المقال الذي كتبه محمود أمين العالم ونقل فيه تصريح عاصي الرحباني بأن أغاني فيروز ممنوعة في مصر اهتزّت له الدنيا بحق.. نُشِر المقال في مجلة المصور الصادرة عن دار الهلال يوم الجمعة 20 مايو 1966. في اليومين التاليين مباشرةً اهتمت الصحف القومية بتكذيب الخبر.. أما الإذاعة المصرية فبدأت في إعادة بث أغاني فيروز نفيًا للخبر..
في يوم 25 مايو صدرت الدعوة الرسمية لفيروز والأخوين رحباني لزيارة مصر من مكتب أمين هويدي وزير الارشاد القومي.. وفي العدد التالي مباشرة (27 مايو) من مجلة المصور خرج أحمد بهاء الدين رئيس دار الهلال يزفّ للقراء الخبر بنفسه..
القرار حكومي وبمباركة ناصرية.. على الفور بدأت الصحافة المصرية تبشّر بقدوم فيروز والترحيب بها، والإشادة بفن الأخوين رحباني، مذكِّرة الجمهور المصري بتاريخ بداياتهم ورحلتهم الأولى إلى القاهرة 1955.. وبما أن دار الهلال هي التي حرّكت الأمر من البداية عبر مجلة المصور، فكانت هي أول المرحبين بفيروز.. في العدد التالي من مجلة الكواكب بتاريخ (7يونيو 1966) وُضِعَت صورة فيروز على الغلاف والعنوان “أهلاً فيروز”..
في العدد ذاته أجرى الأستاذ محمد رفعت مندوب الكواكب حوارًا مع فيروز والأخوين في بيروت، سأل فيروز في نهايته عن صدى الدعوة التي وُجِّهَت إليهم لزيارة القاهرة، فأجابت “إنني متلهفة على هذه الزيارة، زيارتي الثانية.. إن الشعب المصري حساس وذوّاق، ويُسعد كل فنان أن يتلاقى معه.. ولا تنسَ أننا قضينا شهر العسل في القاهرة، وأن ابننا الأكبر زياد (تفبرك) في القاهرة“.
في سبتمبر حدث تعديل وزاري جاء فيه محمد فائق بدلا من أمين هويدي وزيرًا للإرشاد.. قرار الدعوة الرسمية ما زال ساريًا، فأرسل محمد فائق تأكيدًا جديدًا للأخوين رحباني.. التعديل الوزاري أُعلن يوم 11 سبتمبر 1966، لكن هذا لم يكن مهمًا بالدرجة.. المهم أنه يوم 12 سبتمبر 1966 بدأ عرض فيلم سيد درويش!
الفيلم من إنتاج الشركة العامة للإنتاج السينمائي العربي (فيلمنتاج)، وهي شركة حكومية تتبع القطاع العام، وتمثل إحدى شركات المؤسسة العامة للسينما.. كان هناك توجه عام بأن الفيلم يجب أن ينجح، فالفيلم من إنتاج الدولة، وهو أولا وأخيرًا عن أيقونة الموسيقى المصرية الشيخ سيد درويش..
بعد أسبوع واحد من عرض الفيلم بدأت الأقلام النقدية تكتب على استحياء عن بعض المشكلات في الفيلم مقترنة بالإشادة (الواجبة) بنجاح الفيلم الجماهيري! بعد الأسبوع الثاني لم يطق الجميع السكوت، وفي الصحافة دارت معركة بين من يمدحون في الفيلم لحساب (فيلمنتاج) وبين من ينتقدونه.. والحقيقة أن الفيلم محبط ومتواضع بصورة مدهشة.. نالت الأقلام من كل شيء، كتب رشدي صالح عن الإخراج الباهت لأحمد بدرخان، وتعجب كيف تجاهل أعمال سيد درويش الغنائية، فبدلاً من أن يكون الفيلم غنائيًا خرج على هذه الصورة.. كيف رضى بدرخان بذلك وهو له تاريخ طويل في إخراج الأفلام الغنائية لأم كلثوم وفريد الأطرش..
