-1-
مثلما يكتب محمد المخزنجي نصوصًا مفتوحة خارج التصنيفات التقليدية، تبدو مكتبته كذلك؛ في المكتبة أفيال وغزلان وأشجار ونباتات وجراثيم وكائنات لا نراها بالعين المجردة.. وفي المكتبة أيضًا أم كلثوم. وكتب خارج التصنيف التقليدي، ونصوص مفتوحة تكشف عما يشغل الكاتب الذي توزعت مكتبته بين أماكن كثيرة.
غرفتان وصالة، هي المساحة التي يسكنها محمد المخزنجي. لا غرفة خاصة لكتبه وأوراقه؛ لا يريد أن يكون أنانيًّا ليترك كتبه تزحف على كل أنحاء البيت المشترك مع ابنيه وزوجته، لذا يكتفي في المنزل الذي يسكنه بما يراه ضروريًّا له. اللابتوب الخاص به هو مكتبه الخاص، لحسن حظه كما يقول “تعودت أن أكتب في الخارج، على المقاهي، أما القراءة فأمارسها في أي مكان، في السرير أو صالة المنزل“. الصالة تحوي مكتبته الصغيرة التي تضم ما يقرأ (الآن)، أو خلاصة الكتب التي انتقاها بعناية عبر سنوات عمره، والكتب التي لا يستطيع الاستغناء عنها. في كل مكان أقام به، ثمة مكتبة، وفي نهاية إقامته يفرز كتبته، ليختار منها ما لا يمكن الاستغناء
عنه…
في المنصورة؛ بيته الأول ومكان نشأته، مكتبة ضمت 3000 كتاب معظمهم في الأدب والفلسفة، وقتها كان هناك قليل من الكتب العلمية، إذ لم يكن مهتمًا سوى بعلم “البيئة“.. وعندما سافر إلى موسكو كانت لديه مكتبة تضم كتب الأدب العربي، حتى يحفظ صلته بالثقافة العربية، بالإضافة إلى المعارف الروسية، يقول “أستطيع أن أقرأ بالروسية، رغم أني لا أجيد الحديث بها، لأنني ابن الكتب لا ابن المدارس، وفي الحقيقة لم أحب المدارس أبدأ إلا كساحات للعب والأصحاب.. أقرأ بالروسية الكتب العلمية، وبعض الكتب الأدبية، قرأت تشيخوف بالروسية“.
في الكويت كانت لديه مكتبة، ثلاثة أرباع كتبها كتب علمية تناسب موقعه هناك كمحرر علمي لمجلة العربي، وعندما ترك المدينة عاد ببعض الكتب. في سوريا جزء من مكتبته لا يعرف مصيره الآن. وفي القاهرة شقة أخرى غير التي يسكنها مليئة بالكتب التي قرأها وقد يعود إليها بين الحين والآخر، بينما في مكان سكنه الآن الكتب الخلاصة!
-2-
بعد مجلات ميكي وسلسلة المكتبة الخضراء، كان أول كتاب قرأه محمد المخزنجي من الأدب الروسي… كان بطلًا من أبطال الجمباز في المنصورة، وفي بطولة الجمهورية للمدارس سافر مع فريقه إلى القاهرة، وأقام في فندق بمنطقة العتبة، فأتيح له أن يتجول في المنطقة بالقرب من الفندق حتى وجد نفسه في سور الأزبكية، ومن هناك اشترى رواية “آسيا وجداول الربيع” لتورجنيف، يقول “سهرت أقرأ وأبكي، حتى جاء المدرب وطلب مني أن أنام، ولكني لم أستطع، أغرمت بتورجنيف، الذي أدخلني إلى الأدب الروسي، وكانت ميزة مطبوعات الشرق أنها رخيصة، فاشتريت من السور وقتها رزمة روايات من الأدب الروسي، ولذا عرفت جوركي وتورجنيف وغيرهما قبل أن أعرف نجيب محفوظ ويوسف إدريس، فيما بعد عندما قرأت دوستويفسكي احتقرت تورجنيف الذي كان من “إيليت الطبقة العليا“، بينما كان دوستويفسكي كاتبًا وإنسانًا بديعًا، بطولته في انسحاقه وجبروت روحه الصافية، لم يكن مقامرًا من أجل أن يسدد ديونه كما يتصور البعض وإنما كانت المقامرة نوع من تفريغ شحنة القلق لديه.. ولذا عندما جاءني عرض للسفر إلى روسيا للدراسة لم أتردد، لم أذهب إلى هناك باعتبار أن الاتحاد السوفيتي أرض الاشتراكية، وإنما لأنها أرض جوركي وتشيخوف ودوستويفسكي وتولستوي.. وفعلًا عندما وصلت إلى هناك كنت أجري وراء آثارهم، في كل المرات التي زرت فيها موسكو لا بد أن أذهب إلى بيت تشيخوف حيث الطمأنينة والصفاء يحلقان في المكان“.
