اكتشاف الامتيازات
أول ما يلاحظ المرء في زمن الحظر امتيازاته!
في هولندا، حيث أقيم، فضلًا عن الامتيازات المعهودة في أوروبا الغربية، وبالأخص لموظفين في هيئات دولية أو شركات كبيرة والتي لا داعي للإشارة إليها في تفاصيل الدخل والأمان الوظيفي والاجتماعي، كان لنا امتياز حتى على الفرنسيين والايطاليين والإسبانيين، إذ اختارت الحكومة طريقًا وسطًا في الحظر، شمل إقفال عدد من المرافق التي تتطلب القرب الجسدي، ومنها مكاتب العمل حيث أمكن، لكنها لم تلزم الناس بالحجر في منازلهم. فجأة، بات الخروج من المنزل امتيازًا على شعوب مجاورة متقاربة المستوى المعيشي والتنظيم الاجتماعي.
امتياز آخر مفاجئ في هذا الظرف كان استمرار الطقس الجميل، بل والحار أحيانًا، لأكثر من شهرين ونصف الشهر. هكذا كان بإمكان المرء أن يقضي معظم وقت الحظر متجولًا، وإن كان يتفادى الآخرين ويتفادوه في نزقٍ أحيانًا، في حدائق وغابات المدينة أو على شاطئ البحر شبه الخالي، مكتشفًا ربما للمرة الأولى الزوايا المتشابهة للمدن الثانوية في الشمال الأوروبي. بل وكان من حظي امتياز إضافي؛ إذ كنت من القلائل الذين كان في وسعهم الذهاب إلى المكتب للعمل حينما يشاؤون، فحتى وإن شابهت المكاتب أفلام نهاية العالم فإنها تحتفظ ببعض الألفة وإشاراتنا وملامح ذكرياتنا على سطح المكتب أو بجانب الكمبيوتر، فيما الآخرون ملزمون بالعمل من بيوتهم.
الشباب (النسبي طبعًا) عنى أيضًا امتياز التحرر من الخوف من المرض نفسه، إذ أشارت كل الإحصاءات إلى ضآلة جسامته وخطورته على من تقل أعمارهم عن سن التقاعد. كل ما كان في بداهة الظن أن الكوارث لا تصيب إلا الآخرين بات امتيازًا مكشوفًا أمام العينين. لكن ربما كان هنالك امتياز إضافي فوق كل ذلك، إذ أتاح تباطؤ كل شيء من حولنا، وامتناع السفر، وقتًا فائضًا لا نكاد نعرف كيف ننفقه، وفي ذلك شعور طفيف بالذنب، وكأنما سيسأل واحدنا عن حظره فيما أفناه.
سيولة الزمكان
يشبه المكان في هذه المدينة الزمان!
في وسطها التاريخي الصغير، بضع شوارع تعد على أصابع اليدين، فيها المحال التجارية والسينمات والكازينوهات المقفلة وبعض المباني التاريخية ومعالم السلطة من برلمان وقصر ملكي ومتاحف غنية مع صغرها. خارجها تتشابه الشوارع تشابهًا مخيفًا. يمكن التخمين ربما أن شوارع متقاربة بنيت بعد الحرب العالمية الأولى، وغيرها بعد الثانية التي شهد بعض الدمار في أثناء الهجوم الألماني، وسواها من المباني الزجاجية الأعلى ارتفاعًا والأقبح منظرًا في الأعوام الأخيرة في ظل اقتصاد مزدهر وفائض مالي لا يعرفون أين يستثمرونه.
الزمان أيضًا رتيب متشابه. الثورات والحروب انتهت منذ زمن بعيد. ما تبقى هو إدارة تقنية، تميل يمنة أو يسارًا، ولكن دون انعطافات قاسية. لا يمكن تذكر أحداث مميزة ربما منذ ثلاثة أرباع القرن.