وتحدث جليل البنداري عن الأخطاء التاريخية والفنية في الفيلم، والسيناريو الفقير الذي جعل الفيلم أشبه بمشاهد مسرحية متتالية، واختيار شخصية جليلة التي لعبتها هند رستم للانطلاق بحبكة الفيلم منها.. وكأن المهم في الفيلم هي جليلة أو باروكة شعر هند رستم كما كتبت صافيناز كاظم..
جليلة نفسها الحقيقية، ظهرت في الإسكندرية وتهافتت عليها الصحافة، أمّا محمد البحر فاعترض على تقديم أمه بهذه الصورة الكاريكاتورية، بأنها امرأة ساذجة لا تفهم الموسيقى، وتعوق الشيخ سيد عن إلهامه..
كتب كمال النجمي عن إسماعيل شبانة الذي أدّى أغاني الفيلم بصوته، وكيف أن كآبة صوته نزعت كل الحيوية والحلاوة المعهودة في أغاني سيد درويش.. وكتب آخرون عن كرم مطاوع ووجهه الغير معبر، وسخروا من مشهد حشرجة موته في نهاية الفيلم.. وفي النهاية تساءل الجميع صراحةً: هل نحتاج إلى فيلم آخر عن سيد درويش؟
بطبيعة الحال، جاءت سيرة الأخوين رحباني مع سيرة سيد درويش باعتبارهما التجربة الأكثر توفيقًا في إعادة تقديم بعض أعماله، وطبعًا أشهرها لأنها بصوت فيروز..ووسط كل هذه المعركة الحامية عن تراث سيد درويش والفيلم المتزامن مع الذكرى الثالثة والأربعين لرحيله، وصلت فيروز والأخوان رحباني إلى مصر..
بعد وصولهم في 14 أكتوبر، كتب رجاء النقاش رئيس تحرير الكواكب كلمة الافتتاحية في العدد الصادر بتاريخ 18 أكتوبر، يرحب فيها بفيروز وهدى والأخوين.. ويبدو أنه كان يعتقد أن المخرج صبري الشريف سيرافقهم هذه الرحلة أيضًا، كما رافقهم في الرحلة الأولى عام 1955..
في الأسبوع الأول لزيارتهم القاهرة، دعت مجلة الكواكب إلى ندوة في دار الهلال بعنوان “ماذا قدم فيروز والرحباني إلى الفن العربي؟”.. ناقش فيها جمع من المثقفين والأدباء والفنانين في مصر الأخوين عاصي ومنصور في تجربتهما الفنية، بحضور فيروز وهدى حداد.. نشرت الكواكب الندوة الدسمة على ثلاثة أجزاء، ونعرض هنا مقتطفات منها..
في البداية قدَّم رجاء النقاش للندوة وللأخوين رحباني “لم تكن هذه ندوة عادية من ندوات الكواكب، لا في شكلها ولا في موضوعها، فقد تعودنا دائمًا في الندوات السابقة أن ندعوا عددًا من الفنانين المتخصصين في ميدان من الميادين ليناقشوا موضوعًا معينًا، ولكننا في هذه الندوة لم نستطع أن نحصر عدد الحاضرين، لأن فيروز والأخوين رحباني ينثرون منذ سنوات طويلة في بلادنا العربية عطرًا هو عطر الحب.. كثيرون جدًا هؤلاء الذين يحبون فيروز.. كثيرون جدًا هؤلاء الذين يشعرون بأن فيروز والرحبانية جزء من عائلاتهم الخاصة.. جزء من وجدانهم وعقلهم.. ولذلك كلما اتصل بنا صديق يطلب حضور الندوة، ولو كمشاهد، دعوناه بترحيب إلى ذلك، ومن هنا كانت ندوتنا كبيرة، اشترك فيها الكثيرون من الأصدقاء، حتى دون أن يشتركوا بآرائهم في هذه الندوة..
