في مجلتنا الجديدة نشاركك مقالات وأفكار تبحث عن الجمال والحرية، وتفتح مساحات لاكتشاف سرديات جديدة بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
عبد الشافي عامل يومية بمصلحة البريد المصري، لم يسافر مع منتخب مصر إلي مونديال إيطاليا 1934، وكذلك المهاجم المجري جيورجي ساروسي لم يلعب مع فريقه أمام مصر. كان عامل البريد مدافعًا بارزًا في فريق السكة الحديد، وشارك مع المنتخب المصري (مارس 1934) في المباراة التي أقيمت في تل أبيب( وهو اسم الحي الذي أنشأ سنة ١٩١٠-١٩١-في ظل الحكم العثماني ليقيم فيه اليهود النازحين من أوربا وخاصة ألمانيا والنمسا….وبعد الإحتلال الإسرائيلي توسع الحي وإلتهم مدينة يافا)، وصعد الفريق المصري، وصعد بها إلى المونديال بعد فوزه بأربعة أهداف مقابل هدف واحد لفريق فلسطين. لكن عبد الشافي امتنع، أو مُنع من السفر، لأنه لم يكن يجيد “إتيكيت” مثل هذه المحافل الدولية. لم يتعرض جيورجي المجري لمثل هذه الأزمة الطبقية، لكنه لم يستطع ترك عمله في مكتب المحاماة، والسفر بالسفينة إلي إيطاليا، ثم حدث أن فاته القطار، ولم يلحق إلا بمباراة فريقه مع النمسا. لم يستطع جيورجي الحصول على وقت أطول من آلة العمل في المجر عندما كانت مملكة تتصارع حولها الرأسمالية والاشتراكية.
وقتها، لم تكن الكرة عملاً صافيًا، تراوحت بين الهواية والاحتراف؛ بين متعة الموهوب وعمله في تروس الماكينات الصاعدة بنزعات الخلاص من الفاشية والنازية، وهما الحركتان التي تناثرت حولهما طبقات جديدة في بلاد الرأسمالية المتأخرة مثل مصر؛ حيث كانت البرجوازية الوطنية تقود المسار الشاق للتحرر من الاستعمار، وفي خيالها انسجام تتشابه فيه مع “المستعمر”، وتطبق فيه عاداته وأشكاله. لذا كان طبيعيًّا إذًا أن يستبعد عبد الشافي من الواجهة أمام العالم؛ فالمونديال معرض أكبر من اللعبة. لكنه لا يستمر دون اللعب.
غاب عبد الشافي غاب في فلتر “الإتيكيت”، لم يكن مناسبًا لصورة “برجوازية” تقنع العالم أنها قادرة على وراثة الاستعمار، وكانت هذه هي إحدى موجات صعودها القوية. بعدها بعام (1935) اشتعلت انتفاضة منسية في التاريخ السياسي، أعادت دستور 1923 وأوقفت تضخم سلطات الملك (فؤاد الأول)، ومهدت لمعاهدة 1936 التي كانت خطوة الاستقلال النسبي عن بريطانيا. وهذا ما جعل وصول منتخب مصري إلى المونديال إعلان وجود، بعدما كان من الطبيعي والرسمي أن يشارك اللاعب المصري الموهوب حسين حجازي في المنتخب البريطاني.
أما الدوتشي الإيطالي موسوليني، بقامته القصيرة فقد كان يريد أن يعلو الجميع، ويجعل من المونديال استعراضًا لقوة الفاشية؛ الشوارع تملؤها ملصقات ترسم البطل الروماني القديم هرقل يمد يده بالتحية الفاشية والكرة بين قدميه، والمدرجات مشحونة بجمهور من أصحاب القمصان السوداء. وفي مباراة النهائي ترك موسوليني مقعده في مقصورة ملعب “الوطني الفاشي” ليحذر اللاعب الأرجنتيني لويس مونتي من تضييع الفرص أمام المرمى. كان مونتي لاعبًا في الفريق الإيطالي متخطيًا قانون “الفيفا” الذي يشترط أن تمر ثلاث سنوات حتى يعتمد انتقال لاعب من منتخب بلد إلي منتخب بلد آخر ؛ لكنها “نزعة” الدوتشي في تحطيم أي شيء يقف عائقًا في طريق “انتصار الفاشية”، بما في ذلك قوانين تنظيم اللعبة، أو الضعف الإنساني الذي يجعل الهزيمة والانتصار احتمالات واردة في اللعب. وأصبحت الكأس، التي سميت باسم الفرنسي جول ريميه صاحب فكرة المونديال، هدفًا في حرب البروباجندا، يهدد موسوليني لاعبي فريقه بالقتل إذا ضاع منهم الكأس، ويرفع الفريقان الألماني والإيطالي عندما يعزف النشيد الوطني أياديهم إلى أعلى وإلى الأمام، وهي تحيات ورثتها الفاشية والنازية من الجيوش الرومانية. والمدهش أن فرقًا أخرى كررت التحية نفسها. إنها لحظات ولادة الكتالوج الأول للدولة القومية؛ والكرة ملعب من ملاعبها، دائمًا تحاول (الدولة) السيطرة عليه، لكن دائمًا كذلك هناك مصادفات هي سر الكرة وطفولتها.
من بين هذه المصادفات، يظهر لاعب في الملعب، ويفسد مراسم الخضوع التام.