“للأسف العينة إيجابية..”؛ لم أفهم ما الداعي للأسف، كنت أعلم تمامًا بأن الغالبية، بشكل أو بآخر، سيطالها فيروس كورونا، كل ما في الأمر أن موعدك فقط لم يأتي، كما أنني نفسيًّا كنت مهيأ تمامًا لاستقبال ذلك الضيف الثقيل، فـ 2020 لن تمر مرور الكرام، فعلت كل ما يمكنها بي ولم يتبق فقط إلا الإصابة.
استقبلت الأمر بهدوء، كي أكون قادرًا على التعامل مع الموقف، وألا أرعب أسرتي، لم أتجاوب مع الصراخ على مواقع التواصل الاجتماعي، يكفي القلق الداخلي، والخوف على نفسي وزوجتي وابنتي، لن يغير القلق القدر، عليك أن تكون هادئًا، وربما أنا محظوظ لأنني فعلت ذلك لأن ما يسببه لك “كورونا” من خوف وقلق يكفي.
في الليلة التي بدأت الأعراض تظهر بعنف، وقبل إجراء المسحة، لا أعرف لماذا تذكرت زميلي محمد علي العوض، كان العوض يعمل مراجعًا لغويًّا معنا في صحيفة الرؤية العمانية، وعادة ما كان ودودًا معي.. وفي أحد الأيام، وبينما نمزح ونحن نجهز طبعة الصحيفة، كانت أخبار الكورونا تتصدر الصفحة الأولى مع أن الحالات لم تكن قد وصلت لسلطنة عمان بقوة، سألني بلهجته السودانية الجميلة: يا زول مالك ومال الكورونا إياك تكون خايف لتموت؟

-مش بخاف من الموت يا بو علي.. جربته زيادة عن اللزوم.. بس عندي بنت عايز أربيها.

 سؤال العوض كان عارضًا جاء وسط ضحكات متواصلة، وإجابتي كانت ثقيلة أثارت شجونا داخلية؛ فجميعًا لا ننتمي إلى هنا، للعوض أبناء في السودان لم يستقدمهم إلى مسقط، ولي أيضًا. حاولت كسر لحظات الصمت والشرود بنكته مصرية جريئة، وتعالت ضحكاتنا من جديد، لكن داخلنا كان الأمر أكبر من ذلك. في المساء ركبت سيارة محمد علي، لنكمل حديثنا، اعتاد أن يوصلني إلى مكان قريب من سكني، نشرب شاي الكرك، ثم يغادر حيث يسكن قريبًا مني، يومها أكملنا المناقشة، تحدثنا عن الغربة، والمرض، والخوف من الموت، وأحلامنا الكبيرة والصغيرة، عن الرعب بسبب جائحة كورونا، وتأثيرها، وما الذي قد يحدث إذا ما تزايدت فقاعة الكورونا حتى تشملنا، ونية الصحيفة تخفيض المرتبات كإجراء محتمل في الخليج بشكل عام.

دار حوارنا أمام عيني في ليلة ظهور الأعراض، استعدت ذكرياتي الرحلة في 2020 كانت قاسية لكنني كنت راضيًا عنها، لست مثاليًّا ولا أحب ولن أكون، لكنني أؤمن بأن العثرات أفضل ما يصنعنا، كل سقوط يزيدنا صلابة، تذكرت كواليس قرار العودة إلى مصر، خوفًا على ابنتي وزوجتي وأسرتي الصغيرة، الذين لم يملكوا من الدنيا غيري فقط.. لم أشأ أن أظل واقفًا في مكاني عاجزًا بينما يعانون هم إن لم يكن من المرض، فمن الخوف على أنفسهم والقلق عليَّ.. قطعت مسافة طويلة بحلوها ومرها، وأنا أردد بسخرية كلما سألني أحدهم أتعود إلى القاهرة؟

-آه يا عم.. يا نعيش عيشة فل يا نموت احنا الكل..

