في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
لا بأس…
أول ما أسرني في جمال الدين أبو المحاسن بن تغري بردي (812 – 874 هـ = 1409 – 1470م) هو غرابة اسمه. وبينما أعمل على هذا التسجيل، تعلمت ببحث سريع أن هذا اللقب من أصل تتري، انتقل إلى التركية ثم إلى العربية عبر اسم والد هذا المؤرخ الكبير. علما بأن لابن تغري بردي كتابًا كاملاً، لم أستطع العثور عليه بعد، عن تحريفات العرب للأسماء التركية، وهو بهذا المعنى من الكتب النادرة في تاريخ التأليف العربي حول المقارنة بين اللغات. وقد كان مؤرخ مصر الكبير يتقن، إلى جوار العربية، الفارسية والتركية. ولقب تغري بردي، ومعناه حسب عدد من المصادر “عطاء الله”، هو لقب أبيه. وكان الأب أتابك (قائد) العسكر في مصر ونائب الشام ومن كبار المماليك البرجية، في زمن كان قادة العسكر فيه ينجبون مؤرخين بهذه النصاعة.
ابن تغري بردي أمير أخلص للعلم، ووهب حياته للبحث والتأليف، فوضع كتابه الأشهر النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، والذي يعد أكمل تاريخ لمصر الإسلامية منذ جاءها عمرو بن العاص وحتى زمن مؤلفه، ثم أعد بنفسه مختصرًا للكتاب، وألف بالإضافة إلى ذلك أعمالا في اللغة والموسيقى. وقد سمح له موقعه أن يجلس إلى كبار علماء عصره مثل ابن حجر العسقلاني، وقاضي قضاة الحنفية الإمام العيني الذي كان زوج أخته، ثم قاضي قضاة الشافعية الإمام البلقيني الذي تزوج من أخته نفسها بعد وفاة زوجها الأول، والذي ورد ذكره في النص الذي سجلته هنا. غير أن أهم أساتذته، بحكم تفضيله للتأليف في التاريخ على غيره من الفنون، هو المقريزي شيخ مؤرخي مصر، والذي يعود إليه ابن تغري بردي في أغلب الفقرات التي قرأتُها من كتاب النجوم الزاهرة.

غلاف كتاب النجوم الزاهرة
ولنا وقفة مع هذه العلاقة لاحقًا في هذا التقديم. ويلاحظ عدد من المختصين أن هناك فرقًا بين رواية ابن تغري بردي للأحداث السابقة على زمانه وتلك التي عايشها بنفسه، فهو في الأولى ناقل أمين، وفي الثانية ناقل وناقد وشاهد يحكي ما سمحت له ظروفه الطبقية أن يعاينه بنفسه. وقد قسم المؤلف كتابه إلى فصول بحسب أسماء حكام مصر، وقسم هذه القصول حسب السنوات وتتبع أحداث كل منها بالشهور وأحيانا بالأيام.
أما النص الذي سجلته هنا ليكون الحلقة الثالثة من سلسلة “أزمنة الوباء” فهو مقتطف – تصرفت فيه قليلاً – من الجزء الرابع عشر من كتاب النجوم الزاهرة طبعة دار الكتب العلمية من صفحة 171 – 181، ويمكن لمن أراد أن يطلع عليه هنا. وفي هذه الصفحات العشر يتناول مؤرخنا الكبير أحداث الطاعون الذي وقع في مصر عام 833 هجرية. فيبدأ بانتشار الطاعون في مناطق مصر المختلفة، محددا أعداد الموتى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وواصفا الفرق بين الواقع وبين سجلات ديوان المواريث، كما يسجل أغرب الوقائع التي رواها المقريزي أو تلك التي رآها هو.