زمن الحظر هو زمن رتابة إضافية. لكن الرتابة على غير المتوقع لا تجعله أطول! لاحظ أحدهم أن زمن الحظر كزمن السجن، دقائقه طويلة لكن أيامه، بل وأشهره، سريعة. دخلنا هذه المرحلة من الحظر قبل أحد عشر أسبوعًا، مروا دون أن ألاحظهم أو أن يستوقفني فيهم عبورهم نفسه. هو زمن سائل بالضبط مثل البلوكات الطويلة من المباني ذات الطوب البني المتلاصقة المتشابهة. تخيل صفًا طويلًا من المداخل، وقد نزعت عنها أرقامها. كيف سيعرف الساكن مسكنه؟
هكذا تمر أسابيع وأشهر الحظر، دون أرقام. تختلط بعضها ببعض، وإذ لا أذكر مبدأها، فإني لا أذكر أيضًا أية معالم على طريقها.
كلما ابتعدنا عن الوسط التاريخي ذي المعالم القليلة لكن الواضحة، باتت الشوارع مثل الأوتوسترادات التي نعبرها في سيارات سريعة، فلا نشعر بسرعتنا إلا حين ننظر إلى أعمدة النور وإيقاع المرور الذي يلقيها خلفنا. السرعة أيضًا سيولة الزمن لولا هذا الإيقاع.
لا غرابة أن اشتقت العربية من الجذر نفسه والإيقاع والوقائع. ليس الإيقاع بالضرورة تكرارًا منتظمًا، لكنه تشديد على حوادث تقع على مسافة ما من بعضها. الوقائع أي الأحداث الجسام، أو المعارك الكبرى، كانت أيضًا ما يؤرخ به العرب حيواتهم، إذ على وقع إيقاعها يمكن تقدير مرور الزمن، فكان لهم عام الفيل وعام ذي قار وعام الهجرة.
في زمن الحظر، حين لا إيقاع ينظم حيواتنا، لا إيقاع العمل ولا إيقاع أحداث التاريخ الذي بدا كما لو أنه توقف هنا وفي كل مكان، يمر الزمن في سيولة نهر لا نستبين جريانه، ولا ندري هل دخلنا فيه مرتين أم أننا أصلًا لم نخرج بعد من رحمه. إذ لا وقائع تخرجنا من المتشابه تمامًا كتشابه الأبنية في شوارع المدينة هذه.
الجسد والمؤامرة
تبدت مظاهر كثيرة للخسة في فترة الكورونا، في بلاد كثيرة حيث خاف الجيران من جيرانهم الأطباء أو الممرضين، أو رفضوا إنشاء معزل في منطقتهم، بل ورفضوا حتى دفن جثث الموتى أحيانًا. وترافق ذلك مع استخفاف شديد بالفيروس، ورفض عارم للتباعد وانتشار لنظريات المؤامرة التي وراءها أرباح شركات الدواء أو بيل جيتس في صورة شرشبيل الشرير. قد نبحث عن أسباب كثيرة لهذا التناقض النذل، لكن أحد أسبابه في تقديري هو الشعور بالجماعة الذي يميز من تصرفوا هكذا على اختلاف بلدانهم.
والجماعة دائمًا موضع مؤامرات الآخرين، وهدف عدوانيتهم. فيما حضن الجماعة ملجأ آمن يحمي، ووحده الخارج، الغريب، الملوث، من يحمل إليه الخطر والموت. أما البقاء مع الجماعة فهو عين الأمان والصحة والسلامة. في مواجهة مثل هذه الجماعات الخسيسة، يمكن القول إن شعورًا ما بالتشارك في المصيبة والحظر وتفهم مصائب الآخرين وتقدير شجاعتهم يبزغ أيضًا، ووعي بأن البشر جميعًا تهددهم الأخطار نفسها، ومن ثَم يمكن أن ينطوي ذلك على بذرة لتشكل جماعة جديدة أوسع من القبائل والعشائر والتقسيمات المناطقية والجهوية والوطنية والقومية. ربما تصمد هذه البذرة وتكبر وتتفتح في صورة وعي إنساني كبير، بل وعي بيولوجي يشرك الطبيعة معنا كامتداد لا ينقطع. وقد تموت هذه البذرة أو قد يتطلب ذلك وقتًا اطول مما تسمح به عوامل اختناقنا الكثيرة.
في خلال ذلك، يجعلني امتيازي أمة وحدي. أنا المعزول عن كل جماعة في بلد غريب، تجعلني العزلة والمشاوير الطويلة في الغاب على تماسٍ مباشر وآني مع جسدي، أي في معنى ما مع وحدتي وفرادتي.
