الليل طويل ولست براض عن صوري الناقصة. فنحن بحاجة الآن إلى رؤية ضبابية تتصارع فيها بقع ضوء، أو بقعة ضوء باحثة لها عن مفر من ظلمة ضاربة. قطعة جبن وفتات خبز، ولا أثر لقطرات خمر. ألقيت بقطعة الجبن فوق أنابيب الألوان برما. الليل طويل وصوت محرك السيارات لا ينقطع في الطريق، والمصباح يهذي في عيني. وقطيطات ولدتها أمها ثم تركتها، لا تزال تصرخ وتموء في صفيحة القمامة. بذلت أقصى ما في جهدي، وضعت لها لبنًا، وألقيت إليها بطعام، فظلت تصرخ ولا أثر لأمها؛ لا فائدة أنها تريد الثدي- اذكر أنه تحتم عليَّ ذات يوم أن أنام في حجرة بها أم وطفلها. بكي الطفل وصرخ، وضرب الفراغ الأسود حوله بقدميه وكفيه، مالت عليه أمه، تحسس الطفل الثدي ثم سكن. مد شفتيه ثم ضمهما، ضرب بكفيه الثدي وضغط عليه ثم أفرج أصابعه- القطيطات تموء، استمرت تموء ثم صمتت للأبد. ما كان في استطاعتي فعل شيء، ومع الصباح قيل لي إن أمها نفقت أسفل السلم. لا داعي للحزن وماذا كان في مقدوري فعله؟ ومن النافذة نظرت إلى الطريق، نفس الجلبة العادية؛ أصوات محرك السيارات وآلات التنبيه، وجرس المدرسة المجاور وصراخ الأطفال.
الصحف والإذاعة تتحدث عن مقتل ثلاثين طفلاً في غارة على قرية، هل هناك غاية تبرر مقتل ثلاثين طفلاً؟ من المسئول؟ أشعر أنني المسئول. منذ أيام نظرت من نفس النافذة، أبصرت إعلانا كبيرا، يحمله عدة عمال، كان الإعلان كبيرًا، بالضبط كجناح صرصار كبير يحمله النمل. الناس الآن أصبحت تهتم بأشياء غريبة الشأن. فقد كتب على الإعلان “البعث كيفيته ووسائله” ماذا يهم أن بعثت بلحية أو حليقها؟ وفي أتم صورة أو بشكل مزري؟ أن القضايا الميتافيزيقية ما كانت تطرح في وقت ما بهذه السوقية وهذا العبث، وحتى في مناقشتنا القضايا القديمة يجب ألا نبعد عن أرستقراطية الفكر، كان أجدى أن يناقش الكاتب قضايا مثل تلك القضايا التي طرحها جاستون بيرجيه بعد الحرب العالمية الثانية – وقت أن شعر المثقفون بمسؤوليتهم التامة عن محنة فرنسا – مثل النظام، والقيمة، وإيجابية التصرف وحريته. أو يناقش القضايا المطلقة بنفس المنطق والإدراك الذي ناقشها بها جان جينيه في مسرحه، بدلاً عن هذه الشعوذة التي لا أصول لها ولا جذور، ولا هدف. هذا الكاتب مسئول وأنا كذلك مسئول. ومنذ أيام ضرب مصنع مدني بالنابالم ومات العمال الأبرياء، وحملت أشلاء جثثهم الممزقة في زكائب. تحسست مفتاح المذياع بيد مرتعشة وبلهفة، أتلمس خبرًا أو تعليقًا، فسمعت ما يلي “أنا لا أوافق المخرج مطلقا على ما فعله، ولي رأي سأقوله فيما بعد، أن ما فعله المخرج يسمي بالديكوباج، والديكوباج هو وضع مشهد مكان آخر..” إلى آخر مثل هذا الهراء. المخرج قبض، والمؤلف قبض، ثم ادعى كل منهما أنه لا يوافق على ما فعله الآخر، حتى يوجد مبرر لفشل المسرحية. لماذا وافق المؤلف على أن يعبث المخرج بمسرحيته، ولماذا قبل المخرج أن يخرج مسرحية لا يرضى عنها. هل في استطاعة أحد أن يغير عملاً دراميًّا سليمًا؟ وهل في مقدور أحد أن ينقل سطرًا واحدًا من مسرحية، مثل مسرحية أوديب لسفوكليس؟ ما قيمة الاحتجاج بعد صرف النقود وتقديم مسرحية للجمهور، ولا تمت إلى الدراما، ودون شاعرية الحوار، كما لا تملك أية أصالة فنية. يقال إنها شعر، وهي ليست أكثر من جعارة خطابية.
