في خريف 2015، في تاون هاوس بالقاهرة صادفت فيديو ياسمينة متولي “دليل إثبات الغياب” للمرة الأولى. جهاز تليفزيون موضوع في زاوية ويعرض تسجيلات التقطت بالموبايل لأكثر من سبع ساعات تُظهر إزالة مصنع في حلوان، عام 2012 استعدادًا لهدمه ثم بيعه بشكل غير قانوني. التسجيلات صورهاحارس الأمن عصام علام، الذي كان ينوي استخدامها دليلاً ضد صاحب المصنع في المحكمة. لكن المحكمة رفضت القبول بالفيديو كدليل، وقالت إن جودته “سيئة للغاية” لذلك لا ينبغي الالتفات إليه، خصوصًا وقد التقط بواسطة الموبايل. بعد بضع سنوات،وقفت أمام نفس الفيديو في معرض أقيم ردًّا على نص هيتو شتايرل “دفاعًا عن الصورة الفقيرة“.
في مواجهة هذا العمل الفني، تساءلت: ماذا تفعل هذه التسجيلات، التي جُمعت بمثابرة مع المخاطر الشديدة التي تهدد الشخص الذي صورها، بغرض أن تكون دليلاً أمام هيئة قضائية، في هذا المعرض؟ والأمر نفسه حدث بعد مشاهدة معرض في لندن؛ حيث عُرض جزء من أرشيف مُصِرّين، فسأل المنسق الفني عمر خليف “كيف يمكننا تقييم مواد سُجلت للتوعية بالظلم الاجتماعي، كما جرى في أرشيف مُصِرّين، باستخدام المعايير نفسها المستخدمة للحكم على أعمال تنتمي للفن المعاصر؟“.1
في السنوات الأخيرة، ظهر هذا السؤال في أشكال متعددة، إذ قام عدد أكبر من الفنانين بعرض أعمال أعدت باستخدام تسجيلات عُثر عليها، أو أصلية تؤرخ لأحداث سياسية مثيرة للجدل. وفي ضوء المحو التدريجي للساحات العامة حيث يمكن رؤية الصور ذات الأهمية السياسية والتاريخية علانيةً، يمكننا الآن النظر إلى هذه الصور كمواد أرشيفية في حد ذاتها. يمكننا بسهولة طرح حجة مفادها أن كل صورة يمكن أن تعتبر أداة استدلالية، حسب الساحة التي تعرض فيها. ويوضح أوكويي اونويزور “بالنظر إلى أن الكاميرا حرفيًّا آلة أرشفة، ومن ثم فكل صورة فوتوغرافية وفيلم يعد بديهيًّا أداة أرشيفية“2، لكن أعمال الفيديو هذه تحديدًا تأخذ هذا المفهوم إلى مدى أبعد.
يكتب أنتوني داوني عن الالتزام المستمر لفنانين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالعمل على الأرشيف، ويشير إلى أن العديد من الفنانين المعاصرين استخدموا الأرشيف مصدرًا أساسيًّا وأداة مهمة في أعمالهم الفنية، وقد نتج عن هذا التداخل “أشكال أرشيفية بديلة، غالبًا ما كانت افتراضية“.3 فهل يمكن أن نعتبر أعمال الفيديو الفنية هذه شكلاً من أشكال الأرشفة الافتراضية، خصوصًا وهي تشمل الصور التي لم يعد من الممكن مشاهدتها في أي مكان آخر؟
في مثال شبيه، يتألف الفيلم القصير “زائر الليل: يوم أن تحصى السنين” (2011)، للفنانة المصرية مها مأمون، من لقطات ذات أهمية دلالية؛ فالفيلم عبارة عن مجموعة من مقاطع فيديو مأخوذة من موقع يوتيوب، صورها المتظاهرون الذين اقتحموا مقر جهاز أمن الدولة عام 2011 من أجل “إنقاذ” الأرشيفات التي زُعم أن قوات الأمن تتلفها. وعلى الرغم من وجود العديد من المقاطع التي تفيد بوجود أدلة لمحاولات إتلاف أجزاء من الأرشيف، فقد برأت محكمة جنايات الجيزة في 12 يونيو 2013، 41 من كبار أعضاء الأجهزة الأمنية المتهمين في قضية “إتلاف وثائق أمن الدولة“.