التكنولوجيا التي أحملها تراقب تنفسي، نبضات قلبي، عدد خطواتي والسعرات الحرارية التي أحرقها. هذه الأرقام صورة أخرى عن جسدي، لكنها تكمل ولا تغيّب معالم الجسد الأخذ في النحول، الحريص فيما يأكل، ولا خدر العضلات أو ألم الرقبة وطقطقة الركبة. هذا الألم، الطفيف، المفرّد، يحمي من هاجس الجماهير في هذا الوقت، مثلما يجعل كل كلام لا ينطلق من ضرورة تجنيب الآخرين الألم والمرض هذرًا حتى لو نطق به أجامبن!
“الرجل الذي أغوته فراشة العزلات” (بسام حجار)، أنا أطارد صور الأزهار والفراشات القليلة وبعض النحلات فوقها، أجد في عزلتي خوفًا على الآخرين، وانفصالًا تامًا عنهم. الخوف جسر المعزول المنكسر في منتصفه كجسر أفينيون الشهير في الأغاني.
هوايات زمن الحظر
تتناسب هواياتي المكتسبة زمن الحظر معه. أولاها الشمس. تلك التي بزغت استثنائيًا في هولندا لنحو ثلاثة أشهر دون انقطاع! الشمس شعور سائل حيث النهار شديد الطول ها هنا، حتى لا تكاد تغرب قبل التاسعة والنصف مساء. أنا القادم من بلاد المناخ المعتدل والوقت المعتدل، أجد الوقت يسيح ويتمدد فلا تعود الشمس تسعفني في فهم متى تكون الثانية عشر ظهرًا ولا يرتبط المغيب بالسابعة.
المشي في الشمس يغيّب كثيرًا الملامح المتشابهة للمباني وللناس هاهنا. لكنه يحمل النباتات والأشجار على الإزهار مرة تلو مرة تلو أخرى. تبدو أشجار الماجنوليا المنتشرة على الطريق إلى المكتب بحارًا متلاطمة الأمواج من كاسات زهرية وبيضاء (وبعضها أحمر نبيذي لكنه أندر على هذه الطريق)، فيما تلوح أشجار الكاميليا المجاورة لها كأنها مكتنزة بورودها الحمراء مثل صناديق مجوهرات ملكية.
اذ تتكرر المشاوير يوما بعد يوم بعد يوم، ينفسح الوقت كي أرقب أزهارًا أخرى، من النيبال، تنشق واحدتها عما أظنه بتلاتها، فإذا بالبتلات هذه تنتشر كأجنحة مروحية، ثم تفرد كل منها أوراقها زهرة مكتملة في هرم من الزهور المتراكبة بعضها على مناكب بعض. تلك زهرة أخرى ترسم أوراقها المتقاطعة بفراغ الفجوات ما بينها زهرة منجّمة. وأخرى تنشر أذرعها أمامها حادة ملونة بألوان الدبابير في الكارتون. بعض الزهور تتفتح كانفجار مفاجئ من الداخل إلى الخارج، فيما تبدو أخريات على امتداد الأيام كأنها تتحرك في حركة لولبية كتنورة راقصة، أو يشرئب عنقها المنكسر إذ تتفتح في أبهتها. بعضها مهرجان من الفرح وبعضها دم البهجة الفوار.
أصورها بتليفون تبدو ذاكرته لانهائية، يومًا بعد يوم بعد يوم، وأشاركها أحيانًا صديقي فادي عوض، الذي اكتشف الهواية نفسها في قارته الأخرى. أستمع إلى صوته الرخيم يقرأ مقتطفات من نصوص تراثية من أزمنة الوباء وينتزعها بذكاء من عهدها إلينا. هل نحن مستقبل حلم به كاتبوها أم تكرار لماضيهم؟ أقول لفادي أيضًا عن الموشحات التي بدأت في حفظها، بعض تلك النصوص كان قديمًا حين ذكره الشيخ شهاب في سفينته، ولا زالت ألحانها تنساب مطربةً بجملها الطويلة المتعرجة وإيقاعاتها العرجاء والمعقدة تخاتل قائلها في توقيع الكلام على أزمنها بعد أكثر من قرنين.
ما لم أشاركه إياه بعد هو صور الشجرات القتلى ضحايا العناكب. كيف يخنق العنكبوت الصغير شجرة ضخمة؟ يحيك خيوطه كثيفة حول أوراقها، يلتف أكثر فأكثر حتى تموت الأوراق ثم الأغصان وتختنق الشجرة، فيما يحول العنكبوت أغصانها إلى مصائد ضخمة مغزولة كالقطن.