-3-
في السنوات العشر الأخيرة تحوَّل المخزنجي من كاتب يقرأ إلى قارئ يكتب، أي تحولت القراءة بانسبة له إلى عادة هي الأهم، ولكن في الوقت نفسه، أخذت منعطفًا جديدًا ومختلفًا “صحيح أنني عملت في مجلة العربي كمحرر علمي، لكن لا أستطيع أن افعل شيئًا إلا إذا أحببت هذا الشيء، سافرت إلى الكويت بترشيح من المنسي قنديل، وزكاني أبو المعاطي أبو النجا، وجدت نفسي في موقع أسسه الدكتور أحمد زكي، وكان عالمًا في إطار زمنه، وأديبًا رفيع الذوق، وقد قرأت مراسلاته المهمة مع العقاد وطه حسين.. عندما تم اختياري بدأت (أذاكر) كأي تلميذ لديه امتحان، قرأت كل الدوريات العلمية، وقسمت العلوم إلى (بيولوجي، وكيمياء، وفيزياء، وتكنولوجيا).. وكان هذا هو تقسيمي لمكتبتي هناك.. تحوَّل العمل إلى (شغف)، وأعتقد أنني شخصية إدمانية؛ عندما أحب الشيء أشطح فيه.. وهكذا بدأت قراءاتي في العلم، ومن اطلاعي وجدت أن العلم الحديث لم يعد مجرد كتابة جامدة، بل كتابة ممتعة، تقرأ الكتاب العلمي وكأنك تقرأ رواية أدبية جذابة، بل كثيرًا لا أجد هذه الجاذبية في كثير من الروايات، وهذه الطريقة من الكتابة تسمى الآن “الثقافة الثالثة” أي الثقافة التي تجمع بين العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية.
-4-
لا يعود المخزنجي إلا لما ما يطمئن إليه من الأعمال القديمة، ولا يضيع وقته في قراءة أعمال الـ “بيست سيللر“، يقرأ الجديد لأصحابه وزملائه، على طاولة بجوار المكتبة روايات لإيمان يحي، والمنسي قنديل، ورواية جنة البرابرة لخليل صويلح، وهو كتاب يقرأه ليعرف ما يجري في مكان أثير لديه (سوريا).
