أعاد محمد عبد الوهاب مع أم كلثوم الاستماع إلى أوبريت أيام فخر الدين مرة ثانية، وإن كان التركيز هذه المرة على أغاني فيروز.. اعتبر محمد عبد الوهاب أيام فخر الدين “أحسن حوار دار بين رجل وامرأة في تاريخ الموسيقى العربية.. عمل فاجنري من حيث الضخامة والغنى“.. يتناقش مع أم كلثوم في تفاصيل دقيقة عجيبة.. كيف استطاع الأخوان رحباني أن يحولا الآلات النحاسية مع الخشبيات إلى آلات وترية في فخر الدين.. يقول بإعجاب “إنهما لا يتحفظان على الإطلاق في أثناء عملية التوزيع الاوركسترالي على ألحان هذا العمل.. عمليات تطويع الآلات النحاسية مع الآلات الخشبية هي الإعجاز على أيدي الأخوين رحباني.. وصوت فيروز قد ازداد انفرادًا، وتضاعفت إمكانياته“.
تسألهم أم كلثوم عن عملهم الموسم المقبل، فيجيب عاصي “نعد مسرحية جديدة ستكون ضمن برنامج سنقدمه على مسرح بيكاديللي في شارع الحمراء ببيروت.. وهو مسرح جديد ستُقدَّم فيه المسرحية مع برامج أخرى كفرقة البولشوي وجولي أندروز في صوت الموسيقى“.. ويضيف منصور أن فيروز ستسجل عند عودتها إلى بيروت أغنية جديدة عن فلسطين من كلمات الشاعر سعيد عقل اسمها “أجراس العودة“.. وكانت فيروز قد غنتها لأول مرة على مسرح معرض دمشق الشهر الماضي (سبتمبر 1966).
تحكي فيروز عن تلك السهرة “رنين التليفون لا ينقطع لحظة واحدة من معجبي أم كلثوم، حتى كاد يفسد الجلسة“..
وأم كلثوم هادئة وقور ومجاملة، تقترب من السبعين وتسيطر على الكل.. تقول إنها تحب وتتفاءل بأغنية “سهار بعد سهار” لفيروز من لحن عبد الوهاب.. وعبد الوهاب ليس هنا، يتمايل مع أغنية “كتبنا وما كتبنا“… ويحكي كمال الملَّاخ عن السهرة وانبهار عبد الوهاب الكبير بأغنية “خَطّة قدمكُن“.. لا يصدق ما يسمعه، لحن الأغنية على مقام الصبا وهو مقام حزين، ومع ذلك فالأغنية دبكة مشتعلة تضجّ بالحماس والحيوية.. يكاد يرقص مع صوت الصاجات في مقطع “ويا حلوة اللي ع الحلا عم توعى.. عنقِك العقد، وإيدِك الإسوا..ااا..رة“.. وتنتهي الأغنية المشتعلة بآلات نفخ فيصيح بطفولة حلوة “أنا عاوز زي دا“.. وهو ما سيحققه له الأخوان رحباني في العام التالي، حين يوزعان له أغنية “حيّ على الفلاح” من كلماتهما بعد نكسة 1967..
***
يوم الأحد 23 أكتوبر فيروز في مسرح البالون تشاهد عروض فرقة رضا.. عاصي إلى جوارها يتابع حركة الفرقة الاستعراضية مع موسيقى على إسماعيل.. رقصة “فانوس رمضان“.. ورقصة “المجاذيب في ليلة الأحد“.. وبالطبع رقصة “المجنونة” التي ضحكت عليها فيروز طويلًا مع أختها هدى.. وفي الختام رقصة “النوبة” وتحية من فريدة فهمي ومحمد رضا لفيروز..