في أثر إيمان مرسال
الكتب هي من تختارنا، لا نحن من يختار!
أو على الأقل هي تختار أوقاتها. اذ وصلتني من مصر مجموعة من الكتب والروايات، مدعومة بتوصيات من صحب كثيرين، لم أكد أفتح واحدها إلا أغلقته.
في مطلع زمن الحظر ناداني كتاب إيمان مرسال الأحدث “في أثر عنايات الزيات“. كنت قد قرأت قبل بضعة أشهر كتيبها العظيم عن الامومة وكيف تلتئم. وربما كان في كل التئام شيء من لؤم ضروري لتجاوز الجرح، أو من الألم يتشارك ثلثي أحرفه مع كلمة الأم. وجدته في كتابتها القاسية المسنونة. تساءلت هل ستكتب كأمٍ عن عنايات أم كابنة لروائية من جيل أقدم لم أكن قد سمعت عنها من قبل.
كانت سليقتي اللغوية قد جعلتني أحسب عنوان الكتاب “في إثر عنايات الزيات“، أي ربما السير إثرها، أي خلفها، بحثًا عنها. لكن حين دققت مرتين في الغلاف وجدت الهمزة واضحة فوق الألف. لا شك أن إيمان مرسال تعمدت ذلك، فلن يفوت حساسيتها مثل ذلك لو كان خطأ في تصميم الغلاف. “في أثر عنايات الزيات“، كما نقول “في شأن الوقت” أو “في الأدب” اختصارًا لـ“مقالة في الأدب” أو “في الزمن” (فرانسوا جوليان) مثلًا. لكن أي أثر هو ذلك الذي خلّفته الروائية ذات الرواية اليتيمة المنشورة، مشوهة ربما، بعد انتحارها في يناير 1963، حتى تقتفيه إيمان برهافتها؟
يبدو أن موضوع الأمومة لم يفارق أيًا منهما منذ صارتا، ولئن كان الحرمان من الابن ربما فاجعة في حياة عنايات، افتتحت إيمان حياة جديدة بعدها إلا أنها لا تغفل ـ في كتابها الذي يغيب عنه الرجال تقريبًا بالكامل فهم لا يُسألون بل يساءلون حصرًا مساءلةً تظل دون إجابة ـ عن ملاحظة أن قبر عنايات يحمل شجرة نسب أمومية (ص 163) وكأنها مطرودة الشجرة الأبوية! هل تكتفي إيمان بالتعاطف مع موضوع “مغامرتها الكتابية” على ما يقول الناشر، أم أنها في الحقيقة “حامل بحياة كاملة، بشخص له تاريخ” (ص208).
يتبدى الحمل في عملية توازٍ رهيب بين قصة عنايات نفسها، وبين قصة إيمان مرسال التي تقتفي أثر عنايات، وبين قصة إيمان مرسال التي كانت في مصر قبل هجرتها. إيمان التي تقتفي أثر عنايات التي فتنتها منذ قرأتها مثلما كانت عنايات تقتفي أثر كايمر الذي سحرتها تفاصيل حياته وغرامه العاطفي بالكتب. في شكل ما، كان مستقبل عنايات قديمًا، محكومًا عليه كما ذكرت إيمان أو ربما كانت عنايات من ذكرت (ص 152)، لكن أيضًا كان مستقبلها المحلوم، لو كانت قد نجحت أو قد ولدت متأخرة بضعة عقود، هو ماضي إيمان مرسال الذي تركته بعد أن تركت القاهرة والجامعة والحياة الثقافية القاهرية في التسعينيات. العلاقة بين عنايات وإيمان، المصابتان بالهلع والقلق، “علاقتنا” (ص162) تقوى وتتعزز حتى تقول إيمان إنها التقتها في التسعينيات وانتحرت في يناير 1993 (أيهما؟).
