ماذا تفعل اللوحة لملايين المعذبين؟كان السؤال شائعاً في تلك الأيام بين الستينيات و السبعينيات ، والمدهش هنا هي إجابة حسن سليمان، الرومانتيكي فيما يبدو للنظرة العجولة، لكنه على الرغم من رومانتيكية يعلن عن مسئوليته الأخلاقية عن القتل والظلم الجماعي، إلا أنه عندما يأتي ذكر الفن وعلاقته الشخصية به فهو يفاجيء نفسه، ويقول إن إشعال الضوء في جسد معتم هو انتصار للبشرية. هذه الرؤية يبنيها كما يبني اللوحة من عجينة فيها شعر ورواية وسينما ومسرح وحكايات شخصية….المقال كتبه حسن سليمان تحت عنوان”الرؤية الضبابية والعمل الفني”ونشر في مجلة الكاتب عدد 37 يونيو 1970..، أي مابين الحربين ، في فترة كل شيء تحت طلب المجهود الحربي ، لتجاوز الهزيمة ، وقتها كانت اسرائيل تضرب المدارس بالنابالم ، والمجندين لم يعودوا من جبهة القتال بعد.وحفلات جلد الذات رائجة في الكتابة و الجلسات و الندوات، وكانت في إجابة حسن سليمان شيء من كل هذا لكنه أضفى عليه مزيجه الحار حين يتكلم عن الفن
“يأتي الضـبـاب،
على أقــدام قطـة صـغــيرة،
يــقــبع فـوق ميــنـاء ومـديـنـة،
عـلـى أرداف سـاكنــة،
ثـم يـنـحسـر ذاهبــًا”
قصيدة ” الضباب” لكارول ساندبرج.
يأتي الضباب ثم ينحسر، ولا تزال أصابع شوبان تنعى لنا كل أرض سليبة. أريد الكتابة، ولا يتأتى لي أن أكتب. أشعر بضباب يحوطني، ومع كل فجر أشعر بضباب اليوم المقبل، يزحف إليَّ من النافذة، كأنه يريد أن يخنقني تحت ثقل كثافته الرمادية، ثم يأتي قطي الأسود فيثقب ذلك الضوء الرمادي ليصل إلى ظلمة الحجرة، ويمضي طائر أسود عبر النافذة فأترك الفراش.. لكن إلى أين؟ فلم يعد شيء يهم.
منذ أشهر هربت، ارتفقت بالليل وظلمته، وفي الطريق بجانب سور المستشفى وجدت كوما من البرسيم، ألقيت بنفسي عليه مستسلمًا لبرودة ملمسه، التي ذكرتني بحقل فول انحسر عنه ضباب الصباح، رأيته وأنا طفل بصحبة جدي، أتى الشرطي مستفسرًا. قلت له أنا أقطن هنا. سأل “لم تنام على البرسيم؟” كذبت، وادعيت أني أعيش في أزمة، مرجعها خيانة زوجتي لي، فتركني، وأخذ يذرع الرصيف جيئة وذهابًا، ثم رجع مواسيًا؛ وقص عليَّ أقوال الأقدمين في النساء، وخيانات الزوجات التي لا تنتهي. من الجلي أنه كان يبذل قصارى جهده كي يرفه عني، شعرت براحة فنمت. استيقظت مرتجفًا من برودة، كان الفجر وضبابه، رأيت الشرطي واقفًا وقد أولاني ظهره، فمضيت راجعًا إلى منزلي سعيدًا.
ظللت طيلة أيام أحاول التعرف على وجه الشرطي الذي واساني من بين وجوه العسس التي تتناوب الوقوف بجانب المستشفى أو الرصيف المقابل، لكن عبثًا حاولت، فوجهه كانت تغرقه ظلمة الليل، أما كلماته فهي التي وصلت إليَّ. ومنها أدركت المعنى الكبير لإنسان يواسي إنسانًا في حلكة ليل طويل.
