يظل سؤال “من أحرق القاهرة؟” قائما! رغم مرور أكثر من نصف قرن ما تزال هناك أسئلة حائرة تبحث عن إجابة حول هذا الحدث الكبير في حياة مصر؛ حين احترقت القاهرة في يناير 1952، ومن يومها تضاربت الاستنتاجات حول من له مصلحة في حرق القاهرة وأهدافه الخفية من وراء ذلك.
وإذا كان هذا السؤال ما يزال معلقًا حتى اليوم فهذه رواية شاهد عيان، رأى بعينيه وقائع الحريق، وتجول في شوارع وسط القاهرة، ورأى هذه الأحداث وقام بتسجيلها يومئذ حتى لا تزول مع مر الأيام.
ربما لا يعرف الجيل الجديد كيف كانت معالم القاهرة في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين. وقد لا يعرف أحد من الجيل الجديد شيئًا عن محل أحذية “بول فافر” الذي تقع مكان الآن محلات الشوربجي على ما أظن، ولا أن هذا المحل كان يعلِّق على واجهته حذاءً ضخمًا. وتقوم ابنة صاحب المحل اليهودية الجميلة بعمل الديكورات والرسوم لواجهات المحلات، وقد ارتبطت معها بصداقة حميمية. حيث كنا نلتقي عند الفنان “جارو هلبرت” لنتلقى على يديه فنون الرسم، وكنت متعودًا على الالتقاء بها عند المحل عند الغروب وتعودت أن أحمل إليها في يدي زهرة الزنبق “تبريز”، وهي نفس الزهرة التي صورها الفنانون القدامى في يد القديس “توما”، ولذلك كان والدها يصيح عندما يلمحني قادما من بعيد: لقد وصل القديس توما!
وكنا نقضي معًا أمسيات ثقافية وفنية في إحدى المراكز الثقافية الأوربية التي كانت تعج بها القاهرة في تلك الحقبة. وعن طريقها تعرفت على خالها الدكتور دولشن طبيب الأسنان الخاص للأسرة المالكة، وقد شجعني وأنا ما أزال في بداية طريقي الفني واشترى مني عدة لوحات، وأتذكر الحوارات الفنية والفكرية التي كانت تدور بيننا رغم حداثة سني.
.
يوم الحريق
أذكر يوم حريق القاهرة، أنني كنت أسير في منطقة “وسط البلد”، قابلت دولشن وهو بصحبة شخص يدعي “عبد الباسط بك” كان يعمل موظف بوزارة الداخلية مسئولاً عن قسم إعطاء الجنسية المصرية للمتمصرين بعد عمل التحريات اللازمة عنهم، في ذلك اليوم المشهود شاهدت المحلات وهي تتحطم والحرائق وهي تشتعل، فأغلقت كل المحالات إلا ممر “الأمريكيين” المطل على شارع سليمان باشا، ففيه يقع المدخل الرئيسي للعمارة.
علمت في هذا اليوم وأنا جالس في مقهى “الأمريكيين” أن رئيس القسم المخصوص بوزارة الداخلية “بمثابة جهاز المخابرات الآن” قد قام بجمع المقاعد من كازينو بديعة مصابني، ووضعها في منتصف الميدان بجانب تمثال إبراهيم باشا، وقال آمرًا: احرقوا هذه المقاعد، وكانت هذه الواقعة غالبًا هي الشرارة الأولى في ذلك الحريق النابض، ولم تمض ساعة واحدة على ما سمعته حتى رأيت “أحمد حسين” زعيم حزب مصر الفتاة بطربوشه المعهود في عربة مكشوفة يمضي عبر شارع سليمان باشا وهو يصيح “احرق.. احرق.. احرق”.
وبينما كنت أتطلع إلى عشرات من زجاجات الخمور ومحتويات البقالة وهي تلقي في الشارع رأيت جاري بالعباسية، من عائلة العشماوي، يتحدث عن مادة سريعة الاشتعال وصلت إليه لإشعال الحرائق! وحينما سألته عن هذه المادة أجاب بأنه تخلص من كل العبوات وسلمها لأحد الأشخاص من جماعة الإخوان المسلمين (يقصد على عشماوي الذي وصف مع نشر المذكرات نهاية تسعينيات القرن العشري ، بأنه : أخر قائد للتنظيم الخاص)، ورأيت علامات الاضطراب تكتنفه، وسرعان ما انصرف مسرعًا في الشوارع الأخرى وبعد سنوات عديدة نشر هذا الشخص مذكراته بمجلة روز اليوسف، ورفض الإفصاح عن اسم الشخص الذي أعطى له هذه المادة سريعة الاشتعال!
