هذه رسالة مهمة عثرنا عليها بالمصادفة على موقع تويتر..كتبها هارسمران ساش ديفا سنج؛ وهو طبيب أمريكي من نيويورك.. الرسالة نشرها كأول تغريدة له على تويتر، ووجهها إلى مؤسسته (المستشفى التابع لكلية الطب في جامعة ويل كورنيل) وزملائه في قسم الرعاية فوق العادية للمرضى.
كلية طب كورنيل من أهم كليات الطب على مستوى العالم، تعالج سنويًّا أكثر من مليون و700 ألف مريض.. وتضم إلى جانب الأقسام الطبية مركزًا لحقوق الإنسان يقدم خدمات طبية من بينها علاج ضحايا التعذيب من اللاجئين في الولايات المتحدة.
صاحب الرسالة أخصائي في العيوب الخلقية في القلب، ومدير برنامج زمالة أمراض القلب.. في كليته وفي رحلته العلمية اتخذ مسارًا من جامعة برنستون (البكالوريوس) مرورًا بمدرسة متخصصة في التعقيم والطب الاستوائي وحتى جامعة يل (الماجستير) وصولاً إلى جامعة كاليفورنيا (التكليف في سان فرانسيسكو)، ثم التخصص من جامعة كولومبيا والتدريب على الطب التداخلي في القلب بمستشفى تورنتو العام ومستشفى طب الأطفال.
الرسالة مهمة ليس فقط لمكانة المؤسسة الموجهة إليها ولرحلة صاحبها، لكن التوقيت يمنحها أهمية خاصة، فالطبيب كتبها في عز مواجهة فيروس الكورونا (كوفيد 19) في مدينة نيويورك التي أصبحت بؤرة الوباء في وقت قصير.. في ظل ما وصف بـ “انهيار المنظومة الصحية” هناك..
الطبيب كتب رسالته بحماسة “المقاتل في الحرب” وأخلاق التوجيه العاطفي.. لكن أيضًا بالدقة العلمية في وصف مواقع الأطباء والعلاقات بين المؤسسة والأطباء والمدينة كلها.. ولهذا اعتبرنا الرسالة نصًّا مهمًا، إذ يكشف مستوى لا يظهر في أخبار مواجهة الوباء ولا في تحليلاته.. نص لا يبالي به المتابعون لكنه كاشف لطريقة التفكير الواقفين في الصفوف الأولى حول المرضى ويمثلون المنطقة الآمنة.. فكيف يمكن اختراع الأمان في ظل الوباء؟
أعزائي الأطباء مديري أقسام أمراض القلب..
مرت بضعة أسابيع منذ كتابتي لهذه القائمة البريدية؛ ومن وقتها انقلب الدنيا في نيويورك رأسًا على عقب.
لقد أردت أن أشارك ملاحظاتي “من قلب الحدث” مع مدن أخرى قد تختبر ما حدث في نيويورك في غضون أسابيع قليلة.. هذه انطباعاتي الشخصية التي من المحتمل أن تكون مفيدة لكم، وهي لا تمثل مدرستي الطبية ولا مستشفاي.. بل انطباعات مبنية على مشاركتي كطبيب في قسم الجراحة بالمستشفى، والكلية، وكاستشاري قسطرة، وأخصائي، وحاليًا كطبيب عناية مركزة في وحدات الكوڤيد..
في هذه المرحلة، مستشفيات نيويورك ممتلئة تمامًا؛ أعداد المرضى الموضوعين على أجهزة التنفس الصناعي مهولة، وهناك جهود مذهلة في مستشفى جامعة ويل كورنيل في نيويورك Weill Cornell؛ حيث تحوَّلت نسبة العلاج عن طريق مكالمات الفيديو من 1% إلى 99%.. أعطينا أغلب مساعدينا الأدوات للعمل من المنزل، أما بالنسبة للمرضى المقيمين فقد ضاعفنا أعداد أسِرَّة العناية المركزة أكثر من مرة خلال بضعة أسابيع.. وساعدت كل مستشفى في نيويورك نظيراتها.. أنا فخور جدًا بزملائي في قسم أمراض القلب وفي كل التخصصات، فخور بقدرتهم وحماستهم للخدمة. الأطباء في مستشفى ويل كورنيل أيضًا كانوا رائعين، وكان هدوءهم ومهاراتهم وحميمتهم واستعدادهم لرعاية المرضى في ظروف عمل ضاغطة، أمرًا لا يصدق!
