هناك بعض الأصوات التي لا تشبه إلا بيئتها ومن ضمن هذه الأصوات المطربة حورية حسن. فهذا الصوت القادم من قلب الدلتا، يحمل في طياته تفاصيل النيل وطميه. فقد عاشت حورية حياتها باعتبارها إحدى أبرز الأصوات الممزوجة بتراب هذا البلد. ولعل أهم ما يميز صوتها تلك البصمة الخاصة التي تدركها الأذن بمجرد الإنصات إليها.
عتبات البهجة
ربما لا يعرف كثيرون أن حورية حسن من مواليد محافظة المنوفية عام 1932 فوالدتها من أسرة ميسورة كانت تمتلك عزبة «جناكليس». أما نشأتها فكانت في مدينة طنطا بمحافظة لغربية، حيث شارع «سعد الدين» بالقرب من ميدان الساعة. وارتبطت حورية منذ نعومة أظافرها بالفن، حيث تحمل لقب عائلة الحامولي فوالدها تربطه صلة قرابة بالمطرب الكبير عبده الحامولي. وقد توفي والدها وهي لا تزال طفلة، فعملت والدتها التي لم تنجب سواها على تدليلها واصطحابها إلى دور السينما لمشاهدة أفلام ليلى مراد الغنائية في أيام الجمعة من كل أسبوع. وكانت من بين أنشط الطالبات في فقرات الإذاعة المدرسية. وطالما كانت تردد لهم أغنيات ليلى مراد التي حفظتها. بعدها انتقلت تدريجيًّا إلى الاستماع إلى أغنيات أم كلثوم الطربية. وجاءت بدايتها عن طريق صالون عباس بك الخرادلي مدير الإدارة التعليمية بطنطا والذي استدعاها من المدرسة ليقدمها إلى الموسيقيين الذين كانوا يقصدون صالونه الأدبي والفني الذي يعقده ببيته في الاثنين والخميس من كل أسبوع. وبدأت تتعلّم أصول المقامات الموسيقية العربية وغناء الموشحات. قبل أن تشرع في إحياء بعض الحفلات الخاصة للأصدقاء والأقارب مثل الخطوبة والزفاف وأعياد الميلاد ومع أول راتب تحصل عليه قررت أن تترك الدراسة وتتفرغ للفن. فكان أول أجر تحصل عليه 5 جنيهات كاملة نظير إحياء حفلة لأحد أصدقاء الفرقة الموسيقية المرافقة لها. أما الحفل الأول أمام الجمهور العام فكان بالنادي الخاص بشركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى وغنّت حينها «سلوا قلبي» و«أنا في انتظارك» لكوكب الشرق أم كلثوم وبعض المواويل (صفاء أحمد: حورية حسن مطربة الأوبريت الأولى (1)، الأنباء، 23/5/1992، ص 26).
الانتقال إلى القاهرة
كان المطرب محمد الكحلاوي يزور طنطا خلال حضوره أحد عروض فيلمه الجديد، فطلب منه مدير السينما الاستماع إلى صوت حورية. واستجاب الكحلاوي لطلبه وأعجب أشد إعجاب بصوتها بعد أن غنّت إحدى أغنياته المشهورة. وطلب منها السفر إلى القاهرة، حيث تنتظر أضواء المجد والشهرة. وبعد فترة من التردد وتجدد الخلافات بينها وبين أسرتها نتيجة لرفضها فكرة الزواج قررت الانتقال إلى العاصمة. فبادر الخرادلي بكتابة خطاب توصية إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب والذي جمعته به صداقة طيبة من خلال معهد الموسيقى العربية. واستمع إليها عبد الوهاب فوجد في صوتها إمكانيات كبيرة وشجعها على الاستقرار بالقاهرة واحتراف الغناء. كما شجعها الكحلاوي وصديقه حسني بك نجيب مدير الإذاعة الذي أعدّ لها أغنية يقول مطلعها: (ياللي القلوب كلها تهواك * وأنا اللي قلبي مناه ينساك * ظلمني هواك وعايزه أنساك ** مش قادرة أنساك) لتغنيها في الإذاعة الحكومية المصرية على الهواء مباشرة مقابل 20 جنيهًا تم توزيعها عليها وعلى أفراد الفرقة بعد خصم الضرائب. وبعد الإذاعة حضر إليها متعهد حفلات يُدعى جلال محمود ليعرض عليها العمل في فرقة تضم المطرب محمد عبد المطلب