“يشغلني في هذه الفترة إدوارد جاليانو، هو التحدي الحقيقي لاقتراحي في الكتابة، وأقول دائمًا (اقتراح) وليس (مشروع) لأن زمننا زمن ضنين، أنهكنا في مكابدة الحياة اليومية أو في المقاومة الصامتة أو الجهير. كانت دفعتي في طب المنصورة 219 طالبًا، اكتشفت أن 40% منهم قد توفوا في أعمار قصيرة قبل الستين، جزء كبير من طاقتنا تبدد في المكابدة، لأن نوفر لحياتنا الوقت اليومي، حياة الاغتراب بالنسبة لي لم تكن جميلة إبداعيًّا، ولكنها كانت مهمة على مستوى آخر، ربما لو لم أغترب ربما كنت لا أزال مقيمًا في سكن الأطباء في المستشفى وليس لديَّ سكن خاص بي. لهذا ليس لديَّ مشروع خاص، جاليانو بالنسبة لي يقدم العارف بشكل خلاب يمزج فيه الفن القصصي والشعر والمقالة، والتاريخ والفلسفة، يخلط عدة فنون في مملكة السرد، وأنا أعتبر جاليانو تحديًّا لي، لا لأضاهيه، أو أقلده، لأن الكاتب المعلم يطلق العصافير في روحك حتى تطير، أريد أن أفعل شيئًا مماثلاً في العلم، تقديم الأفكار العلمية في موضوعات سردية قصصية. وما أفعله الآن في الصحافة مجرد تمارين“. ويضيف المخزنجي “لم أعد مستلبًا بالقالب الفني للرواية بأشكالها التقليدية وما بعد التقليدية، لأن الواقع الواقع فيه (fiction) يتجاوز كثيرا جدًا الواقع، أصبحت المهارة كيف تسجل ذلك، لذلك أنا مهتم بما يعرف بـ (deep reportage) أو التحقيق المتعمق، والتي يمثلها كتاب من أروع ما قرأت كتاب «نظرية الواحد في المئة» للصحفي الاستقصائي الأمريكي البارز الحاصل على جائزة بولتزر رون سسكند، وعنوان الكتاب يشير إلى نظرية ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي بوش الابن، التي أطلقها بعد أحداث 11 سبتمبر فيما سُمي الحرب ضد الإرهاب، التي تبرر الضربات الاستباقية حتى لو كانت نسبة الخطر المحتمل لا تتجاوز (1%). كتب سسكند كتابه في مزيج من الروائي والتسجيلي والوثائقي، يتحرك بين كل هذا بسلاسة، وأظن أن هذا هو الشكل القادم في الأدب والفن في الواقع الفانتازي الجنوني الذي يعيشه العالم. لذا أتوقع أن تبهت الأشكال الأدبية بصورتها التقليدية (اللهم إلا إذا كان هناك عمل خارق)”.
وفي هذا الإطار يكتب المخزنجي تحقيقًا فنيًّا استقصائيًّا معمقًا عن “البطاطس“؛ علاقتها بنا، وتاريخها، يكتبه في إطار ما يسميه “الثقافة الثالثة“، الذي يعتبر هو أبرز ممثليه في الثقافة العربية. يوضح “لست مهتمًا فيما أكتب بالحالات التفصيلية، وإنما أهتم أكثر بأن أترك طريقة تفكير، قاعدة أو مقياس تحتكم إليه. الآن لا أريد أن أثبت وجودى، وإنما أطمح أن أكون كاتبًا يقدم شيئا غير مكرر أو مطروق، متفرد، وإذا لم أستطع أن أفعل ذلك لأكون قارئًا جيدًا وهذا يكفي!”.
-5-
لا يقرأ المخزنجي كتابًا واحدًا، وإنما عدة كتب في الوقت نفسه، في كل كتاب ثمة سطور يتوقف عنها، “سطور تومض” كما يقول، في الكتب هوامش وشخبطات، وملاحظات “تلك عادة منذ أيام المنصورة” عندما كنا نعقد في التنظيمات اليسارية حلقات للنقاش، لمناقشة كتب الفلسفة“.. في جولة مكتبته يتوقف أمام آخر ما قرأ من كتب، واهتماماته؛ الكتب المصورة عن الفضاء “دائمًا ما تسحرني الكواكب المعلقة فيما يسمى الفراغ، وهو ليس فراغًا، أكتشف أننا جهلة بالعالم الذي نعيش فيه، ليس فقط الكوكب الذي نعيش فيه، ولا المجموعة الشمسية، أو المجرة، وإنما الكون كله“.
