حكاية ربما لا تعرفها
في 1988 نشر بيتر ديسبرج الأستاذ في جامعة كاليفورنيا ورقة علمية تخلص إلى أن ڤيروس الإيدز HIV ليس هو المسبب لمرض ”نقص المناعة المكتسبة“، لم يكن السيد ديسبرج وحيدًا، كانت هناك بعض المراكز العلمية وعلماؤها تتبنى وجهة النظر نفسها، أو وجهات نظر مشابهة وصلت لإنكار وجود الڤيروس من الأساس، كان هذا عكس أبحاث علمية أخرى بدأت مع بداية اكتشاف المرض في بداية الثمانينيات تربط المرض وأعراضه بهذا الڤيروس تحديدًا، استمر الجدل العلمي لسنوات، وهو جدل صحي في إطار العلم فهذا التفاعل بين الفرضيات والأبحاث يدفع دائمًا لتقدمها.
(يمكنك عزيزي القارئ أن تبحث بنفسك عن كيف تطور الاختلاف العلمي بين الفريقين، فلن تجده هنا لأنه ليس الحكاية المقصودة!)
حكايتنا كانت في نقطة أبعد كثيرًا وبعد بداية هذا الخلاف العلمي بسنوات، في جنوب إفريقيا وفي منتصف عام 1999 انتخاب السيد تابو ميبيكي رئيسًا للبلاد، السيد ميبيكي ولد عام 1942 لعائلة ذات اهتمامات ونشاط سياسي ودرس الاقتصاد في جامعات أوروبا وكان نشطًا سياسيًا حتى انتخابه رئيسًا، ولأسباب لا نعلمها تحديدًا تبني رئيس الدولة الجديد آراء البروفيسور ديسبرج وصحبه، الرأي الأضعف علميًا في ذلك الوقت – والذي ربما يكون انتهي الآن – بأن مرض نقص المناعة المكتسب لا يسببه ذلك الڤيروس بل يسببه سوء التغذية أو نقص النظافة الشخصية أو أشياء مشابهة. عين رئيس الدولة الجديد وزيرًا للصحة يتبنى الآراء نفسها ويرى أن علاج نقص المناعة المكتسب يكون أفضل عن طريق البنجر والثوم وعصير الليمون، حتى هنا قد تبدو الحكاية مسلية، للأسف السيد ميبيكي ووزير صحته حولا قناعاتيهما إلى سياسات صحية فقد أوقفا العمل ببروتوكولات علاجية لمرضى الإيدز؛ أوقفا دعم الهيئات الصحية التي تستخدم أحد العقاقير الذي يمنع انتقال المرض من الأم الحامل إلى جنينها، وأوقفا حملات تبرع لشركات تعمل على تطوير أحد مضادات الفيروسات … النتيجة النهائية لقناعات السيد ميبيكي وسياساته الصحية كانت ما بين 343 و 365 ألف وفاة بالأيدز كان يمكن منعها – نعم الرقم كما قرأت.
حكاية أقصر كثيرًا
في الأسبوع الأول من شهر مارس 2020 كان رئيس الوزراء البريطاني بوريس چونسون يلقي بخطاب للمواطنين، خاطبهم فيه قائلًا “إنه ربما يسعدكم معرفة أنني سأستمر في مصافحة الجميع” كان هذا بعد أن أخبر رئيس الوزراء المواطنين بأنه زار مستشفى اليوم الفائت بها مرضى مصابين بالكورونا وصافح الجميع!
بعد شهر تقريبًا تم إدخال السيد چونسون إلى الرعاية المركزة بعد إصابته بفيروس سارس- كوڤ -2 وتدهور حالته.
السياسات الصحية التي تبنتها الحكومة البريطانية في بداية الأزمة ؛ ”مناعة القطيع“ ورفض تدابير الإغلاق والتباعد الاجتماعي وعلى حسب دراسة ظهرت في أواخر مارس، نفس الأسبوع الذي أدخل فيه رئيس الوزراء إلى المستشفى، كانت من الممكن أن تؤدي إلى ما يقرب من نصف مليون حالة وفاة بالڤيروس، وقتها قرر السيد جونسون بدء العمل بالتدابير المعروفة، متأخرًا لما يقرب من ثلاث أسابيع.. النتيجة هي توقعات بأن بريطانيا وحدها سيكون لديها ما يقرب من 40٪ من وفيات أوروبا بعد انتهاء الموجة الحالية بما يقرب من 66 ألف مواطن فقدوا حياتهم..