وهنا يجب أن نشير إلى مقولة هيتو شتايرل: إن درجة نقاء الصورة، وبالتالي درجة سماحها لنا برؤية الحقائق بوضوح، أمر سياسي. إن ما يمكننا قراءته في صورة ما، وما إذا اخترنا قراءتها على الإطلاق، أو ببساطة صنفنا جودتها بأنها رديئة لدرجة أنها ليست مفيدة لنا، هو أمر يحدد حسب “الانحطاط السياسي والامتياز الطبقي والنزعة الوطنية واحتكار وسائل الإعلام واللامبالاة المستمرة“.4
فواقعة استبعاد الصور التي صورها عصام علام والمتظاهرون في مقر مباحث أمن الدولة من قاعة المحكمة، والترحيب بها في عدة أعمال الفنية، ليست، في الحقيقة، انعكاسًا لرداءة جودتها، بل هي انعكاس لفقر حجة الأشخاص الذين قدموها للسلطة، الممثلة هنا في الجهة القضائية.
وباستثناء نسخة على سي دي، من المحتمل أن الأتربة غطتها في مخزن إحدى قاعات المحاكم بالقاهرة، فإن لقطات علام للمصنع موجودة فقط في فيديو ياسمينة متولي “دليل إثبات الغياب” (وهو غير متاح على الإنترنت). كما أزيلت عدة مقاطع فيديو استخدمتها مها مأمون في فيلمها من موقع يوتيوب، مما يجعل نسخ مقاطع الفيديو في الفيلم الوحيدة التي تزال متداولة، وفقًا لمعرفتنا. وبالتأكيد ليس هناك ما يضمن عدم وجود نسخ أخرى، مستنسخة باستخدام برنامج لتحميل الفيديوهات، على هارد درايف خاص بشخص ما (مثلما فعلت أنا مثالاً). والظروف التي توجد فيها هذه الصور، في عصر الصور الرقمية الرديئة، تعني أنه لا يمكننا التمييز بين الصورة الأصلية والمستنسخة. وإذا لم نتمكن من الإشارة إلى صورة واحدة على أنها “الأصلية“، فهل يمكننا أن ندَّعي من الناحية العملية أنها دليل على أي شيء يتجاوز مسيرة حياة الصورة الرقمية؟ هل نعتبر هذه الصور في الوقت الحاضر دليلاً مباشرًا على اللحظات التاريخية الماضية؟ أم هي عناصر جمالية تنعى تلك اللحظات والمشاعر التي أوجدتها؟
في حين استقطبت فكرة الصورة “كشاهد صامت” الهيئات القضائية في القرن العشرين (حين شاع قبول الصور كأدلة في قاعات المحاكم)، باعتبارها “أثرًا” دالاً على للواقع على حد تعبير سوزان سونتاج، لم تكن مصداقية الصورة دائمًا دليلاً واضحًا في حد ذاتها. ويشير الكتاب المرجعي البريطاني والأمريكي الرسمي في القرن العشرين لاستخدام الأدلة الفوتوغرافية لمحامي المحاكم إلى ضرورة “تجنب الحصول على صور التقطت بشكل جيد، أو صور تبدو باهظة التكاليف كي لا يعتقد المحلفون أن تقديم صور بهذه الجودة أمر مبالغ فيه“.5 فإذا كانت الصورة واضحة ونقية مباشرة جدًّا، سيُنظر إليها على أنها مفتعلة، بل وربما مزيفة.
اليوم، تتناقض المواصفات المحددة للمرافعة داخل قاعات المحاكم للصور الجديرة بالثقة مع جماليات الصور الرقمية القابلة للتداول، التي تملأ الإنترنت ووسائل الإعلام، تلك الصور التي خلق اهتزازها وقلة نقائها جماليات جديدة. يصف ربيع مروة في محاضرته الأدائية “الثورة المبكسلة“، الثورة السورية، كيف تغيَّر الوضع، وأصبح الناس ينظرون إلى صور الصراع التي تبثها القنوات الرسمية باعتبارها “موضع شك، وفي الأغلب مُحرفة ومصطنعة” بسبب ثبات كادراتها.