يتوقف أيضا أمام كتاب “الحيوات السرية للدماغ” لديفيد أيجمان الذي يؤكد كاتبه أن التصرفات البشرية لا تخضع جميعها لقرارات عقلانية وتفكير مسبق، بل هناك تصرفات “أوتوماتيكية” في أحيانا كثيرة، مثلًا عندما تضغط فرامل السيارة لحظة الخطر، لا تحتاج إلى تفكير، بل تفعل ذلك بشكل غير واعٍ، هذا الكتاب يطرح أسئلة كبرى عن مسألة الإرادة بشكل علمي.. ولكن الأهم كيف كتب المؤلف هذا الكلام، بشكل سردي جذاب ولغة فنية راقية.
ينشغل المخزنجي أيضا بما يسمى “علم الفشل“، وهو علم يعتبر المهندس الأمريكي هنري بيتروسكي رائدًا له. وهو ينطلق من سؤال: لماذا فشلنا؟ فقد درس أسباب فشل انهيار السدود والجسور.. وحلل أسباب ذلك بشكل علمى. يوضح المخزنجي “هذا العلم تحديدًا نحتاجه بشدة، في كل مجالات الحياة، لأننا عندما ندرس أسباب فشل أي شىء سنتجنب تكرار الفشل مرة أخرى، ونتمكن من أن نتخطاها. مثلًا في مصر لماذا فشلنا في زراعة الصحراء؟ لماذا فشلنا في بناء المدن الجديدة؟ وهكذا عندما ندرس أسباب الفشل سنتجاوزه في مشروعات أخرى“. ويضيف المخزنجي “من الكتب التي أعتز بها جدًّا مجموعة كتب التاريخ الطبيعي للكائنات، الصادرة عن “دار كلمة“، أشعر أمامها كأني طفل، وهذه كتبي“.
يقرأ المخزنجي الآن رواية ” تأثير اللوتس” للأديبة العالمة الألمانية أنتونيا فيرينباخ؛ إذ اكتشف العالم الألماني فيلهلم بارتلوتا أن أوراق نبات اللوتس لا تحتاج غسيلًا على الإطلاق، فهي نظيفة دائمًا على أنها بنت الوحل، وربيبة المستنقعات، كانت النظرية العلمية السائدة تقول «إذا كنت تريد الحفاظ على نظافة شيء فاجعل سطحه ناعمًا»، بينما أوراق اللوتس التي تحتفظ بنظافتها دائمًا، تفترش سطحها خشونة من نتوءات واضحة تحت الميكروسكوب فائق القدرة على التكبير، نتوءات متراصفة على سطح الورقة، نتوءات بالغة الدقة، تشكل خشونة بالغة الخصوصية، ويكمن فيها سر أعجوبة أوراق اللوتس، أو زنابق الماء!
من هذه النظرية خرجت إلى النور «ملعقة العسل» النانوية، وهي ليست أي ملعقة، فهي تغترف من وعاء العسل ما تغترفه، ولا تحتاج بعد ذلك للغسيل المُتكرِّر المزعج الذي يضيق به كل من استخدم ملعقة عادية لاغتراف العسل، فبمجرد إمالة الملعقة الجديدة المُحاكية لسطح ورقة اللوتس، تتساقط عنها قطرات ما يعلق بها من عسل، فتصير نظيفة وجافة فيما لا يزيد عن ثوان قليلة! شجَّع نجاح ابتكار «ملعقة العسل» الدكتور بارتلوتا على تسجيل براءة اختراع عام 1997 تحت اسم تجاري يحفظ حقوق ملكيته الفكرية هو “تأثير اللوتس“، وسرعان ما تلقفت الصناعات الألمانية هذا الاختراع فأنجزت دهانات لا تلتصق بها الأوساخ، ومنذ التسعينيات التي تم فيها تسجيل براءة اكتشاف «تأثير اللوتس»، والاختراعات لمواد عصيّة على التوسيخ تنهمر على الأسواق العالمية، ثياب عولِج نسيجها القطني بلمسة نانوية فلا تحتاج في تنظيفها لمساحيق الغسيل، وأقماع للزيت والدهانات والخرسانة ذات سطوح نانوية التخشين لا يلصق بها ما تُمرِّره. قفازات عمل لا تبتل، وخيام تطرد عنها دافق المطر وتراب الريح، وأحذية