ربما لا يختلف اثنان من مشجعي كرة القدم في العالم على إنه ساحر، ولكن العديد من مواطني بلاده كرواتيا يرونه شيطانًا أيضًا!
لوكا مودريتش الذى ارتفعت حظوظه بشدة ليكون أول من يكسر احتكارًا دام لعشر سنوات للكرة الذهبية لأفضل لاعب في العالم؛ احتكار الأسطورتين كريستيانو رونالدو وليونيل ميسي، ولم لا؛ فقد ساهم مع فريقه الكبير ريال مدريد للفوز بدورى الأبطال الأوروبي للعام الثالث على التوالي؛ وها هو ذا يقود منتخب بلاده إلى الوصول إلى نهائي كأس العالم وربما يحمل الكأس بعد يومين.
ساحر منتصف الملعب يكرهه العديد من مواطني بلاده – الذين قد يعود لهم بكأس العالم– لاتهامه بالشهادة الزور لتبرئة زادراكوف ميميتش؛ الرجل القوي في كرواتيا ورئيس نادي دينامو زغرب الذى حكم عليه القضاء الكرواتي يوم 6 يونيو الماضى بالسجن لستة سنوات ونصف السنة – بعد يوم واحد من هروبه خارج البلاد إلى البوسنة والحصول على جنسيتها – لاتهامه بالفساد وإساءة إستخدام السلطة والرشوة والتهرب الضريبي في معاملات مالية مركبة ومشبوهة في صفقات انتقال عديدة للاعبي دينامو زغرب، أهمهما انتقال مودريتش إلى توتنهام الإنجليزى 2008 وديان لوفرين – لاعب ليفربول الحالي؛ فريق محمد صلاح – إلى أوليمبك ليون الفرنسي. خلع مودريتش زيه الرياضي وبدا في حلة كحلية أنيقة وهو يدلي بشهادته للمرة الثانية أمام المحكمة التي دخل قاعتها متجهًا مباشرة إلى مقعد الشهادة دون أن ينظر إلى المتهمين الأربعة: ماميتش وأخيه زوران ودامير فيربانوفيتش، رئيس اتحاد كرة القدم الحالي، ومعهم أحد مفتشي الضرائب، لم يكن لوكا يواجه أي اتهامات ساعتها.
الانتقال إلى توتنهام كان مقابل 21 مليون يورو، وكان الاتفاق أن يحصل النادي – دينامو زغرب– على نصفها، ويتم تحويل النصف الآخر إلى حساب مودريتش من دينامو، ولكن مودريتش شهد في المرة الأولى أنه بناء على اتفاق شخصي مع ماميتش قام بسحب سبعة ملايين يورو وتسليمها له عن طريق أخيه أو ابنه!
في يونيو 2017، وخلال شهادته الثانية، بدا مودريتش مشوشًا بشأن التواريخ والأحداث التي ذكرها في شهادته الأولى، لتعلن النيابة العامة بعدها في بيان “أنها تقوم بتحقيق يتعلق بمواطن كرواتي، ولد عام 1985 بشأن احتمال إدلائه بشهاة زور في يونيو أمام إحدى محاكم أوسييك“.
“دولة صغيرة وأحلام كبيرة” هذا هو الشعار الذى اختارته كرواتيا أحد أغنى دول البلقان، وصاحبة الترتيب الخامس والثمانين في العالم من حيث متوسط دخل الفرد، والذي يبلغ بتقديرات 2016 نحو 23 ألف وأربعمئة دولار، ولكن الدولة الصغيرة – وكما في دول كثيرة– تختلط فيها كرة القدم بالسياسة والاقتصاد، فالسيدة كوليندا جاربر كيتاروفيتش رئيسة الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة والتي خطفت الأنظار بأدائها في المدرجات وغرفة ملابس اللاعبين بعد مباراة ربع النهائى مع الفريق الروسي، اختلفت ردود أفعال المواطنين وتقييمهم لما تفعله؛ بين أنها رغبة في زيادة شعبيتها فقط أم إنه أداء مخلص من مواطنة تحب بلادها وكرة القدم وبالمصادفة تشغل موقع الرئيس.