وغيره وذلك بكازينو بديعة مصابني مقابل 30 جنيهًا شهريًّا. فكانت فرصة مناسبة لها لتقدم بعض الاستعراضات الغنائية وتلتقي بالجمهور وجهًا لوجه (صفاء أحمد: حورية حسن مطربة الأوبريت الأولى (2)، الأنباء، 24/5/1992، ص 26). قبل أن تنضم إلى فرقة ببا عز الدين بكازينو أوبرا وتلتقي بكل من المطرب إبراهيم حمودة والفنانة نعيمة عاكف. وكانت تتقاضى منها 40 جنيهًا شهريًّا، حيث كانت تقدم الأغنيات الفردية إلى جانب الاستعراضات التمثيلية الغنائية (أشرف غريب: حورية حسن: أغنية الكاسيت قصيرة العمر.. والأغاني القديمة تزداد قيمة وجمالاً كلما مر بها الزمن! الكواكب، 23/7/1991، ص ص 30 – 31). وبعد ذلك قام الكحلاوي بشراء الكازينو من ببا عز الدين فانضمت حورية إلى فرقته مقابل 60 جنيهًا سرعان ما رفعها إلى مائة جنيه شهريًّا. فكانت حورية هي المطربة الوحيدة بفرقته إلى جوار محمد عبد المطلب وكارم محمود وعبد الغني السيد وإبراهيم حمودة. فكانت الفرقة تقدم استعراضًا يوميًّا يمثل فنون الدول المختلفة يقوم بكل مطرب معين بمشاركة حورية قبل أن يختتم بالعرض بأغنية مشتركة بينها وبين الكحلاوي. وعُرفت حورية في هذه الفترة بأغنيتها «سوق الحلاوة جبر» من ألحان الكحلاوي نفسه. وبعد أن باع الكحلاوي الكازينو، انضمت حورية إلى فرقة شكوكو بكازينوا فلوريدا بوسط القاهرة عن طريق المتعهد أحمد رفعت إلى جوار عبد العزيز محمود وثريا حلمي وأحمد غانم.
الانضمام للإذاعة
عندما غنت حورية أوبريت «معروف الإسكافي» عام 1950 على مسرح الأزبكية مع كارم محمود ويحيى شاهين ومحمود المليجي أذاعته الإذاعة المصرية على الهواء مباشرة. وكان من ضمن مجموعة من الأعمال المسرحية الغنائية التي كان يشرف عليها عبد العزيز خليل عقب عودته إلى مسرح الأزبكية لإخراج بعض الأعمال التي تعاون خلالها سابقًا مع فرفة أولاد عكاشة (عبد الفتاح الفيشاوي: الغالي والرخيص في دنيا الطرب، الكواكب، 23/6/1970). وبمجرد انتهاء ذلك العرض أبلغها حافظ عبد الوهاب وعبد الوهاب يوسف وعبد العزيز خليل بأن الإذاعة قبلتها كمطربة بشكل رسمي (بدون توقيع: حورية حسن في شهر العسل وتتحدى!، الكواكب، 10/9/1963). وعادت مجددًا لتمثل مجموعة من الروايات أمثال «البيرق النبوي» من ألحان أحمد صدقي و«يوم القيامة» و«على بابا والأربعين حرامي» من ألحان زكريا أحمد و«الباروكة» و«شهرزاد» من ألحان سيد درويش و«أنوار» من ألحان عزت الجاهلي و«حمدان وبهانة» من ألحان محمد الموجي و«الحنفية الميري» من ألحان أحمد صدقي و«اتفرج يا سلام» من تأليف رشاد رشدي. وإلى جانب الأوبريت الغنائي سجلت البرامج الغنائية مثل «مدينة الملاهي» من ألحان عزت الجاهلي.
تجارب سينمائية
دخلت حورية حسن السينما عن طريق الغناء، فكان أول فيلم شاركت خلاله بعنوان «بابا عريس» عام 1950 من بطولة نعيمة عاكف وشكري سرحان وإخراج حسين فوزي. وغنت خلاله موالًا قصيرًا عنوانه «يا حلو ياللي جزيت بالصد مرسالي» من كلمات حسن توفيق وألحان أحمد صبره (بدون توقيع: الكتيب الدعائي لفيلم بابا عريس، شركة نحاس فيلم، 1950). وانطلقت مشاركتها عقب ذلك في «ليلة الدخلة» عام 1950 من بطولة إسماعيل يس وماجدة وإخراج مصطفى حسن و«ابن النيل» عام 1951 من بطولة شكري سرحان وفاتن حمامة وإخراج يوسف شاهين كما شاركت في الفيلم المميز «الصبر جميل» عام 1951 من بطولة محمد الكحلاوي وتحية كاريوكا وإخراج نيازي مصطفى.
