية، ليفصل بين مكان تعرفه وآخر لم تألفه من قبل: حطام في كل مكان، أبنية مهشمة، زجاج وحجارة متناثرة على طول الشارع، وهلع جماعي سالت منه دماء المصابين الذين عجزت فرق الصليب الأحمر عن نقلهم، فراحت تطلب من السائقين نقل ذوي الحالات غير الخطرة بسياراتهم إلى مستشفى قريب- الروم أو الجعيتاوي – فيما انبرى متطوعون بعفوية هستيرية إلى تنظيم حركة السير.
كثيرون حتى تلك اللحظة كانوا يجهلون حقيقة ما جرى، أو حتى بؤرة الانفجار المجهول، حتى الأنباء التي أمكن معرفتها عبر الاستعانة بالراديو، بعد انقطاع خدمة الإنترنت، كانت تعكس تخبطًا في الخطاب الرسمي، تبدى بشكل خاص، حين راح بعض المسؤولين يتحدث عن انفجار باخرة تنقل “مفرقعات نارية” وهو ما كان مشهد الدمار كفيلاً بتكذيبه، خصوصًا بعدما ثبت أوليًّا امتداد قُطْر الدمار ليشمل بيروت كلها، من حي الكرنتينا، الذي لطالما دفع أثمان الحرب والسلم، مرورًا بالأشرفية التي كان زجاج مبانيها العالية يتساقط على السيارات والمارة، وصولًا إلى الأحياء الأبعد نسبيًّا؛ الحمراء، ومار إلياس، وكورنيش المزرعة، التي افترش الزجاج المحطم بعض طرقاتها.
في الأحياء المنكوبة، امتزجت صدمة الناس بصرخات هستيرية، كان الكثير منها سياسي: إسرائيل، المحكمة الدولية، والعهد القوي الذي نال النصيب الأكبر من الشتائم.
من الصعب على المرء في تلك اللحظة أن يصدر حكمًا، ولو أولي، فيما حدث. كل صرخات الناس يمكن أن تؤدي إلى فرضية ممكنة. ربما أيضًا من الغريب أن يحاول التحليل وهو يقف شاهدًا على هول الكارثة.. لكن “الطبع غلاب”، كما يُقال، وبعض الثبات الانفعالي يمكن أن يفسح مساحة ولو ضئيلة في العقل ليفكر فيما يحدث، بانتظار اتضاح الرؤية التي يحجبها الدخان، كما ضبابية المشهد الداخلي والخارجي.
رد فعل الناس كانت ملهمة في التفكير، وما حملته صرخاتهم كان ممكنًا، ولا يزال، أن يقود إلى فرضية من ثلاث:
–عمل عسكري إسرائيلي في خضم حالة التوتر السائدة من الجنوب اللبناني إلى الجولان السوري، مرورًا بالغارات على دمشق، ومعها سلسلة الأحداث الغامضة التي تشهدها إيران منذ أسابيع.
– عمل تخريبي في الداخل، أيًا كانت الجهة التي تقف وراءه، في توقيت حساس للغاية، يسبق بيومين الحكم المنتظر من قبل المحكمة الدولية في لاهاي في قضية اغتيال رفيق الحريري.
– فساد “العهد”/ “العهود” الذي وضع لبنان في حالة السقوط الحر نحو الهاوية.
الفرضية الثالثة؛ والتي باتت أقرب إلى المنطق منذ اللحظة التي بدأت تتكشف أسباب الكارثة/ الفضيحة، والمتمثلة في انفجار مخزون هائل مما اكتفي بداية بوصفه “مواد شديدة التفجير”، قبل أن تتضح ماهيتها: شحنة 2700 طنًا من نترات الأمونيوم المصادرة.
سبق أن كانت تلك الشحنة حديث الإعلام قبل سنوات. فصولها تعود إلى خريف عام 2013، حين أبحرت السفينة روسوس Rhosus التي ترفع علم مولدافيا من ميناء باتومي الجورجي متجهة إلى موزامبيق، وعلى متنها 2700 طنًا من مادة نترات الأمونيوم.
قبل أن تكمل السفينة وجهتها، طرأت مشكلات فنية، كان من الضروري معها أن ترسو في مرفأ بيروت، ولكن السلطات اللبنانية منعتها من الإبحار، وفي وقت لاحق تخلى عنها أصحابها لأسباب ليست واضحة تمامًا.
بعد سلسلة دعاوى قضائية، ركزت على مصير طاقم السفينة المحتجزة، تمت تسوية هذا الجانب من القضية، في حين أصرّ الجانب اللبناني على عدم السماح بنقل شحنة نترات الأمونيوم التي صودرت وتخزينها في مرفأ بيروت.