لقد استطاعت المدرسة الرحبانية أن تعيد إلى الحياة بصورة قوية عصر المسرح الغنائي في الفن العربي.. لقد كان المسرح الغنائي في بداية هذا القرن مزدهرًا في وطننا العربي ازدهارًا كبيرًا.. ولو عدنا بالذاكرة مع صفحات التاريخ إلى سنة 1910 مثلًا، لوجدنا أن أعظم فنان تدين له الجماهير بالحب الحقيقي في تلك الفترة، هو سلامة حجازي إمام المسرح الغنائي.. وكان جمهور هذا العصر هو جمهور المسرح الغنائي.. هكذا كان المسرح الغنائي منذ نصف قرن، فلماذا تعثّر عندنا، وأصبح ضعيفًا عاجزًا إلى هذا الحد؟.. ولكن الرحبانية فكروا وقرروا أن يعيدوا المسرح العربي الغنائي إلى الحياة..
واستطاعت المدرسة الفيروزية أيضًا أن تسهم بجهد قوي أصيل في إحياء الفولكلور العربي.. لقد درسوا الفولكلور العربي دراسة جيدة، واستفادوا منه كثيرًا، وامتدت دراساتهم إلى عملاق مثل سيد درويش.. وهم بمعنى من المعاني تلاميذ لسيد درويش.. عرفوه وتذوقوه وأحسّوا به، وحاولوا- ويحاولون دائمًا- أن يقدموا بعض أعماله للأجيال الجديدة.. واستطاعت المدرسة الرحبانية كذلك أن تتقدم خطوات في حل مشكلة الصراع بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية.. هذه المشكلة الحساسة التي تواجه موسيقانا بعنف..
إن المدرسة الرحبانية قد صَممت تصميمًا أصيلًا، نلمسه في إنتاجهم الفني بوضوح، على أن تخلق تيارًا فنيًا يعبر عن تجاربنا الوطنية تعبيرًا عميقًا.. ولقد تجسّد هذا الموقف بالذات في الأغاني والألحان التي قدمها الرحبانيان عن فلسطين، فهي أجمل مجموعة متكاملة من الألحان والأغاني عن هذه القضية العربية العزيزة علينا جميعًا..
وشيء أساسي آخر في المدرسة الرحبانية، هو أن هذه المدرسة قد حرصت على أن ترتفع بالكلمة المكتوبة إلى مستوى اللحن والصوت، ولذلك فإن أغاني فيروز تعتبر من حيث قيمتها الأدبية ظاهرة ممتازة متألقة في دنيا الأغنية العربية المعاصرة..”.
تكلم عاصي الرحباني، فأعلن شكره للاستقبال الذي عبرت به القاهرة عن حبها لفيروز والرحباني، ثم تحدث عن نقطة البداية في حياة الرحبانيين الفنية فقال “لقد بدأنا من نقطة واحدة هي القلق.. كنا نحاول ونجرب.. نكتب الأغنية ونلحِّنها في نفس الوقت.. وكان رد الفعل في الأوساط الفنية متناقضًا، بعض الناس قالوا عنا أننا نمثل مدرسة جديدة، وبعض الناس قالوا: هؤلاء لا يعبرون عنا ولا صلة لنا بهم.. بعض الناس رحّبوا بنا، وبعضهم اعترض بشدة علينا.. ولكن الشيء الذي كان يدفعنا إلى العمل دائمًا هو أننا كنا نجرِّب بإخلاص.. كنا نحاول أن نفعل شيئًا، وأن نكتشف طريقنا الصحيح في الفن..