1
لا أعرف إن كانت الحكايات السابقة مكتملة “أدبيًّا” على مستوى “السرد”، ولكن أعرف إنه ينقصنا الكثير لنعرفه فيما يتعلق بتفاصيلها المرتبطة بالعلم، فمثلًا على ماذا استند منكرو الإيدز؟ علام بنى أصحاب فكرة مناعة القطيع وجهة نظرهم؟ كيف قدرت أعداد من ماتوا بالإيدز في جنوب أفريقيا أو من قد يموتوا بكورونا في إنجلترا؟ ماذا يعني أن وفيات الإيدز في جنوب أفريقيا كان يمكن منعها؟ كيف يتكون الدليل العلمي على صحة أو خطأ فرضية طبية ما؟ ما تعريف هذا “الدليل العلمي” من الأساس؟ هل هناك أدلة علمية أقوى من أخرى؟ ما المعايير التي تنشر على أساسها الدراسات في الدوريات والمجلات العلمية المتخصصة؟
أظن عزيزي القارئ أنك إذا كنت غير متخصص في تخصصات علمية ما فربما لم تفكر في معظم الأسئلة السابقة وفي الأغلب ستجد صعوبة شديدة في معرفة أي من إجاباتها، وهذا ليس خطأ منك بالقطع، الحقيقة إنه غير مطلوب منك أن تعرف، فكما تعرف في عالمنا الحديث تعقدت وتشابكت التخصصات العلمية، تنتج البشرية يوميًا معرفة هائلة في كل المساحات تجعل من المستحيل على الفرد متابعتها ومعرفتها كلها، الأسئلة السابقة إجاباتها تقع في تخصصات متعددة مثلًا علم الفيروسات، الإحصاء، الميكروبيولوجيا والمناعة، الصحة العامة ومن يعرفون إجاباتها ضمن معرفتهم الدقيقة بتخصصهم يقضون أعوامًا للحصول على تلك المعرفة..
2
دعني عزيزي القارئ أحدثك من موضعي الشخصي، فقد تخرجت في كلية الصيدلة، وعملت لما يزيد قليلًا عن عقد كامل في صناعة الدواء في الشرق الأوسط؛ ضمن فرق عمل شركتين من ضمن الخمس الكبرى في العالم، قرأت مئات الدراسات الطبية بل وشاركت في بعضها، التي شاركت بها تسمى دراسات سريرية في المرحلة الرابعة Phase IV clinical trials، نعم، هم أكثر من مرحلة ووقتها كان نادرًا أن تجري مراحل أسبق في الشرق الأوسط – في خلال هذه السنوات من الدراسة والعمل تعلمت، لا الإجابة عن الأسئلة السابقة، بل كيف يمكن أن أجد الإجابات وإن وجدتها كيف أفهمها وأين أجد تقييم الأدلة العلمية، وكيف أفهم النماذج الإحصائية خلف تلك الأدلة العلمية. ربما تتساءل عزيزي القارئ غير المتخصص عن علاقة الإحصاء بكل هذا، العلاقة أوثق مما تتصور، التجربة العلمية هي علمية فقط إذا كانت قابلة للتكرار والقياس، في كل مرة نجريها نحصل تقريبًا على النتائج نفسها ونستطيع قياس تلك النتائج بشكل دقيق ونستطيع استبعاد ما إذا كنا حصلنا على تلك النتائج مصادفة، هذا ما يقوم به علم الإحصاء في حالتنا بشكل مبسط للغاية..
