يحدث أن تصاب بالخوف دون سبب، أو هكذا تقول في محاولة لإقناع نفسك – لا أسباب منطقية لهذا الخوف– لكنك تعرف جيدًا أن الخوف كالمرض؛ له إشارات مسبقة قبل أن يتمكن منك في النهاية، تتجاهل في المرة الأولى والثانية والثالثة تتحامل على نفسك ثم ماذا؟ يسيطر عليك بالكامل ما بالك إن كان ذلك في ظروف مثل هذه.
كل يوم يمر والبلد، مسقط، سلطنة عمان، مغلقة بالكامل لا حركة. كل شيء متوقف. السماء معبئة برائحة الكحول، وجوه الناس تخفيها الكمامات، عشرات المشردين في الشوارع في انتظار وجبة إفطار من المتبرعين، النزول من البيت بحساب، قبل أن تخطو بقدمك للخارج ترتدي الكمامة والقفازات الطبيبة، وفي يديك زجاجة من الكحول، وربما تأتي أيام لا تغادر البيت إن كان هناك عمل تنفذه من البيت، وإن لم يكن هناك فأنت محبوس في نوع جديد تمامًا من العزلة.
أتذكر قبل 7 أشهر من الآن حين لفظتني الطائرة في مطار مسقط الدولي، الثانية عشر منتصف ليل العاشر من أكتوبر، وقبلها بأشهر وأنا أقرر في لحظة ما أنني سأغادر من هنا لتجربة جديدة كنت منفعلًا وغاضبًا وما زلت؛ نمط الحياة في مصر كان قاسيًا.. عليك أن تعمل ساعات أطول لتحقق دخل أفضل، دون أن تشكو كم الإرهاق، وأن تتخلى عن أحلامك في الكتابة، وفي تعلم الجديد، بالإضافة إلى الرغبة في تجربة جديدة والخروج من هنا ولو لفترة بسيطة، كان ذلك كل ما يسيطر عليَّ، مقابل مادي أفضل، عدد ساعات أقل، حتى لو لم يكن الأمر يناسبني، أخبرت زوجتي واتفقنا أن أجرب هذه المرة حظي.
بعد أن خرجت من المطار كتبت على فيس بوك أنني الآن في سلطنة عمان. قلتها بغضب ظننت معه أنني لن أعود، متخليًا عن كل أحلامي التي رسمتها لنفسي سنوات، منحت نفسي للروتين والغربة والرغبة على الأقل في تحقيق بعض الأموال التي تضمن لأسرتي حياة أفضل مع أنني أيضًا كنت أعيش جيدًا، في الشهور الأولى سار كل شيء على ما يرام الأمور هادئة وكان لذلك عيب وميزة في الوقت نفسه.
منحني الفراغ الذي أعيشه باقي اليوم فرصة جيدة لإنهاء كتابي الأول “كل شيء أو لا شيء – عن الكرة وأحلام غرف الملابس)، وقطعت شوطًا جيدًا في تعلم السيناريو وكتابة مجموعتي القصصية الأولى، وفي مارس الماضي قررت أن أعود إلى القاهرة أسبوع لظروف خاصة في بيتي، ومعها أنهي بعض الإجراءات المهمة، قبل أن تداهمنا أشباح الكورونا.
في القاهرة تغيرت خططي تمامًا أصبحت مطالبًا بإنهاء إجراءات جديدة للسفر إلى مسقط بعد القرارات التي أصدرتها السلطنة بمنع دخول المصريين وجنسيات أخرى إلا بشهادة فحصPCR من وزارة الصحة. كان الزحام شديدًا؛ لم أغادر منزلي حتى انتهى الزحام ذهبت إلى معامل وزارة الصحة وأنهيت الفحص، كان عليَّ أن أعيش القلق من شبح الإصابة للمرة الأولى، خصوصًا وأنني قادم من مطار وخالطت العديد من الزملاء قبل أسرتي فلم تكن الأمور وقتها بهذا السوء.
بعد استلام الفحص كان عليَّئ أن أختمه من وزارة الخارجية والسفارة العمانية، في يوم السفر خرجت في السابعة صباحًا وطائرتي في السادسة مساءً كي لا تمر 24 ساعة على التحليل، وفي الحقيقة أن الإجراءات كانت تعسفية شعرت معها بالغضب وعدم الرغبة في العودة هناك، جزء مما أخفيه أن “كلمة وافد” ونظرة بعض العمانيين “رغم طيبة غالبيتهم” لك على أنك وافد تعمل بدلًا منهم كانت مؤذية، مع أن وظيفتي لا ينطبق عليها التعمين. ونظرة الوافد أحد النظرات العنصرية التي ينام عليها المجتمع العماني الغاضب بسبب الظروف الاقتصادية، لكنني كنت أتعامل معها دائمًا دون مشكلات في محاولة لتمرير الأمر، أنا نفسي لم أكن مقتنعًا بالخطوة مهما بدت ضرورية، لكن بعض الأوقات تفرض عليك الظروف تغييرات مفاجأة في خطواتك.
عدت إلى مسقط في 15 مارس، أنهيت الإجراءات ثم كان عليَّ أن ألتزم بالحجر الصحي للمرة الأولى، انتهى الأسبوعان، ثم جاءت الأزمات الأخرى، فرض شبح الكورونا سطوته على الاقتصاد؛ صدرت قرارات بوقف الطباعة، ومعها سحبت كل الشركات والوزارات العمانية الاشتراكات من الصحيفة والإعلانات لندخل في أزمة اقتصادية.