ليت صوري تحمل أثر كلمات الشرطي الطيب، أو دفء يد جدي وهي تقودني عبر حقل فول في ضباب الصباح. الضباب ينحسر عن المدينة، وعن حقل فول، وكومة برسيم. ينحسر عن الحياة، كما ينحسر الثوب عن جسد الموديل وهي تخلع ملابسها أمامي كي أرسمها. وفي كل مرة تقف وتبدأ في رفع ثوبها عن جسدها، أشعر كأن ضبابًا ينقشع عن ضوء. وكثيرًا ما يعطي التكامل والاتزان، والتناسق للجسد البشري أو غيره، يعطي إحساسًا بالنور. وبأن التكامل ضوء لو أغرقته الظلمة.
وفي كلية الفنون كان بالنسبة لنا، ونحن طلبة، سيزان رائدا للتصوير ومن رواد الفكر: فلقد حطم المنظور وكسر حجومه لأسطح من أجل موسيقى تستمر جيئة وذهابًا، داخل نطاق لوحته. وحينما قرأت ناقدًا يضعه ضمن الرومانتيكيين، لم أوافق على هذا، واحتددت، وظل هذا الرأي المخالف لرأيي عالقًا في مخيلتي. والآن أجدني أوافق على أن سيزان رومانتيكي. فمعه نشعر بصراعه المتسمر لإيجاد كيان صلب ومضيء لأجسامه داخل ظلمة وضباب. فمن أسباب عظمة سيزان رؤية ضبابية يشعر فيها بالظلمة، فيفتتها إلى أسطح تملك شفافية ورقة، وفي الوقت نفسه تزيدها صلابة وحلكة. وكلما ازداد إحساس الفنان بالظلمة كلما رقت وشفت مساحاته. يتضح هذا في أعمال سيزان الأخيرة.
وهناك فرق بين إحساس الفنان بالظلمة وبالرؤية الضبابية، وبين وجود ظالمة وضباب في نفسية فنان. الرسام المعتم عمله معتم، حتى لو ترك لوحته في نصاعة وضوء النهار. عمله دون إشعاع أو بريق. أما الفنان الذي يحسن الظلمة فلوحته مضيئة حتى لو دهنها باللون الأسود. ثلاثة من فنانينا نشعر في ظلمتهم بإشعاع الضوء هم: محمود سعيد ورمسيس يونان ومحمود حلمي.
بعد دافيد، وجدنا الفنانين يخيم عليهم الضباب، والموت والطلعة، الجياد التي تركض مذعورة على جثث القتلى في حقل المعركة. الإمبراطور نابليون هو فقط الذي يضاء ويسيطر على اللوحة، وقد رسم كما أراد؛ هادئًا باردًا كقطعة من الثلج على حصان يشتعل بالبياض، والجرحى– حوله تئن ولا تلقي بالاً لمجده أو لانتصاره. وفيما بعد سيطرت على الفنانين مأساة الرجل الذي يتعذب في صراع بين رغبات تلح عليه، وإمكانات مادية أضأل من أن تحقق له تلك الرغبات. فرسم ديلاكروا وغيره من الفنانين شخصيات مثل هاملت ودون كيشوت وفارتر وفاوست، في جو ضبابي قاتم. وفي أغلب الأحيان كانوا يرسمون تلك الشخصيات وقد حملت وجوههم وملامحهم هم أنفسهم، ووصل تيرنر بالجو الضبابي إلى قمة شفافيته في لوحة “السفينة البخارية في زوبعة ثلجية”. ومن أجل أن يحس ذلك الجو الضبابي الثائر عرض تيرنر نفسه لزوبعة وهو يقف بجوار الساري.
وعندما تجرأ دافيد ورسم حصانًا كرمز لجموح العاطفة في لوحته “اغتصاب السبايا” ضحك منه، إلا أن تلميذه جروز وجد في الحصان وجموحه وسط جو ضبابي كل ما يحقق رغبته في التعبير عن صراعاته الدفينة وثوراته. وحصان ديلاكروا الأبيض وهو يندفع وسط العاصفة يرمز بوضوح إلى الرغبة الأكيدة والصراع من أجل التخلص من كل عتامة أو ضباب، وعلى كلٍ فإحساس الفنان بالظلمة وارتباطه بالجو الضبابي يرتبط بصراعه الدائم من أجل الوصول إلى التعبير عن ضوء مطلق. وفي الجو الضبابي القاتم الذي يخلقه ديلاكروا نجد حيوانات تمزق بعضها، أو قتال إنسان مع حيوان، أو نمرًا يغرز أسنانه أو مخالبه في رقبة إنسان أو ثدي امرأة. ومن الفنانين الضبابيين الحداث نجد أوديلون ريدون وإدوارد مونش وأوسكار شلمر وليونيل فيننجر ومعظم التعبيريين التجريديين الحداث.