تخوض في الوحل فلا تتلوث، ومفارش مائدة لا تعبأ بانسكاب الحساء ولا قطْر الدهون عليها. وهناك من التقط المجاز في ثناياها، فطبَّق مفهوم «تأثير اللوتس» في العلاج النفسي الذاتي، بأن يدع الإنسان أوشاب الحياة المُحبِطة تتدحرج على سطح وعيه دون أن تغوص غائرةً في اللَّاوعي، نوع من التطهير الذاتي المُستحدَث – يمكن تحقيقه بوسائل متاحة، كالاسترخاء والتأمل الإيجابي، أو الالتقاء بأصدقاء العمر وتبادل البوح معهم، أو إزاحة هذه الأوشاب بقناعة أنها لا تستحق الكثير ولا القليل، فهي تنزاح بمجرد الانخراط في نشاط نفسي أو عملي إيجابي، كالتزاور والتواد، أو الترحال في عوالم خلابة أو سماع ألحان محببة. هذه كلها مياه ندى أو مطر نفسي يزيل عن النفس أكدارها أولًا بأول، فلا يعلق بالنفس ما يُكئب أو يُكرِب. ومن هذه النظرية خرجت أعمال أدبية من بينها هذه الرواية (صدرت ترجمتها عن دار هنداوي).
-6-
في المكتبة، كتب عن الرائحة، وعلم النفس البيئي، كتب ريتشارد دوكنز عن التطور، وكتاب حسن فتحي “عمارة الفقراء“، وكتاب “أسلحة وجراثيم وفولاذ” لرائد ما يسمى الجغرافيا البيولوجية الدكتور جارد دايموند.
والكتاب، كما يقول المخزنجي “يقدم علم تاريخ جديد، مُغاير تمامًا لأضابير التواريخ التي عهدناها، والتي لم تعد مؤتمنة، أو على الأقل صارت واضحة الاختزال، مقصورة على تاريخ الملوك والحروب والكروب، في مرويات يعلم الله مدى دقتها. وعلم التأريخ الجديد هذا لا يثق في أي مرويات أو عنعنات، خصوصًا وهو يغوص في عمق الزمان لآلاف السنين، ويستخلص بأدوات العلم الحديث سِيَر ماضٍ سحيق لم يجرؤ مؤرخو المرويات على الاقتراب منه، سوى بأخيلة الأساطير أو الحكايات الخرافية، وهو ما ينبذه علم التاريخ الجديد هذا، الذي يقرأ ما كان بعيدًا بالاقتراب بالمجاهر الإلكترونية وتجارب البيولوجيا الجزيئية وتحليلات الكربون المشع وسيناريوهات المحاكاة الحاسوبية، فيرسم صورة ملموسة وموثوقة وأقرب ما تكون مما كان على مبعدة آلاف السنين“. الكتاب يجيب على سؤال كيف ارتبطت التطورات البشرية بالتطور الحيوي للأماكن التي يعيشون فيها.. ويضرب المؤلف مثالاً باليابان.. حيث أسهمت الظروف المناخية في هذا التطور؛ أثمرت الأمطار الغزيزة أشجار الجور، ثم اكتشاف الفخار، ما جعل بالإمكان إطعام الأطفال غذاءً مسلوقًا طريًّا فتمكنت الأمهات من فطامهم مبكرًا، وبالتالي الاستعداد والكفاءة لإنجاب مزيد من الأطفال، فزادت أعداد تلك المجتمعات اليابانية الأولى وتواصَلَ تجدُّدها بكل ما يستتبع ذلك من ضرورات تنسيق وتنظيم وتطوير اجتماعي، أما المسنون الذين كانوا يفقدون أسنانهم مبكرًا ولا يقدرون على التغذي بالأطعمة النيئة الصلبة، فقد صاروا قابلين لتناول الطعام اللين الجديد، والساخن المُدفئ أيضًا، فتحسنت صحتهم وطالت أعمارهم، وتكاثفت بوجودهم الكريم مصادر المعرفة وتبادُل الخبرات. وكان ذلك سببًا جوهريًّا من أسباب الطفرة اليابانية الأولى التي أدت إلى انفجار سكاني زادت أعداده من بضعة آلاف إلى ربع مليون إنسان، مزودين بخبرات الأسلاف“.