وقد بدأنا بداية منطقية، بدأنا من الأغنية الخفيفة.. والأغنية الخفيفة مثل الفراشة، لا بد أن تكون صغيرة وجميلة وحافلة بالألوان الحلوة رغم حجمها الصغير، ومن هنا فنحن نعتبرها عملًا صعبًا، شديد الصعوبة.. انظر إلى الفراشة، ألا ترى أن في تكوينها من الذوق والجمال ما يفوق آلاف المرات بعض الكائنات الحية الأخرى التي تتميز بالضخامة.. إن صغر الحجم لا يتنافى مع جمال الفن، ولكننا كنا نشعر أن الأغنية القصيرة عمرها- مثل الفراشة أيضًا- قصير، بحيث لا تستطيع أن تعيش طويلًا.. ولذلك فكرنا أن نقدم أعمالًا أكبر، أن نجرب وسيلة أخرى إلى جانب الأغنية القصيرة.. واهتدينا إلى المسرح الغنائي.. وساعدنا على هذا ما أحسسنا به من أن العالم كله في هذه الأيام يهتم بالمسرح الغنائي.. هناك قصة الحي الغربي، هناك أيضًا سيدتي الجميلة، كل هذه الأعمال الفنية الممتازة كانت في الأصل مسرحيات غنائية نجحت عالميًا نجاحًا كبيرًا هائلا، ثم انتقلت هذه الأعمال من المسرح لتصبح بعد ذلك أفلامًا غنائية..
إذن فنحن في جو فني عالمي يهتم بالمسرح الغنائي.. كل ذلك بالإضافة إلى ما كان لنا- تاريخيًا- نحن العرب من اهتمام بالمسرح الغنائي.. وقد أغرانا بالمسرح الغنائي أيضًا أنه بدا لنا وكأن جميع الفنون تشترك في تكوينه.. إنه الفن الذي يجمع بين كل الفنون.. فالمسرح الغنائي يعتمد على الشعر والدراما والموسيقى والديكور والرقص والإضاءة.. بكلمات أخرى فإن المسرح الغنائي يجمع بين الشاعر والكاتب المسرحي والرسام والراقص والموسيقي ومهندس الإضاءة.. وفوق هذا فهناك الصوت الذي يؤدي الأغاني والألحان.. اجتماع فني رائع لا يكاد يتوفر لفن آخر من الفنون بهذا الجمال وهذه الروعة.. ولذلك أسَرَ المسرح الغنائي قلوبنا بطريقة ساحرة، ومن هنا حدث اهتمامنا بنوع من التكامل الفني في أعمالنا، لقد تعلمنا هذا التكامل من المسرح الغنائي، فنحن نحاول أن نهتم بكلمات الأغنية بنفس الدرجة التي نهتم فيها باللحن والصوت..
ولكنني أؤكد مرة أخرى أننا ونحن نقوم بعملنا نشعر بالقلق، وقد يصل بنا القلق إلى الحد الذي يجعلنا نفكر أحيانًا في محو كل ما قدمناه حتى الآن، على أن نبدأ من جديد..”.
وتابع منصور رحباني من بعد أخيه “المسرح عمومًا هو الحضارة، وهو من أسبق الفنون التي نشأت مع حضارة الإنسان.. والمسرح صاحب فضل على كل الفنون لأنه يجمعها في وحدة واحدة.. إنني أحب أن أؤكد فقط المعنى الذي قاله عاصي، أن المسرح الغنائي يبدو بالنسبة لنا هو الفن الكليّ.. ومن خلال المسرح الغنائي يمكننا أن نجد لحظة الترابط بين أداء الممثل وبين الرقص والغناء والموسيقى وغير ذلك من الفنون.. إن المؤلف- كاتب المسرحية أو كاتب الأغنية- لا يجد فرصة لتفسير نفسه وتقديمها إلى الجمهور مثل الفرصة العظيمة التي يمثلها المسرح الغنائي، حيث تعمل كل وسائل الفن على تفسير النص، وإعطائه حقه من الوضوح والعمق والإشراق الفني”.
