ولأننا نهتم بثورة أكتوبر/تشرين في لبنان، نشارككم مجموعة مقالات/تعليقات اخترناها من موقع ميغافون، المميز بالطزاجة والذكاء والتفاعل الخصب مع مستجدات كل لحظة في الثورة اللبنانية (نعم…ثورة وليست مجرد حراك)، تتشكَّل كل يوم أرض عمليات في مواجهة طبقة أمراء الحرب والمصارف… وهي عملية أصعب من أن تقتصر على الكرنفال ولقاء الناس الجماعي لتفكيك سلطة راسخة في نشر الخوف والكآبة والتنميط سابق التجهيز…
هذه ثورة مفصلية في بقعتنا الملعونة، حيث لبنان مختبر الحريات الذي اتفق كل عصابات الحكم في العالم على تجريب كل البضائع المحرمة، واستعراض أسلحة السيطرة على أرضه، واليوم هناك أجيال تلتقي عند التحرر من كل خرافات هذا التاريخ الثقيل.
كان بإمكان والتر وايت في مسلسل «برايكينغ باد» أن يأخذ الملايين الخمسة التي عُرضت عليه ليكفّ عن صناعة المخدّرات، لكنّه رفض العرض. حاول شريكه إقناعه بالصفقة، فسأل مستغرباً: قُل لي، لماذا دخلتَ إلى هذا العالم، أَمِن أجل المال أم المخدّرات؟ أجاب السيّد وايت: لا المال، ولا المخدّرات. هدفي هو الإمبراطوريّة.
هي هذه الإمبراطورية التي يريد الطقم السياسي الحاكم الدفاع عنها. وهو يعلم أنّها لا تُبنى إلا من خلال النهب والفساد. كلٌّ منهم يريد الحفاظ على إمبراطوريّته الخاصّة، على الشبكة الزبائنية التي تمّ بناؤها حجراً حجراً. زنكة زنكة. دار دار. من خلال التوظيفات والمساعدات والتعويضات على أشكالها. من خلال ربط سُبُل عيش مجموعات من المواطنين وطبابتهم وتعليم أبنائهم بالزعامة الطائفية.
المفارقة أنّ كثيراً ممّا يسمّى اليوم فساداً ليس إلا مزاريب الهدر التي كانت تلك الشبكات تعتاش من فتاتها، والتي كانت في الوقت نفسه تطيل بعُمر الزعامات وتزيد من ثرواتهم. وقد عبّر كثيرون ممّن نزلوا إلى الساحات في الأيام الأولى عن خيبتهم من زعمائهم الذين أشاحوا وجههم عنهم ما إن لاح الشحّ في الأجواء.
لذلك، لم تكن زلّةَ لسانٍ إشارةُ رئيس الجمهورية في عزّ الأزمة إلى النفط، واستعجاله التذكير بعائداته. فالقوى نفسها كانت قد مازحت بعضها بعضاً ذات يوم تحت قبّة البرلمان بالقول: بكرا بس يجي النفط، رح نشرب بالشلمونه.
ولم تكن زلّةَ لسان تلك التي وردت في الكلمة التي ألقاها الأمين العام لحزب الله حين قال إنّ معاشات المقاومة مؤمّنة. لم تكن زلّةَ لسان لأنّه أراد التذكير بأنّ الإطار المادّي الذي يربطه بقاعدته الشعبية ليس مرتبطاً بالضرورة بالشبكة الزبائنية المعرّضة للانهيار. وهو في ذلك كان يتوجّه إلى قاعدته لإقناعهم بضرورة ترك الساحات التي لن تجلب لهم شيئاً.
لقد أعلنت الأزمة الحالية بداية النهاية لسياسات النهب المنظّم بين الدولة والمصارف. لكنّها أعلنت أيضاً فقدان السيولة اللازمة للنظام الزبائني. فتوحّدت المصالح مرّةً أخرى للبحث عن أموالٍ تؤبّد مأساة الدَّيْن العام وتُعيد تزييت المحرّكات الزبائنيّة. فزعماء المافيا اللبنانية لا يمكن أن يتخلّوا عن الفساد. التخلّي عن الفساد هو تخلٍّ عن الزعامة التي لا يكفيها العصب الطائفي. ولا يمكن بالتالي لأيّ حكومة منبثقة عن هذا الطاقم الممثّل في مجلس النوّاب الحالي أن تُنهي هذه المَنْهَبة. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية مع المقاربة المتّبعة لتكليف رئيس جديد للحكومة.
كان السيّد وايت على حقّ. فالدخول إلى عالم الثورة لا يعني استبدال اسم الحريري بأيّ اسم آخر، ولا يعني استعادة أموال منهوبة وحسب. عالم الثورة هو أيضاً عالم قلب تلك الإمبراطوريّات الصغيرة.
صورة الغلاف من مجموعة وسام متى في موقع بوسطجي