و«ضحيت غرامي» من بطولة ماري كويني وعماد حمدي وإخراج إبراهيم عمارة. وتظل مشاركتها في فيلم «عنتر ولبلب» عام 1952 من بطولة سراج منير وشكوكو وإخراج سيف الدين شوكت من أهم المحطات الفنية في حياتها و«عزيزة» عام 1954 من بطولة نعيمة عاكف وعماد حمدي وإخراج حسين فوزي و«ثورة المدينة» عام 1955 من بطولة محمد فوزي وصباح وإخراج حلمي رفلة. وربما لا يعرف كثيرون أنها شاركت بالغناء في فيلم «في صحتك» في العام ذاته مع كوكبة من النجوم أمثال محمد قنديل وحمدي غيث وإخراج عباس كامل. وفيه غنت موالًا حواريًّا مع محمد قنديل من كلمات فتحي قورة وألحان عبد العظيم عبد الحميد وكذلك «على وش الميه اتمايلي كمان» من كلمات فتحي قورة وألحان حسين جنيد. وجاء موعدها بعد ذلك مع فيلم «أحبك يا حسن» عام 1958 من بطولة شكري سرحان ونعيمة عاكف وإخراج حسين فوزي. وهذا الفيلم يعدّ درتها السينمائية فقد حظي بأغنيتين من الأجمل في السينما المصرية هما «يا أبو الطاقية الشبيكة» و«من حبي فيك يا جاري» من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان محمد الموجي. وفي العام ذاته، أدت في فيلم «بنت البادية» من بطولة محمد الكحلاوي وزوزو نبيل وإخراج إبراهيم عمارة و«حياة امرأة» عام 1959 من بطولة تحية كاريوكا وزهرة العلا وأحمد رمزي وإخراج زهير بكير وتعاون في هذا العمل مجموعة من مؤلفي الأغاني أمثال فتحي قورة وأحمد حسن سعد وملحنين أمثال منير مراد وبليغ حمدي وإبراهيم حسين وفيه غنت حورية أغنية مميزة بعنوان «يا حلو مالك ظلمت حالك» من ضمن أغنيات الفيلم. كما شاركت عام 1965 في فيلم «العلمين» من بطولة يوسف شعبان وأمينة رزق وإخراج عبد العليم خطاب.
صوت الشجن المصري
صوت حورية حسن شديد الأصالة ولذلك نجد أن معظم الملحنين الذين تعاونوا مع حورية أمدوها بنمط الغناء البلدي. فمن بين تلك الأعمال المميزة «رصة القلل» من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان عبد العظيم عبد الحق وهي من أجمل الأعمال في هذا النمط الغنائي بكل مفرداته وتصاويره. كما سجلت لصالح التلفزيون مجموعة من الأوبريتات المميزة منها «بدر البدور» و«الحنفية الميري» و«شمس الضحى». وظلت تعمل في الإذاعة حتى وصل أجرها إلى خمسين جنيهًا وكانت إحدى مطربات الصف الأول (بدون توقيع: حورية حسن… رصيدها 600 أغنية وتتجاهلها الإذاعة! الكواكب، 27/5/1969). واختارها الموسيقار محمد عبد الوهاب لتؤدي الجملة المسموعة على مقطوعته الموسيقية «زينة» ضمن فيلم «الزوجة 13» عام 1962 من بطولة رشدي أباظة وشادية وإخراج فطين عبد الوهاب. ومن يمكنه أن يسنى أغنيتها الجميلة «شبكونا برمش عينهم» من كلمات مصطفى السبيلي وألحان سيد مصطفى؟ ولذا كانت حورية واحدة من أبرز الأصوات النسائية في الوطن العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وقد عرف عنها كثرة تنقلها لإقامة الحفلات بين البلدان العربية حتى لقبت بالمطربة الطائرة فقد أقامت لمدة 6 أشهر في ربوع لبنان تغني مع وديع الصافي قبل أن تنتقل إلى سوريا وزارت العديد من دول الخليج العربي (صفاء أحمد: حورية حسن مطربة الأوبريت الأولى (4)، الأنباء، 26/5/1992، ص 26).
