كرة القدم بشكلها الحالي هي، في رأيي الشخصي على الأقل، أهم ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية وشوفينية أفرزها القرن العشرين؛ فتطور الكرة كظاهرة لا يقل أهمية ولا تعقيدًا عن اختراع الموسيقى والأدب! ولذلك أفضل استخدام لفظة المونديال (المشتقة من كلمة Mundus اللاتينية) عن مصطلح “كأس العالم“. فهذا الحدث الذي لا يتكرر سوى مرة كل أربع سنوات ليس مجرد بطولة رياضية؛ بل هو “كبسولة أدرينالين” تحتوي على “خلاصة” ما آل إليه وضع الإنسانية عند لحظة إقامة البطولة.
جزءمهم من سحرالكرة يكمن في كونها رياضة مفتوحة على كل الاحتمالات. أما سر ذلك أنها عزيزة الأهداف؛ على عكس كرة السلة وكرة اليد غزيرتي النقاط. فهما في الشائع محكومتان بقواعد الإحصاء التي تثقل كفة فريق على الآخر، وتقتل عامل المفاجأة. أما في الكرة، تلعب التفاصيل الصغيرة قبل وفي أثناء المباريات؛ كإصابة لاعب أو حالة الملعب، أو خروج لاعب أو مدرب عن شعوره، أو خطأ تحكيمي، دورًا ملحوظًا في قلب النتائج. وبالتالي تصبح النتيجة النهائية حاصل جمع وطرح التوفيق والاجتهاد والفروق الفردية والحظ والإصرار والتضحية وحماس الجمهور والمجهود الفردي والجماعي.
تلك التفاصيل الصغيرة كثيرًا ما أنصفت فرق صغيرة على الأسماك الكبيرة؛ مثلما تعادلت أيسلندا مع الأرجنتين في هذه النسخة من البطولة، وقبلها انتصرت السنغال والكاميرون على بطلتي العالم حينئذ فرنسا والأرجنتين في 98 و 98. كما يفسر فوز مصر على إيطاليا بكامل نجومها، ثم خسارتها أمام أمريكا الأضعف بثلاثية بعد 72 ساعة في أثناء بطولة كأس القارات 2009.
في السنوات الأخيرة، أصبحت مباريات الأندية الأوروبية هي المستوى التنافسي الأرفع لتلك الرياضة، وتوارت كرة المنتخبات إلى المستوى الثاني. لكن يبقي المونديال استثناءً، فمجد الفوز بالمونديال يفوق بكثير تحقيق بطولة دوري الأبطال الأوروبي أو الفوز بالكرة الذهبية لأفضل لاعب في العالم. وبالتالي تصبح البطولة فرصة لإثبات ونفي كل الأفكار الكبرى المتناقضة. إنها استعراض حي لحب الوطن، والشوفينية، وتصفية الخلافات العرقية والسياسية والدينية والتاريخية. مثل ما فعل الثنائي شاكيري وتشاكا ذوا الأصول الألبانية أمام صربيا منذ أسابيع قليلة، أو مثلما اعتبرت إيران فوزها على الولايات المتحدة في نسخة 1998 انتصارًا على “الشيطان الأكبر” أو الأرجنتين التي “ردت اعتبارها” في الملعب في نسخة 1986 بعد ما خسرت الحرب ضد مارجريت تاتشر على جزر فوكلاند. أو التسامي فوق كل تلك الخلافات ومصافحة من كان عدوًا يوجِّه سلاحه إلى عدو في ساحة حرب؛ مثلما فعلت أمريكا مع إيران في المباراة سابقة الذكر نفسها، أو مثلما فعلت ألمانيا الغربية وإنجلترا في عقدي الستينيات والسبعينيات بعد صراعهما خلال الحرب العالمية الثانية.
المونديال أيضًا فرصة على طبق من ذهب لتأكيد كل أفكارنا وأحكامنا المسبقة؛ الإيجابية أو السلبية عن أنفسنا وعن الآخرين، أونبذها كجزء من عالم قديم يموت. مثلاً تغدو تصرفات اللاعبين والجمهور في المدرجات فرصة لإثبات كسل الإنسان الأفريقي، وانعدام قدرته على التركيز والإنتاج في اللحظات الحاسمة، مثلما تسبب تراخي لاعب السنغال في المباراة الحاسمة ضد كولومبيا في خروج فريقه، بقدر ما هي فرصة لإثبات قدرته الجبارة على عبور المصاعب على الرغم من فارق الإمكانات المادية والظلم، مثلما فعلت غانا في 2010. مثال آخر يكرر كل المحفوظات المعتادة عن أدب اليابانيين الجم، في المقابل تسمح الكرة بفرصة مثالية لكسر التنميط الأجوف عن نظام الألمان وإبداع اللاتين وتحفظ الهولنديين.