كان أول من بدأ النقاش والجدال الفنان عبد الرحمن الخميسي، فقال “لي وجهة نظر أخرى في المسرح الغنائي تختلف تمامًا عن وجهة نظر الرحبانية، ففي كل فن من الفنون عنصر أساسي خاص به.. السينما أساسها الحركة.. الشعر أساسه الكلمة والنغم.. المسرح أساسه الصراع الدرامي.. أمّا المسرح الغنائي فالأساس ليس الكلمة ولا الحركة وإنما الموسيقى.. الموسيقى هي العنصر الأكبر والأهم في المسرح الغنائي، وأنا أعترض على فكرة إيجاد التوازن بين الكلمة واللحن، فاللحن في المسرح الغنائي هو السيد”.
عاصي “إذا أردنا موسيقى مجردة فهذا ليس مجال المسرح الغنائي، وإنما يستطيع من يطلب الاستمتاع بالموسيقى المجردة أن يستمع إلى السيمفونيات.. هنا تصبح الموسيقى هي الأساس الأول والأوحد.. المسرح الغنائي لا يمكن الاعتماد فيه على الموسيقى فقط، أو الاهتمام بالموسيقى أكثر من الاهتمام بالحوار أو بالشعر.. إننا نحاول أن نقدم مسرحيات غنائية مثل تلك التي قدمها بريخت على سبيل المثال”.
الخميسي: إن بريخت شاعر ملحمي، فما علاقته بالمسرح الغنائي؟
عاصي “بريخت له بعض المسرحيات الغنائية مثل (السيد بونتيلا وتابعه ماتي) ففي هذه المسرحية يختار بريخت الشكل الغنائي، وهذا ما نحاوله، أن نهتم بالنص المسرحي، ونحاول أن نختار له موضوعًا جيدًا وحوارًا جيدًا وشعرًا جيدًا، ثم نصل بعد ذلك إلى تفسيره بالموسيقى”
وتحدث الموسيقار عبد الحليم نويرة مؤيدًا كلام عاصي “إنني معجب بالشرح الذي قدّمه عاصي الرحباني لفكرته عن المسرح الغنائي.. لقد كان الشعراء دائمًا يعترضون على أن الألحان في المسرحيات الغنائية تطغى على الكلمات، والشعراء معهم حق.. إننا الآن نبني المسرح الغنائي من جديد وعلينا أن نستجيب لذوق الجماهير، ومن الواضح أن الجماهير تحب الكلمة الحلوة، وإذا نحن-كموسيقيين- تعصّبنا للألحان فقط، فإننا سوف نخسر كثيرًا من وراء ذلك.. على الأقل سنفقد جزءً من جمهور المسرح الغنائي الذي يحب الكلمة الحلوة ويتذوقها.. وعلينا إذن أن نأخذ بنظرية التوازن والتكامل في المسرح الغنائي، بحيث يكون للكلمة مكانها ويكون للحن مكانه كذلك، لذلك فإننا نبحث من البداية عن مسرحية بنائها الأدبي سليم أولًا، قبل أن نبدأ في تلحينها واختيار الأصوات المناسبة لها وتقديمها”.
ثم تابع نويرة “وأنا أنتهز المناسبة لأطلب من الأخوين رحباني ومن فيروز، أن يقدموا للمسرح الغنائي بالقاهرة عملا من أعمالهم، وسوف نضع تحت أيديهم جميع الإمكانات الكبيرة المتوفرة لدينا من ديكورات وكورال وممثلين ومطربين”.