ربما ارتكبنا أخطاءً بالفعل.. لم يعد هناك ما يكفي من أجهزة التنفس الصناعي، وأصبحت أقنعة الـN95 نادرة. وقد طالبنا بإعادة توزيع الأطباء لكن الجميع مشغولون للغاية.. وقريبًا، لن يكون هناك خيار سوى تقنين الرعاية، والقيام باختيارات أخلاقية طبية كنت أعتقد سابقًا بأنها بائدة، وتنتمي إلى التاريخ وطب الحروب.
لقد استدعي كل طبيب عناية مركزة لرعاية الحالات الحرجة. وفي الوقت الذي لا يوجد فيه أطباء جهاز تنفسي أو حالات حرجة أو عناية مركزة بالقدر المطلوب، يتوقع أطباء الأمراض القلبية استدعاؤهم للخدمة في أي وقت، وقد استدعوا بالفعل في مؤسستنا. واستُدعي الأطباء المقيمون وأطباء الأورام والجهاز الهضمي والجراحون، كما أننا وظفنا طلبة طب متطوعين، واستدعينا أطباء متقاعدين، حتى إننا حاولنا الاستعانة بمقدمي الرعاية الصحية الذين تعاملوا معنا سابقًا ولو لمرة واحدة.
كقائمين على برامج الزمالة ومديري مستشفيات، أود حث الجميع على حشد طواقمهم وتهيئة زملائهم ذهنيًّا؛ لذلك أرجو مراعاة الملاحظات التالية:
- 1- “تكاتفوا“.. على كل أطباء الأمراض القلبية الاستعداد في كل مدينة لرعاية مرضى ضيق التنفس الحاد الموضوعين على أجهزة التنفس الصناعي من جراء كوڤيد 19. ادرسوا.. استعينوا بخبراتكم ومعارفكم السابقة بحالات الفيروسات التاجية.. شاهدوا فيديوهات عن ضيق التنفس الحاد عبر الإنترنت.. تعلموا من زملائكم أخصائيي أمراض الجهاز التنفسي.. اقرأوا المقالات اليومية التي تنشر عن كوڤيد 19.. شاهدوا كل فيديو دوري ينشر عن مرض الكوڤيد.. من فضلكم ابدئوا في وضع جداول بكل السيناريوهات المتوقعة في كل مستشفى، بكل الأطباء المعنيين (واعلموا أن هذه الجداول ستتغير يوميًّا).. المرونة والانسيابية هما السر.
- 2- “يمنع توزيع الأطباء على الأماكن غير المسموح لأطباء القلب بالوجود فيها“. أيها الأطباء لقد وضعت هذا البيان للزملاء الذين يشغلون أعلى المناصب القيادية في مؤسستنا، والالتزام بها مقدس. إن كان هذا المعادل الطبي للمعركة، مهما كانت كفاءة المتدرب، فنحن لا نرسل جنديًّا مبتدئًا لخوض معركة إلا إذا كان الجنود النظاميين غير مستعدين.. لذا إن أمكن أعيدوا توزيع أطباء القلب (والأطباء المقيمين) في وحدات الكوڤيد.. حيث تساعد أجواء الألفة بين الأطباء والممرضين على تحسين الرعاية.
- 3- “المعلومات قوة“. لقد كان أداء مستشفانا بارعًا بمشاركة فيديو يومي بالمستجدات، وصفحات عن الكوڤيد، وفي إقامة الدورات والاجتماعات الإدارية دوريًّا، وإرسال إيميلات بالمستجدات التفصيلية عن الأرقام في كل مستشفى.. كمسؤولين، أؤكد على ضرورة اتباع ذلك على الأقل لمرتين أسبوعيًّا، أو إقامة اجتماعات عبر تطبيق زوم يوميًّا، وتبادل المكالمات والإيميلات بشكل منتظم. لا ينبغي إشاعة سيناريوهات بشأن نهاية العالم، لكن ينبغي أن يكون الجميع على “علم تام بما يحدث“. كاختصاصيين ينبغي أن نكون متاحين طول الأربع وعشرين ساعة وعلى مدى الأسبوع، من أجل مساعدة زملائنا وقت المحنة.. كن قدوة.. كن إيجابيًّا.. ونشطًا.. ومسيطرًا.