نحن محتاجون الآن إلى الرؤية الضبابية أكثر من أي وقت مضى، محتاجون إلى شاعرية تتسلل مثقلة بمرارة وعرق وطين ودماء، أو تتخبط ثائرة وسط ضباب باحثة عن ثغرة ضوء، بدلاً عن كل الجعارة الخطابية والطبل الأجوف.
الليل طويل ولست براض عن صوري الناقصة. فنحن بحاجة الآن إلى رؤية ضبابية تتصارع فيها بقع ضوء، أو بقعة ضوء باحثة لها عن مفر من ظلمة ضاربة. قطعة جبن وفتات خبز، ولا أثر لقطرات خمر. ألقيت بقطعة الجبن فوق أنابيب الألوان برما. الليل طويل وصوت محرك السيارات لا ينقطع في الطريق، والمصباح يهذي في عيني. وقطيطات ولدتها أمها ثم تركتها، لا تزال تصرخ وتموء في صفيحة القمامة. بذلت أقصى ما في جهدي، وضعت لها لبنًا، وألقيت إليها بطعام، فظلت تصرخ ولا أثر لأمها؛ لا فائدة أنها تريد الثدي- اذكر أنه تحتم عليَّ ذات يوم أن أنام في حجرة بها أم وطفلها. بكي الطفل وصرخ، وضرب الفراغ الأسود حوله بقدميه وكفيه، مالت عليه أمه، تحسس الطفل الثدي ثم سكن. مد شفتيه ثم ضمهما، ضرب بكفيه الثدي وضغط عليه ثم أفرج أصابعه- القطيطات تموء، استمرت تموء ثم صمتت للأبد. ما كان في استطاعتي فعل شيء، ومع الصباح قيل لي إن أمها نفقت أسفل السلم. لا داعي للحزن وماذا كان في مقدوري فعله؟ ومن النافذة نظرت إلى الطريق، نفس الجلبة العادية؛ أصوات محرك السيارات وآلات التنبيه، وجرس المدرسة المجاور وصراخ الأطفال.
الصحف والإذاعة تتحدث عن مقتل ثلاثين طفلاً في غارة على قرية، هل هناك غاية تبرر مقتل ثلاثين طفلاً؟ من المسئول؟ أشعر أنني المسئول. منذ أيام نظرت من نفس النافذة، أبصرت إعلانا كبيرا، يحمله عدة عمال، كان الإعلان كبيرًا، بالضبط كجناح صرصار كبير يحمله النمل. الناس الآن أصبحت تهتم بأشياء غريبة الشأن. فقد كتب على الإعلان “البعث كيفيته ووسائله” ماذا يهم أن بعثت بلحية أو حليقها؟ وفي أتم صورة أو بشكل مزري؟ أن القضايا الميتافيزيقية ما كانت تطرح في وقت ما بهذه السوقية وهذا العبث، وحتى في مناقشتنا القضايا القديمة يجب ألا نبعد عن أرستقراطية الفكر، كان أجدى أن يناقش الكاتب قضايا مثل تلك القضايا التي طرحها جاستون بيرجيه بعد الحرب العالمية الثانية – وقت أن شعر المثقفون بمسؤوليتهم التامة عن محنة فرنسا – مثل النظام، والقيمة، وإيجابية التصرف وحريته. أو يناقش القضايا المطلقة بنفس المنطق والإدراك الذي ناقشها بها جان جينيه في مسرحه، بدلاً عن هذه الشعوذة التي لا أصول لها ولا جذور، ولا هدف. هذا الكاتب مسئول وأنا كذلك مسئول. ومنذ أيام ضرب مصنع مدني بالنابالم ومات العمال الأبرياء، وحملت أشلاء جثثهم الممزقة في زكائب. تحسست مفتاح المذياع بيد مرتعشة وبلهفة، أتلمس خبرًا أو تعليقًا، فسمعت ما يلي “أنا لا أوافق المخرج