أذكر يوم حريق القاهرة، أنني كنت أسير في منطقة “وسط البلد”، قابلت دولشن وهو بصحبة شخص يدعي “عبد الباسط بك” كان يعمل موظف بوزارة الداخلية مسئولاً عن قسم إعطاء الجنسية المصرية للمتمصرين بعد عمل التحريات اللازمة عنهم، في ذلك اليوم المشهود شاهدت المحلات وهي تتحطم والحرائق وهي تشتعل، فأغلقت كل المحالات إلا ممر “الأمريكيين” المطل على شارع سليمان باشا، ففيه يقع المدخل الرئيسي للعمارة.
علمت في هذا اليوم وأنا جالس في مقهى “الأمريكيين” أن رئيس القسم المخصوص بوزارة الداخلية “بمثابة جهاز المخابرات الآن” قد قام بجمع المقاعد من كازينو بديعة مصابني، ووضعها في منتصف الميدان بجانب تمثال إبراهيم باشا، وقال آمرًا: احرقوا هذه المقاعد، وكانت هذه الواقعة غالبًا هي الشرارة الأولى في ذلك الحريق النابض، ولم تمض ساعة واحدة على ما سمعته حتى رأيت “أحمد حسين” زعيم حزب مصر الفتاة بطربوشه المعهود في عربة مكشوفة يمضي عبر شارع سليمان باشا وهو يصيح “احرق.. احرق.. احرق”.
وبينما كنت أتطلع إلى عشرات من زجاجات الخمور ومحتويات البقالة وهي تلقي في الشارع رأيت جاري بالعباسية، من عائلة العشماوي، يتحدث عن مادة سريعة الاشتعال وصلت إليه لإشعال الحرائق! وحينما سألته عن هذه المادة أجاب بأنه تخلص من كل العبوات وسلمها لأحد الأشخاص من جماعة الإخوان المسلمين (يقصد على عشماوي الذي وصف مع نشر المذكرات نهاية تسعينيات القرن العشري ، بأنه : أخر قائد للتنظيم الخاص)، ورأيت علامات الاضطراب تكتنفه، وسرعان ما انصرف مسرعًا في الشوارع الأخرى وبعد سنوات عديدة نشر هذا الشخص مذكراته بمجلة روز اليوسف، ورفض الإفصاح عن اسم الشخص الذي أعطى له هذه المادة سريعة الاشتعال!
كانت القاهرة في ذلك اليوم في حالة فوضى شديدة.. بينما لاحظت وأنا في جلستي بالأمريكيين “دولشن” وهو يتحدث مع عبد الباسط بك لمحاولة الحصول على الجنسية المصرية، ورأيتهما وهما يغادران المكان معًا وسط طريق ملئ بالزجاجات والبضائع التي نهبت من المحلات وألقيت على قارعة الطريق، وبعد نحو ساعتين عاد دولشن وأخبرني أن كل شيء بالنسبة لإجراءات الحصول على الجنسية قد تم بسهولة، وتساءلت بيني وبين نفسي باستغراب ما سر إصراره على الحصول على الجنسية المصرية وهو من عائلة ثرية قد هاجر معظمها إلى أمريكا؟
سرنا أنا ودولشن معًا، وأخذ يتحدث عن الأوضاع السياسية في مصر فقال إن الإنجليزية سيضطرون لتسليم منطقة الشرق الأوسط إلى أمريكا، بسبب حاجتها للنفط، وستسعى أمريكا حينئذ إلى رعاية وحماية كبار الرأسماليين ورجال المال لحماية مصالحها فقط، لأنها تهدف للسيطرة على المنطقة خاصة مصر لمالها من قوة بشرية واقتصادية.
ثم أضاف دولشن: صحيح أنني يهودي لكنني ضد قيام دولة صهيونية لتكون رأس حربة في المنطقة، ولذلك ستدخل المنطقة في دوامة من العنف وعدم الاستقرار، ولكن أمريكا ستظل تمول دولة إسرائيل وسط الملايين في المنطقة العربية بحيث تصبح قوة إسرائيل تعادل إن لم تتفوق على الدول العربية مجتمعة! وهناك نقطة أخرى فمصر تملك قوة ثقافية مؤثرة سيحاولون محاربتها بكل السبل. شعرت بالضيق والألم لتلك النظرة التشاؤمية وتحليله الموضوعي لمسار الأحداث ويبدو أن الرجل لاحظ استغرابي ودهشتي من حديثه الصريح فقال “لا تعجب، فقد ولدت هنا وتعلمت بالخارج لكنني عدت لمصر ثانية، فهي وطني الوحيد.. فيها دفن جدي، وعشت ذكرياتي بها، ولن يكون لي قبر إلا بها!”.
وقد أدركت أن تحليل دولشن موضوعي رغم قسوته، واقترب تحليله من كاتب فرنسي اسمه “كارتييه” كنا أنا وأحمد بهاء الدين، ومحمد عودة، وكامل زهيري ننتظر تحليلاته بفارغ الصبر في مجلة “باري ماتش” الفرنسية، فقد تنبأ بكل ما قاله دولشن لي!