- 4- “الفشل في الإعداد، إعداد للفشل“. لقد أجرينا تغييرات ملحوظة في الشهر الماضي في مستشفيات نيويورك.. ولكن كان علينا أن نبدأ قبل ثلاثة أشهر. لذلك ابدأوا بوضع خطط استراتيجية لزيادة وحدات الرعاية المركزة/ وتعزيز الخدمات/ والفرق. فلن يكون هناك نقص في الأطباء فقط، بل في تمريض العناية المركزة، ومعالجي الجهاز التنفسي، وأطباء الطوارئ. تأكدوا من حل هذه المشكلات الآن (ينبغي أن تفعلوا ذلك أسرع مما فعلناه نحن في نيويورك). إن كان هناك فريق تمريض يمكن تدريبه ليصلح للعمل في العناية المركزة، قوموا بذلك، دربوه.. إن كان هناك أخصائيو تنفس يتطلبون أسابيع أو شهور للحصول على تراخيص للعمل، امنحوهم هذه التراخيص الآن. استرجعوا المساحات القديمة للعناية المركزة. طهروا أجهزة التنفس القديمة المحفوظة في المخازن. ابدأوا محاضرات على تطبيق زووم للأطباء المقيمين عن الحالات الحرجة/الإعياء الشديد/ضيق التنفس الحاد..
- 5- “معظم الفحوصات ليست مهمة“. كشفت لي هذه الأزمة أن معظم الفحوصات التي نجريها ليست ضرورية (كثيرًا منها يجرى بدافع طبي/قانوني أو بحكم العادة). في المستشفى، فكَّروا ثلاث مرات قبل طلب أشعة قلب أو صدر أو رسم قلب من مصابي الحالات الحرجة للكوڤيد. افعلوا ما ترونه ضروريًّا ولكن فكِّروا جيدًا: أي تشخيص سيصنع فارقًا. الأطباء والفنيين؛ ضعوا سياسة لإجراء الأشعة على كوڤيد. وسياسات للتعامل في معامل القسطرة لتحديد كيفية التعامل مع التربونين ومشكلات عضلة القلب. ادفعوا بأكثركم مهارة للعمل في الصفوف الأمامية (على سبيل المثال: كوّنوا فريقًا للقيام بكل الإجراءات: قسطرة الأوردة الرئيسية، وفحوصات الكبد، وتركيب أنابيب التغذية، وقسطرة المثانة.. وكل الإجراءات التي ينبغي إنهاؤها قبل إجراء الأشعة).
- 6- “معظم الفحوصات ليست مهمة… لكن فحص الكوڤيد مهم“. أنا محبط للغاية من قدرتنا المحدودة على فحص العاملين بقطاع الصحة.. أتفهم ندرة أدوات الوقاية الشخصية، والمسحات– وهذا مضر للهدف الأساسي الآن؛ وهو المعنويات والصحة العامة. لدينا مقدمو خدمة صحية، في الحجر المنزلي مصابين بحمى وأعراض تشبه أعراض الكوڤيد، ومع ذلك فقد رُفض فحصهم (ما لم تستدعي حالتهم القدوم إلى المستشفى). عندما يتاح فحص على نطاق واسع، أتوقع إصابة أعداد من مقدمي الخدمة الصحية (بمعرفة فحص Ab الجديد) حتى وإن بأعراض أخف.. سيخفف فحص العاملين من حدة الضغط النفسي الذي يعانيه الكثيرون. أرجو ألا تسيئوا فهم تصريحي هذا؛ الشفاء من الكوڤيد لا يمنحك تصريحًا بالإهمال.. لكنه، في الوقت نفسه، قد يمنح المرضى والأطباء أملاً كبيرًا..
