صاغ عبد التواب عبد الحي الحوار بأسلوبه، فجاء ظريفًا ممتعًا، ومع أن المعلومات فيه ليست جديدة، لكنه قدمها بأسلوب جديد.. بدأ عبد التواب عبد الحي حواره بمقدمة ذكية “الكسر.. صعب أن تأخذ من الواحد الصحيح ثلثه، تضعه على شريحة زجاجية تحت عدسات التأمل والدراسة.. تتشتت تأملاتك وتختلط عليك دراستك.. حاولت أن أكسرها.. فيروز! أفصلها عن ثلثيها الآدميَين: زوجها عاصي حنا الرحباني وشقيقه منصور limited.. توقفت مني عصارتي وفشلت، فالكل في شركتهم الفنية واحد.. والواحد كل! حتى الشعر المنسدل على جبين فيروز ثلاث خصلات بالضبط! أي ثلث فيهم يتكلم قليل الكلام عن نفسه، وكثيره عن الواحد الصحيح..”.
ثم تحدث مع فيروز عن نشأتها وطفولتها فأجابت هي، وأعاد الصياغة هو “زقاق البلاط يا حيي القديم.. فيه شقة متل شقتنا القديمة، غرفتان بالبلاط.. أجر أبي–الأسطى وديع حداد– من جمع حروف الطباعة في مطبعة le jour – يعني النهار– التي تصدر بالفرنسية، لا يسمح لنا بغرفة ثالثة..
في إحدى الغرفتين ولدتني أمي.. لم يفرح أبي بابنته البكر، فقد كان يريد ولدًا.. الله أعطاه الولد من بعدي.. أخي يوسف الموظف بشركة التأمين الأهلية ببيروت.. ثم استأنفت أمي خلفة البنات.. أختى هدى، شريكة فني.. وأختى آمال الطالبة بمدرسة الراهبات، لتصبح الأغلبية في بيتنا للحريم!
شاطرة بكل شيء في دراستي ما عدا الحساب.. يا بَيّي يا بَيّي على هالحساب! ليش الناس عم بتتحاسب؟ ليش ما يخلوها على الله؟ لحد يومنا لا أحفظ جدول الضرب.. لا أعد الفلوس الفكة.. لا طبعًا، أعد الفلوس الكبيرة بعناية.. سهلة.. نصف ساعة بالأسبوع ندرس موسيقى وأناشيد.. من أجل هذه النصف ساعة كنت أتحمل هم دراستي طوال الأسبوع..
ملامحي الطيبة الهادئة وأغانيّ الناعمة، لا تضحك عليك.. بعكسها كنت في طفولتي وصباي.. عنيدة. شقية. مقاتلة.. أظافري طويلة متحفزة دائمًا للدفاع.. أبي يدلل أخي يوسف، يعطيه من حقي أكثر من حقه.. أغار، وأتصنع الأعذار لأضرب أخي يوسف.. الآن تغيرت.. تركت القتال والتصدي للأمور لزوجي عاصي.. سلمته أظافري! لم أستبق لي إلا عنادي في فني..”.
يسألها: النسبة الغالبة من سمّيعتك في مصر يا فيروز مثقفون، عندك تحليل؟
فيروز: نفس الظاهرة في لبنان والدول العربية.. لكن خطابات كثيرة تصلني من عمال ومزارعين وصغار موظفي الدواوين.. ولا أعرف تحليلاً لهذه الظاهرة!
يرد عاصي: الإطار الفني المخلص المدروس الذي تظهر فيه القواعد العلمية ببروز، هذا (طُعْم) يجذب في رأيي المثقفين إلى فننا!
يسأله عبد الحي: كم تتقاضى فيروز في الأغنية؟ في الحفلة؟ في الأسطوانة؟ كم يتقاضى الرحبانية إخوان في اللحن؟ في كلمات الأغنية؟
عاصي: اسأل صبري الشريف مدير فرقة الفنون الشعبية اللبنانية، يحكي لك..