مطلقا على ما فعله، ولي رأي سأقوله فيما بعد، أن ما فعله المخرج يسمي بالديكوباج، والديكوباج هو وضع مشهد مكان آخر..” إلى آخر مثل هذا الهراء. المخرج قبض، والمؤلف قبض، ثم ادعى كل منهما أنه لا يوافق على ما فعله الآخر، حتى يوجد مبرر لفشل المسرحية. لماذا وافق المؤلف على أن يعبث المخرج بمسرحيته، ولماذا قبل المخرج أن يخرج مسرحية لا يرضى عنها. هل في استطاعة أحد أن يغير عملاً دراميًّا سليمًا؟ وهل في مقدور أحد أن ينقل سطرًا واحدًا من مسرحية، مثل مسرحية أوديب لسفوكليس؟ ما قيمة الاحتجاج بعد صرف النقود وتقديم مسرحية للجمهور، ولا تمت إلى الدراما، ودون شاعرية الحوار، كما لا تملك أية أصالة فنية. يقال إنها شعر، وهي ليست أكثر من جعارة خطابية.
صدقوني؛ إن المسئول عن مقتل الثلاثين طفلاً نحن. صدقوني؛ فالقضايا الكبيرة تولد دائمًا من القضايا الصغيرة. المسؤول عن مقتل الثلاثين طفلاً هو أنا، وذلك الذي قبض ثمن مسرحية يدرك أنها مهلهلة وفاشلة. يقبض وينتفخ بالنقود، ثم يقول إن له موقفًا، وقد اتخذ قرارًا. لسنا الآن في حاجة لجعارة خطابية مشتعلة، وكلمات لها رنين النحاس ودق الطبول.. وإلى رموز وقضايا مختلقة. إننا في حاجة إلى كل ما يحسسنا بقيمة ومعنى صراع الإنسان من أجل بصيص من الضوء، أن اكتنفه ظلام أو خنقه ضباب، في حاجة إلى شاعرية الحوار الدرامي الذي ينساب في بساطة ودعة وسط بيئة ضبابية، ليؤكد لنا عدم استسلام الإنسان المكدود رغم تعبه.
إن مسرحية آرثر ميللر (موت بائع متجول) –مثلاً– أقرب وأكثر معاصرة لمحنتي هنا في القاهرة عام 1970، من أسطر شاعر عربي تخرق أذني كطبول زفة المولد، وحديثه المفتعل عن الأفيال دون هدف أو غاية أو معنى. فقد أكد لنا آرثر ميللر ما يريده بصورة واضحة مع انسياب حواره الشاعر في بيئة ضبابية. أصر على أن يبدأ مسرحيته بصوت ناي يسمع رقيقًا وهامسًا ليخبرنا بالحشائش والأشجار والأفق، وبعد ذلك مباشرة يندفع صوت الزوجة المتلهفة الوجلة:
- – لماذا؟ ما الذي حدث؟ (صمت قصير).. هل حدث شيء يا ويلي؟
- – لا، لا شيء حدث.
- – إنك لم تحطم العربة؟ هل فعلت ذلك؟
- – (بتوتر) لقد قلت لا شيء حدث.. ألم تسمعيني.
- – ألا تحس أنك بخير؟
- – أنا متعب لدرجة الموت.
(يبهت صوت الناي، ويجلس ويلي بجانبها على السرير)
يقول ويلي:
- – لم أستطع فعل ما اعتدت على فعله. فقط لم أستطع إتيانه.
ترد ليدا بحذر ورقة:
- – أين كنت طيلة اليوم؟ تبدو فظيعًا.
- – ذهبت إلى ما بعد يونكرز بقليل، ووقفت من أجل قدح من القهوة.. ربما كانت القهوة..
- – ماذا؟
صمت قلـيل..
فجأة شعرت أني لا أستطيع القيادة أكثر. ترد لندا. كأنها راغبة في المساعدة:
- – ربما كان المحرك ثانية.. أنا لا أظن أن أنجلو يفهم في “الاستوديوبيكر”.