وفي النهاية، لا يعتمد تعريف الصورة الفقيرة على دقتها/ نقائها أو ثباتها، بل على ظروف استبعادها. وتشدد هيتو شتايرل على هذه النقطة حين تكتب “الصورة الرديئة هي الصورة التي لم تُكشف بعد؛ التي لا تزال محيرة وغير مقنعة بسبب التجاهل أو الإنكار لأسباب سياسية […] لكن إذا كان كل ما تحاول إظهاره غامضًا، فإن ظروف ظهورها من عدمه واضحة وضوح الشمس“.6
إن استبعاد هذه الصور من الهيئات القضائية، حيث تظل خفية وغير مرئية، يفتح المجال لابتكارها، مرة أخرى، كعنصر جمالي في مساحات فنية. لكن هل يمكن أن تكون هذه الصور عناصر أرشيفية وجمالية في الوقت ذاته؟ فبينما تدل الصورة الاستدلالية على حقيقة تاريخية، تدَّعي الصورة التي تعرض جماليًّا الولاء لنظام فني منفصل، وهو النظام الذي عرَّف نفسه في الأصل على أنه منفصل صراحة عن المفاهيم المنحطة للسياسة والحياة بوحشيتها المُجردة.
ذلك الشد والجذب بين الفن والحياة؛ بين شاعرية الخيال كما تتجسد في الصورة الفنية، وحقائق التاريخ كما وردت في الصورة الدلالية، هو ما يثير مفارقة مهمة في حاضرنا، كما حددها جاك رانسيير، بأنه لا يزال يُنظر إلى الفن على أنه نظام منفصل جماليًّا يجب أن يظل مستقل عن الحياة بينما يتم “تشجيعه بشكل متزايد على التدخل، بالنظر إلى انعدام السياسة بالمعنى الحقيقي“، مما يعطي الفنانين وأعمالهم “وظيفة سياسية بديلة“.7
وتطويرًا لاقتراح رانسيير، يبدو أن هذه الصور تخدم أيضًا وظيفة أرشيفية بديلة، وذلك بالحفاظ على أدلة اللحظات التي تحدث في الماضي داخل إطار فيلمي. والغرض من إعادة النظر في هذه الصور اليوم ليس تثمينها كمنقذ للذاكرة من مخاطر النسيان الجماعي، أو الإشادة بمساحة المعرض، أو مهرجان الأفلام، باعتباره الملاذ الأخير المتبقي لهذه الصور، بل التأكيد على أن الأرشيف موجود خارج المخازن المتربة وقواعد البيانات الرقمية، ويظهر في ساحات متعددة. مع تحول طوبوغرافيات تلك الساحات نتيجة للتغييرات السياسية أو واقع العمل المؤسسي أو الخسائر الفادحة للبيانات، يمكن أن تُصبح حدودها أقل صرامة، بما يؤدي إلى إنشاء هذه النماذج الأرشيفية الافتراضية، لتبقى في حالة تفاعل مستمر.
لارا الجبالي
الترجمة عن الإنجليزية :جيلان حفني
1- “إعادة النظر في الدافع الاجتماعي: السياسة والإعلام والفن بعد الثورات العربية” لعمر خليف (2014) من أسباب غير مألوفة: وسائط جديدة وممارسات نقدية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط لأنتوني داوني (محرر). لندن: أي بي توريس، ص 214 – 223
2- حمى الأرشيف: استخدامات المستند في الفن المعاصر لأوكويي اونويزور (2008). جوتنجن: لندن: ستيدل؛ تيمز & هدسون، ص 12
3- “الاحتياط والتنافر والفعل الأدائي: الأرشيفات النقدية وتوليد المعرفة في الفن المعاصر” لأنتوني داوني (2015) من الأرشيفات المتنافرة: الثقافة البصرية المعاصرة والسرد المتنازع عليه في الشرق الأوسط لأنتوني داوني (محرر). لندن: أي بي توريس، ص 13 – 42
4- المفقودون: التشابك والتراكب واستخراج الجثث كمواقع اللاتحديد، هيتو شتايلر (2012). مجلة إي–فلكس، العدد 38
5- الأدلة الفوتوغرافية: إعداد واستخدام الصور في القضايا المدنية والجنائية لس. ج. إرليش ول. جونز (1967). لندن: ماكلارين وأولاده، ص 28
6- شتايلر (رقم 4)
7- الجماليات وسخطها لجاك رانسيير. كامبريدج: بوليتي، ص 60
كتبت لارا الجبالي هذا النص تحت عنوان”العمل الفني أرشيفاً:النزاع بين الصورة الجمالية والإستدلالية” بدعوة من مهرجان القاهرة للفيديو في دورته التاسعة. ويتضمن بعض النقاط الأساسية من رسالة الماجستير “سياسات الصور النازحة: رحلة ثلاثة مقاطع فيديو من قاعة المحكمة إلى معرض الفن في مصر المعاصرة“ وقدمت كتنفيذ جزئي لمتطلبات درجة الماجستير في الدراسات الثقافية بكلية جولدسميث، جامعة لندن، 2018.