قبل الختام يصرِّح منصور: أقرأ الآن عودة الروح لتوفيق الحكيم.. سوف نحولها إلى مسرحية غنائية نشترك مع عبد الوهاب في وضع ألحانها وتوزيعها، وتمثلها عناصر فنية مصرية مع فيروز.. ندرس عروضًا لإنتاج أفلام مشتركة مع مؤسسة السينما.. ندرس أعمال الشيخ سيد درويش– العشرة الطيبة، الباروكة، شهرزاد، وغيرها– بهدف إعادة توزيع عمل فني منها او أكثر..
***
في اليوم الأخير (الخميس 27 أكتوبر) لوجود فيروز والأخوين في القاهرة، وقبل سفرهم في اليوم التالي، نظّم نجيب محفوظ رئيس مؤسسة السينما عرضًا خاصًا في وزارة الثقافة، لفيلم بياع الخواتم، أول أفلام فيروز، تمهيدًا لعرضه تجاريًّا في مصر.. حضر العرض الخاص جمع من النقاد والأدباء والفنانون بحضور فيروز وهدى والأخوين ومخرج العمل يوسف شاهين.. بعد مشاهدة الفيلم اتفق جميع الحضور على وجود مشكلة اللهجة اللبنانية بالنسبة للجمهور المصري، رغم الجمال الفني للفيلم..
علّق رؤوف توفيق بعد العرض وقال “إنه عمل فني متكامل وجديد بالنسبة للأفلام العربية.. ولكن هل يستطيع الجمهور العادي أن يفهم اللهجة اللبنانية التي يدور بها كل حوار الفيلم وأغانيه؟ والخوف كل الخوف من الجمهور الذي قد يستعصي عليه فهم الحوار، فيملّ ويعلن عن ملله، ويفسد على باقي الحاضرين متعة الاستمتاع بهذا العمل“.
كتب أيضًا د. مصطفى محمود “السيناريو كان هامسًا في نقلاته ولقطاته، وكان يخاطب الأذواق الرفيعة فيكسبها بسهولة، ولكن لا أظن أنه يستطيع أن يكسب أذواق جمهور الدرجة الثالثة، وهو جمهور عريض لا يستهان به.. وخصوصًا خارج لبنان، حيث تقف اللغة المحلية حاجزًا حقيقيًّا لا يمكن الأذن أن تفهمه أو تتخطاه.. ورغم ألفتي النسبية لللغة اللبنانية سقط نصف الحوار مني، فلم أستطع أن ألتقطه وضاعت المعاني الحلوة التي يحملها معه“.
ذلك العرض الخاص كان آخر ما حضره الضيوف الثلاثة في مصر.. في اليوم التالي (الجمعة 28 أكتوبر 1966) غادرت فيروز مع هدى والأخوين رحباني مصر..
يوم الثلاثاء 1 نوفمبر افتتح وزير الإرشاد القومي محمد فائق الدورة الخامسة للمهرجان الدولي للتليفزيون.. اشترك في هذه الدورة ٣٩ دولة ومن بينها لبنان، حيث اشتركت شركة تليفزيون لبنان والمشرق بالبرنامج الغنائي (ضيعة الأغاني) تأليف وألحان الأخوين رحباني، وبطولة فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية..
وما حدث عجيب بعض الشيء، فبرنامج ضيعة الأغاني أنتجه تليفزيون لبنان والمشرق وعُرِض في لبنان في أبريل 1966 احتفالًا بأعياد القيامة.. بعدها بأربعة أشهر (في 14 أغسطس) أعاد تليفزيون لبنان والمشرق تصوير البرنامج مرة أخرى، وأعيد المونتاج وقُلِّصت مدة البرنامج من قرابة الساعتين في نسخته الأولى، إلى ساعة واحدة في نسخته الجديدة، بحذف العديد من الفقرات الغنائية لفيروز والفرقة.. واحتوت النسخة الجديدة على فقرات غنائية من النسخة الأولى مع فقرات من برنامج غنائي آخر لفيروز كان قد قُدِّم في يناير 1966 بعنوان “ليالي السعد“.. بالإضافة إلى الفقرات القديمة، كتب الأخوان رحباني حوارًا جديدًا لمشاهد جديدة صورتها هدى حداد مقدمة البرنامج، وأضاف الأخوان رحباني فقرة واحدة جديدة؛ رقصة للمجموعة على موسيقى أغنية “مراكبنا ع المينا” من أوبريت أيام فخر الدين، دون غناء فيروز..