- – لا، إنه أنا..إنه أنا.. فجأة تحققت من أني أسير بسرعة 60 ميلاً في الساعة.. ولا أتذكر الخمس دقائق الأخيرة.. أنا..
هذا ببساطة هو الحوار الذي يكاد يصل إلى مرتبة الشعر، هذه هي بساطة الحوار الدرامي الذي يخلق لنا بيئة ضبابية تذكر بمحنة الإنسان العادي وصراعه، وهذه هي أصالة العمل الفني الذي ينتج بعد معاناة الفنان المستمرة مع مفرداته وأسطره طيلة السنوات الطويلة.. فآرثر ميللر كثيرا ما صرح بأنه لا يستطيع التعاقد أبدًا لأنه لا يدري مطلقًا متى ينتهي من كتابة مسرحية، ولا يضيره أبدًا أن ظل لسنوات طوال دون أن ينتهي. أما هنا فهم يقبضون القسط الأول، ثم يبدأون الكتابة لينتهوا منها بأسرع ما يمكن حتى يقبضوا باقي الأقساط. الافتعال والسطحية والسوقية تحدد كل شيء هنا. يفتعلون في معاناتهم ويفتعلون في قضاياهم ويفتعلون في مواقفهم. ويتحدثون عن أشياء لا علم لهم بها ولا دراية. أكاد أن أصيح بطريقة مسرحية “أيتها المومسات أني احترم وجودكن، فقط لا تحدثنني عن الشرف”.
إن البيئة الضبابية للعمل الفني ضرورة تحتمها محنة الإنسان وصراعه الآن. وهل هناك ضرورة أو حتمية لرؤية ضبابية أكثر من موقفنا الآن في منطقة الشرق الأوسط. إن هذه الرؤية الضبابية تتأكد بصورة واضحة في فيلم “هيروشيما حبيبي” للكاتبة الفرنسية مرجريت دورا. فالحدث، سيان كان ذاتيًّا أو موضوعيًّا، يومض في ظلمة طريق حياتنا الطويلة. نتذكره وننساه ونحن إليه، مهما كان مؤلمًا، رغم استحالة أن نعيشه ثانية. ويبدأ فيلم “هيروشيما حبيبي” بأن نتبين من الظلمة بالتدريج، كتلة من الجسد الإنساني، رويدًا رويدًا نكتشف إنها لكائنين بشريين، لا نستطيع تحديد أين تبدأ الأنثى أو ينتهي الرجل. أنه الجسد ينبوع اللذة وينبوع الألم. إنها توحد الجنسين كما يعبر عنه في حضارة المايا القديمة. ويمضي الحوار ليؤكد الصورة الضبابية التي تنسل في تعثر ودعة خلال جو ضبابي؛ إلى أن يتضح الإحساس بالعصبية التي سيطرت على الماضي وتغتصب الحاضر، تتضح أقوى ما يكون في المقهى، إذ تصرخ المرأة الفرنسية في وجه حبيبها الياباني “لقد بدأت أنساك ” وكأنها تريد أن تحتج على ذلك الياباني الغريب، الذي دفعها إلى تذكر قصتها المؤلمة، قصة الحرب والدمار، وقصة حبها لجندي ألماني من الجيش المحتل. فأن تتذكر قصة في حسرة إنسان آخر وتقصها عليه، معنى هذا أنها تعيشها ثانية. لكن المأساة تنحصر في أنها تريد من الآخر أن يقتسم معها ألمها وماضيها، حتى وإن تعاطف معها، فهي تشك في صدق إحساسه وعواطفه. برواية ألمها له فقد اقتسمت نفسها معه، إذن فعليه أن يقتسم معها هذا الماضي الحزين.