وعلَّق الناقد الموسيقى جلال فؤاد “التأليف الموسيقي عمومًا للأغنية الفردية هو الذي يعاني من الضعف والتكرار وعدم التنويع.. محاولات التجديد في الأغنية الفردية قليلة محدودة، وعلى رأس هذه المحاولات الناجحة محاولات الأخوين رحباني.. الأخوان رحباني استطاعا أن يفهما دور الآلات وأن يقدراها حق تقديرها، ولذلك جاء التنوع في ألحانهم وجاءت الأصالة في هذه الألحان، ومن الإجادة في تقديم الأغنية الفردية انطلق الأخوان رحباني إلى ميدان المسرح الغنائي..”.
أمّا حورية حسن فقالت “أنا أوافق على كل ما قيل عن المسرح الغنائي، وأحيي المجهود الكبير الذي يبذله الأخوان رحباني، ولكني أحب أن أؤكد أيضًا على أن المسرح الغنائي ليس بحاجة فقط إلى اللحن أو الكلمات، ولكنه بحاجة إلى الأصوات القوية أيضًا”.
طلب الأستاذ أحمد شفيق أبو عوف، مدير معهد الموسيقى العربية، الكلمة وقال “إنني أريد أن أثير نقطة أخرى هامة، وفي هذه المناسبة بالذات، مناسبة احتفالنا بالمدرسة الرحبانية التي أسهمت في تطوير الموسيقى العربية إسهامًا كبيرًا.. هذا الموضوع الهام هو موضوع (الربع تون) في الموسيقى العربية.. هل يعطل الربع تون الموسيقى العربية ويمنعها من التطور والتقدم؟.. هل لا بد أن يستغني المسرح الغنائي عن الربع تون ويتخلص منه؟”.
أجاب عاصي الرحباني “إن الربع تون لا يعطل الموسيقى العربية بحال من الأحوال، والموسيقى العربية تستطيع أن تتطور دون أن يعوقها هذا الربع تون.. ولقد قام أحد علماء الأصوات الفرنسيين بدراسة أصوات البلابل وتسجيلها، فوجد أن الربع تون موجود في صوتها، وهكذا فإن الطبيعة نفسها تؤكد أن الربع تون شيء أصيل وسليم في أحلى الأصوات، وهو صوت البلابل.. وعدد من الباحثين الغربيين يقومون الآن بأبحاث لخلق الربع تون في الموسيقى الغربية، باعتباره إمكانية جديدة ومفيدة.. على كل حال أنا أعتقد أن الموسيقى العربية غنية إلى حد كبير، وأعتقد أن سترافنسكي أو غيره من كبار الموسيقيين لو سمعوا مثلًا نغمة الصبا عندنا لحسدوا الشرق عليها”.
وتحدث محمد الموجي “أنا أوافق على هذا الرأي، وقد حاولت أن أقدم الربع تون في بعض الأوبريتات التي لحنتها ولكنني عجزت عن ذلك لضعف الآلات عندنا”.
مرة أخرى هبَّ عبد الرحمن الخميسي معترضًا “إن ارتكاز الموسيقى العربية على الربع تون نقطة ضعف لاشك فيها، أما الموسيقى الغربية فلا تعترف به ولا تعتمد عليه، واستطاعت أن تحقق مستوى رفيعًا من الفن.. والحجة التي يقولها عاصي الرحباني عن أصوات البلابل، فلا أوافق عليها لأن الفن ليس هو الطبيعة، وإنما هو إعادة تنظيم للطبيعة”.
تحدث فؤاد شبل، نائب رئيس جمعية أصدقاء سيد درويش “في سنة 1936عُقِد في القاهرة مؤتمر للموسيقى الشرقية، وكان الموضوع الأساسي لهذا المؤتمر هو مشكلة الربع تون، ولم يصل المؤتمر إلى نتيجة نهائية في هذا الموضوع.. وإذا أخذنا سيد درويش كنموذج للموسيقار الذي واجه هذه المشكلة، فإننا نجد أن سيد درويش لم يقدم الربع تون على الإطلاق في الأوبريتات الجماعية إلا في أوبريت شهرزاد، بينما استخدمه في الأغاني والألحان الفردية، وهذا ولا شك حل من الحلول التي فكر فيها سيد درويش حسب اجتهاده، وفي ظل ظروف عصره وإمكانياته الفنية”.