جسدي ينتفض يؤلمني وإحساس البرد والقشعريرة لا تتوقف فشلت طاقتي في تحملها، كنا ليلة خميس، وفي ليلة الإجازة عادة ما أسير من شارع القصر العيني إلى رمسيس، ورغم تعبي تحاملت، لن أفوت الليلة، “برد” وهيروح لحال سبيله، لكنه لم يكن كذلك، حين وصلت إلى البيت لم أبحث عن أي شيء سوى السرير، ولحسن حظي كان الجميع نائمًا. وفي اليوم التالي كان الألم ما يزال يسري في جسدي، عيناي تؤلمانني والصداع لا يتوقف، حاولت التعامل مع الأمر بهدوء، تحاملت على نفسي، وهكذا يومًا فآخر، حصلت على إجازة، قضيت الوقت في المنزل، “ربما نزلة برد” ما زلت أردد، بعدها يوم والثاني وفي الخامس بدأت الكحة، والسادس فقدت حاسة الشم، لم أعد في حاجه لإثبات أي شيء لنفسي؛ أجريت مسحة ولم أكن في حاجه للتأكد من الإصابة. الإصابة بكورونا مرعبة، حتى لو كانت الأعراض طفيفة مرعبة، أنت تعاني ولا تعرف هل عليك أن تواجه الخوف والقلق على نفسك وأسرتك، هل تموت، ما العرض الذي ستعانيه اليوم، هل ستدخل العناية المركزة، هل تصمد رئتاك، في أحد الأيام فشلت تمامًا في الحركة كانت قدمي ثقيلة بشكل مرعب ظننت أن جلطة أصابتها، لكن بعد نصف ساعة من السكون عادت للحركة، وبسببها تناولت أسبوسيد أطفال.

كنت أتواصل دائمًا مع الطبيب كي أكون مستعدًا في حال حدوث أي مكروه، ومع نوبات الخوف تلك، عليك ألا تُشعر زوجتك وابنتك بالقلق يكفي ما تعانياه، تحملت زوجتي الكثير جدًا، لكنها كانت صامدة تطمئنني وتمنحني الدواء، وتطمئن عليَّ، لم تنعزل عني، ولم نتمكن من إبعاد داليدا ابنتي عني، لم أكن أطمع في أي شيء إلا الستر، لذا ورغم كل الخسائر التي عانيت منها في ذلك العام كنت راضيًا جدًا.

مضت 10 أيام هي الأطول في حياتي، وأكثر فترة لم تطأ فيها قدماي أرض الشارع على الإطلاق، كان انعزالًا إجباريًّا، ولم أحب أن أجبر على شيء في حياتي، انتهت أيام العزل الصعبة صارت مسحتي سلبية، كنت فرحًا بأنني سأعود للحياة من جديد، في اليوم الأول كنت كطفل يجرب السير للمرة الأولى، حذرتني زوجتي من بذل مجهود كبير، قالت إنها سمعت العديد من الفيديوهات عن كورونا، خاصة وأن الأسرة كلها سبق وأصيبت، تقول بإن المناعة تكون ضعيفة بعد الإصابة وتحتج لوقت للتعافي لكنني لم أسمع.

عدت للحياة لكنني ورغم المكابرة لست كما كنت؛ جسدي ما يزال يبحث عن طريق للتعافي، ما أزال ثقيلاً بعض الشيء، عيناي تؤلمانني بشدة، لكنني أتعامل كمن بعث من الموت للتو، أو كطفل يجرب حياته للمرة الأولى، أحاول أن أحقق سريعًا بعض مما حلمت. هذه المرة ربما هربت من الموت، لكن في المرة القادمة لا أنوي. في كل يوم أستيقظ أشم الهواء أحمد الله، اليوم بت مقتنعًا بأن كل يوم جديد تعيشه كأنك ملكت الدنيا، المرض صعب، والخوف صعب، والفقد أصعب، وشعورك بأن ترحل وتترك وراءك أحبة وابنه أكثر صعوبة.