بدا لوكا كتعويذة أطلقتها كرواتيا لتصل بها إلى النهائي الحلم، الطفل الذي صرح أحد المدربين أنه خجول للغاية وضعيف بدنيًّا بدرجة لا تسمح له بممارسة كرة القدم، بعدها بسنوات طويلة أطلق سحره في الملاعب الروسية وهزم الأرجنتين وساحرها الأكبر ميسي، وسجل رقماً قياسيًّا بتمرير أكثر من مئة تمريرة صحيحة في مباراة بلاده ضد روسيا صاحبة الأرض، وأنهى مسيرتها في البطولة، ثم بدا عملاقًا أسطوريًّا بجسد ضئيل يحرك عرائس ماريونيت أو يقود أوركسترا من اللاعبين لتصنع “ريمونتادا” تاريخية في الأمتار الأخيرة من الشوط الثاني الإضافي – في ثالث مباراة على التوالي يلعبها بأشواط إضافية – أمام مخترعي اللعبة الذين كانوا يتحدثون عن عودة الكأس لبيتها؛ إنجلترا.
انشغلت الميديا بطفولة لوكا فقد شهدت طفولته بلاده وهي تتمزق من حرب أهلية، آلاف المدنيين يتم إطلاق قذائف عليهم من التلال المحيطة بلا تمييز، وأدخنة تتصاعد ومدن تتهدم. الطفل ابن الضاحية الصغيرة “مودريتشى” – هذا هو اسمها للمصادفة – أبيه يحارب في صفوف الجيش الكرواتي، ويرعاه جده، اسمه كان “لوكا” أيضًا، الحظ التعس يضع الجد في مسار الميلشيات الصربية، يتم القبض عليه في 18 ديسمبر 1991 وإعدامه بدم بارد، كان لوكا الحفيد ولوكا الجد يبدوان كما لو كانا لا ينفصلان أبدًا، ذهب لوكا القتيل بلا رجعة، وصار لوكا الصغير لاجئًا مع أبيه وأمه ليقضي سبعة سنوات تالية في معسكر لاجئين بفندق كولوفار بمدينة زادار، ليستمر الحظ السيئ، فزادار لقربها من البحر الأدرياتى صارت هدفًا للأعداء من البر والبحر!
لم يستطع الفتى أن يمارس عشقه الكبير كرة القدم بشكل منظم في أي نادي حتى بلغ السادسة عشر، فقد كان ضعيفًا بدنيًا للغاية، ولكنه استطاع أن يشارك في معسكر لنادي “إن كيه زادار” الذي يلعب حاليًا في دوري الدرجة الثالثة الكرواتي، ساعتها انبهر بموهبته وقدراته الخارقة في التحكم في الكرة السيد تاموسيلاف باسيتش رئيس الأكاديمية الرياضية بالنادي وأبو لوكا الرياضي كما يسميه هو، رتب باسيتش انتقال اللاعب الصغير إلى دينامو زغرب لتنفجر الموهبة، وينتقل بعدها، في الثالثة والعشرين من عمره، إلى توتنهام صاحب التاريخ العريض ثم في 2012 إلى النادي الملكي، نادي القرن الأوروبي: البلانكو ريال مدريد وتتوالى التتويجات والبطولات والترشيحات للجوائز. تبدو مسيرة صاحب الاثنين وثلاثين عامًا في قمتها؛ بطلاً لأوروبا وربما للعالم، ومرشحًا أولاً للحلم الأكبر لكل لاعب كبير: البالون دور.
ربما يدان لوكا مودريتش بتهمة الشهادة الزور وربما لا، ربما يكرهه بعض مواطنيه حتى لو أحضر لهم كأس العالم، لكن المؤكد أنه ترك علامة لا تمحى لنفسه وبلاده في تاريخ المونديال، وفي كرة القدم حيث تختلط اللعبة والمتعة والمال والسياسة والمنافسة والأخلاق والصناعة والتكنولوجيا في مزيج مركب يليق بمن يحيون الآن وهنا، وحيث يجب أن يرتبك أصحاب اليقينيات الثابتة ومن ما يزالون عاجزين عن رؤية عالم شبكي يتحرك فيه الجميع في أبعاد متعددة يصعب تصنيفها إلى خير مطلق أو شر مطلق.
لوكا ليس ملاكًا أو شيطانًا ولكنه بالتأكيد أحد أكبر سحرة وشياطين مدينة العالم؛ روسيا 2018.