حتى على مستوى الأيديولوجيا والأفكار الكبرى. المونديال فرصة لتأكيد أن أفضل طريق “للتقدم” والنجاح هو التمسك بالخصوصية الثقافية مثل المكسيك التي أصبحت زبونًا دائمًا في نادي الكبار بفريق أغلبه من اللاعبين المحليين، ولكنها أيضًا فرصة لإثبات أن الطريق الأفضل للتقدم نفسه والنجاح في الكرة وغيرها هو استيراد النموذج الغربي وإتقان كل تفاصيله وإعادة تغليفه وبيعة للعالم، وذلك مثلما تفعل اليابان في صناعات الإلكترونيات والويسكي، ومؤخرًا كرة القدم التي استوردت كل عناصر وأفراد صناعتها من الغرب ثم “صنَّعتها“، وبدأت في “تصدير” لاعبيها لفرق بطولات القمة في تلك الدول نفسها.
وعلى مستوى الثقافة تبدو الكرة اللاتينية انعكاسًا لنجاح روائيي تيار الواقعة السحرية الجنوب أمريكيين. إنه دليل آخر على أن أفكارًا محلية أصيلة يمكنها غزو العالم حتي تصبح مقياسًا معياريًّا؛ مثلما غزا لاعبو البرازيل والأرجنتين والأوروجواي العالم، وأصبحت طريقتهم في تدوير الكرة وبناء الهجمات من الخلف مصدرًا لخطط منتخبات مثل إنجلترا التي كانت تاريخيًّا أمة كروية لا تؤمن إلا بالـ “” kick and run
على المستوى الديني والسياسي هي فرصة لأصحاب نظرية “الفرد الملخص” والقائد الملهم القادر على تحقيق المعجزات وحمل أحلام بلد كاملة على كتفيه، مثلما فعل مارادونا في 86، ومثلما هي فرصة للمؤمنين بدولة المؤسسات والمنظومة التي تبني فريقًا من متوسطي الموهبة يستطيع التغلب على الموهبة الفذة أن تحلى بروح الفريق والعمل الجماعي كألمانيا التي أهانت البرازيل بـ 7 أهداف على أرضها وعادت إلى برلين بالكأس في 2014.
المونديال كذلك فرصة لاستكمال حرب أحزاب اليمين واليسار في أوروبا؛ تعطينا منتخبات فرنسا وبلجيكا تأكيدًا عمليًّا لاندماج وولاء المهاجرين وأطفالهم في دولهم الجديدة؛ رقميًّا تغدو نسبة تمثيل تلك الأقليات في منتخب فرنسا على سبيل المثال أربعة أضعاف نسبة هذه الأقليات نفسها في التعداد السكاني للدولة الكولونية السابقة. على صعيد آخر فمنتخب المغرب المكون من 19 لاعبًا، من أصل 23 من مواليد أوروبا، هو تأكيد معاكس لكل أفكار اليمين الأوروبي عن ولاء هؤلاء المهاجرين وأولادهم لبلدانهم الأم.
وعلى المستوى الفردي؛ يكفينا زين الدين زيدان المواطن الفرنسي الذي أضاءت صورته الأيقونية قوس النصر في باريس عندما قاد منتخب بلاده إلى أول بطولة كأس عالم في 1998، وهو نفسه الذي ينعت بـ“الجزائري” كلما تذكرت واقعه نطحة رأسه الشهيرة في نهائي مونديال 2006.
أما على مستوى الميتافيزيقا والسفسطة الفارغة؛ المونديال فرصة لإثبات استحالة تغيير القدر، مثلما خسرت المكسيك هذا العام للمرة السابعة على التوالي في دورالـ16، أو فرصة لإثبات أن الأيمان بالذات هو طريق كسر كل العقد الخرافية، كما فعلت إنجلترا التي نجحت أخيرًا في الفوز لأول مرة بضربات الجزاء في 70 سنة كأس عالم!
وأخيرًا؛ المونديال فرصة لتأكيد أن “قيراط حظ ولا فدان شطارة” وأن التاريخ يكتبه المنتصرون، وأن هداف كأس العالم التاريخي ميروتسلاف كلوزة في الحقيقة ليس موهوبًا إلا في ركل الكرة برأسه، بينما ميسي “أحسن حد لمس كورة” في تاريخ البشرية حسب الكثيرين، سيتذكره التاريخ بـ“الكابتن الذي فشل“. المونديال يا سادة ثلاثون يومًا من دروس التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد وعلوم الاجتماع والحب والحرب والأمل وليس مجرد 22 “شحط” يتسابقون لركل قطعة من الجلد منفوخة بالهواء!