في يناير 1967 نشرت عائلة الزيات في الأهرام صورة لها وكتبت “ذكرى المرحومة عنايات الزيات… بقلوب عامرة بالصبر والإيمان تحيي الأسرة ذكراها اليوم التي لا تُنسى بمدفن المرحوم رشيد باشا بالعفيفي“. وودت إيمان، التي يزعجها نفور في الجملة، لو كانت هنالك لتؤخر “اليوم” إلى ما بعد الفعل. أحسب أن سبب انزعاج إيمان (ص5) ربما هو حساسيتها الشعرية الفائقة. في الصياغة هذه قدر هائل من الشعر ربما يتوجب اللجوء إلى النحو والقواعد والتحرير الصحافي لإلقاء غلالة عليه وإخفاء وجهه. يصعب ربما أن أقول بالضبط أين هو وكيف ولماذا، ربما هو في ربط اليوم بالذكرى، لا بإحياء الأسرة لها، أو بكلام آخر ربما أقل دقة فإن “ذكراها اليوم” هو ما تحييه الاسرة، فكأن ذكرى الأمس أو الغد مسائل لها إحياء مغاير أو لا إحياء لها، أو ربما كان في الوقفة الإلزامية للتنفس بعد أن نقرأ “اليوم” فتعود إلينا كموجة خماسين قائظة الحرارة “التي لا تنسى“! ربما كانت رغبة إيمان مرسال في أن تكتب “تحي الأسرة ذكراها التي لا تنسى، اليوم“، صورة أخرى من كتابتها كيف تلتئم جراح الأمومة.
الكارثة وجروح صورتنا
الباسوورد هو كلمة سر العالم الجديد والعمل عن بعد!
كان دولوز قد لاحظ قبل زمن بعيد جدًا موضوع الانتقال من مجتمعات التأديب إلى مجتمعات السيطرة حيث لا ضرورة لحجز الناس، بل فقط الطلب إليهم ادخال الباسوورد في كل انتقال من حال إلى حال. لكن هذا الانتقال حتى عشية الجائحة، لم يكن ناجزًا. استمرت الحاجة إلى إرسال الأطفال إلى المدارس، والعمال إلى المصانع، والمساجين إلى الزنازين، والموظفين إلى علب مكعبة تسمى مكاتب. لكن المصانع، مع الوقت، انتقلت إلى الصين، وهولندا تؤجر سجونها لدول أخرى أو تقفلها لقلة المساجين، والأطفال يقضون وقتًا أطول مع الروبوتات والشاشات منه على المقاعد الخشبية التي كانت تؤلم مؤخراتنا. وقبل الحظر بأسابيع قليلة، كنا في العمل قد اعتمدنا نظامًا جديدًا للعمل عن بعد في بعض أيام الأسبوع تحت شعار الاهتمام بالموظفين وراحتهم. كان دولوز أيضًا قد لاحظ أن مجتمعات السيطرة أيضًا ستعني معاملة كل إنسان كمريض محتمل عليه أن يراقب معطياته الحيوية وحالته الصحية بل وأن يبلغ السلطات عنها. ولئن كنا قد اعتدنا على أن المرء يفكر يوميًّا في وزنه وأكله وشربه وسعراته الحرارية، ويحضّر جسمه لشيخوخته ويقيس ضغطه والسكر، لكن الجائحة عنت بالضبط اعتبار كل شخص، بما في ذلك النفس، ومعاملته ومعاملة الذات كحامل ربما للفيروس القاتل الغامض الذي يترك المصابين به في ثمانين في المئة من الحالات دون إشارات ولا عوارض!
لكن الجائحة، في وصفها كارثة، لم تجترح هذه الأحوال في ذاتها. الكارثة هي ما يمر ويترك كل شيء بالضبط على ما كان عليه، مثلما لاحظ موريس بلانشو، كما لو أن لا أثر يدل عليها. في كلام أقل تكثيفًا من قوله، الكارثة لا تُنشِئ بل تكتفي بالكشف عن خطوط الانهيار التي نتعامى عنها في صورتنا عن نفسنا وعن العالم، توسّع الجراح التي تشطب جلدها، وتسرّع الشقوق المتكاثرة في دهانها. هي ربما كالألم عارض يكشف لنا عضلات أو مفاصل أو عظامًا لم نكن ندرك أنها فينا ولا وتيرة استعمالنا لها، لكن الألم ليس أثرها ولا السرعة يمكن اقتفاؤها.