وهكذا أرادت “أمانيل” أن تقتسم ذكرى الحرب وذكرى حبيبها الألماني الحزينة مع “أجي أوكادا” الياباني لأنه استطاع أن يحدث معها ارتباطًا عاطفيًّا وجنسيًّا، ما كان في مقدور زوجها الفرنسي أن يحققه. إذن فليقتسم معها ماضيها؛ أنها تكره ماضيها وشبحه كما تكره الموت والدمار. لديها زوجها وعملها وارتباطاتها، لكن شيئًا ما قد مات في أعماقها بعد مقتل حبيبها الألماني، إلى أن جاء هذا الياباني فبعثه ثانية. إذن فهو المسؤول ليحميها منه. ما أسرع ما اختفت آثار التعذيب من على جسدها، وسريعًا كذلك ما نما شعرها الذي قصه لها أهلها. فالجسد يرفض الموت ويصر على الحياة. وفي هيروشيما وبالمتحف رأت أكوام الشعر التي تساقطت من رؤوس الضحايا، ومع تلك العصبية التي تمسك بتلابيب ماضيها وتكتم أنفاس حاضرها، لا يوجد مكان حتى لحبيبها الياباني. كلهم ماتوا بموت شيء في أعماقها. فمن المحال على الإنسان أن يتذكر الموت إلى الأبد، وبعد أن قصت على الياباني قصتها رجعت فتذكرت حبيبيها الألماني أكثر وبقوة، أرادت أن تترك حاضره أن تترك الياباني وتهرب، لكنها الوحدة والحنين إلى الحب جعلاها تتعلق به. وكأن العاطفة ليست أكثر من عامل يساعد على التخلص من الشعور بالوحدة والذنب والحزن. وما كانت طوابير الاحتفالات في الطريق تحمل لها سوى القسوة والفراغ وحاضر يضيع فيه الفرد. وهو كذلك ليس أسعد حالاً، ففي اللحظة التي استسلمت وقبلت رجاؤه بالبقاء، تركها لحال سبيلها. اتضح له أنها جسد دون رغبة، بدت له غريبة عنه، وذلك بسبب ما حددته في أعماقه، فهو يعيش ويواجه مقتل أبويه كل يوم. هذه الذكرى التي تعصره هي التي مكنته من أن تجد لها جذورًا في هيروشيما، فتصبح المدينة بالنسبة لها (نيفر) أخرى وحبًّا آخر. على كل أن تبقي معه إلى الأبد أو ترجع إلى موطنها، شيء لم يعد يهم. فباستسلامها له استسلامًا كاملاً ولو للحظة واحدة أصبحت كلية له وللأبد. إن رغبتها في أن تقبض على موت هيروشيما وصراع هيروشيما من أجل الحياة ثانية ليست أكثر من رغبتها في أن تحيا وتقضي على الموت الذي في أعماقها. هيروشيما دفعتها للتذكر، هيروشيما المدينة، هيروشيما حبيبها. ما أقسى لحظات حينما نتذكر فيغتصبنا الشعور بالموت الذي في أعماقنا، فإذا بنا أحياء أموات في آن واحد.
وفي ثورة عارمة، وبقطعة الفحم التي في يدي، أجدني أسود الجسد العاري الذي رسمته والفراغ حوله. يا لها من رؤية ضبابية حزينة. يأتي ضوء الشمس متسللاً من باب الشرفة. يأتي ليستقر على أرداف الموديل العارية. فإذ بالظلمة تدب فيها حياة. أمد يدي فأمسك بلبابة الخبز التي استعملها كممحاة للفحم، أمد يدي تجاه الرسم، أضعها على الجزء العالي من العجز، واضغط فلا أتركه إلا مشتعلاً بالبياض، وفي نصاعة الضوء الذي أمامي، بقعة ضوء تتحدى الظلمة، وجسد عاري يقف متكاملاً مهما أغرقته الظلمة.
شيء أعيش من أجله ، شيء لن تقام من أجله إعلانات ضخمة في ميدان التحرير، كما أنه لن يملأ جيوبي بالنقود . لكنه قد يعيش فهو يرتبط بمحنتي . . ومصيبتنا . يرتبط بي ، وبكل زوجة حملت طفلها ومضت تولول على زوجها الذي صهرته نيران النابالم تحت أنقاض مصنع، وبكل أب جمده الحزن على وحيده الذي ضاع في أنقاض مدرسة . أنها دمعة تومض في ضباب ، على مئات الضحايا . ويا ليتها ترى أو تحس، حتى يتبدد نذر يسير من شكي الدائم في أني مسئول، ولا أفعل شيئاً.