3
والآن عزيزي القارئ دعنا نأخذ مثلًا توضيحيا عن الفارق بيني – حتى وإن كنت توقفت عن ممارسة مهنة الصيدلة الآن- وبين القارئ غير المتخصص في التعامل مع خبر ما يخص أزمتنا العالمية الحالية مع فيروس الكورونا اللعين، نشرت مواقع إخبارية عالمية ومحلية أخبار عن دراسة علمية تؤكد بقاء فيروس سارس-كوڤ – 2 المسبب لمرض كوڤيد-19على الأسطح مثل الكرتون والحديد والنحاس لساعات قد تصل لأيام على بعض هذه الأسطح والأسوأ بقاؤه في “الهواء” لثلاث ساعات، معلومات تبدو مخيفة ويتبعها بالضرورة حذر أكبر للتعامل مع هذا الفيروس اللعين، بدأت الأخبار في الانتشار على السوشيال ميديا وزاد الذعر، هنا الشخص غير المتخصص الذي يريد أن يتأكد سيبحث عن مصدر الخبر فسيجد فعلًا أن هناك دراسة منشورة وأن وسائل إعلامية رصينة قد نشرت الخبر، القارئ المتخصص – ولو سابقًا مثلي – سيبحث عن الدراسة الأصلية ربما على جوجل سكولار وهو محرك بحثي مختلف عن جوجل الذي يستعمله من لا يبحث عن دراسات علمية، “الدراسة” منشورة في نيو إنجلاند چورنال أوف ميديسن New England Journal of Medicine أحد أعرق الدوريات العلمية ولكن المفاجأة الأولى أنها ليست منشورة كدراسة بل كـ ”خطاب بحثي“ وهو تقرير مختصر عن دراسة ما، عنوان “الخطاب البحثي” كان Aerosol and Surface Stability of SARS-CoV-2 as Compared with SARS-CoV-1
الأهم أن الدراسة الأصلية، وكما يبدو من عنوانها لم تكن تدرس بقاء سارس-كوڤ – 2 على الأسطح، الدراسة الأصلية أجريت لمقارنة “استقرار” سارس – كوڤ- 2 بسارس – كوڤ-1 على الأسطح وفي “مجال من الأيروسول”- لا مجال هنا لشرح ما هو هذا الأيروسول، ولكنه بالقطع ليس له علاقة بالهواء الذي نتنفسه والذي يحيط المواطنون في أي مكان يتحركون فيه، كانت هذه المقارنة تتم في ظروف قياسية في المعمل، تختلف تمامًا عما نتعرض له في حياتنا اليومية وما يمكن أن يتعرض له الفيروس في بيئتنا الطبيعية، أصحاب الدراسة في خطابهم البحثي يخلصون إلى أنه لا توجد فروقات بين سارس-كوڤ-2 وسارس-كوڤ -1 من حيث البقاء على الأسطح وأن قدرته على العدوى تختلف لأسباب أخرى!
ببساطة هذه “الدراسة” التي لم تصبح دراسة منشورة بعد! ولا نعرف تفاصيلها كاملة وهي ليست موجهة إلى العامة، وهي بريئة من الاستنتاجات التي إذاعتها وسائل الإعلام عنها. هل يعني هذا أن الفيروس لا ينتقل في الهواء؟ الإجابة أن هذه “الدراسة” لا تملك إجابة فلم تبحث هذا من الأساس.
إجابة هذا السؤال بالنسبة للمواطن غير المتخصص نشرتها منظمة الصحة العالمية على موقعها، حتى الآن ما نعرفه أن الفيروس ينتقل عن طريق الرذاذ الخارج من شخص مصاب وأن قطرات الرذاذ هذه أثقل من أن يحملها الهواء. هذه هي الإجابة التي نعرفها حتى الآن، ربما تظهر أدلة علمية لاحقًا تخبرنا بمعلومات أخرى…
يُمارس الطب، ومنذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وفقًا لوجود دليل، الممارسة تسمى Evidence-based medicine
تتخذ قرارات العلاج أو الوقاية على حسب أفضل ما نعرفه حتى لحظة اتخاذ القرار وأفضل ما نعرفه هو فقط ما لدينا عليه دليل أقوى من أدلة احتمالات أخرى.
فهل هذا مقال يدعو ألا يبحث أو يقرأ أو يتفاعل غير المتخصصين مع شأن عام مثل وباء يهدد سكان الكوكب بأكمله؟ الإجابة لا قاطعة. ربما تتساءل عزيزي القارئ عن هدفي من كل هذا وعلاقة عنوان المقال “كيف تهبط الطائرة” بما كتبته هنا، دعني أخبرك بهذا في الجزء الثاني من هذا المقال.