ليس سرًا أن المثال التقليدي للتعلم بات بائدًا مملًا للطلاب مقارنة بوسائط الإنترنت والحواسيب التي سترافقهم طيلة حياتهم، ولا أن سلاسل التوريد البالغة الطول والمتعددة المصادر لتصنيع منتج واحد تتحدى أي عقلانية غير مالية، ولا أن تركيز العمالة في الصين معضلة تبرز نتائجها في كل حين وكل استفتاء أو انتخاب في الغرب، ولا أن انهيارات البيئة وتغيرات المناخ والقضاء على الطبيعة التي يمكن للحيوانات والحشرات أن تعيش فيها يهدد تنفس البشر وليس فقط صحتهم، فضلًا عن اضطرار الملايين منهم إلى الهجرة، ولا أن استكمال المكننة لن يكون إلا بإحلال الروبوتات محل العمالة وإن رخصت، وقذف ملايين جديدة إلى صحراء البطالة، وأن الأزمات المتكررة الناتجة عن انفصال البورصة والمصارف عن الاقتصاد الحقيقي لا مخرج منها الآن لأن الحياة السياسية نفسها قد احتلها المنطق المحاسبي المالي نفسه، ولا أن الهوة المتفاقمة بين دخول الأغنياء ودخول موظفيهم، بل العاطلين، أصبحت تقارن بأرقام فلكية تجعل من استمرار قدرة هؤلاء الموظفين أو العاطلين على تمويل نمو ثروة الأغنياء أنفسهم موضع شك. لم تجترح جائحة الكورونا أيًّا من ذلك، لكنها فقط جعلت من المستحيل إشاحة النظر عنه.
لهذا ظن كثيرون في البداية أن عالم ما بعد الكورونا سيكون أفضل، لأن البشر لا بد سيعالجون هذه المشكلات. غير أن أولى الإشارات الواصلة إلينا تعاكس ذلك تمامًا. المنطق المالي يزداد تغولًا، التحركات السياسية أضعف من أن تقاومه، اليسار خاوٍ واليمين انتهازي، الأجانب والمهاجرين أكباش محارق قادمة، أما معايير البيئة فتنهار عند معارضتها بضرورات استمرارية الوظائف وربح رأس المال سهل الانتقال بخلاف الأشخاص. كأن مستقبلنا بات قديمًا وأصبحنا نتأمله في قلق ونحصي جراحه المفتوحة.
التسريع الحاصل لإتمام الانفصال عن مجتمعات التأديب نحو مجتمعات السيطرة، بوسائط التعليم والعمل عن بعد، ورقابة التطبيقات الهاتفية على صحة الأفراد، ووسائل الرقابة الإلكترونية على تنفيذ العقوبات، وإعادة النظر في تنظيم المكاتب والمصانع لتفادي اللقاء الجسدي، والتوجس العام لدى كل فرد من الغرباء بما يمنع حتى اللقاءات العاطفية، وأحلام إطلاق “باسبورات المناعة” شرطًا للسفر، قد لا يكون الرد الأنسب على معضلات العالم الخطيرة. ذلك كله قد لا يعدو انتشارًا مخيفًا لبعض أسوأ مناحي الحياة. هو فرع على شجرة وجودنا يتغول عليها منذ وقت بعيد، لكنه انتقل إلى مرحلة الانتشار السريع الخانق لأشكال الوجود الأخرى.
ترسم الكارثة أيضًا خط التماس أو خط المعارك القادمة، بين لئام لا يرون فكاكًا من المنطق المالي/الانعزالي/الاستعلائي/فردي الخلاص وبين من يرون الخلاص الفردي مستحيلًا إذ لا تمنع الجدران لا اللاجئين ولا الحرائق ولا الجراثيم ولا التصحر، ويرون أن الألم والمرض ما يجمع كل إنسان حاملًا بالبشر جميعًا ويضم البشر كتلة واحدة تملك موارد مواجهتهما عبر إعادة توزيع أولوياتها على هذه الجبهة بدل جبهات الحروب المدمرة. إما ذاك وإما أن المشكلات نفسها ستكتفي باتخاذ مظاهر جديدة، تسمح للبشرية أن تتنفس قليلًا دون أقنعة، لقليل من الوقت، قبل أن تأتي كارثة جديدة لتظهر ألا وجود بشريًّا دون الانهيارات والجروح والشقوق المتكاثرة كالطحالب السامة أو كشبكات العنكبوت العاصرة لضحاياها.