ومن الكتب التي يعتز بها صاحب “أوتار الماء” مجموعة كتب ديفيد أتينبورو؛ الذي يعتبر سيد الوثائقيات في العالم وصاحب الأفلام العلمية البديعة في الـ BBC. وهناك أيضًا كتاب “الولع بالزنبق: سيرة الزهرة التي شغف بها العالم” للمؤرخ والباحث في التاريخ الاجتماعي البريطاني مايك داش.. يقول المخزنجي “ستجد ثلاثة نسخ من هذا الكتاب، اشتريتها لهديها لمن أحب، تحديدًا للدكتور محمد غنيم، ولشخص الذي تبرع ب 50 مليون جنيه لتأسيس مركز كلى في منيه سمنود ورفض الإفصاح عن اسمه.. في الكتاب تشعر أنك تقرأ نصًّا روائيًّا، فإذا به ينقلك إلى دنيا التاريخ والثقافات والأديان، ومنها إلى القيم والعادات والممارسات الاجتماعية، والأحوال الاقتصادية، والحروب وأعمال التمرد والصمود. عوالم مدهشة يزخر بها هذا الكتاب لكاتب يعرف كيف ينتقي قصص الأفراد والجماعات في صعودها وارتدادها، في انتصارها وانهزامها. وقد جمع الباحث مادته من مصادر تاريخية عديدة، ونقب في مراجع ذات صلة، واهتم بالتفاصيل التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية للأقطار والمناطق التي عرج عليها في كتابه. وفوق ذلك، فقد تتبع تاريخ زهرة الزنبق عبر النصوص الأدبية للشعوب، واللوحات الفنية التي تضمنت في تفاصيل تكوينها زهرة الزنبق، والقصائد التي ورد فيها ذكر الزنبق ليتخذ منها أدلة على ترجيح رأي على آخر، أو ربط معلومة بمعلومة أخرى سعيًا وراء إثبات وجهة نظر يراها معقولة. ومع أن الكتاب مخصص لسيرة الزنبق، إلا أن المؤلف، كباحث نشط في التاريخ الاجتماعي، زاوج بين قصة تطور الزنبق وانتقاله التدريجي عبر مئات السنين إلى أوروبا الغربية، ورصد الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي للمناطق التي وجدت فيها زهرة الزنبق، ليصل إلى نتيجة أن هولندا المتقدمة صنعتها زهرة الزنبق.
-7-
في ركن خاص من أركان المكتبة توجد الكتابات التي تناولت حياة أم كلثوم، ليس فقط لولع المخزنجي بصوتها، ولكن كان أحد فصول روايته “نهر المجانين” (المؤجل نشرها) عن شخص مجنون بأم كلثوم. وهناك أيضًا في المكتبة كتب “معجم ألفاظ القرآن“، ومختارات شمس تبريزي، وكتاب الحيوان للجاحظ، وبدائع المخلوقات للقزويني، وحياة الحيوان الكبري للدميري. أساله: كتب التراث في مكتبك نادرة؟ يجيب “علاقتي بالتراث ليست
قوية، يكفيني فقط أن أعرف الخطوط العامة للموضوع، لأنني أومن أن الأدب نتاج إبداع إنسانى. ويمكن أن يكون هناك كاتب أجنبي أقرب إليَّ من كثير من الكُّتَاب العرب“. أساله هل يتخلص من كتبه؟ يبتسم ويجيب “الآن، بعد الخبرة الطويلة، صعب أن أتخلص من أي كتاب، لأنني أنتقي الكتب جيدًا، لديَّ عين صقر أختار بها من أريده، لذا عندما أدخل المكتبة أعرف جيدًا ما أريد، وأكره أن يرشدني أصحاب المكتبة إلى كتب بعينها“.