كانت القاهرة في ذلك اليوم في حالة فوضى شديدة.. بينما لاحظت وأنا في جلستي بالأمريكيين “دولشن” وهو يتحدث مع عبد الباسط بك لمحاولة الحصول على الجنسية المصرية، ورأيتهما وهما يغادران المكان معًا وسط طريق ملئ بالزجاجات والبضائع التي نهبت من المحلات وألقيت على قارعة الطريق، وبعد نحو ساعتين عاد دولشن وأخبرني أن كل شيء بالنسبة لإجراءات الحصول على الجنسية قد تم بسهولة، وتساءلت بيني وبين نفسي باستغراب ما سر إصراره على الحصول على الجنسية المصرية وهو من عائلة ثرية قد هاجر معظمها إلى أمريكا؟
سرنا أنا ودولشن معًا، وأخذ يتحدث عن الأوضاع السياسية في مصر فقال إن الإنجليزية سيضطرون لتسليم منطقة الشرق الأوسط إلى أمريكا، بسبب حاجتها للنفط، وستسعى أمريكا حينئذ إلى رعاية وحماية كبار الرأسماليين ورجال المال لحماية مصالحها فقط، لأنها تهدف للسيطرة على المنطقة خاصة مصر لمالها من قوة بشرية واقتصادية.
ثم أضاف دولشن: صحيح أنني يهودي لكنني ضد قيام دولة صهيونية لتكون رأس حربة في المنطقة، ولذلك ستدخل المنطقة في دوامة من العنف وعدم الاستقرار، ولكن أمريكا ستظل تمول دولة إسرائيل وسط الملايين في المنطقة العربية بحيث تصبح قوة إسرائيل تعادل إن لم تتفوق على الدول العربية مجتمعة! وهناك نقطة أخرى فمصر تملك قوة ثقافية مؤثرة سيحاولون محاربتها بكل السبل. شعرت بالضيق والألم لتلك النظرة التشاؤمية وتحليله الموضوعي لمسار الأحداث ويبدو أن الرجل لاحظ استغرابي ودهشتي من حديثه الصريح فقال “لا تعجب، فقد ولدت هنا وتعلمت بالخارج لكنني عدت لمصر ثانية، فهي وطني الوحيد.. فيها دفن جدي، وعشت ذكرياتي بها، ولن يكون لي قبر إلا بها!”.
وقد أدركت أن تحليل دولشن موضوعي رغم قسوته، واقترب تحليله من كاتب فرنسي اسمه “كارتييه” كنا أنا وأحمد بهاء الدين، ومحمد عودة، وكامل زهيري ننتظر تحليلاته بفارغ الصبر في مجلة “باري ماتش” الفرنسية، فقد تنبأ بكل ما قاله دولشن لي!
!الدكاترة زكي مبارك
ومن بين ذكرياتي القاهرية أنني كنت أتردد على بار صغير جدًا في ميدان التوفيقية يملكه رجل روسي يفتح لنا منذ الصباح ليقدم فطورًا فقط، ثم بعد ساعات قليلة يقدم المشروبات الروحية!
وكان الدكتور زكي مبارك يتردد على هذا البار، ونتحلق حوله أنا ود. يحيى عبد الله رئيس قسم الأدب القديم بجامعة فؤاد الأول القاهرة الآن، ود. فاروق فريد أستاذ الكلاسيكيات الذي أصبح فيما بعد أستاذًا بجامعة أثينا. وكنا نسعد بأحاديث د. زكي مبارك وأسماره التي لا تنتهي، ويسعد عندما نناديه باسم “الدكاترة زكي مبارك” باعتباره حصل على ثلاث شهادات للدكتوراه! ويمضي ليحدثنا عن غرامياته، ونوادره مع طه حسين والعقاد وغيرهما من أقطاب الأدب والفكر في القاهرة وبغداد، وكيف أن العقاد يحصل على ورق من السفارة الإنجليزية ليطبع مؤلفاته، وكذلك طه حسين من السفارة الفرنسية. وكان يوجد في مواجهة هذا البار بار آخر اسمه “سيسل” كنت أتردد عليه أيضًا؛ حيث يجتمع فيه عدد من أقطاب حزب السعديين ومنهم عبد المجيد باشا بدر، وعبد المجيد عبد الحق، ومحمد بك عبد السلام، وعلى أيوب، وتوفيق بك عمر، فسألتهم عما يدعيه د. زكي مبارك، فأكدوا صلة العقاد بالسفارة الإنجليزية وصلة د. طه حسين بالسفارة الفرنسية.
كنا نحترم زكي مبارك لاعتزازه بكرامته ورفضه لاستلام أي مبالغ من أية جهة رغم ثقافته الفرنسية ومكانته الأدبية الشامخة، وقد أكد لي السعديون نزاهة زكي مبارك واعتصامه بكرامته ورفضه أخذ نقود من السعديين أو غيرهم من الأحزاب. وذات ليلة، وفي أثناء خروجنا من بار التوفيقية سقط زكي مبارك وهو يصعد السلم أرضًا، وتفجر الدم من رأسه، فارتبكنا وأصابنا الذعر، وأخيرًا أوقفنا عربة حنطور وحملناه نحن الثلاثة وأجلسناه على المقعد، وقمت بشد ربطة العنق من رقبته إلى أسفل حتى أوصلناه إلى بيته بمصر الجديدة وتركناه عند أسرته.
ثم فوجئنا في اليوم التالي بنبأ موته وذلك يوم 23 يناير 1952 رحمه الله.
*المقال منشور في مجلة “الهلال”فبراير 2003