جدول حفلات التكريم ما زال مزدحمًا.. يوم الاثنين 24 أكتوبر حفل في السفارة اللبنانية بحضور السفير حليم أبو عز الدين وقنصل عام لبنان وسامي الدروبي ممثل سوريا في الجامعة العربية.. عصر الثلاثاء ٢٥ أكتوبر، حفل استقبال في نادي السيارات بوسط البلد، أقامه مجلس إدارة جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين.. وقف فيه الشاعر صالح جودت يلقي قصيدة مهداة لفيروز والأخوين، ومنها:
طلــعــتِ على الـنـيـل أنشودة.. مدللة بالــصــبــا والــحـــيــــاء
وحولكِ كالقوس من صاحبيكِ.. ضــيــاء هلالين من كــبــريـاء
شـقـيـقـيـن يبتكران الــجــديــد.. ولا يــحــرمان الـقـديـم الوفـاء
وشـعرهــمــا كــرقيــق الآذان.. ولــحــنهما كــجــمــيل الدعـاء
بأيّــة مــعــجــزة يا صــبــيــة.. زان لـــهـــاتِــك هذا الــنــقــاء؟
فألهـمتِ منصوركِ الانتصــار.. وصيّرتِ عاصيكِ من الأتقياء

مساء الأربعاء 26 أكتوبر حفل معهد الموسيقى العربية المؤجَّل من الأسبوع الماضي.. دعا مدير المعهد أحمد شفيق أبو عوف النقاد والفنانين للحضور.. جاء الجميع باعتقاد أن هناك ندوة لمناقشة تجربة الأخوين رحباني الموسيقية، وسَرَت شائعة أن فيروز ستغني في معهد الموسيقى العربية فتزاحم الصحفيون والطلاب كذلك.. لكن شيئًا من هذا لم يحدث.. لم تغنِ فيروز بل غنوا أمامها، ولم تقام الندوة العلمية لمناقشة الأخوين، وانقضى وقت حفل التكريم في الفقرات الغنائية التي أعدها المعهد وقدمها عباس البليدي وإسماعيل شبانة من ألحان سيد درويش..
في الاستراحة اقتربت من فيروز المخرجة عطيات الأبنودي زوجة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي ومعها فتاة أجنبية هي الفنانة التشكيلية إيفيلين زوجة الشاعر سيد حجاب.. سلمت كل منهما على فيروز ثم أهدتها عطيات ديوان الأبنودي الأول “الأرض والعيال“، وأهدتها إيفيلين ديوان “صياد وجنيَّة” لسيد حجاب، بعد أن أخبرتها بالفرنسية أن سيد حجاب كتب قصيدة عنها في هذا الديوان.. قالت لها بأسى إنه لو كان موجودًا لفرح وأهداكِ الديوان بنفسه، لكن الشاعرين– الأبنودي وحجاب– معتقلان لأسباب سياسية..
في نهاية الأمسية قرر مجلس إدارة جمعية أصدقاء موسيقى سيد درويش ضم فيروز والأخوين رحباني إلى عضوية الجمعية أعضاءً شرفيين؛ تقديرًا لما بذلوه من جهد فني قيِّم في بعث تراث سيد درويش..
***
في نهاية حوار طويل شيق، سألها الأستاذ عبد التواب عبد الحي:
–سيدة فيروز، هل أنتِ سعيدة الآن؟ والمكان غرفة رقم 625 بفندق النيل بالقاهرة.. واليوم الثلاثاء 25 أكتوبر سنة 66؟
ابتسمت فيروز وردت:
–كتير.. كتير..
غادرت فيروز مع هدى والأخوين رحباني مصر ظهر الجمعة 28 أكتوبر 1966 بعد أن قضوا أسبوعين بالتمام والكمال في ضيافة الحكومة المصرية..
من 14 أكتوبر وحتى 28 أكتوبر.. لعلك لاحظت أن بعض الأيام قد أُسقِطَت.. الكلام عن زيارة 1966 لم ينتهِ بعد..
ثلاثيــة من بــنــات الــخــلـود.. وأســـطـــورة تتحدى الــفــناء