ابتعاد عن ميكرفون الإذاعة
بالرغم من هذه النجاحات التي حققتها حورية حسن في مجال الغناء فإنها عانت لفترة من حياتها من عدم التعاون معها، خصوصًا من منتصف الستينيات. فلم تعد الإذاعة تطلبها للعمل كما كان الأمر سابقًا. ولم يعد أحد يعرض عليها أوبريتات مرة أخرى. فآثرت الانزواء في بيتها وعدم الالحاح على المسؤولين أو الملحنين. ومن جهتها طلبت أم كلثوم من المسؤولين أكثر من مرة أن يستغلّوا صوت حورية في المسرح الغنائي والأعمال الإذاعية. فقد اتصلت بها أم كلثوم تليفونيًّا لتبارك لها نجاحها مع فرقة الموسيقى العربية والمايسترو عبد الحليم نويرة بعد استعادة دور «أصل الغرام نظرة». وفي إحدى المرات التقيا مجددًا برفقة الموسيقار بليغ حمدي. وعرضت أم كلثوم عليها أن تذهب للمخرج السيد بدير وابن شقيقها إبراهيم الدسوقي الذي كان يشغل منصبًا مرموقًا بوازرة الثقافة، حيث أعدا لها أوبريتًا جديدًا لتعود إلى الساحة. لكن يبدو أن مستواه لم يكن جيدًا مثل أعمالها السابقة. فاعتذرت لأم كلثوم على مبادرتها الطيبة وظلّت تجمعهما صداقة متينة وفي نهاية المطاف قررت حورية أن تعمل بالصالات (صفاء أحمد: حورية حسن مطربة الأوبريت الأولى (5)، الأنباء، 27/5/1992، ص 26). وكانت حورية تقول عن الأوبريت: «الأوبريت هو العمل الفني الكامل الأصيل. ولا تستطيع أي مطربة أن تغني أوبريت، لأن غناء الأوبريت يتطلب بعض الشروط: الصوت القوي، الشكل الحسن، بجوار موهبة التمثيل وخفة الروح. فمطربة الأوبريت لا تستعين بميكرفون وصوتها لا بد أن يسمع لأخر كرسي في الصالة. ومن ناحية التمثيل، أنا مثلًا مثلت شخصيات مختلفة في كل أوبريت. في البيرق النبوي لعبت دور بنت البلد، في الباروكة لعبت ثلاثة أدوار مختلفة، طالبة ثم كونتيسة ثم تنكرت في زي ضابط. في يوم القيامة لعبت دور فتاة تركية، في حمدان وبهانة لعبت دور فلاحة» (سيد فرغلي: حورية حسن تخاف على صوتها من الصدأ، الكواكب، 23/3/1965).
الحياة الاجتماعية
تزوجت حورية حسن أكثر من مرة. كانت المرة الأولى من ضابط شرطة، كان يستمع إليها بإحدى الصالات. وظلت بجواره إلى أن وصل إلى أعلى المراتب في منصبه. وبالرغم من عدم ممانعته لعملها بالفن فإنها آثرت الابتعاد عن الوسط الفني والاكتفاء بالحياة الزوجية والتفرغ لها لمدة 12 عامًا كاملة. وبعد الخلافات التي حدثت بينهما انفصلا في هدوء. أما زواجها الثاني فكان من الفنان زين العشماوي الذي أنجبت منه ابنتها الوحيدة حنان قبل أن ينفصلا عن بعضهما البعض بعد حدوث المشكلات والخلافات الزوجية بينهما. وكانت حورية تقدر كل ما هو فني وثمين ولذلك عزمت في أحد المزادات على شراء سيارة أم كلثوم الكاديلاك عقب وفاتها مهما كلفها ذلك. وبالفعل حصلت عليها قبل أن تضطر لبيعها لاحقًا بمبلغ بسيط بعد أن تحطمت من إحدى الأوناش في العمارات المجاورة أثناء البناء. وفي نهاية عام 1988 قام بعض الفنانين بترشيحها لعضوية مجلس نقابة المهن الموسيقية. وكانت حينها مسؤولة عن لجنة الموارد واشتراكات الأعضاء فنجحت في زيادة دخل النقابة بعد أن راجعت كافة أسماء الأعضاء ودفع الاشتراك. كما تعاقدت مع معهد ناصر الجديد لعلاج أعضاء النقابة بعد أن تقدمت بمذكرة كما قامت برفع المعاشات وكذلك إعانة الوفاة التي تدفع لأسر الأعضاء عقب وفاتهم كما تعاقدت مع الإذاعة والتلفزيون لعمل ندوة تدريبية للأعضاء حتى يتمكن جميع الأعضاء من المشاركة في الحفلات (صفاء أحمد: حورية حسن مطربة الأوبريت الأولى (6)، الأنباء، 28/5/1992، ص 26). وهكذا ظلت حورية تخدم النقابة وتساعد زملاءها حتى فارقت الحياة في الثامن من يونيو (حزيران) عام 1994.