اتفقنا مع الإدارة على العمل 15 يومًا وإجازة مثلهم على أن نقبض رواتبنا عن فترة العمل فقط، كلها أمور كان من الممكن تحملها ما دامت مؤقتة، لكن الأمور لم تسر على نحو جيد؛ في منتصف مايو في حديثي مع زوجتي أخبرتني بأنها ووالدتها وشقيقتها فقدوا حاسة الشم والتذوق كما أن ابنتي قبلها بأيام كانت حرارتها مرتفعة، لكنهم جميعًا في حالة جيدة، تسرب الخوف والقلق داخلي، خصوصًا مع تشابه الأعراض لـ“كورونا“، لا طيران ولا حركة، فقط أنت في البيت وعليك أن تهزم خوفك وأفكارك السيئة والأشباح التي تتحرك أمام عينيك وهواجسك التي تكفي لقتلك، ثم تبدأ في سؤال نفسك لماذا أنا هنا؟ سافرت من أجلهم وهم في حاجة إليَّ لماذا أبقى؟ ماذا لو حدث شيء؟ وماذا لو حدث لك أنت شيء وحيدًا غريبًا في بلد وعالم يعاني من جائحة لا تُبقي شيئًا؟ مر يوم والثاني والقلق ينهشني، تحاول زوجتي طمأنتي أن الأمور تسير بشكل جيد، وأحاول أن أصدقها، ثم يشكك كلانا في الأعراض.. الأخبار على فيس بوك مرعبة؛ البحث عن سرير في المستشفيات، حالات الوفاة المتكررة، الوضع يزداد سوءًا بينما أنت تقف في مكانك دون قدرة على القيام بأية رد فعل لأنه لم يعد بإمكان أحدنا أن يقوم بأي ردة فعل.
عزمت أمري على أن أعود مهما كلفني ذلك. إن كنت سافرت كي لا أكون أنانيًّا فبقاؤك هنا إن أتحيت لك فرصة العودة أنانية أعنف. تلقيت اتصالًا من مدير التحرير أخبرني أن مالك الصحيفة وهو رئيس تحريرها بالمناسبة يريدني، قرأت سريعًا المشهد لكنني كنت سعيدًا أنني حسمت أمري، قبل أن نتحدث أكدت على رغبتي في العودة إلى مصر وإنهاء كل شيء، خصوصًا وأن هناك أنباء عن عودة الطيران أول يونيو، كنت أعرف أنه سيعرض العمل بخصم 50% وهو قرار الكثير من دول الخليج نفذته خصومات بين الـ 30 وحتى الـ 50%، لكنني وحتى براتبي الكامل لن أبقى هنا أعيش كل ذلك القلق، وحتى وإن كان الراتب بعد الخصم أضعاف ما قد تتقاضاه في مصر.
تواصلت مع السفير المصري في سلطنة عمان، فأكد أن هناك رحلة في 23 من مايو، تواصلت مع الصحيفة لتحجز لي تذكرتي الأخيرة؛ سار كل شيء بهدوء حتى وطأت قدمي أرض مصر من جديد، وصلنا إلى مطار مرسى علم، أجرينا تحليلاً سريعًا، ودخلنا الحجر الصحي، ثم في نهايته تحليل آخر، قبل أن أعود إلى القاهرة وأدخل حجر منزلي بمفردي أيضًا، لكنه أقل قلقًا؛ أنا هنا في مصر، في أرضي، على الأقل لن أكون خائفًا من المرض في الغربة، ولا الموت في أرض بعيدة، يمكنك أن تتخيل موتك دون جنازة، لكن لن تتخيله أبدًا في أرض غير أرضك مهما كان.
لم أكن وحدي كانت الطائرة مليئة بالحكايات وجروبات المصريين في سلطنة عمان. غير حالات كثيرة تواصلت معي هناك بحثًا عن مساعدة، أنهت الكورونا أحلامهم، وتركتهم يعانون شبح الغربة والعوز في شوارع فارغة لا يستطيع أحد فيها أن يمد يديه خوفًا من العدوى، ولأن الجميع صار متعثرًا ماليًّا.
يخشى الكثيرون الكتابة عن أنفسهم، عن تجاربهم، عن الفترات السيئة في حياتهم، لكنني وبفعل التجارب الكثيرة كنت دائمًا أرى أن في الكتابة سلوى عن كل شيء، وعوضًا يمكن أن أرفع به بعض الحجارة التي تسقط فوق قلبي، لم أشعر بالخجل قط من تجربة في حياتي حتى لو لم يكن لي ذنب في عدم اكتمالها، لم أحمِّل الظروف ولا أحدًا شيئًا يحدث لي، لم أسأل نفسي لماذا يلازمني سوء الحظ وتعاندني الظروف، أقول لنفسي في كل مرة كان عليَّ البدء من جديد “نحن أبناء أوفياء للمحاولة والبحث وعدم التوقف مهما حدث لنا يوما ما سنحقق ما أردنا” مررت بالأصعب، وهذه أزمة يعاني منها الجميع بلا استثناء.. الجميع خائفون، الجميع خاسرون.