- 7- “إنكار الحقيقة لا يغير الواقع“. لاحظت أن هناك نقصًا في أقنعة N95، وأننا مضطرون إلى التعامل مع الكميات الموجودة بحذر. لقد كانت الرسالة التي وجهت إلى مقدمي الخدمة الصحية غير عادلة، سواء من – من مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها إلى منظمة الصحة العالمية– إلى كل مستشفيات البلاد. من “لا داعي للأقنعة“.. وصولاً إلى “وجوب ارتداء أقنعة العمليات الجراحية داخل المستشفيات“.. إلى “لا داعي لأقنعة N95″.. ثم “وجوب ارتداء N95″.. الحقيقة أنه في حالة خالط والدك أو ابنك مريضًا مصابًا بالكوڤيد، فستطلب منه وضع قناع N95. المعلومات المتاحة تضبب الصورة أكثر مما توضحها.. ومما لا شك فيه أن قناع N95 خيار أكثر وقاية لمقدمي الخدمة الصحية.. ومجرد مناقشة الفكرة هو فشل على كل الأصعدة.
- 8- “الوقاية خير من العلاج“. أصدقائي وزملائي في كل المدن ذات الإصابات الأقل عددًا، أبلغوا عن حالات “الإعياء الشديد“.. لقد شعر الناس بالضجر بسبب الحظر والتباعد الاجتماعي في الأسابيع الماضية– خصوصًا في الأماكن ذات الحالات القليلة، حيث لا مجال للقيام بشيء.. واصلوا جهودكم. أتمنى أن يكون معدل الانتشار في مدنكم أقل حدة عما شاهدنا في نيويورك.. شجعوا الجميع على الالتزام بالتباعد الاجتماعي، والالتزام بالحجر، والحفاظ على المستشفيات للطوارئ والحالات الحرجة فقط. في نيويورك، أدركنا أنه كان لا بد لإجراءات التباعد الاجتماعي أن تركز على حماية المسنين والحالات الحرجة (ربما يكون الزحام في شقق نيويورك ذات الغرفة الواحدة، بالإضافة إلى تأخرنا في اتخاذ رد فعل والكثافة السكانية المرتفعة عوامل مساعدة).
- 9- “الأبطال موجودون فعلاً“.. في الأسابيع الماضية كان دعم الأصدقاء والأقارب والزملاء حول العالم هائلاً. نشرت نيويورك تايمز مقالات تسلط الضوء على الأطباء المعالجين. من وجهة نظري، الأبطال الحقيقيون هم فرق الطوارئ التي تعمل ليلاً ونهارًا. بالإضافة إلى أطباء وممرضي الطوارئ الذين يعملون في أجواء مشحونة، وفرق التمريض التي ترعى كل مريض كوڤيد، وأخصائيي التنفس البواسل، والأطباء المعالجون على كل المستويات، وخصوصًا الذين يتعاملون مع الحالات الحرجة، وأطباء التخدير المنوط بهم بتركيب أجهزة التنفس الصناعي للمرضى (احتمالية تعرضهم للعدوى كبيرة). وكأطباء أمراض قلب وأطباء مقيمين يجب أن نؤدي دورنا بكفاءة.
- 10- “الكل من أجل الفرد والفرد من أجل الكل“. اهتموا ببعضكم بعضًا. أرجوكم لا تنتظروا من إدارة المستشفى أن تقوم بذلك.. لقد شهدت في هذه الأزمة المعدن الأصيل لبعض الشخصيات، قليلون جدًّا من تقاعسوا ولم يستجيبوا لنداء الواجب، كانت الأغلبية تشارك بشرف ومسؤولية عظيمين.. هناك من يعملون في حيوية شديدة وآخرون يعملون في هدوء.. ينبغي علينا أن نقدر مشاعر الآخرين وتحدياتهم، وأن نبقى موحدين وداعمين، من أجل مرضانا ومن أجل رسالة الطب.. هذه حربنا؛ وواجبنا كأطباء أن نعمل بأقصى جهدنا.
أتمنى لكم ولعائلاتكم الصحة والأمان.. أنا أصلى كي لا تمر أماكن أخرى بما مرت به نيويورك من تحديات.. لكن أرجوكم تعلموا من نجاحنا وفشلنا.
سيمران