يرى المخزنجي آخر روايات كونديرا “حفلة التفاهة” عملًا بديعًا “كونديرا يترك نفسه حرًّا بلا قيود وأنا أحترم ذلك“. أسأله هل أنت ضد القيود؟ يضحك “مع أنني أبدو كشخص هادئ، إلأ أنني ضد القيود وأنفر منها، لم أكن هادئًا أبدًا، ومعروف أنني في الجامعة كنت صانع اضطرابات لا مثيل له، وكانت السلطة تقبض علىَّ كقائد سياسي، رغم أنني لم أكن قائدًا، ولا أريد.. ومن هنا قضيت عامين في السجن. وهي تجربة يراها من أهم التجارب في حياته، لولاها لتخربت كثيرًا».. يوضح «سُجنت في مفرق مهم من حياتي، وكنت ذا نزوع فوضوي شديد جدًّا. السجن يرتب لك أعباء مواجهة الذات والآخرين، ومواجهة الألم الإنساني». أسأله ألا يفكر في كتابة سيرته الذاتية الثرية؟ يبتسم “هي منثورة في كل أعمالي، لا توجد سيرة مطلقة، عندما يمسك الكاتب قلمه فإنه يقدم سيرة للمخيلة، وبالتالي كل السير الذاتية محض خيال“!
-8-
في كل تنقلاته ثمة كتب لم يفارقها، يحرص عليها، وهي الثابت الوحيد في المكتبة المتنقلة؛ رباعيات صلاح جاهين، وأنا وحماري، لخوان رامون خمينث، وكتب دوستويفسكي الذي يعتبره كاتب رسولي “كنت قد خططت لإعادة قراءته في عامين، وبدأت بالفعل وقرأت هذه الأعمال وما كتب عنه واكتشفت متعة جديدة في إعادة القراءة، لأنك تعيد القراءة وفق خبراتك الجديدة التي اكتسبتها عبر سنوات العمر. ومن ميزة النسيان أنك تبدأ وكأنك تقرأ من جديد وتستمتع من جديد. وهناك أيضًا ماركيز “هو كاتب معجز استطاع أن يقدم معادلة في غاية الإدهاش على مستوى اللغة والفن، قدرته البلاغية على التكثيف واستخدامه للاستعارة، حتى إن هناك قاموسًا خاصًا به.. إنه السهل الممتنع والرهان الحقيقي لأي كاتب هو صموده في مواجهة الزمن أو صمود كتاباته وأظن أن ماركيز قادر علي الصمود، وخاصة أنه من الآباء المرشدين لمسالك الكتابة ودروبها الوعرة.. وبالتالي أن يصبح أكثر الكتاب مقروئية في العالم ليس أمرًا مدهشًا، بل يتأتى من أسباب حقيقية، كما نجد أن الدم العربي موجود في كتاباته، وعروقه وخاصة مع الهجرات العربية لأمريكا اللاتينية، هذه الدماء خليط من الدماء الأوروبية والأفريقية والعربية، وربما هذا سر سخونة وتوهج والخيال المفرط والسحر لدى ماركيز وفي كتاباته. وهو كاتب ليس سهلاً، يحتاج إلى قراءات مختلفة، لأنه يستند إلى موسوعات في كل العلوم. في روايته الشهيرة “مئة عام من العزلة” كل أفراد الأسرة يعانون من عيب خلقي؛ يولدون بذيول، وعندما يحدث لقاء محارم، أي تتخلى الأسرة عن عزلتها يولد طفل بلا ذيل. هذه هي بؤرة العمل الرئيسية، العزلة تؤدي إلى الانقراض.. وهو الأمر الذي ينطبق على المجتمعات المنغلقة، والأيديولوجيات المغلقة، وكل شيء. ماركيز باختصار أسطورة ستعيش طويلاً.