صدقوني؛ إن المسئول عن مقتل الثلاثين طفلاً نحن. صدقوني؛ فالقضايا الكبيرة تولد دائمًا من القضايا الصغيرة. المسؤول عن مقتل الثلاثين طفلاً هو أنا، وذلك الذي قبض ثمن مسرحية يدرك أنها مهلهلة وفاشلة. يقبض وينتفخ بالنقود، ثم يقول إن له موقفًا، وقد اتخذ قرارًا. لسنا الآن في حاجة لجعارة خطابية مشتعلة، وكلمات لها رنين النحاس ودق الطبول.. وإلى رموز وقضايا مختلقة. إننا في حاجة إلى كل ما يحسسنا بقيمة ومعنى صراع الإنسان من أجل بصيص من الضوء، أن اكتنفه ظلام أو خنقه ضباب، في حاجة إلى شاعرية الحوار الدرامي الذي ينساب في بساطة ودعة وسط بيئة ضبابية، ليؤكد لنا عدم استسلام الإنسان المكدود رغم تعبه.
إن مسرحية آرثر ميللر (موت بائع متجول) –مثلاً– أقرب وأكثر معاصرة لمحنتي هنا في القاهرة عام 1970، من أسطر شاعر عربي تخرق أذني كطبول زفة المولد، وحديثه المفتعل عن الأفيال دون هدف أو غاية أو معنى. فقد أكد لنا آرثر ميللر ما يريده بصورة واضحة مع انسياب حواره الشاعر في بيئة ضبابية. أصر على أن يبدأ مسرحيته بصوت ناي يسمع رقيقًا وهامسًا ليخبرنا بالحشائش والأشجار والأفق، وبعد ذلك مباشرة يندفع صوت الزوجة المتلهفة الوجلة:
- – لماذا؟ ما الذي حدث؟ (صمت قصير).. هل حدث شيء يا ويلي؟
- – لا، لا شيء حدث.
- – إنك لم تحطم العربة؟ هل فعلت ذلك؟
- – (بتوتر) لقد قلت لا شيء حدث.. ألم تسمعيني.
- – ألا تحس أنك بخير؟
- – أنا متعب لدرجة الموت.
(يبهت صوت الناي، ويجلس ويلي بجانبها على السرير)
يقول ويلي:
- – لم أستطع فعل ما اعتدت على فعله. فقط لم أستطع إتيانه.
ترد ليدا بحذر ورقة:
- – أين كنت طيلة اليوم؟ تبدو فظيعًا.
- – ذهبت إلى ما بعد يونكرز بقليل، ووقفت من أجل قدح من القهوة.. ربما كانت القهوة..
- – ماذا؟
صمت قلـيل..
فجأة شعرت أني لا أستطيع القيادة أكثر. ترد لندا. كأنها راغبة في المساعدة:
- – ربما كان المحرك ثانية.. أنا لا أظن أن أنجلو يفهم في “الاستوديوبيكر”.
- – لا، إنه أنا..إنه أنا.. فجأة تحققت من أني أسير بسرعة 60 ميلاً في الساعة.. ولا أتذكر الخمس دقائق الأخيرة.. أنا..
هذا ببساطة هو الحوار الذي يكاد يصل إلى مرتبة الشعر، هذه هي بساطة الحوار الدرامي الذي يخلق لنا بيئة ضبابية تذكر بمحنة الإنسان العادي وصراعه، وهذه هي أصالة العمل الفني الذي ينتج بعد معاناة الفنان المستمرة مع مفرداته وأسطره طيلة السنوات الطويلة.. فآرثر ميللر كثيرا ما صرح بأنه لا يستطيع التعاقد أبدًا لأنه لا يدري مطلقًا متى ينتهي من كتابة مسرحية، ولا يضيره أبدًا أن ظل لسنوات طوال دون أن ينتهي. أما هنا فهم يقبضون القسط الأول، ثم يبدأون الكتابة لينتهوا منها بأسرع ما يمكن حتى يقبضوا باقي الأقساط. الافتعال والسطحية والسوقية تحدد كل شيء هنا. يفتعلون في معاناتهم ويفتعلون في قضاياهم ويفتعلون في مواقفهم. ويتحدثون عن أشياء لا علم لهم بها ولا دراية. أكاد أن أصيح بطريقة مسرحية “أيتها المومسات أني احترم وجودكن، فقط لا تحدثنني عن الشرف”.