ومنذ ذلك الوقت، ظلت الشحنة مخزنة، ضمن شروط لا تراعي معايير السلامة، على الرغم من خطورة ما تحويه، وهو ما يمكن تأكيده في طلبات موجهات إلى قضاء العجلة، في أكثر من تاريخ منذ العام 2014، لإعادة تصدير المواد المخزنة، أحدها لمدير عام الجمارك السابق شفيق مرعي، وقد ورد فيه حرفيًّا “وحيث إنه لم يردنا لغاية تاريخه أي جواب من قبلكم، وبالنظر للخطورة الشديدة التي يسببها بقاء هذه البضائع في المخزن في ظل ظروف مناخية غير ملائمة، فإننا نعود لنؤكد على طلبنا التفضل بمطالبة الوكالة البحرية بإعادة تصدير هذه البضائع بصورة فورية إلى الخارج، حفاظًا على سلامة المرفأ والعاملين فيه، أو النظر بالموافقة على بيع هذه الكمية إلى الشركة المحددة في كتاب قيادة الجيش”؛ وآخر من المدير العام الحالي بدري ضاهر، أشار أيضًا إلى “الخطورة التي تنتج عن بقاء هذه الكمية على المكان الموجودة فيه، وعلى العاملين هناك”.
يمكن القول إن عبارة “المكان والموجودين فيه” كانت مخففة إلى الدرجة التي جعلت القضية تراوح مكانها، في ظل نظام إداري وقضائي مهترئ، يحتل المراتب العليا في مؤشرات الفساد العالمية.
مرد القول إن العبارة مخففة، هو أن العسكريين يدركون جيدًا المخاطر التدميرية لمادة نترات الأمونيوم. اللبنانيون على الأقل عرفوا باسم هذه المادة قبل ثلاث سنوات حين بات عنوانًا للمعركة الإعلامية بين إسرائيل و”حزب الله” حين حذر أمينه العام حسن نصر الله تل أبيب من أن خزان الأمونيا في ميناء حيفا “سنطاله أينما أخذوه”، بينما كان إعلامه يتباهى بأن “الكيان الصهيوني يعيش في أزمة بعد خضوعه لتهديد الأمينِ العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وإغلاقه خزان الأمونيا في حيفا خشية صواريخِ المقاومة”، حسبما جاء في أحد تقارير قناة “المنار” حينها.
عند الاقتراب بالقدر المسموح به من نقطة الانفجار في المرفأ، تبدو بيروت وكأنها قد “عادت إلى العصور الوسطى”، وهو التهديد الذي طالما أطلقه المسؤولون العسكريون الإسرائيليون ضد لبنان. لكن هذه العودة لم تكن بفعل غارات إسرائيلية وإنما بسبب الفساد الداخلي، الذي تبدى إهمالًا كبيرًا أقرَّ به رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب ضمنًا في الاجتماع الاستثنائي للمجلس الأعلى للدفاع، ليلة أمس، حين قال “لن أرتاح كرئيس حكومة حتى نجد المسؤول عما حصل ومحاسبته.. وإنزال أشد العقوبات به لأنه من غير المقبول أن تكون شحنة من نترات الأمونيوم تقدر بـ2750 طنًّا موجودة منذ ست سنوات في مستودع، من دون اتخاذ إجراءات وقائية، وهذا أمر لا يجوز السكوت عنه وتعريض سلامة الأهالي والسكان للخطر”.
وبانتظار صدور نتائج لجنة التحقيق التي أعلن عن تشكيلها بعد الاجتماع العسكري الأعلى في لبنان، ثمة معطيات أولية أمكن الحصول عليها من مصادر متقاطعة تفيد بأنه منذ فترة تبين أن العنبر الذي تم تخزين فيه شحنة نترات الأمونيوم يحتاج الى صيانة وقفل للباب الذي كان مخلوعًا، بالإضافة إلى وجود فجوة في الحائط الجنوبي فيه يمكن من خلالها الدخول والخروج بسهولة.
ثمة رواية أمنية تقول إن الانفجار وقع في أثناء عملية التلحيم للباب، وتطايرت شرارة وأدت الى اشتعال مفرقعات موجودة في العنبر نفسه أدت بدورها إلى انفجار كميات الأمونيوم، مع الإشارة إلى أن 2750 طنًا من هذه المادة توازي 1800 طن من مادة “تي أن تي”.
وإذا ما صحت تلك الروايات، لن يكون أي سيناريو مستبعدًا. قد يكون الأمر مجرد إهمال فساد، أو قد يكون “اعتداءً كبيرًا”، كما قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ما دام سيكون من السهل على أي كان التسلل إلى المكان وإطلاق شرارة الانفجار “الهيروشيمي” فيه.
منذ صباح اليوم، بدأ اللبنانيون نفض الغبار عن عاصمتهم، كما فعلوا دومًا. هذه المرة الأمر مختلف تمامًا عن الماضي، فالانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد منذ أشهر سيجعل من الصعب تأمين المال الضروري لترميم ما تضرر.
هذا كان حال أحد أصحاب المتاجر الصغيرة في منطقة الأشرفية ليلاً، كان ملمحه يجمع بين الصدمة والخيبة، بينما كان بضعة شبان يعبرون في إحباط بات السمة المشتركة بين الشباب اللبناني تجاه الطبقة السياسية الحاكمة، اختزلته عبارة قالها أحدهم “غدًا يلملمون الجريمة كعادتهم”!
*ينشر الإتفاق مع الموقع الصديق بوسطجي
**صورة الغلاف :وسام متى – بيروت