حين تكون وحيدًا لن تخاف، حين تكون بلا أشخاص تحبهم في حياتك لن تخاف، في الماضي كنت أقول أنا لا أخاف لأنني كنت فاقدًا لهؤلاء، لكن اليوم بطلت حجتي، أنا نفسي حين أقول لا أحب الحياة أكذب، وحين أقول لا أخاف الموت أكذب. تبينت صدق كذبي حين وجدت أشخاصًا أحبهم ويحبونني، يخافون عليَّ وأخاف عليهم.. في الحياة وحيدًا ربما أنت حر أكثر، لكنك لن تكون سعيدًا مهما ادعيت غير ذلك، وفي سبيل ذلك عليك أن تتحمل صعوبة أن تبدأ ترتيب الحياة من جديد.

الأيام التي عشتها بعد عودتي للقاهرة، لم تكن الأفضل، لن أستخدم معها وصف آخر، كان عليَّ أن أتلمس طريقي من جديد، كمن يبدأ حياته، أتحمل الأسئلة المكررة – رجعت ليه؟ مش كان هناك أحسن؟ وصلت الأسئلة لتشمل كم كان راتبي، والفرق بينه وبين راتبي وأنا أعمل هنا، كان عليَّ أن أكون هادئًا بعض الوقت، ووقحًا في أوقات أخرى.. أحيانًا علينا أن نكون وقحين لنوقف سخافات البشر.

في القاهرة الحياة مختلفة بكل تأكيد، وكنت أتفهم ذلك كما أتفهم الحاجة لأن تعمل أكثر من عمل، وأن تجيد السعي في مراعي الروتين “مؤسساتنا الصحفية” التي باتت تحولك إلى مجرد موظف؛ حيث لا مجال لأفكار جديدة، ولا إمكانات للتنفيذ، الصراعات تستهلك 70% من طاقتك، وعليك أن تتعامل بـ 30% لتنفذ أفكارك، ثم في النهاية يتوقف مشروعك دون سبب مقنع.. فتجلس لتستكشف بنفسك كيف تكون رقصة المذبوح.

أن تفرض عليك المهنة التي تحب العمل كموظف؛ نذهب لأعمالنا كل يوم حتى ينتهي “شيفت” ومنه إلى “شيفت” آخر على قدر كل هذا المجهود لا نحقق ما يساوي كل هذا الشقاء، الأوضاع بسبب كورونا أيضًا غير مستقرة والحياة كذلك، طوال اليوم بالكمامة، نستخدم عشرات اللترات من الكحول، نركب المترو والمواصلات في رعب، ونعود إلى بيوتنا نقف على الباب لتعقيم أنفسنا قبل الدخول، الحياة في زمن الوباء قاسية ومملة لكن أكثر قسوة أن تصاب أو أن يصاب من تحب.

على أي حال الحياة عمومًا في القاهرة ضاغطه وصعبة لكنني رغم ذلك أحبها بشدة، لم أتورط يومًا في انتقادها، لم أشترك مع النبرة التي يقول فيها البعض بأن القاهرة القاسية وهذه الكليشيهات الباردة، أنا هنا أسجل محبتي للقاهرة، المدينة التي فتحت لي ذراعيها، جئتها دون أبي وأمي في الحياة دخلتها وحيدًا بلا عمل ولا يعرفني أحد، ولا أملك من الدنيا أي شيء، كافأتني بقدر تعبي، واحتضنتني شوارعها في حين عجزت كل البيوت بعد وفاة أبي وأمي عن احتضاني، ومهما كانت قاسية لم تكن بقسوة كل الذين حاولوا تجريدي من إرثي وما تركه لي أبي، لم يكن أحد يعرفني واليوم بات قدرًا معقولًا من الناس تعرفني، وبعضهم يتوسم أن لدي شيئًا مختلفًا لأقوله، بتُّ صحفيًّا وكاتبًا، وما زلت أسعى وأحلم.

لا أكتب لأنني أحب الدراما، لا أكتب لأقول لأحد بعينه أمرًا ما.. أكتب لأنني أحب الكتابة؛ أوثق لحظاتي الحزينة والسعيدة بها، أكتب لأنها الشيء الوحيد الذي أفعله عن طيب خاطر ودون انتظار لشيء.. وحين أكتب أكون حرًّا كطير طليق وأنا أحب الطيور والبراح. وكما يقول محمود درويش: لنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة. لم نحلم بأشياء عصية. نحن أحياء وباقون، وللحلم بقية..