بعد أن انتهى الحديث عن الربع تون، تحدث د. مصطفى محمود عن فيروز والأخوين رحباني فقال “إنني هنا أتكلم كمستمع ومتذوق.. لقد انتقلنا على يد الرحبانية من فن زخرفة الخيام إلى فن اللوحة الكبيرة، من فن الأويما إلى النحت الحقيقي.. لقد كانت الأغنية في الماضي أشبه بمجموعة من الرقع المتفرقة المختلفة، والآن أصبحت الأغنية وحدة عضوية متكاملة، وقد وصل الأخوان في وحدة الأغنية إلى القمة..”.
تكلمت هدى سلطان وسألت عاصي الرحباني: هل إصرار الأخوين رحباني على أن يعملوا مع بعض، له تأثير في خلق العمل الفني بكل هذا الجمال؟
وأجاب عاصي“ليس شرطًا أن كل ما يصدر عن الأخوين رحباني يكون بالضرورة جيدًا.. من الممكن أن يؤلف عاصي أو منصور قصيدة من الشعر، ويلحنها الموجي لحنًا أجمل من أي فنان آخر”.
قبل أن تنتهي الندوة قدّم منصور رحباني اقتراحًا بخصوص سيد درويش “أقترح أن نستمع إلى كل أوبريتات سيد درويش، ونختار مجموعة منتقاة من ألحان هذه الأوبريتات تكمل ساعة أو ساعتين، ونكوِّن منها عملا فنيَّا جديدًا، بكلمات جديدة وقصة جديدة مع الاحتفاظ بألحان الشيخ سيد درويش كما هي”.
في الختام قال أحمد شفيق أبو عوف “أعتقد أن هناك مطلبًا نرجو أن يتحقق خلال هذه الزيارة، وهو أن تقدم فيروز للجماهير في بلادنا حفلة تغني فيها”.
رد عاصي: فيروز مصابة بسعال ديكي (ضحك من الجميع)..
وسط كل هذا الحضور وتلك الآراء المتناثرة، تكلم الكاتب الساخر محمد عفيفي وقال جملة وحيدة “في اعتقادي أن الرحبانية قد فشلوا في شيء مهم جدًا، هوأن يجعلوا نجوى فؤاد ترقص على ألحانهم”.
تلقف عاصي هذه الجملة الساخرة وقال بنبرة جادة “إنني أتمنى فعلاً أن نوفق في عمل موسيقى راقصة جميلة، فهذه الموسيقى الراقصة لون من الفن الممتع الذي لا بد منه”.
بعد انتهاء الندوة كتب محمد عفيفي مجموعة من التعليقات حولها بأسلوبه الساخر المعهود..
من هذه التعليقات “شخص واحد شابهني في صمتي في تلك الندوة الخاصة بفيروز، وهذا الشخص هو فيروز نفسها! طوال الندوة لم تنطق بحرف واحد، وحتى الابتسامات التي كانت ترتسم على وجهها بين حين وآخر كانت تبادر إلى خنقها بالشفتين أو تغطيها باليد.. وهي في هذا الصمت مُبَررة مئة في المئة، فأي جديد يمكن أن تضيفه بالكلام إلى كل ما قالته بالنغم؟ .. أعجبني تواضع عاصي الرحباني عندما قال إنه يتمنى لو أمكنه أن يمحو كثيرًا من الأعمال التي قام بها.. فتواضع الفنان عنصر رئيسي في تقدمه وتطوره.. لا شيء يضيع الفنان مثل توهمه أنه قد وصل، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.. واللحظة التي يقع الفنان فيها في هذا الوهم، هي غالبًا نفس اللحظة التي يجد نفسه فيها مسافرًا إلى أوروبا للعلاج”..